إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شرعية لنوازل عصرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [بقلمي] أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شرعية لنوازل عصرية

    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الإخْوَةُ والأخَوَاتُ الكِرَامُ
    السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
    عَنَاصِرُ المَوْضُوعِ:
    1) مُقَدِّمَةٌ تَوْضِيحِيَّةٌ للغَرَضِ مِنَ المَوْضُوعِ.
    2) رُؤْيَةُ السَّبَبِ الحَقِيقِيِّ خَلْفَ هَذِهِ الأخْطَاءِ الثَّلاَثَةِ.
    3) الخَطَأُ الأوَّلُ: الأَخْذُ في التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ والشَّتَائِم؛ والإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ.
    4) الخَطَأُ الثَّانِي: الأَخْذُ في نَقْلِ الأَخْبَارِ (الصَّحِيحَةِ والكَاذِبَةِ) دُونَ تَحَرٍّ وقِيَاسٍ للمَصَالِح والمَفَاسِد.
    5) الخَطَأُ الثَّالِثُ: الهُجُومُ والتَّطَاوُلُ بالتَّصْرِيحِ والتَّلْمِيحِ عَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ والعُلَمَاءِ.

    العُنْصُرُ الأوَّلُ: مُقَدِّمَةٌ تَوْضِيحِيَّةٌ للغَرَضِ مِنَ المَوْضُوعِ:
    أعْلَمُ مِثْلكُم –بَلْ أنْتُم تَعْلَمُونَ أكْثَر مِمَّا أعْلَم- مَا نَمُرُّ بِهِ ومَا يُحَاكُ ضِدّنَا جَمِيعًا، ولا خِلاَفَ بَيْننَا عَلَى أنَّهَا مُؤَامَرَة مُدَبَّرَة بكُلِّ صُوَرِهَا وأبْعَادِهَا، انْجَرَفَ بَعْضنَا فِيهَا وهُوَ لا يَدْرِي، فَضْلاً عَنِ البَعْضِ الَّذِي انْجَرَفَ وهُوَ يَدْرِي، وفي ظِلِّ هذه الظُّرُوف يَجِبُ الالْتِزَام بالدِّينِ أكْثَر مِنْ أيِّ وَقْتٍ، وإعْمَال سُنَّة التَّنَاصُح بالخَيْرِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ هذا وَقْتها فَمَتَى تَكُون، وإنِّي لأكْتُبُ لَكُم هذا المَوْضُوع انْطِلاَقًا مِنْ قَوْلِ الله تَعَالَى [ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ]، وقَوْلِهِ تَعَالَى [ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى 9 سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى 10 وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى 11 الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى 12 ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى 13 قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى 15 ]، وقَوْلِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ بأرْضِكُم، ولَكِنْ رَضِيَ أنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَاقِرُونَ مِنْ أعْمَالِكُم، فَاحْذَرُوا، إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا إنِ اعْتَصَمْتُم بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أبَدًا، كِتَاب الله وسُنَّة نَبِيِّهِ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التَّرْغِيبِ، وحَقِيقَةً كُنْتُ أنْوِي كِتَابَة هذا المَوْضُوع مُنْذُ فَتْرَةٍ، بَلْ بالفِعْلِ كَتَبْتُ مِنْهُ أشْيَاءً مُتَفَرِّقَة، لَكِنْ لَمَّا قَرَأتُ المُشَارَكَة التَّالِيَة للأخِ الكَرِيمِ مهندس خالد خِفْتُ فِعْلاً أنْ أكُونَ مِمَّنْ يُؤْخَذ الجَمِيع بذُنُوبِهِ، وخِفْتُ أيْضًا عَلَيْكُم إخْوَتِي وأخَوَاتِي، فَكَتَبْتُ لَكُمْ هذا المَوْضُوع، وقَدْ قَالَ الأخُ الفَاضِلُ مهندس خالد في إحْدَى مُشَارَكَاتِهِ:


    بس انا بتراوضنى من اول يوم فى الاعتصامات الاخيرة فكرة ان التمكين قريب جداً ولا يحول بيننا وبينه الا رجل كالرجل الذى كان من قوم موسى ومنع عنهم الغيث بسبب ذنوبه لعل احدنا هذا الرجل فلنستغفر الله عز وجل حتى يُمكن الله لنا


    قال تعالى:

    (( ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) ))

    مهندس خالد
    العُنْصُرُ الثَّانِي: رُؤْيَةُ السَّبَبِ الحَقِيقِيّ خَلْفَ هذه الأخْطَاء الثَّلاَثَة:
    إنَّ مَا نَمُرُّ بِهِ مِنْ مُخَطَّطٍ مُدَبَّرٍ لَهُ أهْدَافٌ كَثِيرَةٌ، أوَّلُهَا قَدْ ظَهَرَ لَنَا بوُضُوحٍ وجَلاَءٍ: ألاَ وهُوَ شَقُّ الصَّفِّ والاخْتِلاَفُ والفُرْقَةُ وتَخْوِينُ الكُلِّ للكُلِّ، ولَيْسَ تكْرَارًا للكَلاَمِ إنْ أكَّدْنَا عَلَى ضَرُورَةِ نَبْذ الخِلاَف ووحْدَةِ الصَّفّ، بَلْ إنْ كَانَ تكْرَارًا فَهُوَ في مَحَلِّهِ، ولاَبُدَّ مِنْهُ.

    وهذا الشَّقُّ للصَّفِّ والاخْتِلاَفُ كَانَت سِمَتُهُ الأسَاسِيَّةُ الظَّاهِرَةُ هي (التَّطَاوُلُ) عَلَى الآخَرِينَ بزَعْمِ (حُرِّيَّة التَّعْبِير) و(الدِّفَاع عَنِ الرَّأي)، وهذا التَّطَاوُل كَانَت لَهُ أشْكَال: فَتَارَّةً يَكُونُ بسَبِّهِم تَعْلِيقًا عَلَى مَوَاقِفِهِم، وتَارَّةً يَكُونُ بنَقْلِ أخْبَارٍ عَنْهُم تَدْفَعُ القَارِئ إِلَى التَّطَاوُل عَلَيْهم أو إسَاءَة الظَّنّ بِهِم، وتَارَّةً يَكُونُ بسِحْرِ القَوْل المُهَيِّج للمَشَاعِر السَّاحِر للعُقُولِ بغَيْرِ الحَقِيقَة، فَتَكُون النَّتِيجَة فِئَة تُصَدِّق، وفِئَة تَرْفُض وفِئَة تَحْتَار، فَبَعْدَ أنْ كَانُوا فِئَة وَاحِدَة، تَمَّ شَقّهم، وبَذْر بُذُور الخِلاَف بَيْنهم ليَنْمُو بأيْدِيهِم وألْسِنَتِهِم، فَيَؤُولُ الحَالُ في النِّهَايَةِ إِلَى تَطْبِيقِ قَاعِدَة اليَهُود (فَرِّق تَسُد)، وهذا مَا وَقَعْنَا فِيهِ مَعَ الأسَفِ، بَلْ وكُنَّا نَحْنُ الفَاعِلُ والمَفْعُولُ بِهِ في نَفْسِ الوَقْتِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ.

    دَائِمًا أقُولُ (إنَّ الحَمَاسَ وَحْدُهُ لا يَكْفِي بدُونِ عَقْلٍ، والعَقْلَ وَحْدُهُ لا يَكْفِي بدُونِ إيِمَانٍ، فَالحَمَاسُ يَحْتَاجُ إِلَى العَقْلِ ليُوَجِّهَهُ، والعَقْلُ يَحْتَاجُ إِلَى الإيِمَانِ ليَضْبُطَهُ، فَالعَقْلُ بدُونِ إيِمَانٍ يَضِلُّ ويُخْطِئُ، والحَمَاسُ بدُونِ عَقْلٍ يُهْلِكُ ويُفْسِد، فتكون النتيجة (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا 104))، ولَمَّا كَانَ أعْدَاءُ الإسْلاَمِ في الدَّاخِلِ والخَارِجِ يَعْلَمُونَ هذا جَيِّدًا، قَامُوا بتَوْظِيفِ كُلّ مُؤَسَّسَاتِهِم مِنْ أجْلِ كَسْبِ المَعْرَكَة مِنْ هذا الجَانِبِ، ونَجَحُوا في ذَلِكَ حَتَّى الآن أيَّمَا نَجَاح في جَوَلاَتٍ كَثِيرَةٍ، فَزَرَعُوا بُذُورَ الشَّكِّ والتَّخْوِينِ في قُلُوبِ الكُلّ نَحْوَ الكُلِّ، وأفْقَدُوا النَّاس ثِقَتَهُم في بَعْضِهِم وفي أنْفُسِهِم، وجَعَلُوهُم يَدْخُلُونَ دَائِرَة الإحْبَاط واليَأس وشَلَل التَّفْكِير، وهُنَا إِذَا تَذَكَّرْنَا مَقُولَة (فَرِّق تَسُد) عَرِفْنَا كَيْفَ كَسَبُوا الجَولاَت مِنَّا، والإجَابَةُ في يُسْرٍ: لأنَّهُم لَدَيْهم حَمَاس وَجَّهُوهُ بالعَقْلِ المَضْبُوط بإيِمَانٍ عِنْدَهُم -بغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ هذا الإيِمَان والعَقْل والحَمَاس-، أمَّا نَحْنُ فَنَعْمَلُ فَقَط بالحَمَاسِ، لا وَجَّهْنَاهُ بعَقْلٍ ولا ضَبَطْنَاهُ بإيِمَانٍ، ولا أُعَمِّمُ الكَلاَم عَلَى الكُلِّ، ولا أُعَمِّمُ عَلَى كُلِّ المَوَاقِف، ولَكِنْ للأسَفِ العِبْرَة بالخَوَاتِيم الَّتِي تَدُلُّ كَيْفَ سَارَت الأُمُورُ، ودَعُونَا نَقِفُ عَلَى بَعْضِ صُوَر تَقْصِيرنَا وانْدِفَاعنَا وَرَاء الحَمَاس فَقَط دُونَ عَقْلٍ أو إيِمَانٍ -ولا يُفْهَم عَدَم الإيِمَان هُنَا بمَعْنَى التَّكْفِير، ولَكِنْ سَبَقَ الشَّرْح بأنَّ المَعْنَى هُوَ تَحْكِيمُهُ والسَّيْرُ وِفْقَ ضَوَابِطه-، وهي قَدْ تَكُون صُوَرًا قَلِيلَةً في أعْيُنِ البَعْض، وهذا أيْضًا مِنْ عَدَمِ تَحْكِيم الإيِمَان، إذْ أنَّ دِينَنَا عَلَّمَنَا ألاَّ نَسْتَصْغِر ذَنْبًا، ولا نُحَقِّر أمْرًا، ولا نَسْتَهِين بشَيْءٍ، فَيَتَرَاكَم ويَكُونُ الهَلاَكُ فِيهِ:
    1) قَالَ تَعَالَى مُحَذِّرًا مِنَ الاسْتِهَانَةِ بصَغَائِرِ الأُمُور [ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ] (سُورَةُ النُّورِ: 15).
    2) وذَلِكَ مَا فَهِمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالَ مُوَافِقًا للآيَةِ [ إيَّاكُمْ ومُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإنَّمَا مَثَلُ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ؛ وجَاءَ ذَا بِعُودٍ؛ حتى حَمَلُوا مَا أنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُم، وإنَّ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ متى يُؤْخَذ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ الجَامِعِ وصَحِيحِ التَّرْغِيبِ والسِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ، وفي الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ أعْلاَهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ بأرْضِكُم، ولَكِنْ رَضِيَ أنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَاقِرُونَ مِنْ أعْمَالِكُم، فَاحْذَرُوا،... ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التَّرْغِيبِ.
    3) فَفَهِمَهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فَقَالَ أنَسَ بْن مَالِك رَضِيَ اللهُ عَنْه في زَمَنِ الخِلاَفَةِ [ إنَّكُم لَتَعْمَلُونَ أعْمَالاً؛ هي أدَقُّ في أعْيُنِكُم مِنَ الشَّعْرِ، إنْ كُنَّا لنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ. (قَالَ أبُو عَبْد الله: يَعْنِي بذَلِكَ المُهْلِكَات) ].
    4) وفَهِمَهَا النَّاسُ، حَتَّى أنَّ أحَدَ التَّابِعِينَ أنْشَدَ قَائِلاً:
    لا تُحَقِّرَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ صَغِيرًا ** إنَّ الصَّغِيرَ غَدًا يَعُودُ كَبِيرَا


    إنَّ الصَّغِيرَ وقَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ** عِنْدَ الإلَهِ مُسَطَّرٌ تَسْطِيرَا


    فَازْجُر هَوَاكَ عَنِ البَطَالَةِ لا تَكُنْ ** صَعْب القِيَادِ وشَمِّرَنَّ تَشْمِيرَا


    إنَّ المُحِبَّ إِذَا أحَبَّ إلَهَهُ ** طَارَ الفُؤَادُ وألْهَمَ التَّفْكِيرَا


    فَاسْألْ هِدَايَتَكَ الإلَهُ بنِيَّةٍ ** فَكَفَى برَبِّكَ هَادِيًا ونَصِيرَا


    ومِنْ ثَمَّ؛ فَقَدْ رَأيْتُ في مُنْتَدَانَا ثَلاَثَ صُوَرٍ مِنَ الخَطَأ النَّاتِجِ عَنِ الانْدِفَاعِ خَلْفَ الحَمَاسِ فَقَط، وَقَعَ فِيهَا البَعْضُ ومَا زَالُوا عَلَى مَدَارِ الأزَمَاتِ الَّتِي تَعَرَّضْتِ البِلاَد لَهَا، وللأسَفِ إِذَا انْتَقَدَهُمْ أحَدٌ وحَاوَلَ أنْ يُبَيِّنَ لَهُم مَا وَقَعُوا فِيهِ، لَمْ يَجِدْ إلاَّ الإصْرَارَ عَلَى الرَّأي، بَلْ وهَاجَمُوه وكَأنَّهُ هُوَ المُخْطِئ، فَلَقَدْ صَارَت أغْلَبُ النِّقَاشَاتِ تُدَار عَلَى طَرِيقَةِ (إنْ لَمْ تَكُنْ مَعِي؛ تَقُول مَا أقُولُ؛ وتَفْعَل مَا أفْعَلُ، وتَقْبَل مَا أقْبَلُ، وتَرْفُض مَا أرْفُضُ، فَأنَّت ضِدِّي، ورُبَّمَا وُجِدَت في القَلْبِ أشْيَاء لَمْ تَخْرُج كِتَابَةً)، وسُبْحَانَ الله، يَحْتَكِمُونَ إِلَى الشَّرْعِ إِنْ أَرَادُوا تَدْعِيم مَوْقِفهم، و إِذَا جَاءَهُم أَحَدٌ لا أَقُولُ بِمَا يَهْدِم مَوَاقِفهم، بَلْ إِذَا جَاءَهُم بِمَا يُصَحِّح مَوَاقِفهم فَقَط، هَاجَمُوه، لا أَقُولُ أَنَّهُم يُنَافِقُونَ عِيَ إِذَا باللهِ، ولا أَقُولُ أَنَّهُم مِمَّنْ يُؤْمِنُونَ ببَعْضِ الكِتَاب ويَكْفُرُونَ ببَعْضٍ مَعَاذَ الله، لا واللهِ، فَكُلُّهُم إِخْوَتِي وأَخَوَاتِي، أَفْضَلُ مِنِّي بكَثِيرٍ، ولَهُم فَضْلٌ عَلَيَّ وعَلَى غَيْرِي وسَبْقٌ، ولَكِنْ حُبِّي لَهُم في اللهِ جَعَلَنِي أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحَمُّلِ ذَنْب الخَطَأ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ: الانْدِفَاعُ وَرَاءَ الحَمَاسِ فَقَط، وهَذَا هُوَ مَا وَقَعُوا فِيهِ، فَلَمْ يُحَكِّمُوا عُقُولَهُم في حَمَاسِهِم، ولَمْ يَضْبطُوهُ بالإِيِمَانِ، فَوَقَعُوا في زَلَلٍ أَغْلَبُ ظَنِّي أَنَّهُ غَيْر مُتَعَمَّدٍ، وكَانَ أَوْلَى بِهِمْ أَلاَّ يَفْعَلُوا، ورَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ [ لَوْ سَكَتَ مَنْ لا يَعْلَمْ لَسَقَطَ الخِلاَف ]، ومَنْ قَالَ [ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُم، اتَّهِمُوا رَأَيَكُم ]، ومَنْ قَالَ [ مِنْ حُسْنِ عِلْم المَرْء أَنْ يَقُولَ فِيمَا لا يَعْلَم: اللهُ أعْلَم ].

    وقَبْلَ أَنْ أَبْدَأ في عَرْضِ الأَخْطَاء الثَّلاَثَة الَّتِي وَقَعَ فِيهَا بَعْضُ أَعْضَاءِ المُنْتَدَى، أَنْقِلُ إِلَيْكُم جُزْءً مِنْ مُشَارَكَةٍ كُنْتُ كَتَبْتُهَا مُنْذُ فَتْرَةٍ، أَرْجُو مِنْكُمْ قِرَاءَته بدِقَّةٍ، والتَّرْكِيز فِيمَا فِيهِ ومُحَاوَلَة الرَّبْط بَيْنَهُ وبَيْنَ الوَاقِعِ الحَاصِلِ الآن، حَتَّى إِذَا مَا تَكَلَّمْنَا عَنِ الأَخْطَاءِ الثَّلاَثَةِ، نَعْرِفُ لِمَ إِذَا وكَيْفَ وَقَعْنَا فِيهَا، ومَا هي البِيئَة الَّتِي مَهَّدَت لذَلِكَ وفَتَحَت لَهُ البَاب، وحَاوِلُوا قَدْرَ الإِمْكَانِ تَذَكُّر هَذِهِ الفَقَرَات أَوِ الرُّجُوع إِلَيْهَا عِنْدَمَا نَتَكَلَّم عَنِ الضَّوَابِط الشَّرْعِيَّةِ، لنَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَا جَاءَت إِلاَّ بِمَا يَصُونُنَا ويَحْفَظُنَا، ومَا أَصَابَنَا ضَرَرٌ إِلاَّ بجَهْلِنَا وبُعْدِنَا عَنِ الدِّينِ وإِنِ ادَّعَيْنَا تَطْبِيقُهُ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى [ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ] (الأنْفَالُ: 53)، وقَالَ تَعَالَى [ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ] (الصَّفُّ: 5).

    إِنَّ إِشَاعَةَ الفَوْضَى باسْمِ الحُرِّيَّة مَكِيدَةٌ يَهُودِيَّةٌ، هُمْ أوَّلُ مَنْ يَكْفُر بِهَا، ولَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ في بُرُوتُوكُولاَتِهِم صَرَاحَةً [ لَقَدْ كُنَّا أوَّل مَنْ صَاحَ في الشَّعْبِ فِيمَا مَضَى بالحُرِّيَّةِ والإخَاءِ والمُسَاوَاة، تِلْكَ الكَلِمَات الَّتِي رَاحَ الجَهَلَةُ في أنْحَاءِ المَعْمُورَةِ يُرَدِّدُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ دُونَ تَفْكِيرٍ أو وَعْيٍ، إنَّ نِدَاءَنَا بالحُرِّيَّةِ والمُسَاوَاةِ والإخَاءِ اجْتَذَبَ إِلَى صُفُوفِنَا مِنْ كَافَّةِ أرْكَان العَالَم بفَضْلِ أعْوَاننَا أفْوَاجًا بأكْمَلِهَا لَمْ تَلْبَث أنْ حَمَلَت لِوَاءَنَا في حَمَاسَةٍ وغَيْرَةٍ، إنَّ لَفْظَةَ الحُرِّيَّة تَجْعَل المُجْتَمَع في صِرَاعٍ مَعَ جَمِيعِ القُوَى، بَلْ مَعَ قُوَّةِ الطَّبِيعَة، وقُوَّة الله نَفْسهَا، عَلَى أنَّ الحُرِّيَّة قَدْ لا تَنْطَوِي عَلَى أيِّ ضَرَرٍ، وقَدْ تُوجَد في الحُكُومَاتِ وفي البِلاَدِ دُونَ أنْ تُسِيءَ إِلَى رَخَاءِ الشَّعْب، وذَلِكَ إِذَا قَامَت عَلَى الدِّينِ، والخَوْفِ مِنَ اللهِ، والإخَاءِ بَيْنَ النَّاسِ المُجَرَّد مِنْ فِكْرَةِ المُسَاوَاة الَّتِي تَتَعَارَض مَعَ قَوَانِينِ الخَلِيقَة، تِلْكَ القَوَانِين الَّتِي نَصَّت عَلَى الخُضُوعِ، والشَّعْبُ باعْتِنَاقِهِ هذه العَقِيدَة سَوْفَ يَخْضَع لوِصَايَةِ رِجَال الدِّين، ويَعِيش في سَلاَم، ويُسَلِّم للعِنَايَةِ الإلَهِيَّة السَّائِدَة عَلَى الأرْضِ، ومِنْ ثَمَّ يَتَحَتَّم عَلَيْنَا أنْ نَنْتَزِعَ مِنْ أذْهَانِ المَسِيحِيِّينَ فِكْرَة الله، والمُسْلِمِينَ أيْضًا، والاسْتِعَاضَة عَنْهَا بالأرْقَامِ الحِسَابِيَّة والمَطَالِب المَادِّيَّة ].

    وفي مَوْضِعٍ آخَر قَالُوا [ الحُرِّيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ إنَّمَا هي فِكْرَة مُجَرَّدَة، ولا وَاقِع حَقِيقِيّ لَهَا، وهذه الفِكْرَة وهي الطُّعْم في الشَّرَكِ، عَلَى الوَاحِدِ مِنَّا أنْ يَعْلَمَ كَيْفَ يَجِب أنْ يُطَبِّقَهَا حَيْثُ تَدْعُو الضَّرُورَة، لاسْتِغْوَاءِ الجَمَاعَات والجَمَاهِير إِلَى حِزْبِهِ، ابْتِغَاءَ أنْ يَقُومَ هذا الحِزْب فَيَسْحَق الحِزْب المُنَاوِئ لَهُ وهُوَ الحِزْب الَّذِي بيَدِهِ الحُكُومَة والسُّلْطَة.
    وهذا العَمَل إنَّمَا يُصْبِح أهْوَن وأيْسَر إِذَا كَانَ الخِصْمُ المُرَاد البَطْش بِهِ قَدْ أخَذَتْهُ عَدْوَى فِكْرَة الحُرِّيَّة المُسَمَّاة باسْمِ لِيبْرَالِيَّة، وهذا الحِزْب مُسْتَعِدٌّ مِنْ أجْلِ إدْرَاك هذه الفِكْرَة المُجَرَّدَة أنْ يَنْزِلَ عَنْ بَعْضِ سُلْطَته، وهُنَا جَزْمًا يَكُون مَطْلَع انْتِصَار فِكْرَتنَا، وتَحْصُل حِينَئِذٍ حَالٍ أُخْرَى: فَمَا للحُكُومَةِ مِنْ زِمَامٍ، يَكُون قَدِ اسْتَرْخَى وأخَذَ بالانْحِلاَلِ فَوْرًا، وهذا مِنْ عَمَلِ قَانُون الحَيَاة، فَتَتَسَلَّط اليَد الجَدِيدَة عَلَى الزِّمَامِ وتَجْمَع بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ وتُقِيمهُ، لأنَّ القُوَّةَ العَمْيَاء في الأُمَّةِ لا تَقْوَى عَلَى البَقَاءِ يَوْمًا وَاحِدًا دُونَ أنْ يَكُونَ لَهَا مَوئِل يُهَيْمِنُ عَلَيْهَا بالضَّبْطِ والإرْشَادِ، ثُمَّ تَمْضِي الحُكُومَة الجَدِيدَة بالأمْرِ، وجُلّ مَا تَفْعَلهُ أنَّهَا تَحِلّ مَحَلّ الحُكُومَة السَّابِقَة الَّتِي نَهَكَتْهَا فِكْرَة اللِّيبْرَالِيَّة حَتَّى أوْدَت بِهَا.
    هذا الطَّوْرُ كَانَ فِيمَا مَضَى، أمَّا اليَوْم فَالقُوَّة الَّتِي نَسَخَت قُوَّة الحُكَّام مِنْ أنْصَارِ اللِّيبْرَالِيَّة هي الذَّهَب، ولِكُلِّ زَمَانٍ إيِمَانٌ يَصِحُّ بصِحَّتِهِ، وفِكْرَة الحُرِّيَّة مُسْتَحِيلَة التَّحْقِيق عَلَى النَّاسِ، لأنَّ لَيْسَ فيهم مَنْ يَعْرِف كَيْفَ يَسْتَعْمِلهَا بحِكْمَةٍ وأنَاةٍ، وانْظُرُوا في هذا، فَإنَّكُم إِذَا سَلَّمْتُم شَعْبًا الحُكْم الذَّاتِيّ لوَقْتٍ مَا، فَإنَّهُ لا يَلْبَث أنْ تَغْشَاهُ الفَوْضَى، وتَخْتَلّ أُمُوره، ومِنْ هذه اللَّحْظَة فَصَاعِدًا يَشْتَدّ التَّنَاحُر بَيْنَ الجَمَاعَات والجَمَاهِير حَتَّى تَقَع المَعَارِك بَيْنَ الطَّبَقَات، وفي وَسطِ هذا الاضْطِرَاب تَحْتَرِق الحُكُومَات، ف إِذَا بِهَا كَوْمَة رَمَاد.
    وهذه الحُكُومَة مَصِيرهَا الاضْمِحْلاَل، سَوَاءَ عَلَيْهَا أدَفَنَت هي نَفْسَهَا بالانْتِفَاضَاتِ الآكِلَة بَعْضهَا بَعْضًا مِنْ دَاخِلٍ، أمْ جَرَّهَا هذا بالتَّالِي إِلَى الوُقُوعِ في بَرَاثِن عَدُوٍّ مِنْ خَارِجٍ، فَعَلَى الحَالَتَيْنِ تُعْتَبَر أنَّهَا أُصِيبَت في مَقَاتِلِهَا، فَغَدَت أعْجَز مِنْ أنْ تَقْوَى عَلَى النُّهُوضِ لتُقِيلَ نَفْسَهَا مِنْ عَثْرَتِهَا، ف إِذَا بِهَا في قَبْضَةِ يَدنَا، وحِينَئِذٍ تَأتِي سُلْطَة رَأس المَال، وتَكُون جَاهِزَة، فَتَمُدّ هذه السُّلْطَة بطَرفِ حَبْلٍ خَفِيٍّ إِلَى تِلْكَ الحُكُومَة الجَدِيدَة لتَعْلَقَ بِهِ، طَوْعًا أمْ كَرْهًا، لحَاجَتِهَا المَاسَّة إلَيْهِ، فَإنْ لَمْ تَفْعَل هَوَت إِلَى القَعْرِ.
    ...
    ولَعمْرِي كَيْفَ يَكُون مُمْكِنًا لَدَى أيِّ حَكِيمٍ بَصِيرٍ أنْ يَأمَلَ في إدْرَاكِ الفَلاَح والفَوْز في قِيَادَةِ الجَمَاهِير إِلَى حَيْثُ يُرِيد؛ إِذَا كَانَت عُدَّتهُ مَا هي إلاَّ الاعْتِمَاد عَلَى مُجَرَّدِ مَنْطِق الرَّأي والإرْشَاد والجَدَل والمَقَال حِينَمَا تَعْتَرِضُهُ مُقَاوَمَة، أو رَمَاهُ الخِصْم بعَوْرَةٍ حَتَّى لَوْ كَانَت مِنَ التُّرَّهَات، وأصْغَت الجَمَاهِير إِلَى هذا، والجَمَاهِير لا تَذْهَب في تَحْلِيلِ الأُمُور إِلَى مَا هُوَ أبْعَد مِنَ الظَّاهِرِ السَّطْحِيّ؟... ].

    ...

    وفي مَوْضِعٍ رَابِعٍ [ وفي جَمِيعِ جَنَبَاتِ الدُّنْيَا, كَانَ مِنْ شَأنِ كَلِمَات (حُرِّيَّة – عَدَالَة - مُسَاوَاة) أنِ اجْتَذَبَت إلي صُفُوفِنَا عَلَى يَدِ دُعَاتنَا وعُمَلاَئنَا المُسَخَّرِينَ, مَنْ لا يُحْصِيهم عَدّ مِنَ الَّذِينَ رَفَعُوا رَايَاتنَا بالهِتَافِ، وكَانَت هذه الكَلِمَات دَائِمًا هي السُّوس الَّذِي يَنْخُر في رَفَاهِيَّتِهِم ويَقْتَلِع الأمْن والرَّاحَة مِنْ رُبُوعِهِم, ويَذْهَبُ بالهُدُوءِ ويَسْلُبهُم رُوحَ التَّضَامُن, وهذا سَاعَدنَا أيْضًا في إحْرَازِ النَّصْر, فَمِمَّا أعْطَانَا: المُكْنَة الَّتِي تَوَصَّلْنَا بِهَا إِلَى الوَرَقَةِ الرَّابِحَةِ ].

    وفي مَوْضِعٍ خَامِسٍ [ وكَانَ مِنْ شَأنِ المَعْنَى المُجَرَّد لكَلِمَةِ (الحُرِّيَّة) أنْ عَضَّدَنَا في إقْنَاعِ الدّهْمَاء في جَمِيعِ البُلْدَان أنَّ حُكُومَاتهم مَا هي إلاَّ حَارِس الشَّعْب، والشَّعْب هُوَ صَاحِب القَضِيَّة, فَالحَارِس يُمْكِن تَغْيِيرهُ وتَبْدِيلهُ, كَقُفَّازٍ قَدِيمٍ نُبِذَ وجِئَ بجَدِيدٍ، وإنَّمَا هي هذه المُكْنَة -مُكْنَة تَبْدِيل مُمَثِّلِي الشَّعْب- مَا جَعَلَ المُمَثِّلِينَ طَوْع أمْرنَا, وأعْطَانَا سُلْطَة تَسْخِيرهم ].

    وعَلَى صَعِيدٍ آخَر يَقُولُ المُنَصِّرُ زويمر [ إنَّ الشَّجَرَة يَنْبَغِي أنْ يَقْطَعَهَا أحَدُ أعْضَائِهَا ]، ويَقُولُ مُوَضِّحًا أيْضًا [ إنَّ خِبْرَةَ الصَّيَّادِينَ تَعْرِف أنَّ الفِيَلَةَ لا يَقُودهَا إِلَى سِجْنِ الصَّيَّاد المَاكِر إلاَّ فِيلٌ عَمِيلٌ أُتْقِنَ تَدْرِيبهُ لِيَتَسَلَّلَ بَيْنَ القَطِيع فَيَألَفُهُ القَطِيعُ لأنَّ جِلْدَهُ مِثْل جِلْدهم ويَسْمَعُونَ لَهُ لأنَّ صَوْتَهُ يُشْبِهُ صَوْتهم فَيَتَمَكَّن مِنَ التَّغْرِيرِ بهم وسُوقِهم إِلَى حَظِيرَةِ الصَّيَّاد ].


    قَالَ تَعَالَى [ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ]



    فَمَتَى نَفِيقُ؟؟



    والآن مَعَ الأَخْطَاءِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي حَدَثَتْ ومَازَالَتْ في المُنْتَدَى.

  • #2
    رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شعرية لنوازل عصرية

    العُنْصُرُ الثَّالِثُ: الخَطَأُ الأوَّلُ: الأَخْذُ في التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ والشَّتَائِم؛ والإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ:
    حَمَاسٌ وغَيْرَةٌ وانْفِعَالٌ بالأَحْدَاثِ، فَقَطْ حَمَاسٌ، دُونَ تَحْكِيمِ عَقْلٍ مَضْبُوطٍ بشَرْعٍ، أَدَّى إِلَى انْتِشَارِ وازْدِيَادِ التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ، وكَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ أَيُّ مَجَالٍ للتَّعْبِيرِ عَنِ الحَمَاسِ والغَيْرَةِ إِلاَّ بالسَّبِّ والشَّتْمِ، فَمَتَى كَانَ السَّبُّ مِنْ خُلُقِ المُسْلِمِينَ؟ ومَتَى كَانَ حَلاً للمُشْكِلاَتِ؟ ومَتَى أَتَى بنَتَائِجَ؟ ومَتَى كَانَ هَدْيًا وخُلُقًا وسَمْتًا في أَيِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ لِمَنْ سَبَقُونَا بالعِلْمِ والخَيْرِ والفَضْلِ والإِيِمَانِ وكَلَّلَ اللهُ أَعْمَالَهُم بالنَّصْرِ والبَرَكَةِ لنَقْتَدِي بِهِمْ ونَهْتَدِي بهَدْيِهِمْ فِيهِ؟ لا أَعْلَمُ كَيْفَ سَيُبَرِّرُ مَنْ أَطْلَقَ لِلِسَانِهِ العَنَان في سَبِّ الآخَرِينَ هَذَا السَّبّ شَرْعًا؟ هَلْ مِنْ دِينِنَا في كِتَابٍ وسُنَّةِ نَبِيٍّ وسُنَّةِ خُلَفَاءٍ وعِلْمِ تَابِعِينَ وسَلَفٍ صَالِحٍ مَا يُبِيحُ ذَلِكَ؟ سَأُقَدِّمُ لَهُ الأَدِلَّة مِنَ الدِّينِ -فِيمَا أعْلَمُ- عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا السَّبّ والنَّهْي عَنْهُ مَهْمَا كَانَ السَّبَبُ والدَّافِعُ لَهُ، وإِنْ كَانَ لَدَيْهِ مَا يُخَالِف فَلْيُفْتِنَا بِهِ كَمَا أَفْتَى نَفْسَهُ لنَتَّبِعَهُ فِيمَا عَلِمَ وجَهِلْنَا إِنْ صَحَّ دَلِيلُهُ، أَوْ يَكُفّ لِسَانَهُ ويُمْسِكهُ حَتَّى لا يُسَاء إِلَى الدِّينِ مِنْ خِلاَلِهِ، ونُؤْخَذ بذُنُوبِهِ في كُلِّ أمْرٍ.

    إِنَّ الإِسْلاَمَ لَمْ يَحُثّ عَلَى التَّنَابُزِ بالأَلْقَابِ، ولا عَلَى سَبِّ العَدُوِّ أَوِ المُخَالِف مَهْمَا بَلَغَ الخِلاَف والعَدَاوَة، بَلْ نَهَى عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَا سَبَّ أَعْدَائَهُ الكُفَّار يَوْمًا، بَلْ كَانَ يَدْعُو لَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لأَصْغَرِ طَالِب عِلْمٍ، ومَا عَرفْنَا عَنْ صَحَابَتِهِ الأَخْيَار أنَّهُمْ في عَهْدِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ قَابَلُوا مَا يُفْعَل فِيهِمْ مَهْمَا بَلَغَت قَسْوَته وشِدَّته بالسَّبِّ والشَّتْمِ، فَالغَيْرَةُ وإِنْ كَانَت مَطْلُوبَة والحَمَاسُ وإِنْ كَانَ مَحْمُودًا؛ فَلاَبُدَّ أَنْ يَنْضَبِطَا بضَوَابِطَ الشَّرْعِ، وإِلاَّ خَرَجَا عَنِ المَعْنَى المُرَاد إِلَى النَّقِيضِ، مِمَّا يُخَالِفُ الكَثِير مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّة، يَأَتِي بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي، واللهُ المُسْتَعَانُ:
    1) حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى التَّنَابُز بالأَلْقَابِ، قَالَ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ]، يَقُولُ الإِمَامُ ابُن كَثِير في تَفْسِيرِ الآيَةِ [ يَنْهَى تَعَالَى عَنِ السُّخْرِيَةِ بالنَّاسِ؛ وهُوَ احْتِقَارُهُم والاسْتِهْزَاءُ بِهِم، كَمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (الكِبْرُ بَطرُ الحَقِّ وغَمْصُ النَّاسِ) ويُرْوَى (غَمْطُ النَّاسِ)، والمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ احْتِقَارُهُم واسْتِصْغَارُهُم، وهذا حَرَامٌ، فَإنَّهُ قَدْ يَكُون المُحْتَقَر أعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وأحَبُّ إلَيْهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنْهُ المُحْتَقِرِ لَهُ، ولهذا قَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)، نَصَّ عَلَى نَهْي الرِّجَال وعَطَفَ بنَهْي النِّسَاء، وقَوْلُهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) أي لا تَلْمَزُوا النَّاس، والهَمَّاز اللَّمَّاز مِنَ الرِّجَالِ مَذْمُومٌ مَلْعُونٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)، الهَمْزَةُ بالفِعْلِ واللَّمْزُ بالقَوْلِ كَمَا قَالَ عَزَّ وجَلَّ (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) أي يَحْتَقِر النَّاس ويَهْمِزهُم طَاغِيًا عَلَيْهم ويَمْشِي بَيْنَهُم بالنَّمِيمَةِ وهي اللَّمْزُ بالمَقَالِ، ولهذا قَالَ هَهُنَا (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) كَمَا قَالَ (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي لا يَقْتُل بَعْضُكُم بَعْضًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاس ومُجَاهِد وسَعِيد بْن جُبَيْر وقَتَادَة ومُقَاتِل بْن حيَّان (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي لا يَطْعَن بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ، وقَوْلُهُ تَعَالَى (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) أي لا تَدَاعُوا بالألْقَابِ وهي الَّتِي يَسُوءُ الشَّخْص سَمَاعهَا، قَالَ الإمَامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيل؛ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن أبِي هِنْد؛ عَنِ الشّعَبِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبُو جُبَيْرَة بْنِ الضَّحَّاك قَالَ (فِينَا نَزَلَت في بَنِي سَلَمَة (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَدِينَة ولَيْسَ فِينَا رَجُل إلاَّ ولَهُ اسْمَانِ أو ثَلاَثَة، فَكَانَ إِذَا دَعَا أحَدٌ مِنْهُم باسْمٍ مِنْ تِلْكَ الأسْمَاءِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هذا، فَنَزَلَت (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، ورَوَاهُ أبُو دَاوُد عَنْ مُوسَى بْن إسْمَاعِيل عَنْ وَهْب عَنْ دَاوُد بِهِ)، وقَوْلُهُ جَلَّ وعَلاَ (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) أي بِئْسَ الصِّفَة والاسْمُ الفُسُوقُ وهُوَ التَّنَابُزُ بالألْقَابِ، كَمَا كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاعَتُونَ بَعْدَمَا دَخَلْتُم في الإسْلاَمِ وعَقَلْتُمُوهُ، (وَمَن لَّمْ يَتُبْ) أي مِنْ هذا (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ] تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (ص516).

    2) نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ سَبِّ مُعْتَقَدَات المُشْرِكِين حَتَّى لا يَتَّخِذُوا هَذَا الاعْتِدَاءِ بالسَّبِّ ذَرِيعَةً لِلاِعْتِدَاءِ وسَبِّ الله، قَالَ تَعَالَى [ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ]، والقَاعِدَةُ الفِقْهِيَّةُ فِيهَا (تَنْبِيهٌ بالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى، وتَنْبِيهٌ بالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى)، فَأَمَّا التَّنْبِيهُ بالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سِبَابِ الآخَرِينَ ورُمُوزِهِمْ ومُعْتَقَدَاتِهِمْ بحُجَّةِ الانْتِصَار للدِّينِ وإِظْهَار البَرَاء مِنْهُمْ، ويَكُون التَّنْبِيهُ عَلَى الأَدْنَى بالنَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ في أُمُورٍ أَقَلّ شَأْنًا مِنَ الدِّينِ، أَمَّا التَّنْبِيهُ بالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سِبَابِ المُشْرِكِينَ، فَيَكُون مِنْ بَابِ أَوْلَى التَّنْبِيهُ عَلَى الأَعْلَى وهُوَ النَّهْيُ عَنْ سِبَابِ المُسْلِمِينَ، والحَاصِلُ أَنَّهُ لاَ يَجُوز سَبّ الأَشْخَاص ولا الرُّمُوز سَوَاء كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مُشْرِكِينَ كي لا يَتَّخِذُونَهَا ذَرِيعَةً للتَّطَاوُلِ عَلَى الإِسْلاَمِ، وهَذَا نَرَاهُ كَثِيرًا هَذِهِ الأَيَّام مِمَّنْ يَتَصَيَّدُونَ الأَخْطَاء والزَّلاَّت ويُضَخِّمُونَهَا ويَفْتَرُونَ بِهَا أَيَّمَا افْتِرَاء عَلَى الإِسْلاَمِ، ومَعَ ذَلِكَ فَهَذَا النَّهْيُ لا يَمْنَعُ مِنْ نَقْدِهِم وبَيَانِ بَاطِلهمْ، ولَكِنْ دُونَ سِبَابٍ وشَتَائِم.

    3) يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى [ لاْ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيْعًا عَلِيْمًا ]، قَالَ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ يُخْبِرُ تَعَالَى أنَّهُ لا يُحِبّ الجَهْر بالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ، أي: يَبْغَضُ ذَلِكَ، ويَمْقُتُهُ، ويُعَاقِبُ عَلَيْهِ، ويَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيع الأقْوَال السَّيِّئَة الَّتِي تَسُوءُ وتُحْزِنُ: كَالشَّتْمِ، والقَذْفِ، والسَّبِّ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَإنَّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ المَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللهُ، ويَدُلُّ مَفْهُومهَا أنَّهُ يُحِبُّ الحَسَن مِنَ القَوْلِ: كَالذِّكْرِ، والكَلاَمِ الطَّيِّبِ اللَّيِّنِ. وقَوْلُهُ (إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ) أي: فَإنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ ويَتَشَكَّى مِنْهُ، ويَجْهَر بالسُّوءِ لِمَنْ جَهَرَ لَهُ بِهِ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ، ولا يُزِيد عَلَى مَظْلَمَتِهِ، ولا يَتَعَدَّى بشَتْمِهِ غَيْر ظَالِمِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَعَفْوه وعَدَم مُقَابَلَته أوْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ] تَيْسِيرُ الكَرِيمِ الرَّحْمَنِ (ص212).

    4) أمَّا قَاعِدَةُ (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا البَعْضُ عَلَى غَيْرِ المَقْصُودِ مِنْهَا؛ فَهِيَ مَضْبُوطَةٌ في آخِر الآيَة بضَابِطٍ شَرْعِيِّ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيّ رَحِمَهُ اللهُ [ قَوْلُهُ تَعَالَى (وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئةٌ مِثْلُهَا): قَالَ مُجَاهِدُ والسَّدِّيُّ: هُوَ جَوَابُ القَبِيحِ، إِذَا قَالَ لَهُ كَلِمَة أجَابَهُ بمِثْلِهَا، مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْتَدِيَ ] زَادُ المَسِيرِ (5/325والإسَاءَةُ في الآيَةِ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ نُسِيءَ إِلَى النَّاسِ (بالمَعْنَى الدَّارِجِ لكَلِمَةِ الإسَاءَة) إِذَا أسَاءُوا إلَيْنَا، ولَكِنْ مَعْنَاهَا أنْ نَقْتَصَّ مِنْهُم بمِقْدَارِ مَا آذُونَا، فَكَمَا أسَاءَتْنَا أذِيَّتُهُم لَنَا فَسَيُسِيئَهُم قَصَاصُنَا مِنْهُم، فَالجَزَاءُ يُسَمَّى سَيِّئَة لأنَّهُ كَانَ بمُقَابَلَةِ إسَاءَتهم، ولَكِنْ لا يَكُون مُشَابِهًا لفِعْلِهِم، فَحَتَّى إِنْ أسَاءُوا أمَرَنَا اللهُ أنْ نَقْتَصّ مِنْهُم بإحْسَانٍ دُونَ أنْ نَعْتَدِي، يَقُولُ الإمَامُ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ الآيَة [ قَالَ الْعُلَمَاءُ: جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ; صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنِ الظَّالِمِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ (وَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشُّورَى: 37)، وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَدّ الانْتِصَار بقَوْلِ (وجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) يَنْتَصِر مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْتَدِي، قَالَ مُقَاتِل وهِشَام بْن حُجَيْر (هذا في المَجْرُوجِ يَنْتَقِم مِنَ الجَارِجِ بالقِصَاصِ دُونَ غَيْره مِنْ سَبٍّ أو شَتْمٍ)، وقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةُ وسُفْيَانُ، قَالَ سُفْيَانُ (وكَانَ ابْنُ شُبْرُمَة يَقُولُ: لَيْسَ بمَكَّة مِثْل هِشَام)، وتَأوَّلَ الشَّافِعِيُّ في هذه الآيَةِ أنَّ للإنْسَانِ أنْ يَأخُذَ مِنْ مَالِ مَنْ خَانَهُ مِثْل مَا خَانَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ؛ واسْتَشْهَدَ في ذَلِكَ بقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لهِنْد زَوْج أبِي سُفْيَان (خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ ووَلَدكِ)، أجَازَ لَهَا أخْذ ذَلِكَ بغَيْرِ إذْنِه، وقَدْ مَضَى الكَلاَم في هذا مُسْتَوْفَى في (البَقَرَةِ)، وقَالَ ابْن أبِي نَجِيح (إنَّهُ مَحْمُول عَلَى المُقَابَلَةِ في الجِرَاحِ، و إِذَا قَالَ: أخْزَاهُ الله أو لَعَنَهُ الله؛ أنْ يَقُول مِثْلَهُ، ولا يُقَابِلُ القَذْفَ بقَذْفٍ ولا الكَذِبَ بكَذِبٍ)، وقَالَ السَّدِّيُّ (إنَّمَا مَدَحَ اللهُ مَنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ بالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فُعِلَ بِهِ؛ يَعْنِي كَمَا كَانَت العَرَب تَفْعَلهُ، وسُمِّيَ الجَزَاء سَيِّئَة لأنَّهُ في مُقَابَلَتِهَا؛ فَالأوَّل سَاءَ هذا في مَالٍ أو بَدَنٍ، وهذا الاقْتِصَاص يَسُوءهُ بمِثْلِ ذَلِكَ أيْضًا) ] تَفْسِيرُ القُرْطُبِيّ (ص487ويَقُولُ الخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ إِذَا سَبَّ إنْسَانٌ إنْسَانًا؛ جَازَ للمَسْبُوبِ أنْ يَسُبَّ السَّابّ بقَدْرِ مَا سَبَّهُ، لقَوْلِهِ تَعَالَى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا)، ولا يَجُوزُ أنْ يَسُبَّ أبَاهُ ولا أُمَّهُ، ورُوِيَ أنَّ زَيْنَب لَمَّا سَبَّت عَائِشَة قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَمَا في سُنَنِ ابْن مَاجَة وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ (دُونَكِ فَانْتَصِرِي)، فَأقْبَلَت عَلَيْهَا حَتَّى يَبِسَ رِيقهَا في فِيهَا، فَتَهَلَّلَ وَجْه النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإنَّمَا يَجُوزُ السَّبّ بِمَا لَيْسَ كَذِبًا ولا قَذْفًا، كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِم، يَا أحْمَق، لأنَّ أحَدًا لا يَكَاد يَنْفَكّ عَنْ ذَلِكَ، و إِذَا انْتَصَرَ بسَبِّهِ فَقَدِ اسْتَوْفَى ظَلاَمَته، وبَرِئَ الأوَّل مِنْ حَقِّهِ، وبَقِيَ عَلَيْهِ إثْم الابْتِدَاء أو الإثْم لحَقِّ الله تَعَالَى ] مُغْنِي المُحْتَاج (4/157)، وهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُسَبُّونَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُوه لَمْ يَبْدَءُوا بسَبِّنَا، والآيَةُ تُبِيحُ فَقَط الرَّدّ بالمِثْلِ لا البَدْء، وحَتَّى عِنْدَ الرَّدِّ، يَكُون الأكْثَر وَرَعًا وتَقْوَى وقُرْبًا مِنَ الدِّينِ هُوَ الرَّدُّ بالمُبَاحِ لا بالمَذْمُومِ، كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى [ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ 29 وَ إِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ 30 وَ إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ 31 وَ إِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ 32 وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ 33 فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ 34 عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ 35 هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ 36 ] (المُطَفِّفِينَ: 29-36)، فَالكُفَّار ضَحكُوا واسْتَهْزَءُوا وتَغَامَزُوا وسَبُّوا، فَكَانَ الجَزَاء أنْ ضَحِكَ مِنْهُم المُؤْمِنُونَ فَقَط لَمَّا ظَهَرَ الحَقّ، لَمْ يَضْحَكُوا قَبْلَ ظُهُورِ الحَقّ، ولَمْ يَسُبُّوا كَسَبِّهِم أو يَتَغَامَزُوا كَغَمْزِهِم، فَقَط ضَحِكُوا، لأنَّ هذا هُوَ الأمْر الوَحِيد المُبَاح الحَلاَل، فَعَلَهُ الكُفَّار بغَيْرِ حَقّ، وفَعَلَهُ المُؤْمِنُونَ بحَقٍّ، ولَمْ يَفْعَلُوا بَقِيَّة الأُمُور لأنَّهَا لا تَجُوز.

    5) نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ سَبِّ المُسْلِم عُمُومًا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

    6) نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ سَبِّ الآبَاء تَحْدِيدًا، رَوَى البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرُو بْنِ العَاص أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ].

    7) المُسْلِمُ عَفُّ اللِّسَانِ، لقَوْلِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لَيْسَ المُؤْمِن بالطَّعَّانِ، ولا باللَّعَّانِ، ولا بالفَاحِشِ، ولا بالبَذِيء] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ، فَلاَ يَجُوز الخُرُوج عَنْ هَذَا الأصْلِ بمُجَرَّدِ الاسْتِحْسَان الشَّخْصِيّ، إِذْ لاَبُدَّ مِنْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ (في أَصْلِهِ وفي إِسْقَاطِهِ) للاسْتِثْنَاءِ، وإِنْ وُجِدَ يُعْمَل بِهِ بضَوَابِطَهُ، وقَالَ الإمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ الله [ مِنَ الألْفَاظِ المَذْمُومَةِ المُسْتَعْمَلَةِ في العَادَةِ قَوْلهُ لِمَنْ يُخَاصِمهُ: يَا حِمَار، يَا تَيْس، يَا كَلْب، ونَحْو ذَلِكَ، فهذا قَبِيحٌ لوَجْهَيْنِ: أحَدُهُمَا أنَّهُ كَذِب، والآخَر أنَّهُ إيِذَاء ] الأذْكَارُ (ص/365).

    8) قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنِ المُسْتَبَّيْنِ [ المُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ، يَتَهَاتَرَانِ، ويَتَكَاذَبَانِ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ الأدَبِ المُفْرَدِ وصَحِيحِ الجَامِعِ، وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى [ المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ، فَعَلَى البَادِئ، مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم ] رَوَاهُ مُسْلِمُ.

    9) أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِلَى تَرْكِ سَبّ اليَهُودِيّ المُسْتَحِقّ للسَّبِّ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بأنَّ اللهَ لا يُحِبّ الفُحْش والتَّفَحُّش، فَمَا بَالُنَا بسَبِّ المُسْلِم؟ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا [ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: وَعَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُم اللهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوِ الْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِم، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِم، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ ]، وفي رِوَايَةٍ لمُسْلِم [ فَفَطِنَتْ بِهِم عَائِشَةُ فَسَبَّتْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ ]، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَر رَحِمَهُ اللهُ [ والَّذِي يَظْهَر أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أرَادَ أنْ لا يَتَعَوَّد لِسَانهَا بالفُحْشِ أو أنْكَرَ عَلَيْهَا الإفْرَاط في السَّبِّ ] فَتْحُ البَارِي (11/43).

    10) نَهَى اللهُ ورَسُولُهُ عَنِ الكَذِبِ أشَدّ النَّهْي، فَقَالَ تَعَالَى [ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ عَلَيْكُم بالصِّدْقِ، فَإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، ولا يَزَال الرَّجُل يَصْدُق ويَتَحَرَّى الصِّدْق حَتَّى يُكْتَب عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وإيَّاكُم والكَذِب، فَإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ولا يَزَال الرَّجُل يَكْذِب حَتَّى يُكْتَب عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْن مَسْعُود [ الكَذِبُ لا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ ولا هَزْلٌ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لأحَدٍ فِيهِ رُخْصَة؟ ]، وقَوْلُ البَعْضِ (يَا كَلْب، يَا تَيْس، يَا حِمَار، يَا كَذَا -مِنْ أسْمَاءِ الحَيَوَانَات-) هُوَ كَذِبٌ مُخَالِفٌ للوَاقِعِ،وقَدْ رَوَى ابْنُ أبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيقِ الأعْمَش عَنْ إبْرَاهِيم قَالَ [ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ (يَا حِمَار، يَا كَلْب، يَا خِنْزِير) قَالَ اللهُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَة: أتَرَانِي خَلَقْتُ كَلْبًا، أو حِمَارًا، أو خِنْزِيرًا؟ ]، ورَوَى أيْضًا مِنْ طَرِيقِ العَلاَء بْن المُسَيِّب عَنْ أبِيهِ قَالَ [ لا تَقُل لصَاحِبِكَ (يَا حِمَار، يَا كَلْب، يَا خِنْزِير)، فَيَقُولُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَة: أتَرَانِي خُلِقْتُ كَلْبًا، أو حِمَارًا، أو خِنْزِيرًا؟ ]، وقَدْ سُئِلَ الإمَام مَالِك [ أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ: يَا حِمَارُ أَوْ يَا ثَوْرُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ؟ قَالَ: يُنَكِّلُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الإِمَامُ فِي رَأْيِي ]، وقَالَ ابْنُ مُفْلِح في الفُرُوعِ [ وَيُعَزَّرُ فِي: يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يَا ثَوْرُ، يَا رَافِضِيُّ ]، وفي تَكْمِلَةِ المَجْمُوعِ [ ومِنَ الألْفَاظِ المُوجِبَةِ للتَّعْزِيرِ قَوْله لغَيْرِهِ: يَا فَاسِق، يَا كَافِر، يَا فَاجِر، يَا شَقِيّ، يَا كَلْب، يَا حِمَار، يَا تَيْس، يَا رَافِضِيّ، يَا خَبِيث، يَا كَذَّاب ].

    11) هُنَاكَ فَرْقٌ شَاسِعٌ بَيْنَ الهِجَاءِ والسَّبِّ، فَالهِجَاءُ جَائِزٌ في حَالاَتٍ سَوَاء كَانَ لِمُسْلِمٍ أو لِكَافِرٍ، ولَكِنَّ السَّبّ لَيْسَ لَهُ حَالاَت يُبَاحُ فِيهَا، وعَلَى مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ أنْ يُثْبِتَهُ بالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ، ومِنْ ضَوَابِطِ الهِجَاء المَشْرُوع مَا يَلِي:
    θ تَحْرِيمُ هِجَاءِ المُسْلِم مِنْ حَيْثُ الأصْلِ.
    θ جَوَازُ هِجَاءِ الكَافِر، والمُشْرِك، والمُرْتَدّ.
    θ مُرَاعَاةُ أنْ يَكُونَ هِجَاء الكَافِر رَدًّا عَلَيْهِ، لا ابْتِدَاءً مِنَ المُسْلِمِ، ويَكُون بقَدْرِ الخَطَأ.
    θ أنْ يَكُونَ النَّاظِم للهِجَاء عَلَى قَدْرٍ مِنَ البَلاَغَةِ والفَصَاحَةِ؛ لاخْتِيَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَلحَسَّان بْن ثَابِت دُونَ غَيْرِهِ، ولِمَا قَدْ يُسَبِّبُهُ نَظْمُ الجَاهِلِ والضَّعِيفِ مِنْ سُخْرِيَةِ الشُّعَرَاء والفُصَحَاء.
    θ جَوَازُ ابْتِدَاءِ المُبْتَدِع والمُعْلِن بفِسْقِهِ؛ بالهِجَاءِ.
    θ مُرَاعَاةُ عَدَمِ الشَّطَط في الهِجَاءِ، وعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَى العِرْضِ، وعَدَمِ القَذْفِ.
    θ مَنْ هَجَا مُسْلِمًا بغَيْرِ حَقٍّ: فَإنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِير.

    12) أيْنَ ذَهَبَت أَحَادِيثُ حِفْظِ اللِّسَانِ حَتَّى عَنْ مُجَرَّدِ الكَلاَم فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ سِبَابًا مُتَعَمَّدًا؟ فَإنَّ أخْطَرَ مَا في الكَلِمَةِ أنَّهَا تَهْوِي بالإنْسَانِ في النَّارِ إِذَا خَالَفَت شَرْع الله، وفي ذَلِكَ أحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ، لا تَتَعَارَض مَعَ حَدِيثِ (إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) لأنَّ النِّيَّةَ يُشْتَرَط لَهَا عَمَل يُوَافِقهَا، أمَّا إِذَا خَالَفَ العَمَلُ النِّيَّةَ يُضَيِّعُ أحَدُهُمَا الآخَر، قَالَ الشَّيْخُ الغَزَّالِيُّ رَحِمَهُ اللهِ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ في الإحْيَاءِ (4/368) في (انْقِسَامِ الأعْمَالِ إِلَى مَعَاصٍ وطَاعَاتٍ ومُبَاحَاتٍ وتَأثِيرِ النِّيَّةِ في ذَلِكَ) [ القِسْمُ الأوَّلُ: المَعَاصِي، وهي لا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضِعِهَا بالنِّيَّةِ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يَفْهَمَ الجَاهِلُ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمِ (إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) فَيَظُنُّ أنَّ المَعْصِيَةَ تَنْقَلِبُ طَاعَةً بالنِّيَّةِ، كَالَّذِي يَغْتَابُ إنْسَانًا مُرَاعَاةً لقَلْبِ غَيْرِهِ، أو يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أو يَبْنِي مَدْرَسَةً أو مَسْجِدًا أو رِبَاطًا بمَالٍ حَرَامٍ، وقَصْدُهُ الخَيْرُ، فهَذا كُلُّهُ جَهْلٌ، والنِّيَّةُ لا تُؤَثِّرُ في إخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا وعُدْوَانًا ومَعْصِيَةً، بَلْ قَصْدُهُ الخَيْرُ بالشَّرِّ -عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ- شَرٌّ آخَرُ، فَإنْ عَرَفَهُ فَهُوَ مُعَانِدٌ للشَّرْعِ، وإنْ جَهِلَهُ فَهُوَ عَاصٍ بجَهْلِهِ؛ إذْ طَلَبُ العِلْمِ فَرِيَضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ]، إِلَى أنْ قَالَ [ فَإذَنْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يَخْتَصُّ مِنَ الأقْسَامِ الثَّلاَثَةِ بالطَّاعَاتِ والمُبَاحَاتِ دُونَ المَعَاصِي؛ إذِ الطَّاعَةُ تَنْقَلِبُ مَعْصِيَةً بالقَصْدِ، والمُبَاحُ يَنْقَلِبُ مَعْصِيَةً وطَاعَةً بالقَصْدِ، فَأمَّا المَعْصِيَةُ فَلاَ تَنْقَلِبُ طَاعَةً بالقَصْدِ أصْلاً، نَعَم، للنِّيَّةِ دَخْلٌ فِيهَا، وهُوَ أنَّهُ إِذَا انْضَافَ إلَيْهَا قُصُودٌ خَبِيثَةٌ تَضَاعَفَ وِزْرُهَا وعَظُمَ وَبَالُهَا ]، ومِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ في التَّحْذِيرِ مِنْ خُطُورَةِ الكَلِمَة مَا يَلِي:
    θ رَوَى البُخَارِيُّ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ]، فَهَلْ مَنْ يَتَكَلَّم بالسَّبِّ والشَّتْمِ يَكُون ذَلِكَ مِنْ رِضْوَانِ الله؟ وقَوْلُهُ (لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً) لا يَعْنِي أنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الكَلِمَة أو لَمْ يَنْوِهَا، وإنَّمَا المُرَادُ أنَّهُ لَمْ يَتَثَبَّت فِيهَا ويَتَحَرَّى صِحَّتهَا ومُوَافَقَتهَا للشَّرْعِ قَبْلَ أنْ يَنْطِقَ بِهَا، ولَمَّا كَانَ الانْضِبَاطُ بضَوَابِطِ الشَّرْع بَعِيدًا عَنْ سُلُوكِهِ كُلَّ البُعْدِ؛ لَمْ يَظُنّ أنَّهَا تَبْلُغ مَا بَلَغَت، كَمَا جَاءَ في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى التَّالِيَة.
    θ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ [ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ؛ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا؛ يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ، وفي رِوَايَةٍ [ يَهْوِي بِهَا في نَارِ جَهَنَّم سَبْعِينَ خَرِيفًا ].
    θ ورَوَى أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ مَاجَه عَنْ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ [ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ؛ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ؛ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) ]، قَالَ الحَافِظ ابْن حَجَر رَحْمَةُ الله عَلَيْهِ في الفَتْحِ (11/311) [ قَوْلُهُ: (لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً) أي: لا يَتَأمَّلُهَا بخَاطِرِهِ ولا يَتَفَكَّرُ في عَاقِبَتِهَا ولا يَظُنُّ أنَّهَا تُؤَثِّر شَيْئًا، وهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، وقَدْ وَقَعَ في حَدِيثِ بِلاَل بْنِ الحَارِثِ المُزَنِيّ الَّذِي أخْرَجَهُ مَالِك وأصْحَاب السُّنَن وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابْن حِبَّان والحَاكِمُ بلَفْظِ (إنَّ أحَدَكُم ليَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ مَا يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَت؛ يَكْتُبُ الله لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَة)، وقَالَ في السَّخَطِ مِثْل ذَلِكَ ]، لذَلِكَ وَصَفَ اللهُ مَنْ يَتَنَاقَلُونَ الأخْبَار بغَيْرِ تَثَبُّتٍ وفَهْمٍ بأنَّهُم يَتَلَقَّوْنَهَا ويَتَنَاقَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُم باللِّسَانِ فَقَط، رَغْمَ أنَّ التَّلَقِّي يَكُون بالأُذُنِ، ولَكِنَّهَا إشَارَة إِلَى أنَّهُم لا يُعْمِلُونَ فِيهَا عُقُولهم ولا يَتَدَبَّرُونَهَا بقُلُوبِهِم، بَلْ يَتَلَقَّوْنَهَا باللِّسَانِ ليَنْقِلُونَهَا إِلَى لِسَانٍ آخَرٍ وهَكَذَا دُونَ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى [ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ].
    θ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر الجُهَنِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله؛ مَا النَّجَاة؟ قَالَ: أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولِيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التِّرْمِذِيّ، وفي رِوَايَةٍ [ أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانُكَ ].
    θ عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في سَفَرٍ، فَأصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ ونَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله؛ أخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّة ويُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله ولا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وتُقِيمُ الصَّلاَة، وتُؤْتِي الزَّكَاة، وتَصُومُ رَمَضَان، وتَحُجُّ البَيْت، ثُمَّ قَالَ: ألاَ أدُلُّكَ عَلَى أبْوَابِ الخَيْر: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وصَلاَةُ الرَّجُل مِنْ جَوْفِ اللَّيْل، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ – حتى بَلَغَ – يَعْمَلُونَ)، ثُمَّ قَالَ: ألاَ أُخْبِرُكُم برَأْسِ الأمْرِ كُلّه وعَمُودِهِ وذُرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: رَأْسُ الأمْرِ الإسْلاَمُ، وعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وذُرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: ألاَ أُخْبِرُكَ بمَلاَكِ ذَلِكَ كُلّه، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَأخَذَ بلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هذا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله؛ وإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ، وهَلْ يَكُّبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم أو عَلَى مَنَاخِرِهِم إلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِم ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التِّرْمِذِيّ، وفي رِوَايَةٍ بزِيَادَةٍ [ إنَّكَ لَنْ تَزَال سَالِمًا مَا سَكَتَّ، ف إِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أو عَلَيْكَ ].
    θ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
    θ مِنْ أقْوَالِ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ يَا لِسَان؛ قُلْ خَيْرًا؛ تَغْنَم، واسْكُت عَنْ شَرٍّ؛ تَسْلَم، مِنْ قَبْلِ أنْ تَنْدَم، تَنْدَم لاَتَ حِينَ مَنْدَم ] أي وَقْت لا يَنْفَع النَّدَم، وقَالَ أيْضًا [ إيَّاكُم والفِتَن، فَإنَّ وَقْعَ اللِّسَان فِيهَا مِثْل وَقْع السَّيْف ].

    وقَدْ يَسْألُ سَائِلٌ ويَقُولُ: كَيْفَ إذَنْ نَأخُذ حُقُوقنَا مِمَّنْ ظَلَمَنَا ونُعَبِّر عَمَّا بدَاخِلِنَا مِنْ غَيْرَةٍ وحَمَاسٍ وانْفِعَالٍ؟ والإجَابَةُ: شَرَعَ اللهُ لَنَا طُرُقًا كَثِيرَةً لرَدِّ الحَقّ، ومِنْهَا القِصَاصَ، وفِيهِ مَا يَلِي:
    1) أنْ يَكُونَ أمْر القِصَاص بيَدِ وَلِيّ الأمْر لا بيَدِ كُلّ شَخْصٍ عَلَى حِدَة.
    2) أنْ نَقْتَصَّ وِفْقَ الضَّوَابِط، قَالَ تَعَالَى [ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ]، وقَالَ تَعَالَى [ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ] والَّتِي لَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا الشَّتْم والقَذْف والكَذِب، ولَكِنْ عِنْدَنَا حُدُود لمُعَاقَبَةِ القَاذِف يُقْتَصّ بِهَا مِنْهُ ولَيْسَ برَدِّ القَذْف عَلَيْهِ.
    3) أنْ يَتِمَّ القِصَاص بَعْدَ إقَامَة الدَّلِيل اليَقِينِيّ القَاطِع لا المُتَوَهَّم، لأنَّ الشَّكَّ يُدْرَأ باليَقِينِ، والحُدُودَ لا تُقَامُ إلاَّ باليَقِينِ، وألاَّ يَكُون مُزَوَّرًا، لأنَّهُ ظُلْمٌ وتَغْيِيبٌ للحَقِيقَةِ، وألاَّ يُفْهَم مِنْهُ غَيْر حَقِيقَتِهِ لكَوْنِهِ حَمَّال أوْجُه، لأنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَثُرَ فِيهِ الاحْتِمَال ضَعُفَ بِهِ الاسْتِدْلاَل.
    4) العَفْوُ أقْرَبُ للتَّقْوَى، وتُرَاجَع في ذَلِكَ الفَتْوَى التَّالِيَة (كيف يجمع المسلم بين العفو والمسامحة في حقه مع بقاء مكانته وهيبته في الناس).

    وإنْ كَانَ تَطْبِيقُ الحُدُودِ مُعَطَّلاً في بَلَدٍ لا تُطَبِّق الشَّريِعَة الإسْلاَمِيَّة، فَهُنَاكَ سُبُلٌ كَثِيرَةٌ مُبَاحَةٌ، مِثْل المُقَاضَاة، ومِثْل الرُّدُود القَوِيَّة (عَلَى اخْتِلاَفِ أشْكَالِهَا ووَسَائِلِهَا) الخَالِيَة مِنَ السِّبَابِ؛ لقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ ]، ومِثْل المُقَاطَعَة، ومِثْل الدُّعَاء وهُوَ أقْوَى الأسْلِحَة، وبالتَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ نَجِدُ غَيْرهَا الكَثِير مِنَ السُّبُلِ الَّتِي تُمَكِّنُنَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَمَّا بدَاخِلِنَا ومُحَاوَلَةِ رَدّ الحُقُوق، وأيْضًا لَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا القَذْف والشَّتْم.

    ولا يُفْهَم مِنَ الكَلاَم أنَّ المَطْلُوبَ هُوَ الصَّمْتُ والسَّلْبِيَّة، ولَكِنَّ المَطْلُوب الرَّدّ وِفْقَ الضَّوَابِط، ولَيْسَ كُلّ مَنْ يُرِيد أنْ يَفْعَل شَيْئًا دُونَ أنْ يَنْضَبِطَ بضَوَابِطِ الإسْلاَم يَضَع المَسْألَة في قَالَبِ (إمَّا أنْ يَفْعَلَ مَا يُرِيد أو يَتَّهِمَ مَنْ يَنْتَقِدهُ)، كَمَنْ يَتَفَلَّت ويَتَّهِم المُلْتَزِمِينَ بالتَّشَدُّدِ، فَنَحْنُ أصْحَابُ دِينٍ يَضَعُ الفَرْدَ بَيْنَ الإفْرَاطِ والتَّفْرِيطِ، فَلاَ نَصْمُتُ ونُضَيِّعُ الحُقُوقَ فَنَقَعُ في التَّفْرِيطِ، ولا نَتَكَلَّمُ ونُطْلِقُ اللِّسَانَ لنَقُول مَا نُرِيدُ بدُونِ ضَوَابِط فَنَقَعُ في الإفْرَاطِ، ونَحْنُ أشْبَهُ فِعْلاً بفَتْرَةِ الإسْلاَم في مَكَّة، الفَتْرَة الَّتِي لَمْ يَكُنِ الإسْلاَم فِيهَا هُوَ السَّائِد، الفَتْرَة الَّتِي كَانَ الإسْلاَمُ فِيهَا في الصُّدُورِ فَقَط وقَلِيلٌ مِنْهُ مَا يَظْهَر، الفَتْرَةُ الَّتِي كَانَت للإعْدَادِ والتَّمْكِينِ، لا أقُولُ أنْ نَصْمِتَ مُبَرِّرِينَ ذَلِكَ بالصَّبْرِ، فَفَتْرَة مَكَّة لَمْ تَكُنْ فَتْرَة صَمْت، بَلْ نَعْمَل كَمَا عَمِلُوا، ولْيَسَعَنَا مَا وَسِعَهُم، والسُّؤَالُ: هَلْ كَانَ العَمَلُ في فَتْرَةِ مَكَّة أو مَا بَعْدَهَا في أيِّ وَقْتٍ يَتَّسِم بالسِّبَابِ واللِّعَانِ وفُحْشِ القَوْل؟ هَلْ كَانَت هذه وَسَائِلهُم؟! لم إِذَا نُفَسِّرُ الأُمُور بهَوَانَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتهَا والمُرَاد مِنْهَا؟! هَلْ نَحْنُ أكْثَر مِنْهُم غَيْرَة وأحْرَص مِنْهُم عَلَى رَدِّ المَظَالِم وإقَامَة الدِّين أمْ أتَيْنَا بِمَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ الأوَائِل؟!

    هذا؛ ومِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَإنَّ الخَطَأ الأوَّل (الأخْذُ في التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ والشَّتَائِم؛ والإكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ) الَّذِي بَدَأ يَنْتَشِر ويَزْدَاد في المُنْتَدَى قَدْ وَضَحَ بُطْلاَنُهُ، وأُقِيمَت عَلَيْهِ وعَلَى فَاعِلِهِ الحُجَّة، ووَجَبَ السَّعْي في تَغْيِيرِهِ وإنْكَارِهِ، مِنَ الإدَارَةِ بدَرَجَاتِهَا، ومِنَ الأعْضَاءِ في أنْفُسِهِم ومَعَ غَيْرِهِم، وكَفَانَا مَا يُحَاكُ ضِدَّ الإسْلاَمِ مِنْ مُؤَامَرَاتٍ وشُبُهَاتٍ وافْتِرَاءَاتٍ، فَلاَ يَنْقُصنَا أنْ يُؤْتَى الإسْلاَم مِنْ قِبَلِنَا وبأيْدِينَا، جَعَلَنَا اللهُ وإيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَدَبَّرُونَهُ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه.

    تعليق


    • #3
      رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شعرية لنوازل عصرية

      العُنْصُرُ الرَّابِعُ: الخَطَأُ الثَّانِي: الأخْذُ في نَقْلِ الأخْبَار (الصَّحِيحَة والكَاذِبَة) دُونَ تَحَرٍّ وقِيَاسٍ للمَصَالِح والمَفَاسِد:
      ولاَبُدَّ أنْ نَنْتَبِهَ فِيهِ لأُمُورٍ:
      1) أنَّنَا نَنْقِل دُونَ تَثَبُّتٍ، بدَلِيلِ أخْبَارٍ كَثِيرَةٍ نُقِلَت وتَمَّ تَكْذِيبهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وتَكْذِيبُهَا هذا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَحَرِّي صِحَّتهَا عِنْدَ نَقْلِهَا، وهذا مَا لا يَجِب أنْ يَكُونَ، فَلَيْسَ المَطْلُوب أنْ نَنْقِل الكَذِب ثُمَّ نَعْتَذِر عَنْهُ ونُبَيِّن أنَّهُ كَذِب، لا، المَطْلُوب ألاَّ نَنْقِل غَيْرَ الصِّدْقِ، فَالفَتْرَة بَيْنَ نَقْلِ الكَذِب وبَيْنَ تَكْذِيبه قَدْ يَحْدُث فِيهَا الكَثِير وإنْ قَلَّت، فَمَنِ المَسْئُول عَنْ هذا الَّذِي يَحْدُث؟ مَنْ يُسْأل عَمَّنْ قَرَأ خَبَرًا غَيْر صَحِيحٍ فَأخَذَتْهُ الغَيْرَة والحَمَاس فَانْطَلَقَ في اتِّجَاهٍ أصَابَهُ بضَرَرٍ بَدَنِيٍّ وأذًى؟ مَنْ يُسْأل عَمَّنْ قَرَأ خَبَرًا حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحًا ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحِيحِ عَرْضه بهذا الشَّكْل أو في هذا التَّوْقِيت فَنَقَلَهُ بدَوْرِهِ وحُشِدَتِ الحُشُود الَّتِي تَأذَّت في نَفْسِهَا وآذَت غَيْرهَا وفي النِّهَايَةِ لَمْ يَتَغَيَّر شَيْء؟ مَنْ يُسْأل عَمَّنْ قَرَأ خَبَرًا فَانْفَعَلَ وأخَذَ يُكَيِّل السِّبَاب والشَّتَائِم، ويَقَع في أعْرَاضِ النَّاس ورُبَّمَا مِنْ بَيْنِهِم الدُّعَاة والعُلَمَاء؟ مَنْ يَسْأل عَمَّن يَأخُذ مِنْ هذه الأخْبَار غَيْر الصَّحِيحَة ذَرِيعَة ليُفْتِي برَأيِهِ ويُخَالِف العُلَمَاء ويَشُقّ الصَّفّ ويُوَجِّه النَّاس تَوْجِيهَات غَيْر سَلِيمَة وخَاصَّةً إنْ كَانَت لَهُ كَلِمَةٌ مَسْمُوعَةٌ عِنْدَهُمْ؟ وفي أقَلِّ الأحْوَالِ سُوءًا مَنْ يُسْأل عَنْ كُلِّ مَنْ قَرَأ خَبَرًا غَيْر صَحِيحٍ وارْتَفَعَ ضَغْطهُ وتَأثَّرَ نَفْسِيًّا؟ هَلِ المُهِمّ أنْ نَعْمَل فَقَط، أمِ المُهِمّ أنْ نَعْمَلَ العَمَل الصَّحِيح في الوَقْتِ الصَّحِيح بالشَّكْلِ الصَّحِيح ليُؤْتِي ثِمَارَه؟ مَا مِنْ أحَدٍ إلاَّ ويَبْذُل جُهْدًا، ولَكِنْ مَادَامَ لَمْ يُحَقِّق مَا يُرِيد فهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الجُهْدَ المَبْذُول (وإنْ كَانَ صَحِيحًا) فَلَيْسَ هُوَ المَطْلُوب لتَحْقِيق المُرَاد، وأنَّ لَدَيْهِ نِقَاط قُصُور عَلَيْهِ عِلاَجهَا دُونَ عِنَادٍ وكِبْرٍ أو تَعَصُّبٍ وإصْرَارٍ عَلَى الرَّأي.

      2) أنَّنَا وَقَعْنَا في نَفْسِ خَطَأ الإعْلاَم الَّذِي نَصِفُهُ بالفَسَادِ، فَاهْتَمَمْنَا بالسَّبْقِ عَلَى حِسَابِ الدِّقَّة، فَصِرْنَا نَنْقِل مِنْ أيِّ وكُلِّ مَكَانٍ، حَتَّى أنَّ بَعْضَ الأخْبَار كَانَت تُنْقَل بفَارِق دَقَائِق مَعْدُودَاتٍ عَنْ زَمَنِ حُدُوثهَا، فَمَتَى تَمَّ التَّثَبُّت مِنْهَا؟

      3) أيْضًا وَقَعْنَا في نَفْسِ خَطَأ الإعْلاَم وبنَفْسِ حُجَّتِهِ (عَرْض الحَقَائِق)، ولَمْ نَعْقِل أبَدًا فِيمَا نَنْقِل المَفَاسِد والمَصَالِح مِنْ وَرَائِهِ، فَالحَقِيقَة وإنْ كَانَت مَطْلُوبَة، فَهِيَ أيْضًا مَطْلُوبَة بشَكْلٍ لا يَجُرُّ مِنْ وَرَائِهَا ضَرَر ومَفْسَدَة أكْبَر مِنْ ضَرَرِ ومَفْسَدَةِ إخْفَائِهَا، وإنِّي أتَعَجَّبُ مِنَ الرَّغْبَةِ المُفَاجِئَةِ الَّتِي أصَابَت البَعْض لمَعْرِفَةِ كُلّ شَيْءٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ أحَدٍ، وكَأنَّنَا خُلِقْنَا اليَوْم فَقَط ومَا عِشْنَا مِنْ قَبْل سَنَوَات وسَنَوَات عَلَى أنَّ هُنَاكَ مَا يُسَمَّى بأسْرَارِ العَمَل حَتَّى في أحْقَرِ الأعْمَال، أو كَأنَّنَا مَا سَمِعْنَا مِنْ قَبْل بقَاعِدَةِ (لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَال، ولَيْسَ كُلَّ مَا يُعْلَم يُقَال، ولَيْسَ كُلَّ مَا يُقَال صَحِيح، ولَيْسَ كُلَّ صَحِيحٍ مُنَاسِب للمَسْألَةِ)، وأنَا أسْأل كُلّ مَنْ نَقَلَ خَبَرًا (بمُخْتَلَفِ أشْكَالِهِ المَقْرُوءَة والمَرْئِيَّة) مُنْذُ أنْ قَامَت الثَّوْرَة إِلَى الآن: مُنْذُ أنْ رَأيْتَ الخَبَر إِلَى أنْ نَقَلْتَهُ، كَم مِّنَ الوَقْتِ أخَذْتَ؟ وهَلْ فَكَّرْتَ في هذا الوَقْت في المَصَالِح والمَفَاسِد في مُخْتَلَفِ النَّوَاحِي الَّتِي قَدْ تَتَرَتَّب عَلَى نَقْلِكَ هذا الخَبَر؟ ومَا المَنْهَج الَّذِي اتَّبَعْتَهُ في القِيَاسِ والتَّرْجِيحِ إنْ كُنْتَ قَدْ فَعَلْتَ؟ أعْتَقِدُ أنَّ إجَابَات هذه الأسْئِلَة تَشْرَحُ بوُضُوحٍ خَطَأ النَّقْل الَّذِي يَتِمّ ومُخَالَفَته للأصْلِ الَّذِي يَجِب أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ.

      إنَّ هذا الَّذِي يَحْدُث لَيْسَ بإعْلاَمٍ، ويُخَالِف قَوَاعِد الشَّرْع في نَقْلِ الأخْبَار، ولَعَلَّنَا سَمِعْنَا مُدَاخَلَة الشَّيْخ مُحَمَّد حُسَيْن يَعْقُوب يَوْمًا وهُوَ يَرُدُّ عَلَى الأُسْتَاذ مُلْهَم العِيسَوِي لَمَّا نَقَلَ عَنْ فَضِيلَتِهِ خَبَرًا مَكْذُوبًا قَبْلَ أنْ يَتَحَرَّى صِحَّته ثُمَّ اتَّصَلَ بِهِ ليَتَأَكَّدَ مِنْهُ، فَمَا أشْبَه مَوْقِفنَا بمَوْقِفِ الأُسْتَاذ مُلْهَم في نَقْلِهِ للخَبَرِ، ومَا أحْوَجنَا للأصْلِ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْهُ الشَّيْخ، أصْلُ التَّثَبُّتِ قَبْلَ النَّقْل ولَيْسَ بَعْدَهُ.

      وفِيمَا يَلِي الأدِلَّة الشَّرْعِيَّة الخَاصَّة بنَقْلِ الأخْبَار والتَّثَبُّت مِنْهَا وخَاصَّةً أيَّام الفِتَن والنَّوَازِل:
      1) عَنْ أبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم [ كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، والمَعْنَى أنْ يُسَارِعَ ويُحَدِّثَ بكُلِّ مَا يَسْمَع بمُجَرَّدِ أنْ يَسْمَعَهُ دُونَ أنْ يَتَحَرَّى صِحَّته ومُوَافَقَته للشَّرْعِ، لأنَّ مَا نَسْمَعُهُ فِيهِ الصِّدْقُ وفِيهِ الكَذِبُ، فَإنْ لَمْ نَتَحَرَّ الصِّحَّة ونَتَثَبَّتْ ونَتَبَيَّنْ وَقَعْنَا في الكَذَبِ بنَقْلِهِ، ومَعْنَى التَّثَبُّت (تَفْرِيغُ الوُسْعِ والجُهْدِ لمَعْرِفَةِ حَقِيقَة الحَالِ ليُعْرَف أيَثْبُت هذا الأمْر أمْ لاَ)، والتَّبَيُّن (التَّأكُّدُ مِنْ حَقِيقَةِ الخَبَر وظُرُوفِهِ ومُلاَبَسَاتِهِ)، وفي ذَلِكَ يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ [ المُؤْمِنُ وَقَّافٌ حَتَّى يَتَبَيَّن ]، قَالَ النَّوَوِيُّ [ فَإِنَّهُ يَسْمَع في الْعَادَةِ الصِّدْق والكَذِب؛ ف إِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ؛ لإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ, والكَذِبُ الإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلاَفِ مَا هُوَ، وَلا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّد ]، بَلْ ولاَبُدَّ مِنْ تَحَرِّي صِحَّة القَوْل في مَقَامِهِ ومَوْضِعِهِ حَتَّى وإنْ كَانَ صَحِيحًا في الأصْلِ، ومَعْرِفَةِ مَا قَدْ يَتَرَتَّب عَلَى نَقْلِهِ مِنْ مَصَالِح ومَفَاسِد، كَحَالِ الكَلاَم أيَّام الفِتَن تَبَعًا لقَاعِدَةِ (لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَال، ولَيْسَ كُلّ مَا يُعْلَم يُقَال، ولَيْسَ كُلَّ مَا يُقَال صَحِيح، ولَيْسَ كُلَّ صَحِيحٍ مُنَاسِب للمَسْألَةِ)، ولَيْسَ هذا مِنْ كِتْمَانِ العِلْم، بَلْ هُوَ مِنْ فِقْهِ العِلْم والأُمُور، أنْ تَضَعَ الكَلِمَة في مَوْضِعِهَا، وإلاَّ كُنْتَ كَمَنْ يَمْلأ حِذَائه ذَهَبًا، فَلاَ الذَّهَب قَدْ مَشَى؛ ولا الحِذَاء تَبَدَّلَ عَنْ كَوْنِهِ حِذَاء وانْتَفَعَ بالذَّهَبِ؛ ولا اسْتَفَادَ الفَاعِلُ مِنْ هذا الفِعْلِ شَيْئًا، ولهذا كَتَمَ الصَّحَابِيّ أبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِلْمًا كَانَ لَدَيْهِ عَنْ بَعْضِ الفِتَن، وكَانَ يُلَمِّحُ عَنْ بَعْضِهَا دُونَ أنْ يُصَرِّحَ، وكِتْمَانُهُ هذا النَّوْع مِنَ العِلْمِ مِنْ حِكْمَتِهِ وتَمَامِ فِقْهِهِ، قَالَ ابْنُ الجَوْزِيّ رَحِمَهُ اللهُ [ ولِقَائِلٍ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ اسْتَجَازَ كَتْم الحَدِيث عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقَدْ قَالَ (بَلِّغُوا عَنِّي)؟ وكَيْفَ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَا إِذَا ذُكِرَ قُتِلَ رَاوِيه؟ وكَيْفَ يَسْتَجِيزُ المُسْلِمُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ الأخْيَار والتَّابِعِينَ قَتْل مَنْ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟ فَالجَوَابُ: أنَّ هذا الَّذِي كَتَمَهُ لَيْسَ مِنْ أمْرِ الشَّرِيعَة؛ فَإنَّهُ لا يَجُوزُ كِتْمَانهَا، وقَدْ كَانَ أبُو هُرَيْرَة يَقُولُ (لَوْلاَ آيَة في كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُم) وهي قَوْلُهُ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أنْ يَكْتُمَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ هذه الآيَة وبَعْدَ أمْرِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ؟ وقَدْ كَانَ يَقُولُ لَهُم (لِيُبَلِّغ الشَّاهِد مِنْكُم الغَائِب)؟ وإنَّمَا هذا المَكْتُومُ مِثْل أنْ يَقُولَ: فُلاَنٌ مُنَافِقٌ، وسَتَقْتُلُونَ عُثْمَانَ، و(هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيّ أُغَيْلِمَة مِنْ قُرَيْش) بَنُو فُلاَنٍ، فَلْو صَرَّحَ بأسْمَائِهِم لكَذَّبُوهُ وقَتَلُوهُ ] كَشْفُ المُشْكِل مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ (ص/1014)، وفي السُّؤَالِ رَقْم (139569) بمَوْقِعِ الإسْلاَم سُؤَال وجَوَاب جَاءَ التَّعْلِيق عَلَى هذه النُّقْطَة [ وإنَّمَا كَتَمَهُ أبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ولَمْ يَنْشُرْهُ للمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ؛ فَإنَّهُ لَوْ ذَكَرَ أُمَرَاء السُّوء، أو عَيَّنَ أحَدًا مِنْهُم، أو كَنَّى عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَوَقَعَ النَّاسُ في الفِتَنِ، ولَكَثرَ القِيل والقَال، ولَتَعَرَّضَ أبُو هُرَيْرَة للأذَى، ولَتَحَمَّسَ بَعْضُ هَؤُلاَءِ الأحْدَاث مِمَّنْ لا عِلْمَ لَهُم ولا رَوِيَّةَ عِنْدَهُم وأثَارَ القَلاَقِل وأحْدَثَ الفِتَن، بدَعْوَى أنَّ هَؤُلاَءِ أُمَرَاء السُّوء الَّذِينَ أخْبَرَ عَنْهُم النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولاَبُدَّ مِنْ تَطْهِيرِ الأرْض مِنْهُم وإرَاحَةِ النَّاس مِنْ شَرِّهِم وأذَاهم، فَيَخْرُجُونَ عَلَى الخُلَفَاءِ والأُمَرَاءِ، ويُحْدِثُونَ الفِتَن. وكَذَا لَوْ أخْبَرَ أبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَا يَحْصُل مِنَ المَلاَحِم والفِتَن آخِر الزَّمَان لَسَارَعَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لا عِلْمَ لَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ والدَّهْمَاءِ إِلَى تَكْذِيبِهِ، ولَكَثرَ الجَدَل ولاحْتَدَّ النِّقَاش فِيمَا يَرْوِيهِ ويَقُوله، فَيَنْصَرِف النَّاس –كَمَا هي عَادَتهم في مِثْلِ ذَلِكَ– عَنِ الانْشِغَالِ بِمَا يَهُمّهُم مِنْ أمْرِ دِينِهِم ودُنْيَاهم إِلَى أنْدِيَةِ الجَدَل ومَحَاطِّ الخِصَام ]، وهذا الوَصْفُ هُوَ نَفْس حَالنَا اليَوْم مُنْذُ أنْ بَدَأتِ الثَّوْرَة إِلَى اليَوْم، ولَعَلِّي هُنَا أتَذَكَّرُ وأُذَكِّرُ بِمَا كَانَ يَقُولُهُ عُلَمَاؤُنَا الأجِلاَّء عِنْدَمَا كَانَ يُدْعَى النَّاس للخُرُوجِ بحُجَّةِ إنْقَاذ المُعْتَصِمِينَ، وكَانَ العُلَمَاءُ يَقُولُونَ (إنْقَاذُهُم هُوَ عَدَمُ النُّزُولِ إلَيْهِم وأمْرُهُم بأنْ يَعُودُوا)، فَكَانَ العُلَمَاءُ يُهَاجَمُونَ مِمَّنْ هُمْ أقَلّ مِنْ طَلَبَةِ العِلْم ولا يَد لَهُم فِيهِ ولا ذِرَاع، وكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى رَأيِهِم ويَنْزِلُونَ، فَيَزْدَاد عَدَد القَتْلَى والجَرْحَى بَدَلاً مِنْ إنْقَاذِهِم كَمَا زَعَمُوا، ويَعُودُ الجَمِيعُ بخُفَّيِّ حُنَيْنِ دُونَ أيِّ إنْجَازٍ أنْجَزُوهُ أو فَوْزٍ حَقَّقُوهٌ، فَقَط مُمَنِّيِينَ أنْفُسهم بعِبَارَاتٍ (وسِبَابٍ) لا تُثْمِنُ ولا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، ثُمَّ يَتَكَرَّر المَوْقِف مِنْ جَدِيدٍ ويُكَرِّرُ العُلَمَاءُ كَلاَمهم، ويُكَرِّرُ هَؤُلاَء عِنَادهم وإصْرَارهم عَلَى رَأيِهِم، فَتَتَكَرَّر النَّتَائِج، مَرَّة ومَرَّتَان وثَلاَث وهَلُمَّ جَرَّا، فَهَلِ العُلَمَاء الَّذِينَ يُثْبِتُ لَنَا تَارِيخُهُم المَاضِي والمُعَاصِر أنَّهُم كَانُوا الأصْوَب في رَأيِهِم ونَظْرَتِهِم للأُمُورِ هُم المُخْطِئُونَ أمْ مَنِ ادَّعُوا العِلْمَ وانْتَسَبُوا إلَيْهِ؛ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بشَيْءٍ مِنْهُ ولا بِمَا يَقُولهُ لَهُم عُلَمَاؤُهُم؛ واجْتَهَدُوا وهُمْ لَيْسُوا أهْلاَ للاجْتِهَادِ؛ بَلْ وقَالُوا بالهَوَى والرَّأيِّ المُجَرَّدِ عَنْ كُلِّ عِلْمٍ وفِقْهٍ بالدِّينِ والوَاقِعِ، فَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ مَا نَتَجَ؟ والَّذِي مِنْ أظْهَرِهِ دُونَ مُبَالَغَةٍ أنَّهُم كَانُوا أحَد أسْبَاب الفُرْقَة والشِّقَاق الحَاصِل الآن بَيْنَ طَلَبَةِ العِلْمِالَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْل عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَ لعُلَمَائِهِم، ولَمَّا صَارَ هذا هُوَ حَالهم، طُبِّقَ المَثَل القَائِل ( إِذَا كَانَ رَبُّ البَيْتِ بالدُّفِّ ضَارِبًا، فَشِيمَةُ أهْلِ البَيْتِ كُلّهُم الرَّقْصُفَتَطَاوُل العَامَّةُ عَلَى العُلَمَاءِ لَمَّا رَأوُا تَطَاوُل طَلَبَةِ العِلْم الَّذِينَ كَانُوا هُمْ مَنْ يَذُبُّونَ ويَصُدُّونَ ويُدَافِعُونَ عَنْ عُلَمَائِهِم، فَسَاعَدَ هذا في مَزِيدٍ مِنْ شَقِّ الصَّفِّ والفُرْقَةِ الحَادِثَةِ.

      2) وكَذَلِكَ كَتَمَ حُذَيْفَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أسْمَاءَ المُنَافِقِينَ، فَعَنِ المُغِيرَة بْن شُعْبَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُم عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، ووَأدَ البَنَاتِ، ومَنْعَ وهَاتِ، وكَرِهَ لَكُم قِيلَ وقَالَ، وكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإضَاعَةَ المَالِ ]، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَر [ قَوْله (وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ): قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وفي مَعْنَى الحَدِيثِ ثَلاَثَة أوْجُه: أوَّلُهَا: الإشَارَة إِلَى كَرَاهَةِ كَثْرَة الكَلاَم لأنَّهَا تُؤَوِّل إِلَى الخَطَأ، ثَانِيهَا: إرَادَة حِكَايَة أقَاوِيل النَّاس وَالْبَحْث عَنْهَا لِيُخْبِر عَنْهَا فَيَقُول: قَالَ فُلاَن كَذَا وَقِيلَ كَذَا, والنَّهْي عَنْهُ إمَّا للزَّجْرِ عَنِ الاسْتِكْثَارِ مِنْهُ, وإمَّا لِشَيْءٍ مَخْصُوص مِنْهُ وَهُوَ مَا يَكْرَههُ المَحْكِيّ عَنْهُ، ثَالِثُهَا: أنَّ ذَلِكَ في حِكَايَةِ الاخْتِلاَف في أُمُورِ الدِّين، كَقَوْلِهِ: قَالَ فُلاَنٌ كَذَا وَقَالَ فُلاَنٌ كَذَا, وَمَحَلّ كَرَاهَة ذَلِكَ أنْ يُكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يُؤْمَن مَعَ الإكْثَارِ مِنَ الزَّلَلِ, وهُوَ مَخْصُوص بِمَنْ يَنْقُل ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ ولَكِنْ يُقَلِّد مَنْ سَمِعَهُ وَلا يَحْتَاط لَهُ، قُلْت –أي ابْن حَجَر-: وَيُؤَيِّد ذَلِكَ الحَدِيث الصَّحِيح (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ) ].

      3) وعَنْ أبِي قَلاَبَة قَالَ [ قَالَ أبُو مَسْعُود لأبِي عَبْد الله أو قَالَ أبُو عَبْد الله لأبِي مَسْعُود: مَا سَمِعْتَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُول في زَعَمُوا؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُول (بِئْسَ مَطِيَّة الرَّجُل: زَعَمُوا) ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ أبِي دَاوُد، قَالَ العَظِيمُ آبَادِي [ (بِئْسَ مَطِيَّة الرَّجُل): المَطِيَّة بِمَعْنَى المَرْكُوب، (زَعَمُوا): الزَّعْمُ قَرِيبٌ مِنَ الظَّنِّ، أيْ أسْوَأ عَادَة للرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذَ لَفْظ زَعَمُوا مَرْكَبًا إِلَى مَقَاصِدِهِ؛ فَيُخْبِر عَنْ أمْرٍ تَقْلِيدًا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ فَيُخْطِئ ويُجَرَّب عَلَيْهِ الكَذِب، قَالَهُ المَنَاوِيُّ ]، وهُوَ نَفْسُ مَا يُقَالُ اليَوْم بلَفْظَةِ (يَقُولُونَ كَذَا)، ولا تَعْرِف مَنْ هُمْ هَؤُلاَء الَّذِينَ يَقُولُونَ وإنْ بَحَثْتَ عَنْهُم.

      4) وأنْكَرَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى أنَس بْنِ مَالِك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ حَدَّثَ الحَجَّاج بْن يُوسُف بحَدِيثِ قَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للعُرَنِيِّينَ، فَقَالَ لأنَس مُنْكِرًا عَلَيْهِ [ لِمَ تُحَدِّث الحَجَّاج بهذا الحَدِيث؟ ]، أنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لأنَّ الحَجَّاجَ عَاثَ في الدِّمَاءِ، وسَيَأخُذ هذا الحَدِيث يَتَأوَّلُ بِهِ صَنِيعَهُ، فَكَانَ وَاجِبًا أنْ يُكْتَمَ هذا الحَدِيث وهذا العِلْم عَنِ الحَجَّاج، لِكَيّ لا يَكُون في فَهْمِهِ وعَقْلِهِ -الَّذِي لَيْسَ عَلَى السَّوَاءِ ولَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ- أنَّ هذا الحَدِيثَ يُؤَيِّدُهُ، أو أنَّ هذا الحَدِيثَ دَلِيلٌ مَعَهُ، فَيَفْهَمُهُ عَلَى غَيْرِ فَهْمِهِ الصَّحِيح. فَالحَسَن رَحِمَهُ اللهُ –وهو التَّابِعِيُّ- أنْكَرَ عَلَى أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -وهُوَ الصَّحَابِيُّ-، ونَدِمَ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَحْدِيثِهِ الحَجَّاج بحَدِيثِ العُرَنِيِّينَ.

      5) نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ نَقْلِ الأخْبَار دُون تَثَبُّتٍ لئلا يَقَع النَّاقِل في الكَذِبِ، فَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّم [ مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِيْنَ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ في مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ، وتَبَعًا لقَاعِدَةِ (التَّنْبِيهُ بالأعْلَى عَلَى الأدْنَى) يَنْسَحِبُ الحُكْم عَلَى مَا هُوَ دُون أحَادِيثِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الأخْبَارِ والمَقَالاَتِ، ولِذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في شَرْحِ هذا الحَدِيثِ [ فِيهِ تَغْلِيظُ الكَذِبِ والتَّعَرُّضِ لَهُ، وأنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَذِب مَا يَرْوِيهِ فَرَوَاهُ كَانَ كَاذِبًا، وكَيْفَ لا يَكُون كَاذِبًا وهُوَ مُخْبِرٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ ] شَرْحُ مُسْلِم (1/65)، وهذا الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ لا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ أحَدُ رَجُلَيْنِ:
      θ قَاصِدٌ مُتَعَمِّدٌ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُ: فَهُوَ كَاذِبٌ لتَوَفُّرِ نِيَّة الكَذِب وإثْبَاتِهَا بالعَمَلِ، وهُوَ غَاشٌّ للمُسْلِمِينَ مُدَلِّسٌ عَلَيْهم، ودَاخِلٌ حَتْمًا في الوَعِيدِ المَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ حِبَّان في كِتَابِهِ الضُّعَفَاء (1/7-8) [ عَلَى أنَّ ظَاهِرَ الخَبَر مَا هُوَ أشَدّ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وهُوَ يُرَى أنَّهُ كَذِب) ولَمْ يَقُل (إنَّهُ تَيَقَّنَ أنَّهُ كَذِب)، فَكُلُّ شَاكٍّ فِيمَا يَرْوِي أنَّهُ صَحِيح أو غَيْر صَحِيح دَاخِل في ظَاهِرِ خِطَاب هذا الخَبَروقَدْ يُبَرِّرُ البَعْضُ مَوْقِفَهُم بأنَّ الكَذِبَ مُبَاحٌ في الحَرْبِ، وهذا تَأوُّلٌ فَاسِدٌ، لأنَّهُم يَتَجَاهَلُونَ ولا يَجْهَلُونَ أنَّ القَدْرَ المُبَاحَ مِنَ الكَذِبِ في الحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُضَلِّلُ الأعْدَاءَ ولَيْسَ الَّذِي يُسَوِّق الوَهْم ويُغَرِّر بالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذَا اعْتَبَرَ المُسْلِمُونَ بَعْضَهُم أعْدَاء بَعْضٍ.
      θ وإمَّا أنْ لا يَعْرِف حَقِيقَة الخَبَر ومَدَى مِصْدَاقِيَّته: فَهُوَ آثِمٌ أيْضًا لإقْدَامِهِ عَلَى النَّقْل دُونَ عِلْمٍ وتَحَرٍّ، وقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ في مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ، فَلَهُ حَظٌّ مِنْ إثْمِ الكَاذِب، لأنَّهُ قَدْ أشَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّ مَنْ حَدَّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَهُ -ومِثْلُهُ مَنْ كَتَبَهُ- أنَّهُ وَاقِعٌ في الكَذِبِ لا مَحَالَة، فَكَانَ بسَبَبِ ذَلِكَ أحَد الكَاذِبِيْنَ: الأوَّلُ: الَّذِي افْتَرَاهُ، والآخَر: الَّذِي نَشَرَهُ، قَالَ ابْنُ حِبَّان أيْضًا في الضُّعَفَاءِ (1/9) [ في هذا الخَبَر زَجْرٌ للمَرْءِ أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ صِحَّته ].
      وسَوَاء كَانَ الفَاعِلُ مِنَ النَّوْعِ الأوَّلِ أو الثَّانِي، فَكِلاَهُمَا آثِمٌ للنُّصُوصِ سَالِفَة الذِّكْر، بَلْ هُنَاكَ مَا هُوَ أكْثَر مِنْ ذَلِكَ، فهذا الكَاذِب -بنَوْعَيْهِ- لا يَتَحَمَّل فَقَط وِزْر الكَذِبَة مَرَّة وَاحِدَة، وإنَّمَا يَتَحَمَّل أوْزَار مَنْ يَتَنَاقَلُونَهَا مِنْ بَعْدِهِ ويَنْشُرُونَهَا في الآفَاقِ، فَيَقْرَؤُهَا مَلاَيِين البَشَر، وتَتَنَاقَلهَا الأجْيَال أزْمِنَة طَوِيلَة، فَيَتَحَمَّل هُوَ ومَنْ سَاعَدَهُ في نَشْرِهَا الإثْم إِلَى يَوْمِ القِيَامَة تَبَعًا لقَاعِدَةِ وحَدِيثِ (ومَنْ سَنَّ في الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر مَنْ عَمِلَ بِهَا، ولا يَنْقُص مِنْ أوْزَارِهِم شَيْء)، ولَكِنْ هَهُنَا لَهُ حَدِيثٌ خَاصٌّ وعِقَابٌ خَاصٌّ، رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ [ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ, فَقَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ قُلْنَا: لا، قَالَ: لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَ إِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَ إِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ, فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ, وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَ إِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَ إِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي في النَّهَرِ فَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ في فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى في فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وفي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَ إِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بي في الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلاَنِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ, وَشَبَابٌ, وَنِسَاءٌ, وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالاَ: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ في الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ في النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ في أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلاَدُ النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَ إِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ، قَالاَ: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالاَ: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ ].

      6) حَذَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ سِحْرِ العُقُول بأُسْلُوبِ البَيَان الَّذِي يُظْهِرُ الأُمُورَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا، وهذا الأُسْلُوبُ تَسْتَعْمِلُهُ المَوَاقِعُ الإخْبَارِيَّةُ الَّتِي يُنْقَلُ مِنْهَا، ويَسْتَعْمِلُهُ أيْضًا بَعْضُ الأعْضَاءِ في كِتَابَاتِهِم وتَعْلِيقَاتِهِم، وقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الله بْن عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا [ أنَّهُ قَدِمَ رَجُلاَنِ مِنَ المَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إنَّ مِنَ البَيَانِ لسِحْرًا، أو: إنَّ بَعْضَ البَيَانِ لسِحْرٍ ]، ويُفْهَم مِنَ الحَدِيثِ أنَّ النَّاسَ أُخِذُوا بالدَّهْشَةِ مِنْ بَيَانِ الرَّجُلَيْنِ، فَأخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُعَلِّمًا النَّاس: أنَّ مِنَ البَيَانِ مَا هُوَ كَالسِّحْرِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى المَرْءِ أنْ يَجْعَلَ عَقْلَهُ في أُذُنَيْهِ فَقَط، لأنَّ هُنَاكَ مَنْ تَخَصَّصُوا وبَرَعُوا في عُلُومِ الكَلاَم، فَإنْ أنْتَ أعْطَيْتَ لَهُم أُذُنَيْكَ سَحَرُوكَ بكَلاَمِهِم، فَلاَ تَسْتَطِيعَ إلاَّ الإعْجَاب بِهِ ولَوْ كَانَ أبْطَلُ البَاطِل. قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَر في فَتْحِ البَارِي [ قَوْلُهُ (فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا)، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَيَانُ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَعُ بِهِ الإِبَانَةُ عَنِ الْمُرَادِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَالآخَرُ: مَا دَخَلَتْهُ الصَّنْعَةُ بِحَيْثُ يَرُوقُ لِلسَّامِعِينَ وَيَسْتَمِيلُ قُلُوبَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يُشَبَّهُ بِالسِّحْرِ إِذَا خَلَبَ الْقَلْبَ وَغَلَبَ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى يُحَوِّلَ الشَّيْءَ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَيَصْرِفَهُ عَنْ جِهَتِهِ، فَيَلُوحُ لِلنَّاظِرِ في مَعْرِضِ غَيْرِهِ. وَهَذَا إِذَا صُرِفَ إِلَى الْحَقِّ يُمْدَحُ، وَ إِذَا صُرِفَ إِلَى الْبَاطِلِ يُذَمُّ. قَالَ: فَعَلَى هَذَا فَالَّذِي يُشَبَّهُ بِالسِّحْرِ مِنْهُ هُوَ الْمَذْمُومُ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لاَ مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ الآخَرِ سِحْرًا، لأَنَّ السِّحْرَ يُطْلَقُ عَلَى الاسْتِمَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ في أَوَّلِ بَابِ السِّحْرِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْسِينِ الْكَلاَمِ وَتَحْبِيرِ الأَلْفَاظِ، وَهَذَا وَاضِحٌ إِنْ صَحَّ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ في قِصَّةِ عَمْرِو بْنِ الأَهْتَمِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الذَّمِّ لِمَنْ تَصَنَّعَ في الْكَلاَمِ وَتَكَلَّفَ لِتَحْسِينِهِ وَصَرَفَ الشَّيْءَ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَشُبِّهَ بِالسِّحْرِ الَّذِي هُوَ تَخْيِيلٌ لِغَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مَالِكٌ حَيْثُ أَدْخَلَ الْحَدِيثَ في الْمُوَطَّأِ في (بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ) وَتَقَدَّمَ في (بَابِ الْخِطْبَةِ) مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ في الْكَلاَمِ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ في تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ،وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَّةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ؛ فَيَسْحَرُ النَّاسَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ، لَكِنْ لاَ يَمْنَعُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الآخَرِ إِذَا كَانَ في تَزْيِينِ الْحَقِّ، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ فُضَلاَءِ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَحْسَنُ مَا يُقَالُ في هَذَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ ذَمًّا لِلْبَيَانِ كُلِّهِ وَلاَ مَدْحًا، لِقَوْلِهِ (مِنَ الْبَيَانِ)، فَأَتَى بِلَفْظَةٍ (مِنَ) الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، قَالَ: وَكَيْفَ يُذَمُّ الْبَيَانُ وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ قَالَ (خَلَقَ الإِنْسَانَ 3 عَلَّمَهُ الْبَيَانَ 4). وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ فِي الآيَةِ الْمَعْنَى الأَوَّلُ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ، لاَ خُصُوصَ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَدْحِ الإِيجَازِ، وَالإِتْيَانِ بِالْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ، وَعَلَى مَدْحِ الإِطْنَابِ فِي مَقَامِ الْخَطَابَةِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْبَيَانِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي. نَعَمِ الإِفْرَاطُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَذْمُومٌ، وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ]. وسُئِلَ الشَّيْخ صَالِح الفَوْزَان -نَقْلاً عَنْ مَوْقِعِهِ- (هَلْ يُفْهَم مِنْ قَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ «إنَّ مِنَ البَيَانِ لسِحْرًا» التَّحْذِير مِنَ المُبَالَغَةِ في أسَالِيب الكَلاَم والتَّقَعُّر في الكَلِمَات واخْتِيَار الألْفَاظ؟) فَأجَابَ [ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ‏ «إنَّ مِنَ البَيَانِ لسِحْرًا» رَوَاهُ الإمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْن عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُ العُلَمَاءِ أنَّهُ مِنْ بَابِ الذَّمّ لبَعْضِ الفَصَاحَة، وذَهَبَ أكْثَرُ العُلَمَاءِ إِلَى أنَّهُ مِنْ بَابِ المَدْح، قَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَان بْن عَبْد الله في (شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيد): قُلْتُ: والأوَّلُ أصَحُّ، وأنَّهُ خَرَجَ مَخْرَج الذَّمّ لبَعْضِ البَيَان لا كُلّه وهُوَ الَّذِي فِيهِ تَصْوِيبُ البَاطِل وتَحْسِينُهُ حَتَّى يَتَوَهَّم السَّامِع أنَّهُ حَقّ أو يَكُون فِيهِ بَلاَغَة زَائِدَة عَنِ الحَدِّ أو قُوَّة في الخُصُومَةِ حَتَّى يَسْحِر القَوْم ببَيَانِهِ فَيَذْهَب بالحَقِّ ونَحْوِ ذَلِكَ فَسَمَّاهُ سِحْرًا؛ لأنَّهُ يَسْتَمِيل القُلُوب كَالسِّحْرِ، ولهذا لَمَّا جَاءَهُ رَجُلاَنِ مِنَ المَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لبَيَانِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ «إنَّ مِنَ البَيَانِ لسِحْرًا» رَوَاهُ الإمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْن عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كَمَا رَوَاهُ مَالِكُ والبُخَارِيُّ وغَيْرُهُمَا، وأمَّا جِنْسُ البَيَانِ فَمَحْمُودٌ بخِلاَفِ الشِّعْر فَجِنْسُهُ مَذْمُومٌ إلاَّ مَا كَانَ حِكَمًا، ولَكِنْ لا يُحْمَد البَيَان إلاَّ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ الإسْهَابِ والإطْنَابِ أو تَصْوِيرِ البَاطِل في صُورَةِ الحَقّ، فَ إِذَا خَرَجَ إِلَى هذا الحَدِّ فَمَذْمُومٌ، وعَلَى هذا تَدُلُّ الأحَادِيث، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ «إنَّ اللهَ يَبْغَضُ البَلِيغ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّل بلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بلِسَانِهَا» رَوَاهُ الإمَامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْد الله بْن عَمْرُو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وعَلَيْهِ فَإنَّهُ يَنْبَغِي للمُسْلِمِ أنْ يَتَكَلَّمَ بالكَلاَمِ المُتَوَسِّطِ المُعْتَادِ والَّذِي يَفْهَمُهُ السَّامِع ويَحْصُل بِهِ المَقْصُود، ويُكْرَه التَّقَعُّر في الكَلاَمِ، وفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» رَوَاهُ الإمَامُ مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَهَا ثَلاَثًا، قَالَ أبُو السَّعَادَات: هُم المُتَعَمِّقُونَ في الكَلاَمِ المُتَكَلِّمُونَ بأقْصَى حُلُوقهم، وقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ كَرَاهَة التَّقَعُّر في الكَلاَمِ بالتَّشَدُّقِ وتَكَلُّفِ الفَصَاحَة واسْتِعْمَالِ وَحْشِيّ اللُّغَة ودَقَائِق الإعْرَاب في مُخَاطَبَةِ العَوَامّ ]. وقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِين في القَوْلِ المُفِيدِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيدِ [ قَوْلُهُ (إنَّ مِنَ البَيَانِ)؛ إنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ، يَنْصِبُ الاسْمَ ويَرْفَعُ الخَبَرَ، ومِنَ: يُحْتَمَل أنْ تَكُونَ للتَّبْعِيضِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لبَيَانِ الجِنْسِ، فَعَلَى الأوَّل يَكُون المَعْنَى: إنَّ بَعْضَ البَيَانِ سِحْرٌ وبَعْضَهُ لَيْسَ بسِحْرٍ، وعَلَى الثَّانِي يَكُون المَعْنَى: إنَّ جِنْسَ البَيَانِ كُلّهُ سِحْرٌ. قَوْلُهُ (لَسِحْرًا)؛ اللاَّمُ للتَّوْكِيدِ، وسِحْرًا: اسْمُ إنَّ. والبَيَانُ: هُوَ الفَصَاحَةُ والبَلاَغَةُ، وهُوَ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى الإنْسَانِ، قَالَ تَعَالَى (خَلَقَ الإِنْسَانَ 3 عَلَّمَهُ الْبَيَانَ 4) (الرَّحْمَنُ: 3، 4)، والبَيَانُ نَوْعَانِ: الأوَّلُ: بَيَانٌ لاَبُدَّ مِنْهُ، وهذا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيع النَّاس، فَكُلُّ إنْسَانٍ إِذَا جَاعَ قَالَ: إنِّي جُعْتُ، و إِذَا عَطشَ قَالَ: إنِّي عَطشْتُ، وهَكَذَا. الثَّانِي: بَيَانٌ بمَعْنَى الفَصَاحَة التَّامَّة الَّتِي تُسْبِي العُقُول وتُغَيِّر الأفْكَار، وهي الَّتِي قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا). وعَلَى هذا التَّقْسِيمِ تَكُون (مِنَ) للتَّبْعِيضِ، أي: بَعْضُ البَيَانِ - وهُوَ البَيَانُ الكَامِلُ الَّذِي هُوَ الفَصَاحَة - سِحْرٌ. أمَّا إِذَا جَعَلْنَا البَيَان بمَعْنَى الفَصَاحَة فَقَط، صَارَت (مِنَ) لبَيَانِ الجِنْس. ووَجْهُ كَوْن البَيَان سِحْرًا: أنَّهُ يَأخُذ بلُبِّ السَّامِع، فَيَصْرِفُهُ أو يَعْطِفُهُ، فَيَظُنّ السَّامِع أنَّ البَاطِلَ حَقٌّ لقُوَّةِ تَأثِيرِ المُتَكَلِّم، فَيَنْصَرِف إلَيْهِ، ولهذا إِذَا أتَى إنْسَانٌ يَتَكَلَّم بكَلاَمٍ مَعْنَاهُ بَاطِل لَكِنْ لقُوَّةِ فَصَاحَته وبَيَانه يَسْحِر السَّامِع حَقًّا، فَيَنْصَرِف إلَيْهِ، و إِذَا تَكَلَّمَ إنْسَانٌ بَلِيغٌ يُحَذِّر مِنْ حَقٍّ، ولفَصَاحَتِهِ وبَيَانِهِ يَظُنّ السَّامِع أنَّ هذا الحَقَّ بَاطِلٌ، فَيَنْصَرِف عَنْهُ، وهذا مِنْ جِنْسِ السِّحْر الَّذِي يُسَمُّونَهُ العَطْف والصَّرْف، والبَيَانُ يَحْصُلُ بِهِ عَطْفٌ وصَرْفٌ، فَالبَيَانُ في الحَقِيقَةِ بمَعْنَى الفَصَاحَة، ولا شَكَّ أنَّهَا تَفْعَل فِعْل السِّحْر، وابْنُ القَيِّم يَقُولُ عَنِ الحُورِ: حَدِيثُهَا السِّحْر الحَلاَل. وقَوْلُهُ (إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)، وهَلْ هذا عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، أو عَلَى سَبِيلِ المَدْحِ، أو لبَيَانِ الوَاقِع ثُمَّ يُنْظَر إِلَى أثَرِهِ؟ الجَوَابُ: الأخِيرُ هُوَ المُرَادُ، فَالبَيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَيَانٌ لا يُمْدَح عَلَيْهِ ولا يُذَمّ، ولَكِنْ يُنْظَر إِلَى أثَرِهِ، والمَقْصُودِ مِنْهُ، فَإنْ كَانَ المَقْصُودُ مِنْهُ رَدّ الحَقّ وإثْبَات البَاطِل، فَهُوَ مَذْمُوم، لأنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لنِعْمَةِ الله في مَعْصِيَتِهِ، وإنْ كَانَ المَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَات الحَقّ وإبْطَال البَاطِل، فَهُوَ مَمْدُوح، و إِذَا كَانَ البَيَانُ يُسْتَعْمَلُ في طَاعَةِ الله وفي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَهُوَ خَيْر مِنَ العِيِّ، لَكِنْ إِذَا ابْتُلِيَ الإنْسَان ببَيَانٍ ليَصُدّ النَّاس عَنْ دِينِ الله، فَهَذَا لا خَيْرَ فِيهِ، والعِيُّ خَيْرٌ مِنْهُ، والبَيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لا شَكَّ أنَّهُ نِعْمَةٌ، ولهذا امْتَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى الإنْسَانِ، فَقَالَ تَعَالَى (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرَّحْمَنُ: 4) ].

      7) عَدَمُ اسْتِخْدَامِ الظَّنّ في الحُكْمِ عَلَى الأُمُورِ وتَفْسِيرِهَا، فَلَقَدْ قَالَ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ] (الحُجُرَاتُ: 12)، ف إِذَا اسْتَجَابَ المُسْلِمُ لظَنِّ السُّوء، وبَدَا ذَلِكَ في سُلُوكِهِ وتَصَرُّفَاتِهِ وأقْوَالِهِ، أو تَمَادَى مَعَهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ في قَلْبِهِ، ولَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَة قَاطِعَة ودَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَقَعَ في الإثْمِ، واسْتَحَقَّ العُقُوبَة عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. أمَّا إِذَا جَاهَدَ تِلْكَ الظُّنُون الفَاسِدَة، وحَاوَلَ دَرْءهَا ودَفْعهَا بصَرْفِ الفِكْر عَنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إثْم حِينَهَا. يَقُولُ الإمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ اعْلَم أنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ مِثْل القَوْل، فَكَمَا يَحْرُمُ أنْ تُحَدِّثَ غَيْرَكَ بمَسَاوِئ إنْسَانٍ، يَحْرُمُ أنْ تُحَدِّثَ نَفْسَكَ بذَلِكَ وتُسِيء الظَّنّ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ)، ورَوَيْنَا في صَحِيحَيّ البُخَارِيّ ومُسْلِم عَنْ أبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (إيَّاكُمْ والظَّنّ، فَإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ)، والأحَادِيث بمَعْنَى مَا ذَكَرْتُهُ كَثِيرَةٌ، والمُرَادُ بذَلِكَ عَقْدُ القَلْبِ وحَكْمُهُ عَلَى غَيْرِكَ بالسُّوءِ، فَأمَّا الخَوَاطِر وحَدِيث النَّفْس إِذَا لَمْ يَسْتَقِرّ ويَسْتَمِرّ عَلَيْهِ صَاحِبه فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ باتِّفَاقِ العُلَمَاءِ؛ لأنَّهُ لا اخْتِيَارَ لَهُ في وُقُوعِهِ، ولا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الانْفِكَاكِ عَنْهُ، وهذا هُوَ المُرَادُ بِمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: (إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَت بِهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّم بِهِ أو تَعْمَل)، قَالَ العُلَمَاءُ: المُرَادُ بِهِ الخَوَاطِر الَّتِي لا تَسْتَقِرّ. قَالُوا: وسَوَاء كَانَ ذَلِكَ الخَاطِر غَيْبَة أو كُفْرًا أو غَيْره، فَمَنْ خَطَرَ لَهُ الكُفْر مُجَرَّد خَطْر مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لتَحْصِيلِهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ في الحَالِ، فَلَيْسَ بكَافِرٍ، ولا شَيْءَ عَلَيْهِ. وسَبَبُ العَفْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَذُّرِ اجْتِنَابه، وإنَّمَا المُمْكِن اجْتِنَاب الاسْتِمْرَار عَلَيْهِ، فَلِهَذَا كَانَ الاسْتِمْرَارُ وعَقْدُ القَلْبِ حَرَامًا، ومَهْمَا عَرَضَ لَكَ هذا الخَاطِر بالغَيْبَةِ وغَيْرِهَا مِنَ المَعَاصِي، وَجَبَ عَلَيْكَ دَفْعهُ بالإعْرَاضِ عَنْهُ، وذِكْر التَّأوِيلاَت الصَّارِفَة لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ ] الأذْكَارُ (344-346) باخْتِصَارٍ. أمَّا إِذَا قَامَت البَيِّنَاتُ القَاطِعَةُ، والأدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى تَلَبُّسِ أحَد المُسْلِمِينَ بسُوءٍ، وكَانَت هُنَاكَ مَصْلَحَة تَقْتَضِي التَّحْذِير مِنْهُ بَعْدَ التَّثَبُّتِ، فَلاَ حَرَجَ حِينهَا، ولَكِنَّ الضَّرُورَة تُقَدَّر بقَدْرِهَا. قَالَ الشَّيْخُ ابْن عُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ [ ولَيْسَ كُلّ الظَّنِّ إثْمًا، فَالظَّنُّ المَبْنِيُّ عَلَى قَرَائِن تَكَاد تَكُون كَاليَقِينِ لا بَأسَ بِهِ، وأمَّا الظَّنُّ الَّذِي بمُجَرَّدِ الوَهْم فَإنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، فَلَوْ فَرَضْنَا أنَّ رَجُلاً رَأى مَعَ رَجُلٍ آخَر امْرَأة، والرَّجُل هذا ظَاهِرُهُ العَدَالَة، فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَتَّهِمَهُ بأنَّ هذه المَرْأة أجْنَبِيَّة مِنْهُ؛ لأنَّ هذا مِنَ الظَّنِّ الَّذِي يَأثَم بِهِ الإنْسَان. أمَّا إِذَا كَانَ لهذا الظَّنّ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ فَإنَّهُ لا بَأسَ بِهِ ولا حَرَجَ عَلَى الإنْسَانِ أنْ يَظُنَّهُ، والعُلَمَاءُ قَالُوا: يَحْرُمُ ظَنّ السُّوء بمُسْلِمٍ ظَاهِرهُ العَدَالَة ] فَتَاوَى إسْلاَمِيَّةٌ (4/537)، ومَعَ ذَلِكَ يَجِب أنْ يَحْذَرَ الجَمِيعُ مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَان هذه المَعْصِيَة بدَعْوَى وُجُود القَرَائِن والأدِلَّة، ويَنْبَغِي إِذَا دَخَلَ الشَّيْطَان إِلَى قَلْبِ المُسْلِم مِنْ هذا المَدْخَل أنْ يَدْفَعَهُ مَا اسْتَطَاعَ، وليَصْرِف قَلْبَهُ عَنِ الاسْتِرْسَالِ مَعَهُ، قَالَ الشَّيْخُ أبُو حَامِد الغَزَّالِيّ رَحِمَهُ اللهُ [ إِذَا وَقَعَ في قَلْبِكَ ظَنّ السُّوء، فَهُوَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَان يُلْقِيهِ إلَيْكَ، فَيَنْبَغِي أنْ تُكَذِّبَهُ فَإنَّهُ أفْسَق الفُسَّاق، وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، فَلاَ يَجُوزُ تَصْدِيق إبْلِيس، فَإنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَة تَدُلُّ عَلَى فَسَادٍ، واحْتَمَلَ خِلاَفهُ، لَمْ تَجُزْ إسَاءَة الظَّنّ. ومِنْ عَلاَمَةِ إسَاءَة الظَّنّ أنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبكَ مَعَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَتَنْفُر مِنْهُ، وتَسْتَثْقِلهُ، وتَفْتُر عَنْ مُرَاعَاتِهِ وإكْرَامِهِ والاغْتِمَامِ بسَيِّئَتِهِ، فَإنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يُقَرِّب إِلَى القَلْبِ بأدْنَى خَيَالٍ مَسَاوِئَ النَّاس، ويُلْقِي إلَيْهِ (أنَّ هذا مِنْ فِطْنَتِكَ وذَكَائِكَ وسُرْعَةِ تَنَبُّهِكَ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَنْظُرُ بنُورِ الله)، وإنَّمَا هُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ نَاطِقٌ بغُرُورِ الشَّيْطَان وظُلْمَتِهِ، وإنْ أخْبَرَكَ عَدْلٌ بذَلِكَ فَلاَ تُصَدِّقهُ ولا تُكَذِّبهُ لَئلاَ تُسِيء الظَّنّ بأحَدِهِمَا، ومَهْمَا خَطَرَ لَكَ سُوء في مُسْلِمٍ، فَزِد في مُرَاعَاتِهِ وإكْرَامِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ يغِيظُ الشَّيْطَان ويَدْفَعُهُ عَنْكَ فَلاَ يُلْقِي إلَيْكَ مِثْله، خِيفَةً مِنِ اشْتِغَالِكَ بالدُّعَاءِ لَهُ، ومَهْمَا عَرفْتَ هَفْوَة مُسْلِمٍ بحُجَّةٍ لا شَكَّ فِيهَا، فَانْصَحُهُ في السِّرِّ، ولا يَخْدَعَنَّكَ الشَّيْطَان فَيَدْعُوكَ إِلَى اغْتِيَابِهِ، و إِذَا وَعَظْتُهُ فَلاَ تَعِظْهُ وأنْتَ مَسْرُورٌ باطِّلاَعِكَ عَلَى نَقْصِهِ فَيَنْظُر إلَيْكَ بعَيْنِ التَّعْظِيم، وتَنْظُر إلَيْهِ بالاسْتِصْغَارِ، ولَكِنِ اقْصد تَخْلِيصه مِنَ الإثْمِ وأنْتَ حَزِين كَمَا تَحْزَن عَلَى نَفْسِكَ إِذَا دَخَلَكَ نَقْصٌ، ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ تَرْكه لذَلِكَ النَّقْص بغَيْرِ وَعْظكَ أحَبُّ إلَيْكَ مِنْ تَرْكِهِ بوَعْظِكَ ] نَقْلاً عَنِ الأذْكَارِ للنَّوَوِيّ (ص/345).

      8) حَتَّى بافْتِرَاضِ وُجُود الدَّلِيل والبُرْهَان واليَقِين، فَفَوْقهم يُوجَدُ النَّظَرُ في عَوَاقِب الأُمُور ومَآلاَتِهَا، وقِيَاسُ المَصَالِح والمَفَاسِد، وقَاعِدَةُ الأوْلَوِيَّاتِ وتَقْدِيمُ المَنْفَعَةِ العَامَّةِ عَلَى الخَاصَّةِ، فَفِي زَمَن الفِتَن لَيْسَ كُلَّ مَقَالٍ يَبْدُو لَكَ حَسَنًا تُظْهِرهُ، ولا كُلَّ فِعْلٍ يَبْدُو لَكَ حَسَنًا تَفْعَلهُ، لأنَّ القَوْلَ أو الفِعْلَ في زَمَنِ الفِتْنَة يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أُمُور، فَيَفْهَمُ بَعْضُ النَّاسِ أشْيَاءً لا تَبْلُغهَا عُقُولُهُم ويَبْنُونَ عَلَيْهَا اعْتِقَادَات أو أعْمَالاً أو أقْوَالاً لا تَكُون عَاقِبَتهَا حَمِيدَة، وفي ذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْن مَسْعُود [ مَا أنْتَ بمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إلاَّ كَانَ لبَعْضِهِم فِتْنَةً ] رَوَاهُ مُسْلِمُ في مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ، وهذا أيْضًا مَا دَفَعَ الإمَامُ أحْمَدُ أنْ يَكْرَهَ التَّحْدِيث بالأحَادِيث الَّتِي فِيهَا الخُرُوج عَلَى السُّلْطَانِ، ويَأمُر بأنْ تُشْطَبَ مِنْ مُسْنَدِهِ، وقَالَ [ لا خَيْرَ في الفِتْنَةِ، ولا خَيْرَ في الخُرُوجِفَإنْ كَانَت المَصْلَحَة في السُّكُوتِ عَنْ نَوْعٍ مِنَ العِلْمِ أو في مَسْألَةٍ مِنَ المَسَائِل، والحِكْمَة تَقْتَضِي السُّكُوت في هذه الحَالَةِ، فَالمَشْرُوع هُنَا هُوَ السُّكُوت، ولَيْسَ لمُجَرَّدِ أن الشَّخْصَ يَعْلَم هذه المَسْألَة فَلاَبُدَّ أنْ يُبَيِّنَهَا، لا، فَإنَّ العِلْمَ بالشَّيْءِ أمْرٌ، ووُجُوبَ بَلاَغِهِ أمْرٌ آخَر، فَإنَّ البَلاَغَ لاَبُدَّ وأنْ يُرْبَطَ بتَحْقِيقِ المَصَالِح وتَكْمِيلِهَا، وتَعْطِيلِ المَفَاسِد وتَقْلِيلِهَا، ولاَبُدَّ أنْ تَكُونَ المَصْلَحَة والمَفْسَدَة خَالِيَة وبَعِيدَة عَنِ الشَّهَوَاتِ وحُظُوظ النَّفْس، ولا تَكُون مُعْتَبَرَة إلاَّ إنْ كَانَت مُتَّفِقَة مَعَ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ مِنْهَا، ولِذَلِكَ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُعَ إِذَا عَنِ التَّحْدِيثِ بِمَا حَدَّثَهُ بِهِ في شَأنِ فَضْل كَلِمَة التَّوْحِيد، رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ [ كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: يَا مُعَاذ؛ هَلْ تَدْرِي حَقّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، ومَا حَقّ العِبَاد عَلَى اللهِ؟ قُلْتُ: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَم، قَالَ: فَإنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أنْ لا يُعَذِّب مَنْ لا يُشْرِك بِهِ شَيْئًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاس؟ قَالَ: لا تُبَشِّرهُم فَيَتَّكِلُوا ]، فَلَمَّا كَانَ إخْبَارُ النَّاسِ بهذا الأمْر فِيهِ نَوْعُ مَفْسَدَةٍ مُقَابِلَةٍ، صَارَ مِنَ الحِكْمَةِ السُّكُوت عَنْهُ وعَدَم إخْبَار النَّاس، وذَلِكَ خَوْفًا مِنِ اتِّكَالِهِم عَلَى هذا الأمْرِ وتَرْك العَمَل أو التَّسَاهُل فِيهِ، مَعَ أنَّ إبْلاَغَ العِلْم مِنَ الوَاجِبَات المُتَحَتِّمَات، ولَكِنْ لَمَّا كَانَ إبْلاَغُهُ مَرْهُونٌ بتَحْقِيقِ المَصَالِح ودَفْعِ المَفَاسِد صَارَ مِنَ الحِكْمَةِ السُّكُوت عَنْهُ، فَلَيْسَ كُلّ مَا يُعْلَم يُقَال، ومِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ العِلْمِ قَامَ وبَثَّهُ في النَّاسِ ولَوْ كَانَ في بَثِّهِ مَفْسَدَة، المُهِمّ أنَّهُ لاَبُدَّ وأنْ يَقُولَهُ بَرَاءَةٌ للذِّمَّةِ كَمَا يَتَوَهَّم، وهذا خَطَأ، لأنَّ الأُمُورَ مَرْبُوطَةٌ بالنَّظَرِ في المَصَالِح والمَفَاسِد، ورَوَى أحْمَد بسَنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ [ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَقُولُونَ أَكْثَرْتَ، فَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ رَمَيْتُمُونِي بِالْقَشْعِ وَمَا نَاظَرْتُمُونِي ]، وكَذَلِكَ كَانَت رَغْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَهْدِمَ البَيْت ويَبْنِيه عَلَى قَوَاعِد إبْرَاهِيم ويَجْعَل لَهُ بَابَيْنِ، بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وبَابٌ يَخْرُجُونَ مِنْهُ، ولَكِنْ هَلْ طَبَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هذه الرَّغْبَة مَعَ أنَّهَا مِنَ العِلْمِ؟ وهَلْ بَثَّهَا بَيْنَ النَّاسِ؟ الجَوَابُ: لا، بَلْ بَقِيَ البَيْت عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لتَحْقِيقِ المَصَالِح ودَفْع المَفَاسِد، فَعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ يَا عَائِشَةُ؛ لَوْلاَ أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، فَألْزَقْتُهَا بالأرْضِ، وجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ؛ بَابًا شَرْقِيًّا وبَابًا غَرْبِيًّا، وزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فَإنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتِ الكَعْبَةَ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، والحَاصِلُ أنَّهُ لَمَّا كَانَ تَبْلِيغُ العِلْم والقِيَام بِهِ يُوجِب شَيْئًا مِنَ المَفَاسِد ويُعَطِّل جُمَلاً مِنَ المَصَالِح، كَانَت المَصْلَحَة في السُّكُوتِ عَنْهُ وعَدَمِ بَثِّهِ في النَّاسِ، وهذا في أُمُورِ الدِّين والعِلْم، فَمَا بَالُنَا بأُمُورِ الدُّنْيَا؟ فَفِي الفِتَنِ لَيْسَ كُلّ مَا يُعْلَم يُقَال, ولا كُلّ مَا يُقَال لاَبُدَّ وأنْ يُقَال في كُلِّ الأحْوَالِ؛ لأنَّكَ لا تَدْرِي مَا الَّذِي سَيُحْدِثُهُ قَوْلُكَ؟ ومَا الَّذِي سَيُحْدِثُهُ فَهْمُكَ ورَأيُكَ؟ فَلِلأعْمَالِ والأقْوَالِ ضَوَابِط لاَبُدَّ مِنْ رِعَايَتِهَا؛ فَلَيْسَ كُلّ فِعْلٍ يُحْمَد في كُلِّ حَالٍ، وقَدْ أُثِرَ عَنْ عَلِيّ بْن أبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَوْله المَشْهُور [ لَيْسَ كُلِّ مَا يُعْلَم يُقَال، ولا كُلّ مَا يُقَال حَضَرَ أهْلُهُ، ولا كُلّ مَا حَضَرَ أهْلُهُ حَانَ وَقْته ]، بَلِ المَعْرُوف عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ إِذَا أرَادَ غَزْوَة وَرَّى بغَيْرِهَا، فَلَيْسَ كُلّ مَا يُعْلَم يُقَال، وقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللهُ [ لا يَكُون المَرْء إمَام وهُوَ يُحَدِّث بكُلِّ مَا سَمِعَ ]، وعَنْ عَبْدِ الله بْن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ [ كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا في مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهْوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ هَلْ لَكَ في فُلاَنٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَناً، فَوَاللهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ إِلاَّ فَلْتَةً فَتَمَّتْ. فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ في النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ في النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لاَ يَعُوهَا، وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ في عَقِبِ ذِي الْحَجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْنَا الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِى رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلاً قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ، فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ، فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا، لاَ أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لاَ يَعْقِلَهَا فَلاَ أُحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ، ... ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ، ورَحِمَ اللهُ القَائِلَ [ إنَّ أحَدَهُم ليُفْتِي في المَسْألَةِ، ولَوْ وَرَدَت عَلَى عُمَر لَجَمَعَ لَهَا أهْلَ بَدْرٍ ]، أمَّا الآن فَأجْهَل الجُهَلاَء يَتَكَلَّم في أعْظَم المَسَائِل بكُلِّ اسْتِسْهَالٍ، وكُلّ مَنْ يَفْتَح فَمَهُ لاَبُدَّ وأنْ يَقُولَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ وخَاطِرِهِ دُونَ أنْ يُقَدِّرَ عَوَاقِبه أو يُنْزِلَهُ مَنَازِلَهُ، وقَدْ قَرَّرَ أهْلُ العِلْمِ رَحِمَهُم الله أنَّ إنْكَارَ المُنْكَرِ إنْ كَانَ سَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَا هُوَ أنْكَر مِنْهُ؛ فَالوَاجِب السُّكُوت وعَدَم الإنْكَار، فَمِنَ المُقَرَّرِ أنَّهُ لَيْسَ كُلّ مَا يُعْلَم يُقَال، ولا كُلّ صَحِيحٍ صَالِحٌ للنَّشْرِ، لقُصُورِ العُقُول أحْيَانًا عَنْ تَحَمُّلِهِ، أو لسُوءِ التَّعَامُل مَعَهُ، أو لعَدَمِ تَنْزِيل الكَلاَم مَنَازِله الصَّحِيحَة.

      وبَعْدَ أنْ بَيَّنَّا هذا الكَمّ مِنَ الأدِلَّةِ الخَاصَّةِ بالتَّثَبُّتِ عِنْدَ نَقْلِ الأخْبَارِ أو التَّكَلُّمِ بالرَّأي وقِيَاسِ المَصَالِح والمَفَاسِد عِنْدَ الفِتَنِ، فَلاَ يَسَعنَا أنْ نَخْتَتِمَ هذه النُّقْطَة دُونَ أنْ نُشِيرَ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْ آدَابِ وأخْلاَقِ وضَوَابِط القَوْلِ والعَمَلِ حَالِ الفِتَن، والَّتِي بَعْدَ أنْ قَدَّمْنَا لَهَا بالأدِلَّةِ السَّابِقَةِ يُصْبِح مِنَ السَّهْلِ فَهْمهَا وقُبُولهَا والعَمَل بِهَا، ومِنْهَا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ لا الحَصْر:
      (1) اليَقَظَةُ والحَذَرُ في تَلَقِّي الأخْبَار: وألاَّ يَشْفَع لقُبُولِهَا مُلاَقَاتُهَا لرَغَبَاتِنَا وأمَانِينَا، فَلَنَا مَنْهَجِيَّة في التَّثَبُّتِ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ مُطَّرِدَة فِيمَا نُحِبُّ ونَكْرَهُ، و إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَتَقَبَّل مِثْل هذه الأخْبَار، فَلْيَعْلَم أنَّ النَّاسَ لَنْ يُصَدِّقُوهُ، فَلْيَحْذَر أنْ يَجْعَلَ نَفْسه عُرْضَة للتَّكْذِيبِ، وقَدِيمًا قِيلَ [ مَنْ تَتَبَّعَ غَرَائِب الأخْبَار كُذِّبَ ]، فَلاَ تُصَدِّق خَبَرًا قَبْلَ أنْ تَتَثَبَّتَ مِنْ صِحَّتِهِ، فَمَا أكْثَر الأخْبَارَ في وَقْتِ الفِتَن! ومَا أقَلَّ الثَّابِتَ مِنْهَا! فَكَيْفَ تَسْمَحَ لنَفْسِكَ أنْ تَكُونَ مُجْتَرًّا للكَلاَمِ نَاقِلاً لَهُ تُذِيعَ وتَنْشُرَ قَبْلَ أنْ تَتَثَبَّتَ مِنَ الخَبَرِ؟ قَالَ اللهُ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ] (الحُجُرَاتُ: 6)، ثُمَّ لَوْ فُرِضَ صِحَّة الخَبَر يَقِينًا، فَإنَّهُ يَنْبَغِي بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَر في مَصْلَحَةِ نَشْرِهِ مِنْ عَدَمِهَا؛ فَإنَّ مِنَ الأخْبَارِ مَا لا يَجِبْ نَشْره في نَفْسِ وَقْته، ومِنَ الأخْبَارِ مَا لا يُلْقَى إلاَّ إِلَى الخَاصَّةِ دُونَ العَامَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى [ وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ] (النِّسَاءُ: 83).

      (2) الحَذَرُ مِنْ جَهَالَةِ المَصْدَر: ولَيْسَ خَبَر أهَمّ مِنْ أخْبَارِ السُّنَّة النَّبَوِيَّة، ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ مَنْهَجِ المُسْلِمِينَ قُبُولهَا مِنَ المَجَاهِيل، أو المَشْكُوك في صِدْقِهِم، أو مَنْ عُرِفَ عَنْهُم الكَذِب وإنْ صَدَقُوا في هذا، أو المَعْرُوف عَنْهُم سُوء الفَهْم أو الحِفْظِ وعَدَم تَحَرِّي الدِّقَّة في النَّقْلِ، ولِذَا فَلاَبُدَّ مِنْ تَلَقِّي الأخْبَار مِنْ مَصْدَرٍ مَوْثُوقٍ، والثقة هنا لا تعني فقط أنه لا يكذب، ولكن تعني أنه ثقة في أخذ الأخبار عنه، فلا يَرَى الوَاقِعَة عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا؛ أو يَرَاهَا نَاقِصَة؛ أو يُفَسِّرُهَا بتَفْسِيرٍ خَاطِئٍ؛ ويَرْوِيهَا بفَهْمِهِ هُوَ، لا، لاَبُدَّ أنْ يَكُونَ ثِقَة في رُؤْيَتِهِ، وفي فَهْمِهِ، وفي قَوْلِهِ، وفي تَقْدِيرِهِ للأُمُور والمَصَالِح والمَفَاسِد، بحَيْثُ إِذَا تَكَلَّم أخَذْنَا عَنْهُ مُطْمَئِنِّينَ أنَّنَا نَأخُذ مِنْ عَاقِلٍ لا مِنْ مُتَهَوِّرٍ، مِنْ شَخْصٍ فَطِنٍ لا مِنْ مُنْدَفِعٍ مُتَحَمِّسٍ أهْوَجٍ، يُحَرِّكُهُ الحَمَاسُ دُونَ عَقْلٍ يَضْبُطُهُ إيِمَانٌ (وبِئْسَ مَطِيَّة الرَّجُل: زَعَمُوا).

      (3) رَفْضُ جَعْل أنْفُسنَا رَوَاحِل لنَقْلِ الكَلاَم: ف إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنِ اسْتَجَازُوا اخْتِلاَق الإشَاعَات أو التَّأوُّلاَت، فَإنَّ عَلَيْنَا ألاَّ نُصَدِّقهَا ثُمَّ نُسَوِّقهَا كَنَقْلِ الذُّبَاب للعَدْوَى، ولا يَكُون فِعْلهُم مُبَرِّرًا لَنَا لنَفْعَل مِثْلهُم ونَحْذُو حَذْوهُم، (فَمَنْ حَدَّثَ بحَدِيثٍ يُرَى أنَّهُ كَذِب فَهُوَ أحَدُ الكَاذِبِينَ).

      (4) القَدْرُ المُبَاحُ مِنَ الكَذِبِ في الحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُضَلِّلُ الأعْدَاء: ولَيْسَ الَّذِي يُسَوِّقُ الوَهْمَ ويُغَرِرُ بالمُسْلِمِينَ.

      (5) الصِّدْقُ هُوَ رَأسُ مَالنَا في التَّعَامُلِ مَعَ النَّاسِ: ف إِذَا كُنَّا خَسِرْنَا جَوَانِب مِنَ المَعْرَكَةِ، فَإنَّ عَلَيْنَا ألاَّ نَخْسَرَ الصِّدْق، وسَيَطُول اسْتِغْرَاب النَّاس وعُجْبهم إِذَا اكْتَشَفُوا أنَّ هذه الأخْبَار الكَاذِبَة كَانَت تُنْقَل إلَيْهم عَبْرَ وَسِيطٍ صَالِحٍ، ومَنْ جُرِّبَ عَلَيْهِ الكَذِب أو نَقْل الكَذِبِ وتَصْدِيقَه فَلَنْ يَكُون مَحَلاًّ للثِّقَةِ بَعْدُ. وكَمَا سَيُفْجَعُ الطَّيِّبُونَ فَيَرْتَابُوا في الرَّاوِي الَّذِي كَانَ الصَّلاَحُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ، لأنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُهُم بهذه الأخْبَار ويُؤَكِّدُهَا لَهُم، فَكَذَلِكَ سَيَشْمَت آخَرُونَ، لَهُم مَوْقِفٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الصَّالِحِينَ ليَقُولُوا: (هذه أخْبَارهُم، وهذه مِصْدَاقِيَّتهُم، إنَّهُم مُدَّعُونَ، لا تُصَدِّقُوهُم بَعْدَ الآن) وسَيَجِدُ كُلُّ مَنْ شَرِقَ واغْتَمَّ بالصَّحْوَةِ الإسْلاَمِيَّةِ فُرْصَةً في تَعْمِيمِ هذا الخَطَأ ووَصْفِ طَلاَئِع الصَّحْوَة كُلَّهَا بهذا السُّلُوك، فَاللهَ اللهَ أنْ نُفَرِّحَ شَامِتًا، فَيُؤْتَى الإسْلاَم مِنْ قِبَلِكَ.

      (6) قُبُولُ الوَاقِع والتَّعَامُلُ مَعَهُ دُونَ هُرُوبٍ: لأنَّ اخْتِلاَقَ الإشَاعَاتِ؛ واللَّهثَ وَرَاءَ الأكَاذِيب وغَرَائِب الأخْبَار؛ وسُرْعَة تَصْدِيقهَا؛ هُوَ مَهْرَبٌ نَفْسِيٌّ أمَامَ وَاقِعٍ لا يَرْضَاهُ المَرْءُ ولا يَسْتَرِيحُ إلَيْهِ، فَتَجِدُ النَّفْس سَلْوَتُهَا في تَكْذِيبِ مَالاَ يَرُوقُ لَهَا، وتَرْفُضُ مِنْ خِلاَلِهَا مَا لا تَسْتَطِيع مُوَاجَهَته، إلاَّ أنَّهَا في النِّهَايَةِ تَرْضَخُ لسُلْطَانِ الحَقِيقَة القَاهِر، والاعْتِرَافُ بالحَقِيقَةِ والمُشْكِلَةِ أُولَى الخُطُوَات في مُعَالَجَةِ الأزَمَاتِ وتَجَاوُزِهَا، كَمَا أنَّ مُغَالَطَتَهَا وسَتْرَهَا أعْظَمُ أسْبَابِ تَكْرِيسهَا وتَجْدِيدهَا ومُعَاوَدَتهَا. وهذه الحِيلَة النَّفْسِيَّة لا تَصْلُح أنْ تَكُونَ مَهْرَبًا لأتْبَاعِ مُحَمَّدٍصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّذِي عَلَّمَهُم فَضِيلَة الصِّدْق وأمَرَهُم بتَحْرِّيهِ. إنَّ تَسْوِيفَ الإحْسَاس بالوَاقِعِ، والتَّقَنُّعِ بأغْطِيَةِ الوَهْمِ، مِنْ شَأنِهِ أنْ يُضَاعِفَ فَدَاحَة الخَسَائِر، وأعْظَمهَا: خسَارَة القِيَم، ومَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا في المُجْتَمَعِ مِنْ خَلَلٍ واضْطِرَابٍ –سُقْنَا أمْثِلَة لَهُ في مَوْضُوعِنَا هذا بالأخْطَاءِ الثَّلاَثَة ومَا أحْدَثَتْهُ مِنْ شَقٍّ للصَّفِّ وفُرْقَةٍ واخْتِلاَفٍ-، ألاَ وإنَّ الصِّدْقَ أعْلى مَا في هذه القِيَم وأغْلاَهَا، قَالَ تَعَالَى [ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَ إِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ 21 فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ 22 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ 23 أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا 24 إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ 25 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ 26 فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ 27 ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ 28 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ 29 وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ 30 وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ 31 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ 32 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ 33 ] (مُحَمَّدُ: 21-33).

      (7) تَبْصِيرُ مَنْ يَنْقِلُونَ هذه الأخْبَارِ بطِيبَةٍ وحُسْنِ قَصْدٍ: ومُوَاجَهَتُهُم بالحَقِيقَةِ، وعَدَمُ مُجَامَلَةِ المَشَاعِر عَلَى حِسَابِ العَقْل والنَّقْل، وانْتِشَالُهُم مِنْ قَلَقِ المُغَالَطَة إِلَى وُضُوحِ الحَقِيقَة، فَإنَّ الصِّدْقَ طُمَأنِينَةٌ، والكَذِبُ رِيبَةٌ ووَضَاعَةٌ أنفَ مِنْهَا مُشْرِكُوا العَرَب، حَتَّى قَالَ أبُو سُفْيَان -وهُوَ مُشْرِكٌ- [ وَايْمُ اللهِ لَوْلاَ مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ ] وذَلِكَ لَمَّا سَألَهُ هِرَقْل عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ويَقُولُ الأُسْتَاذُ سَيِّد قُطْب رَحِمَهُ اللهُ [ الحَقِيقَةُ في كُلِّ شَيْءٍ تَغْلبُ المَظْهَرَ في كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لَوْ كَانَت حَقِيقَةُ الكُفْرِ ].

      (8) التَّأنِّي والرِّفْقُ والحِلْمُ وعَدَمُ العَجَلَةِ: إنَّ للفِتْنَةِ مَظْهَرًا خَدَّاعًا في مَبْدَئِهَا، حَتَّى يَسْتَحْسِنَ النَّاسُ صُورَتَهَا، ورُبَّمَا يَعْقِدُونَ الآمَالَ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا سُرْعَانِ مَا تَمُوتُ وتَتَلاَشَى، كَمَثَلِ الزَّهْرَة الَّتِي تَمُوتُ قَبْلَ أنْ تَتَفَتَّح وتُعْطِي ثَمَرَتهَا؛ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ [ نَوَّارُ الفِتْنَةِ –زَهْرُهَا- لا يَعْقِدُ ]، وقَالَ ابْنُ القَيِّمِ [ إنَّ البَاطِلَ لَهُ دَهْشَةٌ ورَوْعَةٌ في أوَّلِهِ، ف إِذَا ثَبَتَ لَهُ القَلْبُ رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، واللهُ يُحِبُّ مَنْ عِنْدَهُ العِلْمَ والأنَاة، فَلاَ يَعْجَل، بَلْ يَتَثَبَّت حَتَّى يَعْلَمَ ويَسْتَيْقِنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، ولا يَعْجَل بأمْرٍ مِنْ قَبْلِ اسْتِحْكَامِهِ، فَالعَجَلَةُ والطَّيْشُ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم (اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الثَّبَاتَ في الأمْرِ، والعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ)، ف إِذَا حَصَلَ الثَّبَاتُ أوَّلاً، والعَزِيمَةُ ثَانِيًا: أفْلَحَ العَبْدُ كُلَّ الفَلاَحِ ] مُفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَة (ص: 170). والتَّأنِّي والرِّفْقُ والحِلْمُ عِنْدَ الفِتَنِ وتَغَيُّرِ الأحْوَالِ مَحْمُودٌ، لأنَّهُ يُمَكِّنُ المُسْلِمُ مِنْ رُؤْيَةِ الأشْيَاء عَلَى حَقِيقَتِهَا، وأنْ يُبْصِرَ الأُمُور عَلَى مَا هي عَلَيْهِ، ويَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ مَا كَانَ الرِّفْقُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ، ولا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ شَانَهُ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَلأشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ [ إنَّ فِيكَ خِصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الحِلْمُ والأنَاةُ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ. فَعَلَيْنَا جَمِيعًا بالرِّفْقِ في الأفْكَارِ والمَوَاقِف وفي كُلِّ قَوْلٍ أو فِعْلٍ عِنْدَ الحَوَادِث والنَّوَازِل، وعَدَمِ العَجَلَة، فَإنَّهَا لَيْسَت مِنْ مَنْهَجِ الأُمَّة الإِسْلاَمِيَّة وخَاصَّةً في زَمَنِ الفِتَن.

      (9) الصَّبْرُ: إنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الأمْرِ مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوف صَعْبَة وقَاسِيَة، واحْتِمَالَ المَشَقَّةِ في ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومُ الصَّبْر، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ] (الفُرْقَانُ: 20)، فَلاَ يَعْنِي الاسْتِسْلاَم للأحْوَالِ السَّيِّئَة، لَكِنَّهُ يَعْنِي: عَدَمُ اللُّجُوءِ إِلَى الحُلُولِ السَّرِيعَةِ الَّتِي تَظْهَر قَوِيَّةً مُنْدَفِعَةً، لَكِنَّهَا يَعْقُبُهَا النَّدَامَةُ، وتَتَعَقَّدُ بسَبَبِهَا المَشَاكِل، فَتُحْدِثُ اليَأسَ والإحْبَاطَ في النُّفُوسِ. هُنَا يَأتِي الصَّبْرُ كَأنَّهُ اسْتِخْدَامٌ للوَقْتِ في الخَلاَصِ مِنْ أوْضَاعٍ صَعْبَةٍ لا نَسْتَطِيع أنْ نَنْجَحَ مِنَ الخَلاَصِ مِنْهَا الآن، فَالصَّبْرُ لَيْسَ سَلْبِيَّةً، ولَكِنَّهُ حَرَكَةٌ وجَهْدٌ وعَمَلٌ مُسْتَقِيمٌ؛ قَالَ تَعَالَى [ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ] (النَّحْلُ: 110)، فَنَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ كَثِيرًا، وخُصُوصًا عِنْدَ الفِتَنِ للفَوْزِ في الاخْتِبَارِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ 156 أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157 ] (البَقَرَةُ: 155-157)، وقَالَ تَعَالَى [ الم 1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ 3 ] (العَنْكَبُوتُ: 1-3)، وعَنْ أبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ؛ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ [ إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ] أخْرَجَهُ أبُو دَاوُد وابْنُ مَاجَه وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ بشَوَاهِدِهِ. وبالصَّبْرِ يَظْهَرُ الفَرْق بَيْنَ ذَوِي العَزَائِم والهِمَم وبَيْنَ ذَوِي الجُبْن والضَّعْف، ولِذَلِكَ وَعَى السَّلَفُ الصَّالِحُ أهَمِّيَّة الصَّبْر عِنْدَ وُقُوع الفِتَن والحَوَادِث، وإلَيْكَ نَمَاذِج مِنْ سِيرَتِهِم:
      θ لَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم يُعَذَّبُونَ ويُفْتَنُونَ في صَدْرِ الإسْلاَم بمَكَّة، كَانَ يَمُرُّ بِهم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ويُذَكِّرُهُم بالصَّبْرِ، ومِنْهُم آل يَاسِر، ف إِذَا مَرَّ بِهم قَالَ [ صَبْرًا آلَ يَاسِر، فَإنَّ مَوْعِدَكُم الجَنَّة ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في تَخْرِيجِ فِقْه السِّيرَة (ص 103).
      θ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ [ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
      θ قَالَ المُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ [ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ)، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ؛ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ ] أخْرَجَهُ مُسْلِمُ.
      θ عِنْدَمَا وَاجَهَ إمَامُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ أحْمَد بْن حَنْبَل الفِتْنَة العَمْيَاء بخَلْقِ القُرْآن في أيَّامِ المَأمُون ثُمَّ المُعْتَصِم ثُمَّ الوَاثِق، ومَا أصَابَهُ مِنَ الحَبْسِ الطَّوِيلِ والضَّرْبِ الشَّدِيدِ، فَصَبَرَ وتَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ القَوِيمِ والصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ حَتَّى نَصَرَهُ اللهُ وفَرَّجَ عَنْهُ الغُمَّة.

      (10) العَدْلُ والإنْصَافُ في الأمْرِ كُلِّهِ: فَإنَّ مِنْ أقْوَى أسْبَابِ الاخْتِلاَف بَيْنَ العِبَادِ -وخُصُوصًا زَمَن الفِتَن- فُقْدَان العَدْل والإنْصَاف، ولَوْ جَاهَدَ المُسْلِم نَفْسَهُ لتَحْقِيقِ صِفَة العَدْل مَعَ نَفْسِهِ ومَعَ النَّاسِ، فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ المَشَاكِل الَّتِي تَحْصُل بَيْنَ المُسْلِمِينَ -سَوَاء الفَرْدِيَّة مِنْهَا أو الجَمَاعِيَّة- سَتَزُول وتُحَلّ بإذْنِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ ] (الأنْعَامُ: 152)، وقَالَ تَعَالَى [ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ] (المَائِدَةُ: 8)، فَلاَبُدَّ مِنَ العَدْلِ في الأقْوَالِ والأعْمَالِ وخُصُوصًا زَمَن الفِتَن، بمَعْنَى أنْ يَأتِيَ الإنْسَانُ بالأُمُورِ الحَسَنَةِ والأُمُورِ السَّيِّئَةِ ثُمَّ يُوَازِن بَيْنَهُمَا وبَعْدَ ذَلِكَ يَحْكُم، لأنَّ في المُوَازَنَةِ عِصْمَة للمُسْلِمِ مِنْ أنْ يَنْسبَ للشَّرْعِ مَا لَيْسَ مُوَافِقًا لِمَا أمَرَ اللهُ بِهِ، وبالتَّالِي يَكُون عَدْلُكَ وإنْصَافُكَ في الفِتْنَةِ مُنَجِّيًا بإذْنِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّد بْن صَالِح العُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ [ فَأُوصِيكُم أيُّهَا الأُخْوَة بالعَدْلِ في الأُمُورِ كُلّهَا، والمُوَازَنَةِ بَيْنهَا، والحُكْمِ للرَّاجِح فِيهَا، والتَّسْوِيَةِ بَيْنهَا في الحُكْمِ عِنْدَ التَّسَاوِي، وهذه قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ يَجِبُ عَلَى العَاقِل أنْ يَتَمَشَّى عَلَيْهَا في سَيْرِهِ إِلَى اللهِ وفي سَيْرِهِ مَعَ عِبَادِ الله ليَكُونَ قَائِمًا بالقِسْطِ، واللهُ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ]. وإلَيْكَ نَمُوذَجًا مِنْ نَهْجِ سَلَفنَا الصَّالِح في حِرْصِهِم عَلَى العَدْلِ والإنْصَافِ: رَوَى مُسْلِمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ [ أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ؛ وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ؛ وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ]، قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَةُ اللهُ مُعَلِّقًا عَلَى هذا الحَدِيثِ [ فِيهِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فَضْل أَهْل الْفَضْل, ولاَ يَمْتَنِع مِنْهُ لِسَبَبِ عَدَاوَة وَنَحْوهَا, وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَة قَتْل مُحَمَّد هَذَا, قِيلَ: في الْمَعْرَكَة, وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ أَسِيرًا بَعْدهَا ]، وهذا المَسْئُول عَنْهُ هُوَ مُعَاوِيَة بْن حُدَيْج، وكَانَ قَدْ قَتَلَ مُحَمَّد بْن أبِي بَكْر.

      (11) مُوَاجَهَةُ الفِتَنِ بتَقْوَى الله والعَمَلِ الصَّالِحِ: والانْشِغَالِ بِهِ بَدَلاً مِِنَ الانْشِغَالِ بتَتَبُّعِ النَّشَرَات والأخْبَار، وهذا هُوَ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَدْ قَالَ [ بَادِرُوا بالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَسَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطع اللَّيْل المُظْلِم، يُصْبِحُ الرَّجُل مُؤْمِنًا، ويُمْسِي كَافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ] رَوَاهُ مُسْلِمُ. والعَمَلُ الصَّالِحُ وَسِيلَةٌ للثَّبَاتِ عِنْدَ الفِتَنِ الَّتِي يَضْطَرِبُ الوَاحِدُ فِيهَا ويَتَشَكَّكُ مِنْ أمْرِهَا، فَيُمْسِي عَلَى حَالٍ ويُصْبِحُ عَلَى أُخْرَى، ويَرَى وكَأنَّهُ في حُلْمٍ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ] (النِّسَاءُ: 66). وهذه الأعْمَالُ الصَّالِحَةُ والعِبَادَةُ عُمُومًا حَصَانَةٌ لنَفْسِ المَرْء ودَاخِلِهِ مِنَ الظُّرُوفِ البِيئِيَّةِ المُحِيطَةِ بِهِ، حَتَّى لا تُؤَثِّرُ فِيهِ؛ وقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ العِبَادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، والهَرْجُ: الفِتْنَةُ واخْتِلاَطُ الأمْرِ، فَكَمَا أنَّ المُهَاجِرَ فَرَّ بِدِينِهِ مِمَّنْ يَصُدّهُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَذَلِكَ الَّذِي انْشَغَلَ بالعِبَادَةِ، فَرَّ عَنِ النَّاسِ بِدِينِهِ إِلَى عِبَادَةِ رَبّه مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى [ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ] (الحِجْرُ: 97)؛ لِذَلِكَ عِنْدَ فِتْنَةِ القِتَال ولِقَاءِ أعْدَاء الله مِنَ المُشْرِكِينَ؛ قَالَ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ] (الأنْفَالُ: 45)، وقَالَ تَعَالَى [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ] (البَقَرَةُ: 45)، وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أمْرٌ وآلَمَهُ؛ صَلَّى، رواه أبو داود. واسْتَيْقَظَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ [ سُبْحَانَ الله، مَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ الفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ لَكِيّ يُصَلِّينَ ] (يَقْصِد أزْوَاجه) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

      (12) حُرْمَةُ مَا عَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ دِمَاءٍ وأمْوَالٍ وأعْرَاضٍ: ولا يَسْتَهِينُ أحَدٌ بالكَلِمَةِ ويَقُولُ (أنَا لَمْ أقْتُلْ أو أُهْدِرْ مَالاً، أنَا فَقَط عَبَّرْتُ عَنْ رَأيِي)، فهذا الرَّأيُ قَدْ يَكُون هُوَ السَّبِيل لإهْدَارِ المَال وسَفْكِ الدِّمَاء والخَوْضِ في الأعْرَاضِ، وقَدْ سَبَقَ بَيَان خُطُورَةِ الكَلِمَة، فَالتَّحْذِيرُ هَهُنَا يَشْمَلُ القَوْلَ والعَمَلَ، وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وسَكَتَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيَانِ الكَيْفِيَّة، فَكَانَ كُلُّ سَبِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ هذه المَنَاهِي مُحَرَّمٌ شَرْعًا، ورَوَى البُخَارِيُّ أيْضًا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ أوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ في الدِّمَاءِ ]، وقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا يَزَالُ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ] سَوَاء كَانَ الدَّمُ لمُسْلِمٍ أو لغَيْرِ مُسْلِمٍ وأُخِذَ بغَيْرِ حَقٍّ، وتَشْتَدُّ الحُرْمَةُ بالنِّسْبَةِ للمُسْلِمِ؛ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بغَيْرِ حَقٍّ ] وفي رِوَايَةٍ (مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ) صَحِيحُ التَّرْغِيبِللألْبَانِيِّ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُخَاطِبًا الكَعْبَة [ مَا أطْيَبَكِ، ومَا أطْيَبَ رِيحَكِ؟ مَا أعْظَمَكِ ومَا أعْظَمَ حُرْمَتَكِ. والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَحُرْمَةُ المُؤْمِنِ عِنْدَ اللهِ أعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ ودَمِهِ ] صَحِيحُ التَّرْغِيبِللألْبَانِيِّ، وكَانَ عَلِيُّ بْن أبِي طَالِب قَدْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، ولَمْ يَخْرُج مَعَهُ لقِتَالِهِم قَوْمٌ مِمَّنِ اعْتَزَلُوا الفِتْنَة كَسَعْد بْن أبِي وَقَّاص وعَبْد اللهِ بْن عُمَر، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ للهِ دَرُّ مَقَامٍ قَامَهُ عَبْدُ اللهِ بْن عُمَر وسَعْدُ بْن مَالِك، إنْ كَانَ بِرًّا إنَّ أجْرَهُ لَعَظِيمٌ، وإنْ كَانَ إثْمًا إنَّ خَطَأهُ لَيَسِيرٌ ]، وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْن عَمْرو بْن العَاص مِثْل ذَلِكَ، قَالَ [ للهِ دَرُّ ابْن عُمَر وأبِي مَالِك (سَعْد بْن أبِي وَقَّاص)، لَئِنْ كَانَ تَخَلُّفُهُم عَنْ هذا الأمْرِ خَيْرًا، كَانَ خَيْرًا مُبَرَّرًا، ولَئِنْ كَانَ ذَنْبًا، كَانَ ذَنْبًا مَقْصُورًا ] (العُزْلَةِ: 74، 75)، وقَالَ مُطَرِّف بْن عَبْد الله –وهُوَ مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ عَاصَرُوا فِتْنَةَ خُرُوجِ ابْن الأشْعَث بالسَّيْفِ عَلَى عَبْدِ المَلِكِ بْن مَرْوَان- [ لأنْ آخُذَ بالثِّقَةِ في القُعُودِ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ ألْتَمِسَ فَضْلَ الجِهَادِ بالتَّغْرِيرِ ]، وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ أيْضًا [ لأنْ يَسْألَنِي رَبِّي عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا مُطَرِّف، ألاَّ فَعَلْتَ، أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ يَقُولَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ ] حِلْيَةُ الأوْلِيَاءِ.

      (13) التَّسَلُّحُ بالعِلْمِ والرُّجُوعُ إِلَى العُلَمَاءِ والْتِزَامُ قَوْلهم: فَإنَّ المَرْءَ عَلَى قَدْرِ فِقْهِهِ ومَعْرِفَتِهِ بدِينِهِ وتَقْوَى الله في قَلْبِهِ؛ يَسْتَبْعِدُ الأُمُورَ وتُسْتَوْضَحُ لَدَيْهِ الحَوَادِث؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى [ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ] (الأعْرَافُ: 157)، وقَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ لا تَضُرُّكَ الفِتْنَةُ مَا عَرَفْتَ دِينَكَ، إنَّمَا الفِتْنَةُ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الحَقّ والبَاطِل ]، وقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ إنَّ الفِتْنَةَ إِذَا أقْبَلَت عَرَفَهَا كُلُّ عَالِمٍ، و إِذَا أدْبَرَت عَرَفَهَا كُلُّ جَاهِلٍ ]، فَمَا أحْوَجَنَا في طُغْيَانِ الفِتْنَة إِلَى سَفِينَةِ العُلَمَاءِ (فَإنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ)؛ بَدَلاً مِنْ أنْ نُشْهِرَ ألْسِنَتنَا وأقْلاَمنَا ضِدّهُم، ونُوَظِّف أوْقَاتنَا ومَجْهُودَاتنَا وعُقُولنَا القَاصِرَة وعِلْمنَا القَلِيل مِنْ أجْلِ انْتِقَادِهِم والتَّطَاوُل عَلَيْهم، ولَوْ أنَّنَا وَظَّفْنَا كُلّ هذا في طَلَبِ العِلْمِ وتَدَبُّرِهِ والعَمَلِ بِهِ وفَهْمِ الخِلاَف وكَيْفِيَّتِهِ وآدَابِهِ وفِقْهِ التَّعَامُل مَعَهُ لَفُزْنَا بِمَا هُوَ أكْبَر، ونَجَوْنَا مِنَ الفِتَنِ، أعَاذَنَا اللهُ وإيَّاكُم مِنَ الخُذْلاَنِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَة أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ ويَظْهَرَ الجَهْلُ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ سَيَأتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِب، ويُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِق، ويُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِن، ويُخَوَّنُ فِيهَا الأمِين، ويَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: ومَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أمْرِ العَامَّة ] صَحِيحُ الجَامِعِللألْبَانِيّ. قَالَ الإمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:

      فَسَادٌ كَبِيرٌ؛ عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ ** وأكْبَرُ مِنْهُ جَاهِلٌ مُتَنَسِّك


      هُمَا فِتْنَةٌ في العَالَمِينَ عَظِيمَةٌ ** لِمَنْ بِهِمَا في دِينِهِ يَتَمَسَّك

      فَالعِلْمُ الشَّرْعِيُّ مَطْلَبٌ مُهِمٌّ في مُوَاجَهَةِ الفِتَن حَتَّى يَكُون المُسْلِم عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أمْرِ دِينِهِ، و إِذَا فَقَدَ المُسْلِمُ العِلْمَ الشَّرْعِيَّ تَخَبَّطَ في هذه الفِتَنِ. قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ [ إِذَا انْقَطَعَ عَنِ النَّاسِ نُور النُّبُوَّة وَقَعُوا في ظُلْمَةِ الفِتَن وحَدَثَتِ البِدَع والفُجُور ووَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُم، كَمَا في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (سَألْتُ رَبِّي ثَلاَثًا, فَأعْطَانِي اثْنَتَيْنِ, ومَنَعَنِي الثَّالِثَة, سَألْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بسُنَّةٍ عَامَّةٍ فَأعْطَانِيهَا, وسَألْتُهُ ألاَّ يُسَلِّطَ عَلَيْهم عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِم فَيَجْتَاحُهُم فَأعْطَانِيهَا, وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَل بَأسهُم بَيْنَهُم فَمَنَعْنِيهَا) رَوَاهُ مُسْلِمُ. والبَأسُ مُشْتَقٌّ مِنَ البُؤْسِ, قَالَ اللهُ تَعَالَى (قَلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ من تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (الأنْعَامُ: 65), وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (أنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قَالَ: أعُوذُ بوَجْهِكَ، (أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ) قَالَ: أعُوذُ بوَجْهِكَ)، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعضٍ) قَالَ: هَاتَانِ أهْوَن) رَوَاهُ البُخَارِيُّ, فَدَلَّ عَلَى أنَّهُ لاَبُدَّ أنْ يُلْبِسَهُم شِيَعًا, ويُذِيقَ بَعْضَهُم بَأس بَعْضٍ, مَعَ بَرَاءَةِ الرَّسُولِ في هذه الحَالِ, وهُمْ فِيهَا في جَاهِلِيَّةٍ. وهَكَذَا مَسَائِل النِّزَاع الَّتِي تُنَازَع فِيهَا الأُمَّة في الأُصُولِ والفُرُوعِ، إِذَا لَمْ تُرَدّ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ لَمْ يَتَبَيَّن فِيهَا الحَقّ, بَلْ يَصِير فِيهَا المُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ أمْرِهِم, فَإنْ رَحمَهُمُ اللهُ أقَرَّ بَعْضُهُم بَعْضًا, ولَمْ يَبْغِ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ, كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ في خِلاَفَةِ عُمَر وعُثْمَان يَتَنَازَعُونَ في بَعْضِ مَسَائِل الاجْتِهَاد فَيُقِرّ بَعْضُهُم بَعْضًا, ولا يَعْتَدِي عَلَيْهِ, وإنْ لَمْ يُرْحَمُوا وَقَعَ بَيْنَهُم الاخْتِلاَف المَذْمُوم, فَبَغَى بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ, إمَّا بالقَوْلِ مِثْل تَكْفِيره وتَفْسِيقه, وإمَّا بالفِعْلِ مِثْل حَبْسه وضَرْبه وقَتْله. وهذه حَالُ أهْلِ البِدَع والظُّلْم كَالخَوَارِج وأمْثَالهم, يَظْلِمُونَ الأُمَّة ويَعْتَدُونَ عَلَيْهم, إِذَا نَازَعُوهُم في بَعْضِ مَسَائِل الدِّين, وكَذَلِكَ سَائِر أهْل الأهْوَاء, فَإنَّهُم يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً, ويُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُم فِيهَا, كَمَا تَفْعَلُ الرَّافِضَةُ والمُعْتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ وغَيْرُهُم, والَّذِينَ امْتَحَنُوا النَّاس بخَلْقِ القُرْآن كَانُوا مِنْ هَؤُلاَءِ؛ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُم فِيهَا, واسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقّه وعُقُوبَته. فَالنَّاسُ إِذَا خَفِيَ عَلَيْهم بَعْض مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إمَّا عَادِلُونَ, وإمَّا ظَالِمُونَ. فَالعَادِلُ فِيهم الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ آثَارِ الأنْبِيَاءِ ولا يَظْلِم غَيْره, والظَّالِمُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ, وهَؤُلاَءِ ظَالِمُونَ مَعَ عِلْمِهِم بأنَّهُم ظَالِمُونَ, كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا تَفَرّقَ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيّنَةَ) (البَيِّنَةُ: 4), وإلاَّ فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ العَدْلِ أقَرَّ بَعْضُهُم بَعْضًا, كَالمُقَلِّدِينَ لأئِمَّةِ الفِقْه الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أنْفُسِهِم أنَّهُم عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْم الله ورَسُوله في تِلْكَ المَسَائِل, فَجَعَلُوا أئِمَّتهم نُوَّابًا عَنِ الرَّسُولِ, وقَالُوا: هذه غَايَة مَا قَدرْنَا عَلَيْهِ, فَالعَادِل مِنْهُم مَنْ لا يَظْلِم الآخَر, ولا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بقَوْلٍ ولا فِعْلٍ, مِثْل أنْ يَدَّعِي أنَّ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلاَ حُجَّةٍ يُبْدِيهَا, ويَذُمَّ مَنْ يُخَالِفُهُ مَعَ أنَّهُ مَعْذُورٌ ] مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (17/ 177-178). ومِنَ الضَّرُورِيّ أنْ يَغْتَنِمَ الإنْسَان أوْقَات الرَّخَاء للتَّعَلُّمِ قَبْلَ أنْ تَجِيئَهُ الفِتَنُ فَلاَ يَجِد وَقْتًا للتَّعَلُّمِ، ومِنَ الوَاجِبِ أيْضًا الالْتِفَاف حَوْلَ الدُّعَاة والعُلَمَاء الصَّادِقِينَ وخَاصَّةً في أزْمَانِ الفِتَن، إذِ الالْتِفَاف حَوْلَ العُلَمَاء الرَّبَّانِيِّينَ العَامِلِينَ الصَّادِقِينَ مِمَّنْ جُرِّبُوا في الفِتَنِ فَثَبَتُوا ومَا غَيَّرُوا وبَدَّلُوا؛ عَامِلٌ مُعِينٌ عَلَى عَدَمِ الزَّيْغِ والانْحِرَافِ في وَقْتِ الفِتَن، فَلاَبُدَّ مِنَ الالْتِفَافِ حَوْلَهُم بحُضُورِ حِلَقِهِم العِلْميَّةِ؛ وزِيَارَتِهِم؛ والصُّدُورِ عَنْ رَأيِهِم؛ وعَدَمِ اتِّخَاذِ رَأيٍ أو اجْتِهَادٍ أو مَوْقِفٍ مِنْ غَيْرِ الرُّجُوعِ إلَيْهم فَضْلاً عَنْ أنْ يَكُونَ مُخَالِفٌ لرَأيِهِم، وقَدْ حَدَثَت في التَّارِيخِ الإسْلاَمِيِّ فِتَنٌ ثَبَّتَ اللهُ فِيهَا المُسْلِمِينَ بعُلَمَائِهِم ومِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَلِيُّ بْن المَدِينِيّ رَحِمَهُ اللهُ [ أعَزَّ اللهُ الدِّينَ بالصِّدِّيقِ يَوْمَ الرِّدَّة وبأحْمَد يَوْمَ المِحْنَة ].

      (14) الاعْتِصَامُ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ وتَدَبُّرُ القَصَص القُرْآنِيّ والسِّيَر: فَإنَّهُ لا نَجَاةَ للأُمَّةِ مِنَ الفِتَنِ والشَّدَائِد الَّتِي حَلَّت بِهَا إلاَّ بالاعْتِصَامِ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، لأنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِمَا أنْجَاهُ اللهُ، ومَنْ دَعَا إلَيْهِمَا هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ] (آل عِمْرَان: 103)، وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ ...، وقَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللهِ،... ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ تَرَكْتُ فِيكُم أمْرَيْنِ؛ لَنْ تَضِلُّوا مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وسُنَّتِي، ولَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الحَوْضِ ] حَسَّنَهُ الألْبَانِيُّ في مَنْزِلَةِ السُّنَّةِ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ بأرْضِكُم، ولَكِنْ رَضِيَ أنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَاقِرُونَ مِنْ أعْمَالِكُم، فَاحْذَرُوا، إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا إنِ اعْتَصَمْتُم بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أبَدًا، كِتَاب الله وسُنَّة نَبِيِّهِ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التَّرْغِيبِ. فقِرَاءَةُ القَصَص القُرْآنِيّ وتَدَبُّرُ السِّيَر تُعِينُ عَلَى تَثْبِيتِ القُلُوب حَالِ الأزَمَات، قَالَ تَعَالَى [ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ] (هُود: 120).

      (15) لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ: رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَالَ [ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ؛ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا؛ وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ]، والجَمَاعَةُ لَيْسَت بكَثْرَةِ العَدَد، ولَكِنْ مَنْ كَانَ عَلَى مَنْهَجِ أهْل السُّنَّة والجَمَاعَة فَهُوَ الجَمَاعَة ولَوْ كَانَت فَرْدًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [الجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الحَقّ مِنْ ذَلِكَ ولَوْ كُنْتَ وَحْدَكَ ].

      ... يُتْبَع؛

      تعليق


      • #4
        رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شعرية لنوازل عصرية

        تَابِع بَقِيَّة الخَطَأ الثَّانِي:


        (16) حِفْظُ اللِّسَانِ والصَّمْتُ في الفِتْنَةِ أوْلَى: وحِفْظُ اللِّسَانِ وَاجِبٌ عَامٌّ في جَمِيعِ الأوْقَاتِ والأحْوَالِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى [ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ] (الإسْرَاءُ: 53)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ أكْثَرُ خَطَايَا ابْن آدَمَ في لِسَانِهِ ] السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ للألْبَانِيّ، وعَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيّ قَالَ [ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله؛ مَا أخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: هذا ] صَحِيحُ التَّرْغِيبِللألْبَانِيّ، لَكِنَّ حِفْظ اللِّسَان عِنْدَ الفِتَنِ مُؤَكَّدٌ؛ لأنَّهُ في الفِتَنِ تَزْدَادُ شَهْوَةُ الإشَاعَاتِ والمُبَالَغَاتِ والأبَاطِيل، وتَكُون عِنْدَهَا الآذَانُ مُسْتَعِدَّةٌ لاسْتِقْبَالِ كُلّ مَا يُقَالُ؛ وفي هذا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَّ [ مَنْ صَمَتَ نَجَا ] رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التِّرْمِذِيّ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيْضًا [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وقَدْ سَبَقَ إيِرَادُ الكَثِيرِ مِنَ الأدِلَّةِ عَلَى ضَرُورَةِ حِفْظِ اللِّسَانِ وَقْتَ الفِتَنِ، فَإنْ أرَدْتَ أنْ تَتَكَلَّمَ فَانْظُرْ: إنْ ظَهَرَت مَصْلَحَةُ الكَلاَمِ الَّذِي تَتَكَلَّمُ بِهِ فَتَكَلَّم، وإنْ شَكَكْتَ في ظُهُورِ المَصْلَحَة مِنَ الكَلاَمِ فَلاَ تَتَكَلَّم، ومِنْ بَابِ أوْلَى إنْ رَأيْتَ مَفْسَدَةً في الكَلاَمِ فَلاَ تَتَكَلَّم، قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الوَرْدِ رَحِمَهُ اللهُ [ وَجَدْتُ العُزْلَةَ في اللِّسَانِ ]، فَكَمْ مِمَّنْ كَفَّ يَدَهُ وجَسَدَهُ عَنِ المُشَارَكَةِ في الفِتْنَةِ، لَكِنَّهُ خَائِضٌ فِيهَا بِلِسَانِهِ.

        (17) لَيْسَ كُلَّ قَوْلٍ يُقَالُ: ولَوْ مِنَ الحَقِّ، فَلَيْسَ كُلَّ مَا يُعْلَم يُقَال، ولَيْسَ كُلَّ مَا يُقَال صَحِيح، ولَيْسَ كُلَّ صَحِيحٍ مُنَاسِب لِكُلِّ مَسْألَةٍ، ولَيْسَ كُلَّ مَا يُقَال يَجِد مَنْ يَسْمَعهُ، ولَيْسَ كُلَّ مَا يُقَالُ يُقَالُ في كُلِّ الأحْوَالِ، والعِبْرَةُ لَيْسَتْ بمُجَرَّدِ القَوْلِ والسَّرْدِ، إنَّمَا العِبْرَةُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ نَتَائِج.

        (18) إِذَا تَغَيَّرَت الأحْوَالُ واضْطَرَبَت الأُمُورُ، فَلاَ تَحْكُم عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الفِتَن إلاَّ بَعْدَ تَصَوُّرِهِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ] (الإسْرَاءُ: 36)؛ ذَلِكَ لأنَّ القَاعِدَةَ تَقُولُ (الحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ)، ولا يُمْكِنُ الحُكْمَ عَلَى الأُمُورِ بالاعْتِمَادِ عَلَى تَحْلِيلاَتٍ، أو تَقَارِيرَ وبَيَانَاتٍ قَدْ تَكُون مُوَجَّهَة مِنْ ذَوِي مَصَالِح ومُوَجِّهَة لأفْكَارٍ وأقْوَالٍ وأفْعَالٍ مُحَدَّدَةٍ، أو نَشَرَاتٍ أو أخْبَار شَائِعَاتٍ مَكْذُوبَةٍ أو مَغْلُوطَةٍ أو نَاقِصَةٍ، وإنَّمَا بنُقُولِ المُسْلِمِينَ العُدُول الثِّقَات، وقَدْ وَضَعَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِقْيَاسًا للمَرْءِ مِنَّا يَقِيسُ بِهِ تَأثِيرَ الفِتْنَة عَلَى قَلْبِهِ، فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ إنَّ الفِتْنَةَ تُعْرَضُ عَلَى القُلُوبِ، فَأيِّ قَلْبٍ أُشْرِبُهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاء، فَإنْ أنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاء، فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يَعْلَمَ: أصَابَتْهُ الفِتْنَة أمْ لا؟ فَلْيَنْظُرْ: فَإنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا مَا كَانَ يَرَاهُ حَلاَلاً، أو يَرَى حَلاَلاً مَا كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا فَقَدْ أصَابَتْهُ الفِتْنَة ] حِلْيَةُ الأوْلِيَاءِ (1/272 - 273).

        (19) الدُّعَاءُ والتَّضَرُّعُ في الفِتَنِ: الضَّرَاعَةُ مِنْ أسْبَابِ كَشْفِ الغُمَّةِ وتَفْرِيجِ الكُرُوبِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ] (الأنْعَامُ: 42)، وقَالَ تَعَالَى [ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ] (الأعْرَافُ: 94)، وقَالَ اللهُ تَعَالَى [ فلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] (الأنْعَامُ: 43)، والتَّضَرُّعُ هُوَ اللُّجُوءُ إِلَى اللهِ في الشِّدَّةِ والدُّعَاءُ والخُضُوعُ، وقَالَ العَبَّاسُ وعَلِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا [ مَا نَزَلَ بَلاَءٌ إلاَّ بذَنْبِ، ولا رُفِعَ إلاَّ بتَوْبَةٍ ]، فَعِنْدَمَا تَحِلُّ الفِتَنُ ولا يَدْرِي المَرْءُ أحْيَانًا مَ إِذَا يَعْمَلُ، يَغْفَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ أعْظَم سِلاَحٍ كَانَ عُدَّةَ الأنْبِيَاءِ والأقْوِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَبِيِّهِ نُوح [ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ] (القَمَرُ: 10)، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ أعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ ] صَحِيحُ الجَامِعِللألْبَانِيّ، وقَالَ أيْضًا [ تَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ. ومِنْ ذَلِكَ الأدْعِيَة والأذْكَار الخَاصَّة بالوِقَايَةِ مِنَ الفِتَنِ والنَّجَاة مِنْهَا. ولا يَعْرِفُ العَبْدُ طَرِيقَ الهُدَى ولا يَجِدُهُ إِذَا اشْتُبِهَت عَلَيْهِ الأُمُور والْتَبَسَت، حَتَّى يَهْدِيَهُ اللهُ تَعَالَى [ ...، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُم ضَالٌّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أُهْدِكُم،... ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، لِذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَفْتَتِحَ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَائِلاً [ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ ومِيكَائِيلَ وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ. لَكِنْ أيّ دُعَاءٍ؟ هَلْ مُجَرَّد كِتَابَة أو اقْتِبَاس كَلِمَات يَسِيرَة عَلَى صَفَحَاتِ المُنْتَدَيَات؟ هَلْ مُجَرَّد التَّلَفُّظ بِهَا دُونَ اسْتِيعَابهَا وتَدَبُّرهَا والخُشُوع فِيهَا؟ هَلْ مُجَرَّد كَلاَم يَخْرُج دُونَ الْتِمَاس أوْقَات الاسْتِجَابَة وطَرِيقَة وضَوَابِط وآدَاب الدُّعَاء؟ في ذَلِكَ يَقُولُ أبُو هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ تَكُونُ فِتْنَةٌ لا يُنْجِي مِنْهَا إلاَّ دُعَاءٌ كَدُعَاءِ الغَرَق ] رَوَاهُ ابْن أبِي شَيْبَة. والدُّعَاءُ سِلاَحُ المُؤْمِنِ، والسِّلاَحُ البَارِدُ لا يَقْطَع، فَلَيْسَ الدُّعَاءَ مُجَرَّدَ ألْفَاظٍ بَارِدَةٍ، وقَلْبٍ غَافِلٍ، إنَّمَا هي كَلِمَاتٌ خَرَجَتْ مِنْ قَلْبٍ حَاضِرٍ، عِنْدَهُ في رَبِّهِ يَقِينٌ بالإجَابَةِ، آخِذًا بأسْبَابِ الإجَابَة، ولَقَدْ عَاصَرَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ (إمَامٌ مِنَ التَّابِعِينَ) زَمَنَ الحَجَّاج بْن يُوسُف الثَّقَفِيّ (إمَامٌ مِنَ المُفْسِدِينَ في عَصْرِهِ)، وكَانَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ يَقُولُ [ إنَّ الحَجَّاجَ عَذَابُ اللهِ، فَلاَ تَدْفَعُوا عَذَابَ اللهِ بأيْدِيكُم، ولَكِنْ عَلَيْكُمْ بالاسْتِكَانَةِ والتَّضَرُّعِ؛ قَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المُؤْمِنُونَ: 76) ].

        (20) التَّرَاحُمُ والتَّكَاتُفُ والتَّعَاطُفُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِم وتَرَاحُمِهِم وتَعَاطُفِهِم، مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، أمَّا الأنَانِيَةُ والأثَرَةُ، والبَحْثُ عَنِ المَنْفَعَةِ ولَوْ عَلَى حِسَابِ الغَيْرِ، والوَلاَءُ للمَصْلَحَةِ، فَآفَةٌ عَظِيمَةُ، ومِثَالُ ذَلِكَ حَالِ الفِتَنِ التُّجَّارُ، فَيَسْتَغِلُّ البَعْضُ حَاجَةَ النَّاسِ فَيُغَالِي في الثَّمَنِ ليَرْبَحَ أكْثَر، أو يُخْرِج البِضَاعَة المَعِيبَة والفَاسِدَة والكَاسِدَة لِتُبَاع في وَقْتِ الأزَمَاتِ ونُدْرَة السِّلَع؛ أو أيّ شَكْلٍ مِنْ أشْكَالِ الاسْتِغْلاَل، وقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ؛ فَاسْتَجَابُوا لرَسُولِ اللهِ ورَفَعُوا أعْنَاقَهُم وأبْصَارَهُم إلَيْهِ، فَقَالَ: إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إلاَّ مَنِ اتَّقَى وبَرَّ وصَدَقَ ] رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ لغَيْرِهِ في صَحِيحِ التَّرْغِيبِ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ.

        (21) حِفْظُ الأمْنِ: فَالأمْنُ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، ومِنْحَةٌ إلَهِيَّةٌ؛ قَالَ تَعَالَى [ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ 3 الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ 4 ] (قُرَيْشُ: 3–4)، وقَالَ تَعَالَى [ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ] (الأنْعَامُ: 82)، قَالَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ أهَمُّ مَا تَقُومُ عَلَيْهِ حَيَاةُ النَّاسِ: الأمْنُ الَّذِي تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّاس عَلَى دِينِهِم وأنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم وأعْرَاضِهِم، فَالأمْنُ مَقْصُودٌ بِهِ سَلاَمَةُ النَّفْسِ والمَالِ والعِرْضِ والدِّينِ والعَقْلِ، وهي الضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي لاَبُدَّ مِنْهَا لِقِيَامِ مَصَالِح الدِّين والدُّنْيَا، وقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أنَّ أمْنَ الإنْسَان عَلَى نَفْسِهِ ومَالِهِ وعِرْضِهِ شَرْطٌ في التَّكْلِيفِ بالعِبَادَاتِ ] المُوَافَقَاتُ (1/346-347).

        (22) تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ والإخْلاَصِ للهِ: فَإنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ رَبُّ الكَوْنِ ومُدَبِّرُهُ، ولا يَقَع شَيْء إلاَّ بإذْنِهِ، لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ، فَعَلَى المُسْلِمِ أنْ يُجَدِّدَ إيِمَانَهُ برَبِّهِ، وثِقَتَهُ بِهِ، وتَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أغْيَر عَلَى دِينِهِ وعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ أحَدٍ، قَالَ تَعَالَى [ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ] (الحَجُّ: 38)، ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمُ عَنِ المُغِيرَة بْن شُعْبَة أنَّهُ قَالَ [ قَالَ سَعْدُ بْن عبَادَة: لَوْ رَأيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي لضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْر مُصَفَحٍ عَنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: أتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْد؟ فَوَالله لأنَا أغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أجْلِ غَيْرَة الله حَرَّمَ الفَوَاحِش مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا شَخْصَ أغْيَرُ مِنَ اللهِ،... ]، فَيَجِبُ تَحْقِيق الإيِمَان المُطْلَق بالقَضَاءِ والقَدَرِ، وأنَّهُ لا يَقَعُ في الكَوْنِ شَيْءٌ صَغُرَ أو كَبُرَ إلاَّ بقَضَاءِ الله وقَدَرِهِ، قَالَ تَعَالَى [ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ] (التَّغَابُنُ: 11)، وقَالَ عَزَّ وجَلَّ [ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ] (القَمَرُ: 49)، وقَالَ سُبْحَانَهُ [ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ] (التَّوْبَةُ: 51)، وكَذَلِكَ يَجِبُ تَحْقِيق الوَلاَء والبَرَاء، فَلاَ نُوَالِي إلاَّ للهِ ولا نُعَادِي إلاَّ للهِ، قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّة [ الوِلاَيَةُ ضِدّ العَدَاوَة، وأصْلُ الوِلاَيَة: المَحَبَّةُ والقُرْبُ، وأصْلُ العَدَاوَةِ: البُغْضُ والبُعْدُ، ...، ف إِذَا كَانَ وَلِيُّ اللهِ هُوَ المُوَافِقُ المُتَابِعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ ويَبْغَضهُ ويَسْخَطهُ، ويَأمُرُ بِهِ ويَنْهَى عَنْهُ، كَانَ المُعَادِي لِوَلِيِّه مُعَادِيًا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ) (المُمْتَحِنَةُ: 1)، فَمَنْ عَادَى أوْلِيَاءَ اللهِ فَقَدْ عَادَاهُ، ومَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ، فَلِهَذَا قَالَ (ومَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ) ] مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (11/160-161)، أمَّا مَنْ لَمْ يَصْفُ لَهُ اتِّبَاع أوَامِر الله تَعَالَى بالطَّاعَةِ التَّامَّةِ والانْقِيَادِ الكَامِلِ، بَلْ تَرَكَ بَعْض مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أو فَعَلَ بَعْض مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الإيِمَان بالله والقِيَام ببَعْضِ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ، فَإنَّ هذا لا يَكُون وَلِيًّا للهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِمَا مَعَهُ مِنْ إيِمَانٍ وبَعْضِ العَمَل الصَّالِح، كَمَا لا يَكُون عَدُوًّا للهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بسَبَبِ تَقْصِيره في حَقِّ اللهِ تَعَالَى بتَرْكِ الوَاجِبِ وفِعْلِ المُحَرَّمِ. والَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ كُلَّ شَخْصٍ اجْتَمَعَ فِيهِ إيِمَانٌ وكُفْرٌ، أو إيِمَانٌ ونِفَاقٌ، أو طَاعَةٌ ومَعْصِيَةٌ، فَإنَّهُ يَكُونُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ سَبَبُ الوِلاَيَةِ وسَبَبُ العَدَاوَةِ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ ومَبْغُوضًا مِنْ وَجْهٍ، والحُكْمُ العَامُّ يَكُونُ للغَالِبِ بحَسْبِ قُرْبِهِ مِنَ الكُفْرِ أو الإيِمَانِ أو بُعْدِهِ عَنْهُمَا. قَالَ الإمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ [ أهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أنَّ الشَّخْصَ الوَاحِدَ يَكُونُ فِيهِ وِلاَيَةً للهِ وعَدَاوَةً مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، ويَكُونُ مَحْبُوبًا ومَبْغُوضًا لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أيْضًا، بَلْ يَكُونُ فِيهِ إيِمَانٌ ونِفَاقٌ، وإيِمَانٌ وكُفْرٌ، ويَكُونُ إِلَى أحَدِهِمَا أقْرَب مِنْهُ للآخَر فَيَكُون مِنْ أهْلِهِ ] مَدَراِجُ السَّالِكِينَ (1/281-282)، وقَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ [ إِذَا اجْتَمَعَ في الرَّجُلِ الوَاحِدِ خَيْرٌ وشَرٌّ وفُجُورٌ وطَاعَةٌ ومَعْصِيَةٌ وسُنَّةٌ وبِدْعَةٌ، اسْتَحَقَّ مِنَ المُوَالاَةِ والثَّوَابِ بقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الخَيْرِ، واسْتَحَقَّ مِنَ المُعَادَاةِ والعِقَابِ بحَسْبِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ. فَيَجْتَمِعُ في الشَّخْصِ الوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الإكْرَامِ والإهَانَةِ، كَاللِّصّ تُقْطَع يَدهُ لسَرِقَتِهِ، ويُعْطَى مِنْ بَيْتِ المَال مَا يَكْفِيهِ لحَاجَتِهِ. وهذا هُوَ الأصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، وخَالَفَهُم الخَوَارِج والمُعْتَزِلَةُ ومَنْ وَافَقَهُم ] مَجْمُوعُ الفَتَاوَى (28/208). فَالمُوَالاَةُ والمُعَادَاةُ لا دَخْلَ لحُظُوظِ النَّفْس فِيهَا كَالقَرَابَة والنَّسَب والجَاه، وإنَّمَا هذه الأعْرَاض تَابِعَة لأصْلِ الوَلاَء والبَرَاء الَّذِي يَجِب أنْ يَتَمَحَّضَ للهِ. فَالنَّظَرُ إِلَى أعْمَالِ النَّاس ومَدَى قُرْبهم مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ أو بُعْدهم عَنْهُ هُوَ المَنَاطُ الَّذِي تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ المُوَالاَةُ أو المُعَادَاةُ. أمَّا دَرَجَاتُ هذه المُوَالاَة أو المُعَادَاة فَتَتَحَدَّدُ بِمَا يَتَرَجَّح لَدَى الشَّخْص مِنْ خَيْرٍ أو شَرٍّ، فَمَنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الخَيْرِ عِنْدَهُ، فهذا يُوَالَى بدَرَجَةٍ أكْبَر مِنْ دَرَجَةِ مُعَادَاتِهِ والعَكْسُ. ومِمَّا يُعْتَبَرُ كَذَلِكَ في هذه المَسْألَةِ جَانِب المَصْلَحَة والمَفْسَدَة مِنْ جِهَةِ تَقْدِير الدُّعَاة والمُصْلِحِينَ.

        (23) الثِّقَةُ بنَصْرِ الله: وأنَّ المُسْتَقْبَلَ للإسْلاَمِ، والتَّبْشِيرُ بذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى [ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 110 لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 111 ] (يُوسُفُ: 110-111)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُبَلِّغًا عَنْ رَبِّ العِزَّة في الحَدِيثِ القُدسِيّ [ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، وَاللَّهِ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلاَةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَ إِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ.

        (24) مُتَابَعَةُ الأخْبَارِ والعِلْمُ بمُخَطَّطَاتِ الأعْدَاءِ: ومُوَاجَهَةُ ذَلِكَ بالعَمَلِ الجَادِّ المَبْنِيِّ عَلَى الدِّرَاسَاتِ، ويَكُونُ ذَلِكَ بالقِرَاءَةِ والتَّحْلِيلِ للأخْبَارِ والكِتَابَاتِ النَّاضِجَةِ، ولاَشَكَّ أنَّ تَحْلِيلَ الأخْبَار عَنْ طَرِيقِ مُتَخَصِّصِينَ ثِقَات أو عُلَمَاء يُزِيدُ مِنَ القُدْرَةِ عَلَى تَوَقُّعِ المُسْتَقْبَل والاسْتِعْدَادِ لَهُ، ومُوَاجَهَةِ الأخْطَار الوَاقِعَة، وهذا هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الغَزَوَاتِ، فَقَدْ كَانَ يَأخُذُ بآرَاءِ أهْل الخِبْرَة في التَّخَصُّصَاتِ، مِثْلَمَا حَدَثَ في غَزْوَةِ بَدْر والخَنْدَق وغَيْرِهِمَا.

        (25) البُعْدُ عَنْ مَوَاطِن الفِتَن والشُّبُهَات: فَالبُعْدُ عَنِ الفِتَنِ واجْتِنَابُهَا وعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهَا وعَدَمُ الخَوْضِ فِيهَا مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ في زَمَنِ الفِتْنَةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَمَا في حَدِيثِ المِقْدَاد بْن الأسْوَد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ إنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ولَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، فَوَاهًا ] رَوَاهُ أبُو دَاوُد وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ أبِي دَاوُد. قَالَ صَاحِبُ عَوْن المَعْبُود [ قَوْلُهُ (فَوَاهًا): مَعْنَاهُ التَّلَهُّفُ وَالتَّحَسُّرُ، أَيْ: وَاهًا لِمَنْ بَاشَرَ الْفِتْنَة وَسَعَى فِيهَا, وَقِيلَ مَعْنَاهُ الإِعْجَابُ وَالاسْتِطَابَةُ ]. وأيْضًا يَجِبُ تَوَخِّي الحَذَر والبُعْدُ عَنْ مَوَاطِن الشُّبُهَات، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ ...، وإنَّهُ مَنْ يَرْتَعَ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يُخَالِطَ الحِمَى، ورُبَّمَا قَالَ: إنَّهُ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، وإنَّ مَنْ يُخَالِطِ الرِّيبَةَ يُوشِكُ أنْ يَجْسُرَ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ النَّسَائِيِّ، وفي رِوَايَةِ مُسْلِم [ ...، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأ لدِينِهِ وعِرْضِهِ، ... ]، ووَرَدَ عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا أنَّهُ قَالَ [ مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ للتُّهْمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أسَاءَ الظَّنَّ بِهِ ]، والمُسْلِمُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الشُّبُهَاتِ، وبخَاصَّةٍ في زَمَنِ الفِتْنَة، إذْ أنَّ الشُّبْهَةَ في غَيْرِ الفِتْنَة قَدْ يُمْكِن السَّيْطَرَة عَلَيْهَا ودَحْضهَا، أمَّا في زَمَنِ الفِتْنَة فَهِيَ كَعُود يُرْمَى في النَّارِ فَيَزِيدُهَا اشْتِعَالاً.

        (26) الحَذَرُ مِنْ تَسَلُّلِ الأعْدَاء بَيْنَ الصُّفُوفِ: ويَكُون ذَلِكَ بفَهْمِ طَرَائِق المُنَافِقِينَ وأسَالِيبهم والحَذَر مِنْهَا، فَقَدِ ازْدَهَرَت في زَمَنِنَا هذا تِجَارَة المُنَافِقِينَ ورَاجَت بِضَاعَتهم، وكَثُرَ أتْبَاعُهُم، فَنَرَاهُم يَذْرُفُونَ دُمُوع التَّمَاسِيح ويَدَّعُونَ الحَقّ وهُمْ أبْعَد النَّاس عَنْهُ، لَبِسُوا للنَّاسِ جِلْدَ الضَّأنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَاب، فَضَحَهُم اللهُ لَنَا في سُورَةِ التَّوْبَة لنَعْرِفهُم ونَتَجَنَّبهُم، وسُمِّيَت السُّورَة بالفَاضِحَةِ لأنَّهُا تَكْشِفُهُم وتَفْضَحُ كَيْفَ يَتَصَرَّفُونَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى [ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ 44 إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45 وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ 46 ]، فَكَانَ هذا أوَّلُ تَمْيِيزٍ بَيْنَهُم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ، فَنَعْرِفهُم بتَرَدُّدِهِم وتَخَاذُلِهِم وتَلَوُّنِهِم عِنْدَ ذِكْرِ الحَقّ، فَيَسُوقُونَ الحُجَج ببَلاَغَةٍ وفَصَاحَةٍ تُسْحِرُ العُقُول، ويَلْوُونَ الكَلاَم لصَالِحِهِم حَتَّى لا يَكُونُوا مَعَ جَمَاعَةِ المُؤْمِنِينَ، ف إِذَا اضْطَرَّتْهُم الظُّرُوف وكَانُوا مَعَهُم، أفْسَدُوا وأوْقَعُوا وبَذَرُوا بُذُورَ الخِلاَفِ والشِّقَاقِ، قَالَ تَعَالَى [ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ]، ورَغْمَ ذَلِكَ [ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 47 ]، ووَسِيلَتُهُم في جَذْبِ هَؤُلاَء الَّذِينَ يَسْمَعُونَ لَهُم دَائِمًا وأبَدًا هي [ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ]، لَكِنَّ الغَلَبَة دَائِمًا للمُؤْمِنِينَ، ليُظْهِر الله بَعْضًا مِمَّا في قُلُوبِ المُنَافِقِينَ أكْثَر لنَعْرِفهُم ونَتَجَنَّبهُم [ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ 48 وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ 49 إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ 50 قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 51 قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ 52 قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ 53 ]، فَيَا تُرَى مَا سَبَب فِسْقهُم؟ إنَّهُ رَفْض شَرِيعَة الله رَغْمَ ادِّعَائهم الإسْلاَم [ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ ] أي رَفْض حُكْم الله وحُكْم رَسُوله [ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ 54 ] أي يُطَبِّقُونَ الدِّين بهَوَاهُم وعَلَى مُرَادِهِم لا عَلَى مُرَادِ الله [ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ 55 ]، وبكُلِّ فُجْرٍ يَدَّعُونَ الإيِمَان [ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ 56 لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ 57 وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 58]، وفي سِيَاقِ الآيَات أيْضًا [ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 62 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 63 ]، وفي مَوْضِعٍ آخَر قَالَ تَعَالَى [ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ 8 اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 9 لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ 10 ]، ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا اللهُ سَبَبَ كُرْههم للشَّرِيعَةِ ورَفْض تَطْبِيقهَا والالْتِزَام بِهَا، لأنَّهَا سَتَفْضَح مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ بَاطِلٍ، وسَتَتَعَارَض مَعَ مَصَالِحِهِم، لِذَا هُمْ يُحَارِبُونَهَا بكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ [ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ 64 وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ 65 لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ 66 الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 67 وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 68 كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 69 أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 70 ]، ومِنْ أجْلِ عَظِيم خَطَرهم أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ بمُحَارَبَتِهِم وألاَّ يَتَسَاهَلُوا في شَأنِهِم، ووَضَعَهُم والكُفَّار في مَكَانَةٍ وَاحِدَةٍ [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 73 ]، وفي مَوْضِعٍ آخَر [ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12 أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ 13 قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 15 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 16 مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ 17 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ 18]، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ البَرَاء مِنْهُم تَبَعًا لعَقِيدَةٍ لا لِهَوًى ولا قَرَابَة ولا سُلْطَة، فَلاَ تَأخُذُنَا في اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 23 قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 24 لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ 26]، ويَوْمَ يَنْصُرنَا اللهُ عَلَيْهم لا نَنْسَى أنَّهُم كَانُوا مُنَافِقِينَ ونُعْطِي الدَّنِيَّة في دِينِنَا ونَتَسَاهَل مَعَهُم بدَعْوَى التَّسَامُح في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَيُعِيدُونَ كَرَّتَهُم مِنْ جَدِيدٍ ويَخْرُجُونَ لِيُمَزِّقُوا الصُّفُوف، بَلْ يَجِبُ أنْ نَنْبُذَهُم ونَفْضَحَهُم ونُقْصِيهم عَنْ أمَاكِنِهِم، قَالَ تَعَالَى [ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 94 سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 95 يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ 96 ].

        (27) اخْشَوْشِنُوا فَإنَّ النِّعَمَ لا تَدُوم: فَالتَّعَوُّدُ عَلَى حَيَاةِ الخُشُونَة؛ ولَوْ لِفَتَرَاتٍ زَمَنِيَّةٍ مَحْدُودَةٍ، أمْرٌ مُهِمٌّ يُسَاعِدُ في مُوَاجَهَةِ الأزَمَاتِ، فَلاَبُدَّ مِنَ الاقْتِصَادِ في المَعِيشَةِ والبُعْدِ عَنْ حَيَاةِ التَّرَفِ والتَّبْذِيرِ والإسْرَافِ، اسْتِعْدَادًا لِمَا قَدْ تُوَاجِهُهُ الأُمَّةُ مِنْ أزَمَاتٍ وضُغُوطٍ أو حِصَارٍ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى [ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا 27 إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا 27 ] (الإسْرَاءُ: 26، 27)، وقَالَ تَعَالَى [ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] (الأعْرَافُ: 31).

        (28) نَشْرُ الطُّمَأنِينَة والأمْن والبُشْرَى: فَلاَ يَصِحّ في أزْمِنَةِ الأزَمَات أنْ يُنْشَرَ الخَوْفُ والهَلَعُ بَيْنَ النَّاسِ، وأنْ يَكُونَ الغَالِب في الأحَادِيث المُوَجَّهَة إلَيْهم هُوَ بَثّ الفَزَع والرُّعْب واليَأس مِمَا هُوَ قَائِم أو قَادِم، بَلِ الوَاجِب إعَادَة الثِّقَة في نُفُوسِهِم، وتَثْبِيتهم، وبَعْث التَّفَاؤُل في قُلُوبِهِم، ورَبْطهم باللهِ عَزَّ وجَلَّ، فَالعَدُوُّ يَفْرَحُ بِمَا يَبُثُّهُ هُوَ وأعوانه –بِمَا فِيهم الجَهَلَة مِنَّا الَّذِينَ يَخْدِمُونَهُ دُونَ عِلْمٍ- عَنْ ضَخَامَةِ قُوَّته وإمْكَانِيَّاته ومَا يُمْكِن أنْ يَفْعَلَهُ بِنَا، لِمَا في ذَلِكَ مِنْ أثَرٍ عَلَى نُفُوسِ النَّاس مِنْ هَزِيمَةٍ نَفْسِيَّةٍ وضَعْفٍ وخَوْرٍ، والتَّبْشِيرُ هُوَ هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَعَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ قَالَ [ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أحَدًا مِنْ أصْحَابِهِ في بَعْضِ أمْرِهِ قال: (بَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا، ويَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا) ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، وفي رِوَايَةٍ بزِيَادَةٍ [ وتَطَاوَعَا ولا تَخْتَلِفَا ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ الجَامِعِ.

        هذا؛ ومِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَإنَّ الخَطَأ الثَّانِي (الأخْذُ في نَقْلِ الأخْبَار -الصَّحِيحَة والكَاذِبَة- دُونَ تَحَرٍّ وقِيَاسٍ للمَصَالِح والمَفَاسِد) الَّذِي بَدَأ يَنْتَشِر ويَزْدَاد في المُنْتَدَى قَدْ وَضَحَ بُطْلاَنُهُ، وأُقِيمَت عَلَيْهِ وعَلَى فَاعِلِهِ الحُجَّة، ووَجَبَ السَّعْي في تَغْيِيرِهِ وإنْكَارِهِ، مِنَ الإدَارَةِ بدَرَجَاتِهَا، ومِنَ الأعْضَاءِ في أنْفُسِهِم ومَعَ غَيْرِهِم، وكَفَانَا مَا يُحَاكُ ضِدَّ الإسْلاَمِ مِنْ مُؤَامَرَاتٍ وشُبُهَاتٍ وافْتِرَاءَاتٍ، فَلاَ يَنْقُصنَا أنْ يُؤْتَى الإسْلاَم مِنْ قِبَلِنَا وبأيْدِينَا، جَعَلَنَا اللهُ وإيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَدَبَّرُونَهُ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه.

        تعليق


        • #5
          رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شعرية لنوازل عصرية

          العُنْصُرُ الرَّابِعُ: الخَطَأُ الثَّالِثُ: الهُجُومُ والتَّطَاوُلُ بالتَّصْرِيحِ والتَّلْمِيحِ عَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ والعُلَمَاءِ:
          ويَكْفِي في بَيَانِهِ المَوْضُوع التَّالِي ومَا يَلِيهِ مِنْ مَقَاطِعَ:







          هذا؛ ومِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَإنَّ الخَطَأَ الثَّالِثَ (الهُجُومُ والتَّطَاوُلُ بالتَّصْرِيحِ والتَّلْمِيحِ عَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ والعُلَمَاءِ) الَّذِي بَدَأ يَنْتَشِر ويَزْدَاد في المُنْتَدَى قَدْ وَضَحَ بُطْلاَنُهُ، وأُقِيمَت عَلَيْهِ وعَلَى فَاعِلِهِ الحُجَّة، ووَجَبَ السَّعْي في تَغْيِيرِهِ وإنْكَارِهِ، مِنَ الإدَارَةِ بدَرَجَاتِهَا، ومِنَ الأعْضَاءِ في أنْفُسِهِم ومَعَ غَيْرِهِم، وكَفَانَا مَا يُحَاكُ ضِدَّ الإسْلاَمِ مِنْ مُؤَامَرَاتٍ وشُبُهَاتٍ وافْتِرَاءَاتٍ، فَلاَ يَنْقُصنَا أنْ يُؤْتَى الإسْلاَم مِنْ قِبَلِنَا وبأيْدِينَا، جَعَلَنَا اللهُ وإيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَدَبَّرُونَهُ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه.

          تعليق


          • #6
            رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شعرية لنوازل عصرية

            جزاك الله خيراً
            لم اقرأ الا المقدمة ولي عودة للقراءة على تمهل "الموضوع طويل جداً جداً كان يجب ان ينزل تباعاً"
            بارك الله في عملك ورزقك الله واياي الإخلاص في القول والعمل
            اللهم ارحم أبي رحمة واسعة وجميع موتانا وموتى المسلمين

            تعليق


            • #7
              رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شرعية لنوازل عصرية



              جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم وفي مجهودكم
              جعله الله ثقلاً في ميزان حسناتك بإذن الله
              اللهم إن أبي وأمي و عمتي في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِم من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لهما وارحمهما، فإنك أنت الغفور الرحيم.

              تعليق


              • #9
                رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شرعية لنوازل عصرية

                ماشاء الله
                موضوع طيب
                جزاك الله خيرا وجعله فى ميزان حسناتك

                تعليق


                • #10
                  رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شعرية لنوازل عصرية

                  المشاركة الأصلية بواسطة محارب الشيطان مشاهدة المشاركة
                  العُنْصُرُ الثَّالِثُ: الخَطَأُ الأوَّلُ: الأَخْذُ في التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ والشَّتَائِم؛ والإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ:
                  حَمَاسٌ وغَيْرَةٌ وانْفِعَالٌ بالأَحْدَاثِ، فَقَطْ حَمَاسٌ، دُونَ تَحْكِيمِ عَقْلٍ مَضْبُوطٍ بشَرْعٍ، أَدَّى إِلَى انْتِشَارِ وازْدِيَادِ التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ، وكَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ أَيُّ مَجَالٍ للتَّعْبِيرِ عَنِ الحَمَاسِ والغَيْرَةِ إِلاَّ بالسَّبِّ والشَّتْمِ، فَمَتَى كَانَ السَّبُّ مِنْ خُلُقِ المُسْلِمِينَ؟ ومَتَى كَانَ حَلاً للمُشْكِلاَتِ؟ ومَتَى أَتَى بنَتَائِجَ؟ ومَتَى كَانَ هَدْيًا وخُلُقًا وسَمْتًا في أَيِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ لِمَنْ سَبَقُونَا بالعِلْمِ والخَيْرِ والفَضْلِ والإِيِمَانِ وكَلَّلَ اللهُ أَعْمَالَهُم بالنَّصْرِ والبَرَكَةِ لنَقْتَدِي بِهِمْ ونَهْتَدِي بهَدْيِهِمْ فِيهِ؟ لا أَعْلَمُ كَيْفَ سَيُبَرِّرُ مَنْ أَطْلَقَ لِلِسَانِهِ العَنَان في سَبِّ الآخَرِينَ هَذَا السَّبّ شَرْعًا؟ هَلْ مِنْ دِينِنَا في كِتَابٍ وسُنَّةِ نَبِيٍّ وسُنَّةِ خُلَفَاءٍ وعِلْمِ تَابِعِينَ وسَلَفٍ صَالِحٍ مَا يُبِيحُ ذَلِكَ؟ سَأُقَدِّمُ لَهُ الأَدِلَّة مِنَ الدِّينِ -فِيمَا أعْلَمُ- عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا السَّبّ والنَّهْي عَنْهُ مَهْمَا كَانَ السَّبَبُ والدَّافِعُ لَهُ، وإِنْ كَانَ لَدَيْهِ مَا يُخَالِف فَلْيُفْتِنَا بِهِ كَمَا أَفْتَى نَفْسَهُ لنَتَّبِعَهُ فِيمَا عَلِمَ وجَهِلْنَا إِنْ صَحَّ دَلِيلُهُ، أَوْ يَكُفّ لِسَانَهُ ويُمْسِكهُ حَتَّى لا يُسَاء إِلَى الدِّينِ مِنْ خِلاَلِهِ، ونُؤْخَذ بذُنُوبِهِ في كُلِّ أمْرٍ.

                  إِنَّ الإِسْلاَمَ لَمْ يَحُثّ عَلَى التَّنَابُزِ بالأَلْقَابِ، ولا عَلَى سَبِّ العَدُوِّ أَوِ المُخَالِف مَهْمَا بَلَغَ الخِلاَف والعَدَاوَة، بَلْ نَهَى عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَا سَبَّ أَعْدَائَهُ الكُفَّار يَوْمًا، بَلْ كَانَ يَدْعُو لَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لأَصْغَرِ طَالِب عِلْمٍ، ومَا عَرفْنَا عَنْ صَحَابَتِهِ الأَخْيَار أنَّهُمْ في عَهْدِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ قَابَلُوا مَا يُفْعَل فِيهِمْ مَهْمَا بَلَغَت قَسْوَته وشِدَّته بالسَّبِّ والشَّتْمِ، فَالغَيْرَةُ وإِنْ كَانَت مَطْلُوبَة والحَمَاسُ وإِنْ كَانَ مَحْمُودًا؛ فَلاَبُدَّ أَنْ يَنْضَبِطَا بضَوَابِطَ الشَّرْعِ، وإِلاَّ خَرَجَا عَنِ المَعْنَى المُرَاد إِلَى النَّقِيضِ، مِمَّا يُخَالِفُ الكَثِير مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّة، يَأَتِي بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي، واللهُ المُسْتَعَانُ:
                  1) حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى التَّنَابُز بالأَلْقَابِ، قَالَ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ]، يَقُولُ الإِمَامُ ابُن كَثِير في تَفْسِيرِ الآيَةِ [ يَنْهَى تَعَالَى عَنِ السُّخْرِيَةِ بالنَّاسِ؛ وهُوَ احْتِقَارُهُم والاسْتِهْزَاءُ بِهِم، كَمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (الكِبْرُ بَطرُ الحَقِّ وغَمْصُ النَّاسِ) ويُرْوَى (غَمْطُ النَّاسِ)، والمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ احْتِقَارُهُم واسْتِصْغَارُهُم، وهذا حَرَامٌ، فَإنَّهُ قَدْ يَكُون المُحْتَقَر أعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وأحَبُّ إلَيْهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنْهُ المُحْتَقِرِ لَهُ، ولهذا قَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)، نَصَّ عَلَى نَهْي الرِّجَال وعَطَفَ بنَهْي النِّسَاء، وقَوْلُهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) أي لا تَلْمَزُوا النَّاس، والهَمَّاز اللَّمَّاز مِنَ الرِّجَالِ مَذْمُومٌ مَلْعُونٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)، الهَمْزَةُ بالفِعْلِ واللَّمْزُ بالقَوْلِ كَمَا قَالَ عَزَّ وجَلَّ (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) أي يَحْتَقِر النَّاس ويَهْمِزهُم طَاغِيًا عَلَيْهم ويَمْشِي بَيْنَهُم بالنَّمِيمَةِ وهي اللَّمْزُ بالمَقَالِ، ولهذا قَالَ هَهُنَا (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) كَمَا قَالَ (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي لا يَقْتُل بَعْضُكُم بَعْضًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاس ومُجَاهِد وسَعِيد بْن جُبَيْر وقَتَادَة ومُقَاتِل بْن حيَّان (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي لا يَطْعَن بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ، وقَوْلُهُ تَعَالَى (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) أي لا تَدَاعُوا بالألْقَابِ وهي الَّتِي يَسُوءُ الشَّخْص سَمَاعهَا، قَالَ الإمَامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيل؛ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن أبِي هِنْد؛ عَنِ الشّعَبِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبُو جُبَيْرَة بْنِ الضَّحَّاك قَالَ (فِينَا نَزَلَت في بَنِي سَلَمَة (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَدِينَة ولَيْسَ فِينَا رَجُل إلاَّ ولَهُ اسْمَانِ أو ثَلاَثَة، فَكَانَ إِذَا دَعَا أحَدٌ مِنْهُم باسْمٍ مِنْ تِلْكَ الأسْمَاءِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هذا، فَنَزَلَت (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، ورَوَاهُ أبُو دَاوُد عَنْ مُوسَى بْن إسْمَاعِيل عَنْ وَهْب عَنْ دَاوُد بِهِ)، وقَوْلُهُ جَلَّ وعَلاَ (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) أي بِئْسَ الصِّفَة والاسْمُ الفُسُوقُ وهُوَ التَّنَابُزُ بالألْقَابِ، كَمَا كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاعَتُونَ بَعْدَمَا دَخَلْتُم في الإسْلاَمِ وعَقَلْتُمُوهُ، (وَمَن لَّمْ يَتُبْ) أي مِنْ هذا (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ] تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِير (ص516).

                  2) نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ سَبِّ مُعْتَقَدَات المُشْرِكِين حَتَّى لا يَتَّخِذُوا هَذَا الاعْتِدَاءِ بالسَّبِّ ذَرِيعَةً لِلاِعْتِدَاءِ وسَبِّ الله، قَالَ تَعَالَى [ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ]، والقَاعِدَةُ الفِقْهِيَّةُ فِيهَا (تَنْبِيهٌ بالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى، وتَنْبِيهٌ بالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى)، فَأَمَّا التَّنْبِيهُ بالأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سِبَابِ الآخَرِينَ ورُمُوزِهِمْ ومُعْتَقَدَاتِهِمْ بحُجَّةِ الانْتِصَار للدِّينِ وإِظْهَار البَرَاء مِنْهُمْ، ويَكُون التَّنْبِيهُ عَلَى الأَدْنَى بالنَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ في أُمُورٍ أَقَلّ شَأْنًا مِنَ الدِّينِ، أَمَّا التَّنْبِيهُ بالأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ سِبَابِ المُشْرِكِينَ، فَيَكُون مِنْ بَابِ أَوْلَى التَّنْبِيهُ عَلَى الأَعْلَى وهُوَ النَّهْيُ عَنْ سِبَابِ المُسْلِمِينَ، والحَاصِلُ أَنَّهُ لاَ يَجُوز سَبّ الأَشْخَاص ولا الرُّمُوز سَوَاء كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مُشْرِكِينَ كي لا يَتَّخِذُونَهَا ذَرِيعَةً للتَّطَاوُلِ عَلَى الإِسْلاَمِ، وهَذَا نَرَاهُ كَثِيرًا هَذِهِ الأَيَّام مِمَّنْ يَتَصَيَّدُونَ الأَخْطَاء والزَّلاَّت ويُضَخِّمُونَهَا ويَفْتَرُونَ بِهَا أَيَّمَا افْتِرَاء عَلَى الإِسْلاَمِ، ومَعَ ذَلِكَ فَهَذَا النَّهْيُ لا يَمْنَعُ مِنْ نَقْدِهِم وبَيَانِ بَاطِلهمْ، ولَكِنْ دُونَ سِبَابٍ وشَتَائِم.

                  3) يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى [ لاْ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيْعًا عَلِيْمًا ]، قَالَ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ يُخْبِرُ تَعَالَى أنَّهُ لا يُحِبّ الجَهْر بالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ، أي: يَبْغَضُ ذَلِكَ، ويَمْقُتُهُ، ويُعَاقِبُ عَلَيْهِ، ويَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيع الأقْوَال السَّيِّئَة الَّتِي تَسُوءُ وتُحْزِنُ: كَالشَّتْمِ، والقَذْفِ، والسَّبِّ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَإنَّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ المَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي يَبْغَضُهُ اللهُ، ويَدُلُّ مَفْهُومهَا أنَّهُ يُحِبُّ الحَسَن مِنَ القَوْلِ: كَالذِّكْرِ، والكَلاَمِ الطَّيِّبِ اللَّيِّنِ. وقَوْلُهُ (إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ) أي: فَإنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ ويَتَشَكَّى مِنْهُ، ويَجْهَر بالسُّوءِ لِمَنْ جَهَرَ لَهُ بِهِ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ، ولا يُزِيد عَلَى مَظْلَمَتِهِ، ولا يَتَعَدَّى بشَتْمِهِ غَيْر ظَالِمِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَعَفْوه وعَدَم مُقَابَلَته أوْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ] تَيْسِيرُ الكَرِيمِ الرَّحْمَنِ (ص212).

                  4) أمَّا قَاعِدَةُ (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا البَعْضُ عَلَى غَيْرِ المَقْصُودِ مِنْهَا؛ فَهِيَ مَضْبُوطَةٌ في آخِر الآيَة بضَابِطٍ شَرْعِيِّ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيّ رَحِمَهُ اللهُ [ قَوْلُهُ تَعَالَى (وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئةٌ مِثْلُهَا): قَالَ مُجَاهِدُ والسَّدِّيُّ: هُوَ جَوَابُ القَبِيحِ، إِذَا قَالَ لَهُ كَلِمَة أجَابَهُ بمِثْلِهَا، مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْتَدِيَ ] زَادُ المَسِيرِ (5/325والإسَاءَةُ في الآيَةِ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنْ نُسِيءَ إِلَى النَّاسِ (بالمَعْنَى الدَّارِجِ لكَلِمَةِ الإسَاءَة) إِذَا أسَاءُوا إلَيْنَا، ولَكِنْ مَعْنَاهَا أنْ نَقْتَصَّ مِنْهُم بمِقْدَارِ مَا آذُونَا، فَكَمَا أسَاءَتْنَا أذِيَّتُهُم لَنَا فَسَيُسِيئَهُم قَصَاصُنَا مِنْهُم، فَالجَزَاءُ يُسَمَّى سَيِّئَة لأنَّهُ كَانَ بمُقَابَلَةِ إسَاءَتهم، ولَكِنْ لا يَكُون مُشَابِهًا لفِعْلِهِم، فَحَتَّى إِنْ أسَاءُوا أمَرَنَا اللهُ أنْ نَقْتَصّ مِنْهُم بإحْسَانٍ دُونَ أنْ نَعْتَدِي، يَقُولُ الإمَامُ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ الآيَة [ قَالَ الْعُلَمَاءُ: جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ; صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنِ الظَّالِمِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ (وَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشُّورَى: 37)، وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَدّ الانْتِصَار بقَوْلِ (وجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) يَنْتَصِر مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْتَدِي، قَالَ مُقَاتِل وهِشَام بْن حُجَيْر (هذا في المَجْرُوجِ يَنْتَقِم مِنَ الجَارِجِ بالقِصَاصِ دُونَ غَيْره مِنْ سَبٍّ أو شَتْمٍ)، وقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةُ وسُفْيَانُ، قَالَ سُفْيَانُ (وكَانَ ابْنُ شُبْرُمَة يَقُولُ: لَيْسَ بمَكَّة مِثْل هِشَام)، وتَأوَّلَ الشَّافِعِيُّ في هذه الآيَةِ أنَّ للإنْسَانِ أنْ يَأخُذَ مِنْ مَالِ مَنْ خَانَهُ مِثْل مَا خَانَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ؛ واسْتَشْهَدَ في ذَلِكَ بقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لهِنْد زَوْج أبِي سُفْيَان (خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ ووَلَدكِ)، أجَازَ لَهَا أخْذ ذَلِكَ بغَيْرِ إذْنِه، وقَدْ مَضَى الكَلاَم في هذا مُسْتَوْفَى في (البَقَرَةِ)، وقَالَ ابْن أبِي نَجِيح (إنَّهُ مَحْمُول عَلَى المُقَابَلَةِ في الجِرَاحِ، و إِذَا قَالَ: أخْزَاهُ الله أو لَعَنَهُ الله؛ أنْ يَقُول مِثْلَهُ، ولا يُقَابِلُ القَذْفَ بقَذْفٍ ولا الكَذِبَ بكَذِبٍ)، وقَالَ السَّدِّيُّ (إنَّمَا مَدَحَ اللهُ مَنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ بالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فُعِلَ بِهِ؛ يَعْنِي كَمَا كَانَت العَرَب تَفْعَلهُ، وسُمِّيَ الجَزَاء سَيِّئَة لأنَّهُ في مُقَابَلَتِهَا؛ فَالأوَّل سَاءَ هذا في مَالٍ أو بَدَنٍ، وهذا الاقْتِصَاص يَسُوءهُ بمِثْلِ ذَلِكَ أيْضًا) ] تَفْسِيرُ القُرْطُبِيّ (ص487ويَقُولُ الخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ رَحِمَهُ اللهُ [ إِذَا سَبَّ إنْسَانٌ إنْسَانًا؛ جَازَ للمَسْبُوبِ أنْ يَسُبَّ السَّابّ بقَدْرِ مَا سَبَّهُ، لقَوْلِهِ تَعَالَى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا)، ولا يَجُوزُ أنْ يَسُبَّ أبَاهُ ولا أُمَّهُ، ورُوِيَ أنَّ زَيْنَب لَمَّا سَبَّت عَائِشَة قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَمَا في سُنَنِ ابْن مَاجَة وصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ (دُونَكِ فَانْتَصِرِي)، فَأقْبَلَت عَلَيْهَا حَتَّى يَبِسَ رِيقهَا في فِيهَا، فَتَهَلَّلَ وَجْه النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإنَّمَا يَجُوزُ السَّبّ بِمَا لَيْسَ كَذِبًا ولا قَذْفًا، كَقَوْلِهِ: يَا ظَالِم، يَا أحْمَق، لأنَّ أحَدًا لا يَكَاد يَنْفَكّ عَنْ ذَلِكَ، و إِذَا انْتَصَرَ بسَبِّهِ فَقَدِ اسْتَوْفَى ظَلاَمَته، وبَرِئَ الأوَّل مِنْ حَقِّهِ، وبَقِيَ عَلَيْهِ إثْم الابْتِدَاء أو الإثْم لحَقِّ الله تَعَالَى ] مُغْنِي المُحْتَاج (4/157)، وهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُسَبُّونَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُوه لَمْ يَبْدَءُوا بسَبِّنَا، والآيَةُ تُبِيحُ فَقَط الرَّدّ بالمِثْلِ لا البَدْء، وحَتَّى عِنْدَ الرَّدِّ، يَكُون الأكْثَر وَرَعًا وتَقْوَى وقُرْبًا مِنَ الدِّينِ هُوَ الرَّدُّ بالمُبَاحِ لا بالمَذْمُومِ، كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى [ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ 29 وَ إِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ 30 وَ إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ 31 وَ إِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ 32 وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ 33 فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ 34 عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ 35 هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ 36 ] (المُطَفِّفِينَ: 29-36)، فَالكُفَّار ضَحكُوا واسْتَهْزَءُوا وتَغَامَزُوا وسَبُّوا، فَكَانَ الجَزَاء أنْ ضَحِكَ مِنْهُم المُؤْمِنُونَ فَقَط لَمَّا ظَهَرَ الحَقّ، لَمْ يَضْحَكُوا قَبْلَ ظُهُورِ الحَقّ، ولَمْ يَسُبُّوا كَسَبِّهِم أو يَتَغَامَزُوا كَغَمْزِهِم، فَقَط ضَحِكُوا، لأنَّ هذا هُوَ الأمْر الوَحِيد المُبَاح الحَلاَل، فَعَلَهُ الكُفَّار بغَيْرِ حَقّ، وفَعَلَهُ المُؤْمِنُونَ بحَقٍّ، ولَمْ يَفْعَلُوا بَقِيَّة الأُمُور لأنَّهَا لا تَجُوز.

                  5) نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ سَبِّ المُسْلِم عُمُومًا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

                  6) نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ سَبِّ الآبَاء تَحْدِيدًا، رَوَى البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرُو بْنِ العَاص أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ].

                  7) المُسْلِمُ عَفُّ اللِّسَانِ، لقَوْلِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لَيْسَ المُؤْمِن بالطَّعَّانِ، ولا باللَّعَّانِ، ولا بالفَاحِشِ، ولا بالبَذِيء] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ، فَلاَ يَجُوز الخُرُوج عَنْ هَذَا الأصْلِ بمُجَرَّدِ الاسْتِحْسَان الشَّخْصِيّ، إِذْ لاَبُدَّ مِنْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ (في أَصْلِهِ وفي إِسْقَاطِهِ) للاسْتِثْنَاءِ، وإِنْ وُجِدَ يُعْمَل بِهِ بضَوَابِطَهُ، وقَالَ الإمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ الله [ مِنَ الألْفَاظِ المَذْمُومَةِ المُسْتَعْمَلَةِ في العَادَةِ قَوْلهُ لِمَنْ يُخَاصِمهُ: يَا حِمَار، يَا تَيْس، يَا كَلْب، ونَحْو ذَلِكَ، فهذا قَبِيحٌ لوَجْهَيْنِ: أحَدُهُمَا أنَّهُ كَذِب، والآخَر أنَّهُ إيِذَاء ] الأذْكَارُ (ص/365).

                  8) قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنِ المُسْتَبَّيْنِ [ المُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ، يَتَهَاتَرَانِ، ويَتَكَاذَبَانِ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ الأدَبِ المُفْرَدِ وصَحِيحِ الجَامِعِ، وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى [ المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ، فَعَلَى البَادِئ، مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم ] رَوَاهُ مُسْلِمُ.

                  9) أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِلَى تَرْكِ سَبّ اليَهُودِيّ المُسْتَحِقّ للسَّبِّ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بأنَّ اللهَ لا يُحِبّ الفُحْش والتَّفَحُّش، فَمَا بَالُنَا بسَبِّ المُسْلِم؟ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا [ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: وَعَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُم اللهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوِ الْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِم، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِم، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ ]، وفي رِوَايَةٍ لمُسْلِم [ فَفَطِنَتْ بِهِم عَائِشَةُ فَسَبَّتْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ ]، قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَر رَحِمَهُ اللهُ [ والَّذِي يَظْهَر أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أرَادَ أنْ لا يَتَعَوَّد لِسَانهَا بالفُحْشِ أو أنْكَرَ عَلَيْهَا الإفْرَاط في السَّبِّ ] فَتْحُ البَارِي (11/43).

                  10) نَهَى اللهُ ورَسُولُهُ عَنِ الكَذِبِ أشَدّ النَّهْي، فَقَالَ تَعَالَى [ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ عَلَيْكُم بالصِّدْقِ، فَإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، ولا يَزَال الرَّجُل يَصْدُق ويَتَحَرَّى الصِّدْق حَتَّى يُكْتَب عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وإيَّاكُم والكَذِب، فَإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ولا يَزَال الرَّجُل يَكْذِب حَتَّى يُكْتَب عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْن مَسْعُود [ الكَذِبُ لا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ ولا هَزْلٌ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لأحَدٍ فِيهِ رُخْصَة؟ ]، وقَوْلُ البَعْضِ (يَا كَلْب، يَا تَيْس، يَا حِمَار، يَا كَذَا -مِنْ أسْمَاءِ الحَيَوَانَات-) هُوَ كَذِبٌ مُخَالِفٌ للوَاقِعِ،وقَدْ رَوَى ابْنُ أبِي شَيْبَة مِنْ طَرِيقِ الأعْمَش عَنْ إبْرَاهِيم قَالَ [ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ (يَا حِمَار، يَا كَلْب، يَا خِنْزِير) قَالَ اللهُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَة: أتَرَانِي خَلَقْتُ كَلْبًا، أو حِمَارًا، أو خِنْزِيرًا؟ ]، ورَوَى أيْضًا مِنْ طَرِيقِ العَلاَء بْن المُسَيِّب عَنْ أبِيهِ قَالَ [ لا تَقُل لصَاحِبِكَ (يَا حِمَار، يَا كَلْب، يَا خِنْزِير)، فَيَقُولُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَة: أتَرَانِي خُلِقْتُ كَلْبًا، أو حِمَارًا، أو خِنْزِيرًا؟ ]، وقَدْ سُئِلَ الإمَام مَالِك [ أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ: يَا حِمَارُ أَوْ يَا ثَوْرُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ؟ قَالَ: يُنَكِّلُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الإِمَامُ فِي رَأْيِي ]، وقَالَ ابْنُ مُفْلِح في الفُرُوعِ [ وَيُعَزَّرُ فِي: يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يَا ثَوْرُ، يَا رَافِضِيُّ ]، وفي تَكْمِلَةِ المَجْمُوعِ [ ومِنَ الألْفَاظِ المُوجِبَةِ للتَّعْزِيرِ قَوْله لغَيْرِهِ: يَا فَاسِق، يَا كَافِر، يَا فَاجِر، يَا شَقِيّ، يَا كَلْب، يَا حِمَار، يَا تَيْس، يَا رَافِضِيّ، يَا خَبِيث، يَا كَذَّاب ].

                  11) هُنَاكَ فَرْقٌ شَاسِعٌ بَيْنَ الهِجَاءِ والسَّبِّ، فَالهِجَاءُ جَائِزٌ في حَالاَتٍ سَوَاء كَانَ لِمُسْلِمٍ أو لِكَافِرٍ، ولَكِنَّ السَّبّ لَيْسَ لَهُ حَالاَت يُبَاحُ فِيهَا، وعَلَى مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ أنْ يُثْبِتَهُ بالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ، ومِنْ ضَوَابِطِ الهِجَاء المَشْرُوع مَا يَلِي:
                  θ تَحْرِيمُ هِجَاءِ المُسْلِم مِنْ حَيْثُ الأصْلِ.
                  θ جَوَازُ هِجَاءِ الكَافِر، والمُشْرِك، والمُرْتَدّ.
                  θ مُرَاعَاةُ أنْ يَكُونَ هِجَاء الكَافِر رَدًّا عَلَيْهِ، لا ابْتِدَاءً مِنَ المُسْلِمِ، ويَكُون بقَدْرِ الخَطَأ.
                  θ أنْ يَكُونَ النَّاظِم للهِجَاء عَلَى قَدْرٍ مِنَ البَلاَغَةِ والفَصَاحَةِ؛ لاخْتِيَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَلحَسَّان بْن ثَابِت دُونَ غَيْرِهِ، ولِمَا قَدْ يُسَبِّبُهُ نَظْمُ الجَاهِلِ والضَّعِيفِ مِنْ سُخْرِيَةِ الشُّعَرَاء والفُصَحَاء.
                  θ جَوَازُ ابْتِدَاءِ المُبْتَدِع والمُعْلِن بفِسْقِهِ؛ بالهِجَاءِ.
                  θ مُرَاعَاةُ عَدَمِ الشَّطَط في الهِجَاءِ، وعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَى العِرْضِ، وعَدَمِ القَذْفِ.
                  θ مَنْ هَجَا مُسْلِمًا بغَيْرِ حَقٍّ: فَإنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِير.
                  12) أيْنَ ذَهَبَت أَحَادِيثُ حِفْظِ اللِّسَانِ حَتَّى عَنْ مُجَرَّدِ الكَلاَم فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ سِبَابًا مُتَعَمَّدًا؟ فَإنَّ أخْطَرَ مَا في الكَلِمَةِ أنَّهَا تَهْوِي بالإنْسَانِ في النَّارِ إِذَا خَالَفَت شَرْع الله، وفي ذَلِكَ أحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ، لا تَتَعَارَض مَعَ حَدِيثِ (إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) لأنَّ النِّيَّةَ يُشْتَرَط لَهَا عَمَل يُوَافِقهَا، أمَّا إِذَا خَالَفَ العَمَلُ النِّيَّةَ يُضَيِّعُ أحَدُهُمَا الآخَر، قَالَ الشَّيْخُ الغَزَّالِيُّ رَحِمَهُ اللهِ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ في الإحْيَاءِ (4/368) في (انْقِسَامِ الأعْمَالِ إِلَى مَعَاصٍ وطَاعَاتٍ ومُبَاحَاتٍ وتَأثِيرِ النِّيَّةِ في ذَلِكَ) [ القِسْمُ الأوَّلُ: المَعَاصِي، وهي لا تَتَغَيَّرُ عَنْ مَوْضِعِهَا بالنِّيَّةِ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يَفْهَمَ الجَاهِلُ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمِ (إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) فَيَظُنُّ أنَّ المَعْصِيَةَ تَنْقَلِبُ طَاعَةً بالنِّيَّةِ، كَالَّذِي يَغْتَابُ إنْسَانًا مُرَاعَاةً لقَلْبِ غَيْرِهِ، أو يُطْعِمُ فَقِيرًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، أو يَبْنِي مَدْرَسَةً أو مَسْجِدًا أو رِبَاطًا بمَالٍ حَرَامٍ، وقَصْدُهُ الخَيْرُ، فهَذا كُلُّهُ جَهْلٌ، والنِّيَّةُ لا تُؤَثِّرُ في إخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ ظُلْمًا وعُدْوَانًا ومَعْصِيَةً، بَلْ قَصْدُهُ الخَيْرُ بالشَّرِّ -عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ- شَرٌّ آخَرُ، فَإنْ عَرَفَهُ فَهُوَ مُعَانِدٌ للشَّرْعِ، وإنْ جَهِلَهُ فَهُوَ عَاصٍ بجَهْلِهِ؛ إذْ طَلَبُ العِلْمِ فَرِيَضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ]، إِلَى أنْ قَالَ [ فَإذَنْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) يَخْتَصُّ مِنَ الأقْسَامِ الثَّلاَثَةِ بالطَّاعَاتِ والمُبَاحَاتِ دُونَ المَعَاصِي؛ إذِ الطَّاعَةُ تَنْقَلِبُ مَعْصِيَةً بالقَصْدِ، والمُبَاحُ يَنْقَلِبُ مَعْصِيَةً وطَاعَةً بالقَصْدِ، فَأمَّا المَعْصِيَةُ فَلاَ تَنْقَلِبُ طَاعَةً بالقَصْدِ أصْلاً، نَعَم، للنِّيَّةِ دَخْلٌ فِيهَا، وهُوَ أنَّهُ إِذَا انْضَافَ إلَيْهَا قُصُودٌ خَبِيثَةٌ تَضَاعَفَ وِزْرُهَا وعَظُمَ وَبَالُهَا ]، ومِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ في التَّحْذِيرِ مِنْ خُطُورَةِ الكَلِمَة مَا يَلِي:
                  θ رَوَى البُخَارِيُّ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ]، فَهَلْ مَنْ يَتَكَلَّم بالسَّبِّ والشَّتْمِ يَكُون ذَلِكَ مِنْ رِضْوَانِ الله؟ وقَوْلُهُ (لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً) لا يَعْنِي أنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الكَلِمَة أو لَمْ يَنْوِهَا، وإنَّمَا المُرَادُ أنَّهُ لَمْ يَتَثَبَّت فِيهَا ويَتَحَرَّى صِحَّتهَا ومُوَافَقَتهَا للشَّرْعِ قَبْلَ أنْ يَنْطِقَ بِهَا، ولَمَّا كَانَ الانْضِبَاطُ بضَوَابِطِ الشَّرْع بَعِيدًا عَنْ سُلُوكِهِ كُلَّ البُعْدِ؛ لَمْ يَظُنّ أنَّهَا تَبْلُغ مَا بَلَغَت، كَمَا جَاءَ في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى التَّالِيَة.
                  θ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ [ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ؛ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا؛ يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ، وفي رِوَايَةٍ [ يَهْوِي بِهَا في نَارِ جَهَنَّم سَبْعِينَ خَرِيفًا ].
                  θ ورَوَى أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ مَاجَه عَنْ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ [ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ؛ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ؛ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ فَيَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) ]، قَالَ الحَافِظ ابْن حَجَر رَحْمَةُ الله عَلَيْهِ في الفَتْحِ (11/311) [ قَوْلُهُ: (لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً) أي: لا يَتَأمَّلُهَا بخَاطِرِهِ ولا يَتَفَكَّرُ في عَاقِبَتِهَا ولا يَظُنُّ أنَّهَا تُؤَثِّر شَيْئًا، وهُوَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، وقَدْ وَقَعَ في حَدِيثِ بِلاَل بْنِ الحَارِثِ المُزَنِيّ الَّذِي أخْرَجَهُ مَالِك وأصْحَاب السُّنَن وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابْن حِبَّان والحَاكِمُ بلَفْظِ (إنَّ أحَدَكُم ليَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ مَا يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَت؛ يَكْتُبُ الله لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَة)، وقَالَ في السَّخَطِ مِثْل ذَلِكَ ]، لذَلِكَ وَصَفَ اللهُ مَنْ يَتَنَاقَلُونَ الأخْبَار بغَيْرِ تَثَبُّتٍ وفَهْمٍ بأنَّهُم يَتَلَقَّوْنَهَا ويَتَنَاقَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُم باللِّسَانِ فَقَط، رَغْمَ أنَّ التَّلَقِّي يَكُون بالأُذُنِ، ولَكِنَّهَا إشَارَة إِلَى أنَّهُم لا يُعْمِلُونَ فِيهَا عُقُولهم ولا يَتَدَبَّرُونَهَا بقُلُوبِهِم، بَلْ يَتَلَقَّوْنَهَا باللِّسَانِ ليَنْقِلُونَهَا إِلَى لِسَانٍ آخَرٍ وهَكَذَا دُونَ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى [ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ].
                  θ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر الجُهَنِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله؛ مَا النَّجَاة؟ قَالَ: أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولِيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التِّرْمِذِيّ، وفي رِوَايَةٍ [ أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانُكَ ].
                  θ عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في سَفَرٍ، فَأصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ ونَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله؛ أخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّة ويُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله ولا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وتُقِيمُ الصَّلاَة، وتُؤْتِي الزَّكَاة، وتَصُومُ رَمَضَان، وتَحُجُّ البَيْت، ثُمَّ قَالَ: ألاَ أدُلُّكَ عَلَى أبْوَابِ الخَيْر: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وصَلاَةُ الرَّجُل مِنْ جَوْفِ اللَّيْل، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ – حتى بَلَغَ – يَعْمَلُونَ)، ثُمَّ قَالَ: ألاَ أُخْبِرُكُم برَأْسِ الأمْرِ كُلّه وعَمُودِهِ وذُرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: رَأْسُ الأمْرِ الإسْلاَمُ، وعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وذُرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: ألاَ أُخْبِرُكَ بمَلاَكِ ذَلِكَ كُلّه، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَأخَذَ بلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هذا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله؛ وإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ، وهَلْ يَكُّبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم أو عَلَى مَنَاخِرِهِم إلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِم ] صَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ في صَحِيحِ التِّرْمِذِيّ، وفي رِوَايَةٍ بزِيَادَةٍ [ إنَّكَ لَنْ تَزَال سَالِمًا مَا سَكَتَّ، ف إِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أو عَلَيْكَ ].
                  θ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
                  θ مِنْ أقْوَالِ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ يَا لِسَان؛ قُلْ خَيْرًا؛ تَغْنَم، واسْكُت عَنْ شَرٍّ؛ تَسْلَم، مِنْ قَبْلِ أنْ تَنْدَم، تَنْدَم لاَتَ حِينَ مَنْدَم ] أي وَقْت لا يَنْفَع النَّدَم، وقَالَ أيْضًا [ إيَّاكُم والفِتَن، فَإنَّ وَقْعَ اللِّسَان فِيهَا مِثْل وَقْع السَّيْف ].
                  وقَدْ يَسْألُ سَائِلٌ ويَقُولُ: كَيْفَ إذَنْ نَأخُذ حُقُوقنَا مِمَّنْ ظَلَمَنَا ونُعَبِّر عَمَّا بدَاخِلِنَا مِنْ غَيْرَةٍ وحَمَاسٍ وانْفِعَالٍ؟ والإجَابَةُ: شَرَعَ اللهُ لَنَا طُرُقًا كَثِيرَةً لرَدِّ الحَقّ، ومِنْهَا القِصَاصَ، وفِيهِ مَا يَلِي:
                  1) أنْ يَكُونَ أمْر القِصَاص بيَدِ وَلِيّ الأمْر لا بيَدِ كُلّ شَخْصٍ عَلَى حِدَة.
                  2) أنْ نَقْتَصَّ وِفْقَ الضَّوَابِط، قَالَ تَعَالَى [ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ]، وقَالَ تَعَالَى [ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ] والَّتِي لَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا الشَّتْم والقَذْف والكَذِب، ولَكِنْ عِنْدَنَا حُدُود لمُعَاقَبَةِ القَاذِف يُقْتَصّ بِهَا مِنْهُ ولَيْسَ برَدِّ القَذْف عَلَيْهِ.
                  3) أنْ يَتِمَّ القِصَاص بَعْدَ إقَامَة الدَّلِيل اليَقِينِيّ القَاطِع لا المُتَوَهَّم، لأنَّ الشَّكَّ يُدْرَأ باليَقِينِ، والحُدُودَ لا تُقَامُ إلاَّ باليَقِينِ، وألاَّ يَكُون مُزَوَّرًا، لأنَّهُ ظُلْمٌ وتَغْيِيبٌ للحَقِيقَةِ، وألاَّ يُفْهَم مِنْهُ غَيْر حَقِيقَتِهِ لكَوْنِهِ حَمَّال أوْجُه، لأنَّ الدَّلِيلَ إِذَا كَثُرَ فِيهِ الاحْتِمَال ضَعُفَ بِهِ الاسْتِدْلاَل.
                  4) العَفْوُ أقْرَبُ للتَّقْوَى، وتُرَاجَع في ذَلِكَ الفَتْوَى التَّالِيَة (كيف يجمع المسلم بين العفو والمسامحة في حقه مع بقاء مكانته وهيبته في الناس).
                  وإنْ كَانَ تَطْبِيقُ الحُدُودِ مُعَطَّلاً في بَلَدٍ لا تُطَبِّق الشَّريِعَة الإسْلاَمِيَّة، فَهُنَاكَ سُبُلٌ كَثِيرَةٌ مُبَاحَةٌ، مِثْل المُقَاضَاة، ومِثْل الرُّدُود القَوِيَّة (عَلَى اخْتِلاَفِ أشْكَالِهَا ووَسَائِلِهَا) الخَالِيَة مِنَ السِّبَابِ؛ لقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ ]، ومِثْل المُقَاطَعَة، ومِثْل الدُّعَاء وهُوَ أقْوَى الأسْلِحَة، وبالتَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ نَجِدُ غَيْرهَا الكَثِير مِنَ السُّبُلِ الَّتِي تُمَكِّنُنَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَمَّا بدَاخِلِنَا ومُحَاوَلَةِ رَدّ الحُقُوق، وأيْضًا لَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا القَذْف والشَّتْم.

                  ولا يُفْهَم مِنَ الكَلاَم أنَّ المَطْلُوبَ هُوَ الصَّمْتُ والسَّلْبِيَّة، ولَكِنَّ المَطْلُوب الرَّدّ وِفْقَ الضَّوَابِط، ولَيْسَ كُلّ مَنْ يُرِيد أنْ يَفْعَل شَيْئًا دُونَ أنْ يَنْضَبِطَ بضَوَابِطِ الإسْلاَم يَضَع المَسْألَة في قَالَبِ (إمَّا أنْ يَفْعَلَ مَا يُرِيد أو يَتَّهِمَ مَنْ يَنْتَقِدهُ)، كَمَنْ يَتَفَلَّت ويَتَّهِم المُلْتَزِمِينَ بالتَّشَدُّدِ، فَنَحْنُ أصْحَابُ دِينٍ يَضَعُ الفَرْدَ بَيْنَ الإفْرَاطِ والتَّفْرِيطِ، فَلاَ نَصْمُتُ ونُضَيِّعُ الحُقُوقَ فَنَقَعُ في التَّفْرِيطِ، ولا نَتَكَلَّمُ ونُطْلِقُ اللِّسَانَ لنَقُول مَا نُرِيدُ بدُونِ ضَوَابِط فَنَقَعُ في الإفْرَاطِ، ونَحْنُ أشْبَهُ فِعْلاً بفَتْرَةِ الإسْلاَم في مَكَّة، الفَتْرَة الَّتِي لَمْ يَكُنِ الإسْلاَم فِيهَا هُوَ السَّائِد، الفَتْرَة الَّتِي كَانَ الإسْلاَمُ فِيهَا في الصُّدُورِ فَقَط وقَلِيلٌ مِنْهُ مَا يَظْهَر، الفَتْرَةُ الَّتِي كَانَت للإعْدَادِ والتَّمْكِينِ، لا أقُولُ أنْ نَصْمِتَ مُبَرِّرِينَ ذَلِكَ بالصَّبْرِ، فَفَتْرَة مَكَّة لَمْ تَكُنْ فَتْرَة صَمْت، بَلْ نَعْمَل كَمَا عَمِلُوا، ولْيَسَعَنَا مَا وَسِعَهُم، والسُّؤَالُ: هَلْ كَانَ العَمَلُ في فَتْرَةِ مَكَّة أو مَا بَعْدَهَا في أيِّ وَقْتٍ يَتَّسِم بالسِّبَابِ واللِّعَانِ وفُحْشِ القَوْل؟ هَلْ كَانَت هذه وَسَائِلهُم؟! لم إِذَا نُفَسِّرُ الأُمُور بهَوَانَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتهَا والمُرَاد مِنْهَا؟! هَلْ نَحْنُ أكْثَر مِنْهُم غَيْرَة وأحْرَص مِنْهُم عَلَى رَدِّ المَظَالِم وإقَامَة الدِّين أمْ أتَيْنَا بِمَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ الأوَائِل؟!

                  هذا؛ ومِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَإنَّ الخَطَأ الأوَّل (الأخْذُ في التَّلَفُّظِ بالسِّبَابِ والشَّتَائِم؛ والإكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ) الَّذِي بَدَأ يَنْتَشِر ويَزْدَاد في المُنْتَدَى قَدْ وَضَحَ بُطْلاَنُهُ، وأُقِيمَت عَلَيْهِ وعَلَى فَاعِلِهِ الحُجَّة، ووَجَبَ السَّعْي في تَغْيِيرِهِ وإنْكَارِهِ، مِنَ الإدَارَةِ بدَرَجَاتِهَا، ومِنَ الأعْضَاءِ في أنْفُسِهِم ومَعَ غَيْرِهِم، وكَفَانَا مَا يُحَاكُ ضِدَّ الإسْلاَمِ مِنْ مُؤَامَرَاتٍ وشُبُهَاتٍ وافْتِرَاءَاتٍ، فَلاَ يَنْقُصنَا أنْ يُؤْتَى الإسْلاَم مِنْ قِبَلِنَا وبأيْدِينَا، جَعَلَنَا اللهُ وإيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَدَبَّرُونَهُ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَه.

                  جزاكم الله خيرااا
                  صلى الله على محمد ... صلى الله عليه وسلم

                  تعليق


                  • #11
                    رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شرعية لنوازل عصرية

                    موضوع قيم جداااااااا جزاك الله خيراً

                    تعليق


                    • #12
                      رد: أخطاء المنتدى الثلاثة - رؤية شرعية لنوازل عصرية

                      جزاكم الله خيرًا وبارك في قلمكم ...

                      تعليق

                      يعمل...
                      X