بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الإخْوَةُ والأخَوَاتُ الكِرَامُ
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
الإخْوَةُ والأخَوَاتُ الكِرَامُ
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
كَثُرَ الكَلاَمُ في مَسْألَةِ بَدْءِ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ أو الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَ مُؤَيِّدٍ ومُعَارِضٍ، وبَيْنَ مُتَأَوِّلٍ للأدِلَّةِ ومُتَكَلِّمٍ بجَهْلٍ ومُقَلِّدٍ دُونَ فَهْمٍ، والنَّاسُ في حِيرَةٍ، لدَرَجَةِ أنَّ بَعْضَ المُغْرِضِينَ أخَذَوا هذا الوَضْعَ عَلَى أنَّهُ تَعَارُضٌ في الأدِلَّةِ وقُصُورٌ في الإسْلاَمِ، لِذَا كَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ الوُقُوفُ مَعَ المَسْألَةِ وبَيَانُ صِحَّةِ القَوْلِ فِيهَا، لأنَّنَا أُمَّةٌ تَعْمَلُ بقَاعِدَةِ [ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ] (يُوسُف: 108).
وقَبْلَ البَدْءِ في اسْتِعْرَاضِ الأدِلَّةِ؛ أُلَخِّصُ المَسْألَةَ في نِقَاطٍ:
1- الأمْرُ لَيْسَ بِهِ خِلاَفٌ حَقِيقِيٌّ، وإنَّمَا خِلاَفٌ ظَاهِرِيٌّ مِمَّنْ يَرْفُضُونَ أو يَجْهَلُونَ أدِلَّةَ وأقْوَالَ العُلَمَاءِ في المَسْألَةِ، أو مِنْ بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ المَنْطِقَ وعِلْمَ الكَلاَمِ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ والإجْمَاعِ.
2- الأمْرُ المَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ بَدْءُ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وفي نَفْسِ الوَقْتِ هُنَاكَ إلْزَامٌ ووُجُوبٌ برَدِّ السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ إذا سَلَّمُوا، وهذا فَرْقٌ لاَبُدَّ مِنَ الانْتِبَاهِ إلَيْهِ عِنْدَ عَرْضِ المَسْألَةِ.
3- النَّهْيُ عَنِ البَدْءِ بالسَّلاَمِ بصِيغَتِهِ الإسْلاَمِيَّةِ، إذْ أنَّ هُنَاكَ آيَةً تَأمُرُ بنَفْسِ المَعْنَى، لِذَا رَخَّصَ بَعْضُ العُلَمَاءِ في بَدْئِهِمْ بصِيَغِ تَحِيَّةٍ أُخْرَى غَيْر السَّلاَمِ (واشْتَرَطُوا لِذَلِكَ شَرْطًا: أنْ تُرِيدَ بذَلِكَ دَعْوَتُهُ للإسْلاَمِ وتَدْعُوهُ فِعْلاً وتُكَلِّمُهُ في صَحِيحِ العَقِيدَةِ، ومَنَعُوا مِنَ البَدْءِ إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذا الشَّرْطُ)، في حِينِ مَنَعَ البَعْضُ الآخَرُ مِنَ العُلَمَاءِ مِنْ بَدْئِهِمْ نَهَائِيًّا اعْتِمَادًا عَلَى أنَّ المَنْعَ كَانَ عَنِ البَدْءِ وعَنِ السَّلاَمِ مَعًا.
4- هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ مُوَالاَةِ الكُفَّارِ وبَيْنَ مُعَامَلَتِهِمْ بالحُسْنَى والبِرِّ، وامْتِثَالُ أمْرِ اللهِ ورَسُولِهِ في عَدَمِ بَدْئِهِمْ بالسَّلاَمِ لا يُخَالِفُ مُعَامَلَتَهُمْ بالحُسْنَى، وقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُطَبِّقُ عَلَيْهِمْ ومَعَهُمْ حُدُودَ اللهِ، ولَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ في عَهْدِهِ أو مِنْ بَعْدِهِ إلى يَوْمِنَا هَذا مِنَ الدُّخُولِ في الإسْلاَمِ والنُّفُورِ مِنْهُ كَمَا يَدَّعِي المُتَأوِّلُونَ.
وعَلَى ذَلِكَ نَبْدَأُ بإذْنِ الله.
سُئِلَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِين: وَرَدَ في الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الإمَامُ مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ ولا النَّصَارَى بالسَّلاَمِ؛ فإذا لَقِيتُمْ أحَدَهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إلى أضْيَقِهِ ]، ألَيْسَ في العَمَلِ بهذا تَنْفِيرٌ عَنِ الدُّخُولِ في الإسْلاَمِ؟
الجَوَابُ:
الحَمْدُ للهِ؛؛
يَجِبُ أنْ نَعْلَمَ أنَّ أسَدَّ الدُّعَاةِ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأنَّ أحْسَنَ المُرْشِدِينَ إلى اللهِ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإذا عَلِمْنَا ذَلِكَ فَإنَّ أيَّ فَهْمٍ نَفْهَمُهُ مِنْ كَلامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وكَانَ مُجَانِبًا للحِكْمَةِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أنْ نَتَّهِمَ هذا الفَهْمَ، وأنْ نَعْلَمَ أنَّ فَهْمَنَا لكَلاَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ خَطَأ، لكنْ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أنْ نَقِيسَ أحَادِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِمَا نُدْرِكُهُ مِنْ عُقُولِنَا وأفْهَامِنَا، لأنَّ عُقُولَنَا وأفْهَامَنَا قَاصِرَةٌ، لَكِنْ هُنَاكَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ في الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إلَيْهَا في المَسَائِلِ الخَاصَّةِ الفَرْدِيَّةِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، فإذا لَقِيتُمْ أحَدَهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إلى أضْيَقِهِ ]، والمَعْنَى: لا تَتَوَسَّعُوا لَهُمْ إذا قَابَلُوكُمْ حَتَّى يَكُونَ لَهُمُ السِّعَةُ ويَكُونَ الضِّيقُ عَلَيْكُمْ، بَلْ اسْتَمِرُّوا في اتِّجَاهِكُمْ وسَيْرِكُمْ، واجْعَلُوا الضِّيقَ إنْ كَانَ هُنَاكَ ضِيقٌ عَلَى هَؤُلاَءِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ إذا رَأى الكَافِرَ (كَاليَهُودِ الَّذِينَ في المَدِينَةِ) ذَهَبَ يَزْحَمُهُ إلى الجِدَارِ حَتَّى يَرُصَّهُ عَلَى الجِدَارِ، ولَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بَعْدَ فُتُوحِ الأمْصَارِ، فَالمَعْنَى أنَّكُمْ كَمَا لا تَبْدَؤُونَهُمْ بالسَّلاَمِ لا تُفْسِحُوا لَهُمْ، فَإذَا لَقُوكُمْ فَلاَ تَتَفَرَّقُوا حَتَّى يَعْبُرُوا، بَلْ اسْتَمِرُّوا عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ واجْعَلُوا الضِّيقَ عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ في الطَّرِيقِ ضِيقٌ، ولَيْسَ في الحَدِيثِ تَنْفِيرٌ عَنِ الإسْلاَمِ، بَلْ فِيهِ إظْهَارٌ لعِزَّةِ المُسْلِمِ، وأنَّهُ لا يُذَلُّ لأحَدٍ إلاَّ لرَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ. انْتَهَى
وسُئِلَ أيْضًا: أنَا طَالِبٌ بالكُلِّيَّةِ؛ وهُنَاكَ البَعْضُ مِمَّنْ يَدْرسُونَ مَعَنَا مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، هَلْ يَجُوزُ البَدْءُ بالسَّلاَمِ عَلَيْهِِمْ؟ نَرْجُو بهذا إفَادَةً مَأجُورِينَ.
الجَوَابُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وأصْحَابِهِ أجْمَعِينَ، البَدْءُ بالسَّلاَمِ عَلَى غَيْرِ المُسْلِمِينَ مُحَرَّمٌ ولا يَجُوزُ، لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ ]، ولَكِنَّهُمْ إذا سَلَّمُوا وَجَبَ عَلَيْنَا أنْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ لعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى [ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ]، وكَانَ اليَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَيَقُولُونَ (السَّامُّ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ)، والسَّامُّ بمَعْنَى المَوْتُ، يَدْعُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالمَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ [ إنَّ اليَهُودَ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أحَدُهُمْ فَإنَّمَا يَقُولُ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ، فَقُولُوا: وعَلَيْكُمْ ]، فإذا سَلَّمَ غَيْرُ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ فَقَالَ (السَّامُّ عَلَيْكُمْ) فَإنَّنَا نَقُولُ (وعَلَيْكُمْ)، وفي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (قُولُوا وعَلَيْكُمْ) دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُمْ إذا كَانُوا قَدْ قَالُوا (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) فَإنَّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، فَمَا قَالُوا نَقُولُهُ لَهُمْ، ولهذا قَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إنَّ اليَهُودِيَّ أو النَّصْرَانِيَّ أو غَيْرَ المُسْلِمِينَ إذا قَالُوا بلَفْظٍ صَرِيحٍ (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) جَازَ أنْ نَقُولَ (عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ)، ولا يَجُوزُ كَذَلِكَ أنْ يُبْدَؤُوا بالتَّحِيَّةِ (كَأهْلاً وسَهْلاً) ومَا أشْبَهَهَا، لأنَّ في ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُمْ وتَعْظِيمًا لَهُمْ، ولَكِنْ إذا قَالُوا لَنَا مِثْلَ هذا فَإنَّنَا نَقُولُ لَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ، لأنَّ الإسْلاَمَ جَاءَ بالعَدْلِ وإعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍ حَقَّهُ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ المُسْلِمِينَ أعْلَى مَكَانًا ومَرْتَبَةً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يَذِلُّوا أنْفُسَهُمْ لغَيْرِ المُسْلِمِينَ فَيَبْدَؤُوهُمْ بالسَّلاَمِ.
إذَنْ فَنَقُولُ في خُلاَصَةِ الجَوَابِ: لا يَجُوزُ أنْ يُبْدَأَ غَيْرُ المُسْلِمِينَ بالسَّلاَمِ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، ولأنَّ في هَذا إذْلاَلٌ للمُسْلِمِ حَيْثُ يَبْدَأُ بتَعْظِيمِ غَيْرِ المُسْلِمِ، والمُسْلِمُ أعْلَى مَرْتَبَةً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يَذِلَّ نَفْسَهُ في هذا، أمَّا إذا سَلَّمُوا عَلَيْنَا فَإنَّنَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ بمِثْلِ مَا سَلَّمُوا، وكَذَلِكَ أيْضًا لا يَجُوزُ أنْ نَبْدَأَهُمْ بالتَّحِيَّةِ مِثْلَ (أهْلاً وسَهْلاً ومَرْحَبًا) ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ لِمَا في ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ، فَهُوَ كَابْتِدَاءِ السَّلاَمِ عَلَيْهِمِ. انْتَهَى
وقَالَ أيْضًا: أمَّا الكَافِرُ فَإنَّهُ لا يَجُوزُ ابْتِدَاءُهُ بالسَّلاَمِ مَهْمَا كَانَ، لا تَبْدَأهُ بالسَّلاَمِ حَتَّى لَوْ كَانَ رَئِيسًا للجِهَةِ الَّتي أنْتَ تَعْمَلُ فِيهَا، فَلاَ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ قَالَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ ]، لَكِنْ قَدْ يُبْتَلَى الإنْسَانُ بكَافِرٍ نَصْرَانِيٍّ أو غَيْرِ نَصْرَانِيٍّ يَكُونُ رَئِيسًا عَلَى الجِهَةِ الَّتي هُوَ فِيهَا، فَمَاذَا يَصْنَعُ إذا دَخَلَ عَلَيْهِ وهُوَ يُرِيدُ مِنْهُ حَاجَةً؟ إنْ دَخَلَ ولَمْ يَتَكَلَّمْ إلاَّ بحَاجَتِهِ عُرِفَ ذَاكَ أنَّهُ يَكِيدُ لَهُ، وإنْ سَلَّمَ وَقَعَ في مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فَنَقُولُ: إذا اضْطُرَّ إلى أنْ يَتَحَدَّثَ مَعَهُ بالتَّحِيَّةِ فَلْيَقُلْ (صَبَاحُ الخَيْرِ يَا فُلاَن، أو مَرْحَبًا) أو مَا أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الكَلِمَاتِ الَّتي لَيْسَتْ دُعَاءً لَهُ بالسَّلاَمَةِ، أو يَقُولُ السَّلاَمُ ويَحْذِفُ البَقِيَّةَ ويَنْوِي بقَوْلِهِ (السَّلاَمُ يَعْنِي: عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ) حَتَّى لا يَقَعَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ. انْتَهَى
وقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ المُحْسِنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الزَّامِلِ في شَرْحِ بُلُوغِ المَرَامِ [ (وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ) لَيْسَ المَعْنَى هُوَ إيِذَاؤُهُمْ، لَيْسَ المَعْنَى اضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ أنْ يُضْطَرُّوا إلى حَافَّاتِ الطَّرِيقِ وأنْ يُضَايَقُوا، هذا لا يَجُوزُ؛ لأنَّ الإيِذَاءَ مُحَرَّمٌ، ولا يَجُوزُ الإيِذَاءُ لكُلِّ إنْسَانٍ إلاَّ إذا بَدَا مِنْهُ مَا يُوجِبُ نَقْضُ عَهْدِهِ، فَإنَّ هذا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ أمْثَالِهِ، لَيْسَ مُجَرَّدُ مُضَايَقَةٍ، أمْرُهُ أعْظَمُ وأتَمُّ، أمَّا مَا دَامَ أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلاَ يَجُوزُ إيِذَاءُهُ، بَلْ مَأمُورٌ بالبِرِّ إلَيْهِمْ، ولهذا قَالَ تَعَالَى (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، إنَّمَا المَعْنَى: أنَّهُ لا يُتْرَكُ لَهُمُ الطَّرِيقُ ووَسَطُ الطَّرِيقِ وأنْ تُفْسَحَ لَهُمُ الطَّرِيقُ وأنْ يَكُونَ لَهُمْ وَسَطُ الطَّرِيقِ، فهذا يُنَافِي مَا يَكُونُ عَلَيْهِ المُسْلِمُ، فإذا سَارَ – أي الكَافِرُ - في طَرِيقٍ فَإنَّهُ لا يُفْسَحُ لَهُ الطَّرِيقُ، بمَعْنَى أنَّهُ يَجْعَلُهُ وَسَطَ الطَّرِيقِ ويَكُونُ المُسْلِمُ في حَافَّاتِهِ مِنْ هُنَا ومِنْ هُنَا، يُعَظِّمُهُ ويَرْفَعُهُ، لا، الإسْلاَمُ يَعْلُو ولا يُعْلَى عَلَيْهِ (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)، وكَذَلِكَ مِنَ السَّبِيلِ: السَّبِيلُ الحِسِّيُّ، كَمَا هُوَ السَّبِيلُ المَعْنَوِيُّ، فَكَمَا أنَّهُ لا سَبِيلَ عَلَيْهِ في الأُمُورِ المَعْنَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَذَلِكَ لا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ في طُرُقَاتِ المُسْلِمِينَ، فَالسُّبُلُ والطُّرُقَاتُ الَّتي يَسِيرُ بِهَا المُسْلِمُ لَهُ، والمَعْنَى أنَّهُ لا يُكْرِمُهُ، بمَعْنَى أنْ يَجْعَلَ لَهُ وَسَطَ الطَّرِيقِ، ويفْضِي إلى غُرُورِهِ ويفْضِي إلى تَكَبُّرِهِ، ويَظُنُّ أنَّ المُسْلِمَ مُعْجَبٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ سَبَبًا في بَقَائِهِ في دِينِهِ، لَكِنْ إذا أحْسَنْتَ إلَيْهِ وأكْرَمْتَهُ بأنْوَاعِ الإكْرَامِ وعَمِلْتَ المَعْرُوفَ إلَيْهِ، ولَمْ تَجْعَلْ لَهُ الإظْهَارَ والعِزَّةَ الَّتي تُفَوَّتُ بِهَا المَصَالِحُ؛ والمَقْصُودُ مِنْهَا أنْ يَرَى أهْلَ الإسْلاَمِ ويَرَى دِينَهُ فَيَكُون سَبَبًا لإسْلاَمِهِ وإيِمَانِهِ، فهذا هُوَ المَطْلُوبُ، لَيْسَ المَعْنَى هُوَ مُضَايَقَتُهُ وإيِذَاؤُهُ، فَإنَّ الإيِذَاءَ مُحَرَّمٌ ولا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ ]. انْتَهَى
وسُئِلَ الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ بَاز: هَلْ يَجُوزُ إلْقَاءُ السَّلاَمِ عَلَى المَسِيحِيِّ؟ أفِيدُونَا أفَادَكُمُ اللهُ.
فَأجَابَ:
المَسِيحِيُّ لا يُبْدَأُ بالسَّلاَمِ، وهَكَذَا بَقِيَّةُ الكَفَرَةِ، لقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ ولا النَّصَارَى بالسَّلاَمِ ]، ولقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ ]، فإذا كَانَ اليَهُودُ والنَّصَارَى لا يُبْدَؤُونَ بالسَّلاَمِ، فَالكُفَّارُ الآخَرُونَ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أوْلَى، فَالوَثَنِيُّ أكْفَرُ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى، فَلاَ يُبْدَأُ اليَهُودِيُّ ولا النَّصْرَانِيُّ ولا البُوذِيُّ ولا الوَثَنِيُّ ولا غَيْرُهُمْ، لَكِنْ إذا بَدَؤُوا يُقَالُ: وَعَلَيْكُمْ. انْتَهَى
وسُئِلَ أيْضًا: في هذه الأيَّامِ ونَتِيجَةً للاحْتِكَاكِ مَعَ الغَرْبِ والشَّرْقِ وغَالِبُهُمْ مِنَ الكُفَّارِ عَلَى اخْتِلاَفِ مِلَلِهِمْ، نَرَاهُمْ يُرَدِّدُونَ تَحِيَّةَ الإسْلاَمِ عَلَيْنَا حِينَمَا نُقَابِلُهُمْ في أيِّ مَكَانٍ، فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْنَا تِجَاهُهُمْ؟
فَأجَابَ:
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ ] رَوَاهُ الإمَامُ مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وأهْلُ الكِتَابِ هُمُ اليَهُودُ والنَّصَارَى، وحُكْمُ بَقِيَّةِ الكُفَّارِ حُكْمُ اليَهُودِ والنَّصَارَى في هذا الأمْرِ، لعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الفَرْقِ فِيمَا نَعْلَمُ، فَلاَ يُبْدَأُ الكَافِرُ بالسَّلاَمِ مُطْلَقًا، ومتى بَدَأَ هُوَ بالسَّلاَمِ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بقَوْلِنَا (وَعَلَيْكُمْ) امْتِثَالاً لأمْرِ الرَّسُولِ، ولا مَانِعَ مِنْ أنْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (كَيْفَ حَالُكَ وكَيْفَ أوْلاَدُكَ)، كَمَا أجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ ومِنْهُمْ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، ولاسِيَّمَا إذا اقْتَضَتِ المَصْلَحَةُ الإسْلاَمِيَّةُ ذَلِكَ كَتَرْغِيبِهِ في الإسْلاَمِ وإيِنَاسِهِ بذَلِكَ ليَقْبَلَ الدَّعْوَةَ ويُصْغِيَ لَهَا، لقَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] (سُورَةُ النَّحْلِ: 125)، وقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ [ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ] (سُورَةُ العَنْكَبُوت: 46). انْتَهَى
وسُئِلَ أيْضًا: إذا سَلَّمَ الكَافِرُ عَلَى المُؤْمِنِ، فَهَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ؟
فَأجَابَ:
نَعَمْ، إذا سَلَّمَ الكَافِرُ يُرَدُّ عَلَيْهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ ]، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ ]، دَلَّ عَلَى أنَّهُمْ إذا بَدَؤُوا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ، المَنْفِيُّ عَنْهُمُ البَدَاءَةُ، أمَّا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فَوَاجِبٌ. انْتَهَى
سُئِلَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جِبْرين: هَلْ تَجُوزُ مُصَافَحَةُ الكُفَّارِ وأنْ نَبْدَأَهُمْ بالسَّلاَمِ؟ وإذا سَلَّمُوا عَلَيْنَا فَكَيْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ؟
فَأجَابَ:
الكُفَّارُ والمُشْرِكُونَ مِنْ يَهُودٍ ونَصَارَى ووَثَنِيِّينَ ودَهْرِيِّينَ كُلُّهُمْ نَجَسٌ كَمَا أخْبَرَ اللهُ، فَلاَ يَجُوزُ إكْرَامُهُمْ لقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ ]، فَالمَعْنَي أنَّنَا لا نَبْدَؤُهُمْ بالسَّلاَمِ، ولا يَجُوزُ القِيَامُ لَهُمْ ولا تَصْدِيرُهُمْ في المَجَالِسِ ولا سُؤَالُهُمْ بـ (كَيْفَ أصْبَحْتَ أو كَيْفَ أمْسَيْتَ أو كَيْفَ حَالُكَ) ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ احْتِرَامُهُمْ وتَوْقِيرُهُمْ ورَفْعُ مَكَانَتِهِمْ، ولا تَجُوزُ مُصَافَحَتُهُمْ ولا مُعَانَقَتُهُمْ ولا تَقْبِيلُ أيْدِيهِمْ، وقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ لا تُعِزُّوهُمْ بَعْدَ أنْ أذَلَّهُمُ اللهُ، ولا تَرْفَعُوهُمْ بَعْدَ أنْ وَضَعَهُمُ اللهُ، ولا تُقَرِّبُوهُمْ وقَدْ أبْعَدَهُمُ اللهُ ]، ووَرَدَ في الحَدِيثِ [ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ ]، فإذا كَانَ هذا في أهْلِ الكِتَابِ فَكَيْفَ بالمُشْرِكِينَ والوَثَنِيِّينَ والمَلاَحِدَةِ والشُّيُوعِيِّينَ، فَإنَّهُمْ أحَقُّ بأنْ يَلْقَوْا الهَوَانَ والذُّلَّ والوَضِيعَةَ والبُعْدَ عَنِ الكَرَامَةِ لعِظَمِ كُفْرِهِمْ وبُعْدِهِمْ عَنِ اللهِ. انْتَهَى
وسُئِلَ: إذا قَابَلَنِي شَخْصٌ ولا أعْلَمُ أهُوَ كَافِرٌ أمْ مُسْلِمٌ، فَهَلْ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ وأرُدُّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ لَوْ سَلَّمَ أمْ لا؟
فَأجَابَ:
وَرَدَ في الحَدِيثِ الأمْرُ بالسَّلاَمِ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ ومَنْ لَمْ تَعْرِفْ، ولَكِنْ ذَلِكَ خَاصٌّ بالمُسْلِمِينَ، أو مَنْ ظَاهِرُهُ الإسْلاَمُ، كَمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ السَّلاَمِ عَلَى اليَهُودِ والنَّصَارَى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أضْيَقِهِ ]، وكَذَا قَالَ [ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ ]، ولَكِنْ في ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يَتَمَيَّزُونَ عَنِ المُسْلِمِينَ في اللِّبَاسِ وفي المَظَاهِرِ، ويُمْنَعُونَ مِنَ التَّشَبُّهِ بالمُسْلِمِينَ، وأمَّا في هذه الأزْمِنَةِ، وللأسَفِ فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ المُسْلِمِينَ تَشَبَّهُوا بِهِم فَصِرْنَا لا نُمَيِّزُ بَيْنَ مُسْلِمٍ ونَصْرَانِيٍّ، حَيْثُ أنَّ الكُلَّ - إلاَّ مَا شَاءَ اللهُ - سَوَاءٌ في اللِّبَاسِ وفي حَلْقِ اللِّحَى وفي كَشْفِ الرَّأسِ، أو لِبَاسِ القُبَّعَةِ، فَيَبْقَى الأمْرُ مُشْتَبَهًا، فإذا سَلَّمَ عَلَيْكَ مَنْ هُوَ مُتَشَبِّهٌ بالمُشْرِكِينَ، فَقُلْ (وَعَلَيْكُمْ) ولا تَبْدَأْهُ بالسَّلاَمِ للشَّكِّ في أمْرِهِ، وإذا عَاتَبَكَ فَاعْتَذِرْ إلَيْهِ فَإنَّكَ مَعْذُورٌ، حَيْثُ لا تَدْرِي هَلْ مُسْلِمٌ أو نَصْرَانِيٌّ، لزُهْدِهِ في لِبَاسِ المُسْلِمِينَ وتَفْضِيلِهِ للِبَاسِ النَّصَارى ونَحْوِهِمْ، وأخْبِرْهُ أنَّ مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وانْصَحْهُ حَتَّى يَتَمَيَّزَ عَنِ الكُفَّارِ ويَتَحَلَّى بِمَا يَتَحَلَّى بِهِ المُسْلِمُونَ كَآبَائِهِ وأجْدَادِهِ وعُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، فَإنْ أصَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَقَدْ وَقَعَ في قَلْبِهِ تَعْظِيمٌ للنَّصَارَى فَقَلَّدَهُمْ واحْتَقَرَ المُسْلِمِينَ فَخَالَفَهُمْ، مَعَ أنَّهُ لا يَكْتَسِبُ مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ سِوَى التَّقْلِيدُ الأعْمَى والَّذِي يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ مُعْجَبٌ بأُولَئِكَ الكُفَّارِ، ومُعْتَقِدٌ أنَّ مَا نَالُوهُ مِنَ العِلْمِ الدُّنْيَوِيِّ ومِنَ الابْتِكَارِ ونَحْوِهِ بسَبَبِ دِينِهِمُ البَاطِلِ، وقَدْ أبْعَدَ، فَالمُسْلِمُونَ أكْمَلُ عُقُولاً وأقْدَرُ عَلَى العَمَلِ والاخْتِرَاعِ، فَلاَ يَغْتَرَّ بالمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى [ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ 196 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ 197 ] (سُورَةُ آلِ عِمْرَان: 196-197). انْتَهَى
السُّؤَالُ: نَرْجُو التَّوْضِيحَ بالأمْثِلَةِ مَا المَقْصُودُ بالعِبَارَةِ التَّالِيَةِ (مُوَالاَةُ الكُفَّارِ حَرَامٌ).
الجَوَابُ (مِنْ مَوْقِعِ: الإسْلاَمُ سُؤَالٌ وجَوَابٌ):
الحَمْدُ لله؛؛
نَعَمْ؛ الأمْثِلَةُ تُوَضِّحُ المَقْصُودَ وتُجَلِّيهِ، ولذَلِكَ نَنْتَقِلُ إلَيْهَا مُبَاشَرَةً، ونَنْقِلُ بَعْضًا مِنْ أهَمِّ مَا ذَكَرَهُ أهْلُ العِلْمِ وأئِمَّةُ الدَّعْوَةِ مِنْ صُوَرِ المُوَالاَةِ للكُفَّارِ:
Ω الرِّضَا بكُفْرِهِمْ أو الشَّكِّ فِيهِ أو الامْتِنَاعِ عَنْ تَكْفِيرِهِمْ أو الإقْدَامِ عَلَى مَدْحِ دِينهِمْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ الرَّاضِي [ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 106 ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ 107 أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 108 لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ 109 ]، وقَالَ تَعَالَى مُوجِبًا ومُشْتَرِطًا الكُفْرَ بالطَّاغُوتِ [ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ]، وقَالَ عَنِ اليَهُودِ في تَفْضِيلِهِمُ المُشْرِكِينَ عَلَى المُسْلِمِينَ [ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً 51 أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا 52 ].
Ω التَّحَاكُمُ إلَيْهِمْ: كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى [ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا 60 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا 61 فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا 62 أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا 63 ].
Ω مَوَدَّتُهُمْ ومَحَبَّتُهُمْ: قَالَ تَعَالَى [ لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 22 ].
Ω الرُّكُونُ إلَيْهِمْ والاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ وجَعْلُهُمْ سَنَداً وظَهِيرًا: قَالَ تَعَالَى [ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ].
Ω إعَانَتُهُمْ ومُنَاصَرَتُهُمْ عَلَى المُسْلِمِينَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ]، وقَالَ عَنِ الكُفَّارِ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ]، وقَالَ [ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ].
Ω الانْخِرَاطُ في مُجْتَمَعَاتِهِمْ، والانْضِمَامُ إلى أحْزَابِهِمْ، وتَكْثِيرُ سَوَادِهِمْ، والتَّجَنُّسُ بجِنْسِيَّاتِهِمْ (لغَيْرِ ضَرُورَةٍ)، والخِدْمَةُ في جُيُوشِهِمْ، والعَمَلُ عَلَى تَطْوِيرِ أسْلِحَتِهِمْ.
Ω نَقْلُ قَوَانِينِهِمْ وتَحْكِيمُهَا في بِلادِ المُسْلِمِينَ: قَالَ تَعَالَى [ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ].
Ω التَّوَلِّيُّ العَامُّ لَهُمْ واتِّخَاذُهُمْ أعْوَاناً وأنْصَاراً ورَبْطُ المَصِيِر بِهِمْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ].
Ω مُدَاهَنَتُهُمْ ومُجَامَلَتُهُمْ عَلَى حِسَابِ الدِّينِ: قَالَ تَعَالَى [ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ]، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ مُجَالَسَتُهُمْ والدُّخُولُ عَلَيْهِمْ وَقْتَ اسْتِهْزَائِهِمْ بآيَاتِ اللهِ (زِيَارَتُهُمْ في الكَنَائِسِ وأيَّامِ أعْيَادِهِمْ وطُقُوسِهِمْ)، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ].
Ω الثِّقَةُ بِهِمْ واتِّخَاذُهُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وجَعْلُهُمْ مُسْتَشَارِينَ: قَالَ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ 118 هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ 119 إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 120 ]، وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ [ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْطَلِقْ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، ومِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ يَتَبَيَّنُ لَنَا تَحْرِيمُ تَوْلِيَةِ الكُفَّارِ الأعْمَالَ الَّتي يَتَمَكَّنُونَ بوَاسِطَتِهَا مِنَ الإطِّلاعِ عَلَى أحْوَالِ المُسْلِمِينَ وأسْرَارِهِمْ ويَكِيدُونَ لَهُمْ بإلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ، ويَتَبَيَّنُ أيْضًا أنَّ بَيَانَ الكُفْرِ للكَافِرِ لَيْسَ مَانِعًا ولا صَادًّا لَهُ عَنْ دُخُولِ الدِّينِ.
Ω تَوْلِيَتُهُمُ المَنَاصِبِ الإدَارِيَّةِ الَّتِي يَرْأسُونَ بِهَا المُسْلِمِينَ ويَذِلُّونَهُمْ ويَتَحَكَّمُونَ في رِقَابِ المُوَحِّدِينَ ويَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أدَائِهِمْ عِبَادَاتِهِمْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى [ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ]، ورَوَى الإمَامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ [ قُلْتُ لعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لِي كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: مَالَكَ قَاتَلَكَ اللهُ، أمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)؟ ألاَ اتَّخَذْتَ حَنِيفًا؟ قُلْتُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ لِي كِتَابَتُهُ ولَهُ دِينُهُ، قَالَ: لاَ أُكْرِمُهُمْ إذْ أهَانَهُمُ اللهُ، ولاَ أُعِزُّهُمْ إذْ أذَلَّهُمُ اللهُ، ولاَ أُدْنِيهِمْ إذْ أقْصَاهُمُ اللهُ ]، وكَذَلِكَ جَعْلُهُمْ في بُيُوتِ المُسْلِمِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى العَوْرَاتِ ويُرَبُّونَ أبْنَاءَ المُسْلِمِينَ عَلَى الكُفْرِ، ومِنْ هَذا مَا وَقَعَ في هَذا الزَّمَانِ مِنِ اسْتِقْدَامِ الكُفَّارِ إلى بِلاَدِ المُسْلِمِينَ وجَعْلِهِمْ عُمَّالاً وسَائِقِينَ ومُسْتَخْدَمِينَ، ومُرَبِّينَ في البُيُوتِ وخَلْطِهِمْ مَعَ العَوَائِلِ والأُسَرِ المُسْلِمَةِ، وكَذَلِكَ ضَمُّ الأوْلاَدِ إلى المَدَارِسِ الكُفْرِيَّةِِ والمَعَاهِدِ التَّبْشِيرِيَّةِ والكُلِّيَّاتِ والجَامِعَاتِ الخَبِيثَةِ وجَعْلُهُمْ يَسْكُنُونَ مَعَ عَوَائِلِ الكُفَّارِ.
Ω التَّشَبُّهُ بالكَافِرِينَ في المَلْبَسِ والهَيْئَةِ والكَلاَمِ وغَيْرِهَا: وذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ المُتَشَبَّهِ بِهِ، وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ]، فَيَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ مِنْ عَادَاتِهِمْ وعِبَادَاتِهِمْ وسَمْتِهِمْ وأخْلاَقِهِمْ، كَحَلْقِ اللِّحَى، وإطَالَةِ الشَّوَارِبِ، والرَّطَانَةِ بلُغَتِهِمْ إلاَّ عِنْدَ الحَاجَةِ، وفي هَيْئَةِ اللِّبَاسِ والأكْلِ والشُّرْبِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
Ω الإقَامَةُ في بِلاَدِهِمْ بغَيْرِ حَاجَةٍ ولاَ ضَرُورَةٍ: ولهَذا فَإنَّ المُسْلِمَ المُسْتَضْعَفَ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ إظْهَارَ شَعَائِرِ دِينِهِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الإقَامَةُ بَيْنَ الكُفَّارِ إذا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الهِجْرَةِ، قَالَ تَعَالَى [ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا 97 إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً 98 فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا 99 وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 100 ]، فَلَمْ يَعْذُرِ اللهُ في الإقَامَةِ في بِلاَدِ الكُفَّارِ إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ الهِجْرَةَ، وكَذَلِكَ مَنْ كَانَ في إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ كَالدَّعْوَةِ إلى اللهِ ونَشْرِ الإسْلاَمِ في بِلاَدِهِمْ، ويُشْتَرَطُ للذَّاهِبِ إلى بِلاَدِهِمْ أنْ يَكُونَ مَعَهُ عِلْمٌ يَدْفَعُ بِهِ الشُّبُهَاتِ، وإيِمَانٌ يَدْفَعُ بِهِ الشَّهَوَاتِ، وأنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لدِينِهِ مُعْتَزًّا بإسْلاَمِهِ مُبْتَعِدًا عَنْ مَوَاطِنِ الشَّرِّ، حَذِرًا مِنْ دَسَائِسِ الأعْدَاءِ ومَكَائِدِهِمْ.
Ω مَدْحُهُمْ؛ والذَّبُّ عَنْهُمْ؛ والإشَادَةُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ المَدَنِيَّةِ والحَضَارَةِ؛ والإعْجَابُ بأخْلاَقِهِمْ ومَهَارَاتِهِمْ دُونَ نَظَرٍ إلى عَقَائِدِهِمُ البَاطِلَةِ ودِينِهِمُ الفَاسِدِ: قَالَ تَعَالَى [ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ]، وقَالَ تَعَالَى [ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ 196 مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ 197 ]، وكَذَلِكَ تَعْظِيمُهمْ وإطْلاَقُ ألْقَابِ التَّفْخِيمِ عَلَيْهِمْ والبَدْءُ بتَحِيَّتِهِمْ وتَقْدِيمِهِمْ في المَجَالِسِ وفي المُرُورِ في الطُّرُقَاتِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ لا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ.
Ω تَرْكُ تَارِيخِ المُسْلِمِينَ والتَّأرِيخُ بتَأرْيِخِهِمْ واعْتِمَادُهُ: خُصُوصًا التَّارِيخُ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ طُقُوسِهِمْ وأعْيَادِهِمْ كَالتَّارِيخِ المِيلاَدِيِّ، وهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرَى مَوْلِدِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، والَّذِي ابْتَدَعُوهُ مِنْ أنْفُسِهِمْ ولَيْسَ هُوَ مِنْ دِينِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَاسْتِعْمَالُ هَذا التَّارِيخُ فِيهِ مُشَارَكَةٌ في إحْيَاءِ شِعَارِهِمْ وعِيدِهِمْ، ولتَجَنُّبِ هَذا لَمَّا أرَادَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَضْعَ تَارِيخٍ للمُسْلِمِينَ في عَهْدِ الخَلِيفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ عَدَلُوا عَنْ تَوَارِيخِ الكُفَّارِ وأرَّخُوا بهِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُخَالَفَةِ الكُفَّارِ في هَذا وفي غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ.
Ω مُشَارَكَتُهُمْ في أعْيَادِهِمْ أو مُسَاعَدَتُهُمْ في إقَامَتِهَا أو تَهْنِئَتُهُمْ بمُنَاسَبَتِهَا أو حُضُورُ أمَاكِنِهَا: وقَدْ فُسِّرَ الزُّورُ في قَوْلِهِ تَعَالَى [ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ] بأعْيَادِ الكُفَّارِ.
Ω التَّسَمِّي بأسْمَائِهِمُ المُنْكَرَةِ: وقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الأسْمَاءَ الشِّرْكِيَّةِ كَعَبْدِ العُزَّى وعَبْدِ الكَعْبَةِ، والمُسْلِمُونَ اليَوْمَ يُنَادُون (يُوسُفَ) بـ (جُو) وهُوَ اخْتِصَارُ (جُوزِيف) في الإنْكِلِيزِيَّةِ، ويُسَمُّونَ بَنَاتِهِمُ المُسْلِمَاتِ بأسْمَاءِ القِدِّيسَاتِ والرَّاهِبَاتِ مِثْل (مِيرِي – مَارِيَّا – مِيرْنَا – آنَّا ... الخ).
Ω الاسْتِغْفَارُ لَهُمْ والتَّرَحُّمُ عَلَيْهِمْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى [ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ 113 وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ 114 ].
فهَذِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الأمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ قَاعِدَةَ تَحْرِيمِ مُوَالاَةِ الكُفَّارِ، نَسْألُ اللهَ سَلاَمَةَ العَقِيدَةِ وقُوَّةِ الإيِمَانِ، واللهُ المُسْتَعَانُ. انْتَهَى
اسْتِدْلاَلاَتٌ وَاهِيَةٌ بأدِلَّةٍ عَلَيْهِم لا لَهُم:
الاسْتِدْلاَلُ الأوَّلُ:
يَدَّعِي البَعْضُ حُجَّةً أنَّ عَدَمَ بَدْءِ النَّصَارَى بالسَّلاَمِ سَيُنَفِّرُهُمْ مِنَ الإسْلاَمِ، وهي حُجَّةٌ مَرْدُودَةٌ عَلَى قَائِلِهَا مَهْمَا حَاوَلَ تَفْسِيرَهَا بوَضْعِ الأدِلَّةِ في غَيْرِ مَوْضِعِهَا، كَمَنْ يَسْتَدِلُّ بقَوْلِ الله تَعَالَى [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ]، ويَسْتَنْكِرُ عَدَمَ بَدْءِ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ مُعَلِّلاً (كَيْفَ سَنَأمُرُهُمْ بالمَعْرُوفِ ونَدْعُوهُمْ إلى الإسْلاَمِ ونَحْنُ نُعْرِضُ عَنْ سَلاَمِهِمْ)، ودَلِيلُ بُطْلاَنِ هذا الاسْتِدْلاَلِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَبْدَأ يَهُودِيًّا ولا نَصْرَانِيًّا بسَلاَمٍ قَطّ، ولا أقَرَّ أحَدًا عَلَى فِعْلِهِ بالقَوْلِ أو السُّكُوتِ، بَلْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ في أكْثَرِ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وهُوَ أعْلَمُ الأُمَّةِ بالدِّينِ وبِمَا فِيهِ الخَيْرُ للمُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمْ، كَمَا أنَّ اللهَ أمَرَ بقِتَالِ الكُفَّارِ، وأمَرَ بعَدَمِ أكْلِ ذَبَائِحِهِمْ إذا لَمْ تُذْبَحْ وِفْقَ الشَّرِيعَةِ، وأمَرَ بعَدَمِ الزَّوَاجِ مِنْهُمْ إذا لَمْ تَتَحَقَّقْ شُرُوطُ الإحْصَانِ في نِسَائِهِمْ، وأمَرَ بعَدَمِ مُعَامَلَتِهِمْ إذا تَعَامَلُوا بالرِّبَا والغِشِّ، وكَثِيرٌ مِنَ الأُمُورِ - وهي أحْكَامٌ تَسْرِي عَلَيْهِمْ وعَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ أيْضًا - وكُلُّهَا أحْكَامٌ في ظَاهِرِهَا قَدْ تُنَفِّرُهُمْ مِنَ الدِّينِ على حَسبِ هذا الادِّعَاءِ، وهُوَ أمْرٌ مُخَالِفٌ لصَحِيحِ العَقِيدَةِ في الدِّينِ القَوِيمِ الَّذِي لا يَأمُرُ إلاَّ بكُلِّ خَيْرٍ ولا يَنْهَى إلاَّ عَنْ كُلِّ شَرٍّ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ إلاَّ قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ولَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى النَّارِ إلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رَوْعِي: أنَّ نَفْسًا لا تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطْلُبُوهُ بمَعَاصِي اللهِ، فَإنَّ اللهَ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إلاَّ بطَاعَتِهِ ] السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ للألْبَانِيِّ، وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى [ مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمُ اللهُ بِهِ إلاَّ قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ومَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ إلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ]، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، ويُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وإنَّ أُمَّتَكُمْ هذه جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أوَّلِهَا، وسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيَرْقُقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وتَجِيءُ الفِتْنَةُ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ: هذه مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وتَجِيءُ الفِتْنَةُ فَيَقُولُ المُؤْمِنُ: هذه هذه، فَمَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ويُدْخَلَ الجَنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وهُوَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وليَأتِ إلى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤْتَى إلَيْهِ، ومَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وثَمَرَةَ قَلْبِهِ؛ فَلْيُطِعْهُ إنِ اسْتَطَاعَ، فَإنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ، وعَلَى ذَلِكَ فَطَالَمَا صَحَّ دَلِيلٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّم يَنْهَى فِيهِ عَنْ بَدْئِهِمْ بالسَّلاَمِ، فهذا هُوَ الخَيْرُ لَنَا ولَهُمْ حَتَّى وإنْ لَمْ نَفْهَمِ الحِكْمَةَ مِنْهُ أو تَعَارَضَ مَعَ المَنْطِقِ والتَّأوِيلِ البَشَرِيِّ النَّاقِصِ، فَالقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَقُولُ (لا اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ)، أي لا يَجْتَهِدُ أحَدٌ بخِلاَفِ النَّصِّ ثُمَّ يَضَعُ رَأيَهُ فَوْقَ النَّصِّ ويُرَجِّحُ رَأيَهُ، لأنَّ الاجْتِهَادَ يَكُونُ (في النَّصِّ) أي في تَفْسِيرِهِ بِمَا يَتَوَافَقُ مَعَ الدِّينِ كُلِّهِ كِتَابًا وسُنَّةً، وفي النِّهَايَةِ السَّمْعُ والطَّاعَةُ لِمَا أمَرَ بِهِ اللهُ ورَسُولُهُ؛ حَتَّى وإنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَنَا الحِكْمَةُ مِنْهُ أو رَأيْنَاهُ مُخَالِفًا للمَنْطِقِ، ورَحِمَ اللهُ الإمَامَ العَالِمَ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ القَائِلَ [ لَوْ كَانَ الدِّينُ بالرَّأيِ لكَانَ أسْفَلُ الخُفِّ أوْلَى بالمَسْحِ مِنْ أعْلاَهُ، وقَدْ رَأيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى الخُفِّ ].
الاسْتِدْلاَلُ الثَّانِي:
أمَّا الحُجَّةُ الَّتي يَسُوقُهَا البَعْضُ كَيْ يَبْدَءُوا النَّصَارَى بالسَّلاَمِ أو يَرُدُّوا عَلَيْهمْ بسَلاَمٍ كَامِلٍ اسْتِنَادًا إلى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى [ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ] (النِّسَاءُ: 86)، فَهِيَ حُجَّةٌ مَرْدُودَةٌ عَلَى قَائِلِهَا، لأنَّ الآيَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ رَدِّ التَّحِيَّةِ بأحْسَنَ مِنْهَا ورَدِّهَا في حُدُودٍ، وبالتَّالِي يَكُونُ الرَّدُّ بأحْسَنَ مِنْهَا خَاصًّا بالمُسْلِمِينَ، ورَدُّهَا بحُدُودٍ خَاصٌّ باليَهُودِ والنَّصَارَى، وهذا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ المُفَسِّرِينَ في الآيَةِ:
θ قَالَ الشَّيْخُ الشَّعْرَاوِيُّ في تَفْسِيرِ الآيَةِ [ وقَالُوا: وإذا كَانَ الَّذِي يُلْقِي السَّلاَمَ ويَبْدَأهُ بِهِ غَيْرَ مُؤْمِنٍ؟ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أوْضَحَ أنَّهُمْ يَلْوُونَ في الكَلاَمِ، فإذا قَالُوا لَكُمْ: (السَّلاَمُ) فَقُولُوا: (وعَلَيْكُمْ)، وذَلِكَ يَعْنِي: إنْ قَالُوهَا كَلِمَةً طَيِّبَّةً لَهَا مَعْنًى طَيِّبٌ؛ فَأهْلاً بِهَا؛ وعَلَيْهِمْ مِثْلُهَا، وإنْ كَانَتْ كَلِمَةً خَبِيثَةً كَقَوْلِهِمْ: (السَّامُّ عَلَيْكُمْ) فَقُولُوا: (وعَلَيْكُمْ)؛ لأنَّ السَّامَّ مَعْنَاهَا المَوْتُ، فَلِكَيْلاَ يَسْتَهْزِئُوا بِكُمْ قُولُوا: (وعَلَيْكُمْ)، وبَعْضُ العُلَمَاءِ قَالَ: المَقْصُودُ بـ (فَحَيُّوا بأحْسَنَ مِنْهَا) أيْ بالنِّسْبَةِ للمُؤْمِنِينَ، و(رُدُّوهَا) بالنِّسْبَةِ للكَافِرِ ].
θ وقَالَ الإمَامُ ابْنُ كَثِير في تَفْسِيرِ الآيَةِ [ وقَالَ قَتَادَةُ (فَحَيُّوا بأحْسَنَ: يَعْنِي للمُسْلِمِينَ، أو رُدُّوهَا: يَعْنِي لأهْلِ الذِّمَّةِ)، وهذا التَّنْزِيلُ فِيهِ نَظَرٌ كَمَا تَقَدَّمَ في الحَدِيثِ مِنْ أنَّ المُرَادَ أنْ يُرَدَّ بأحْسَنَ مِمَّا حَيَّاهُ بِهِ، فَإنْ بَلَغَ المُسْلِمُ غَايَةَ مَا شُرِعَ في السَّلاَمِ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ، فَأمَّا أهْلُ الذِّمَّةِ فَلاَ يُبْدَؤُونَ بالسَّلاَمِ، ولا يُزَادُونَ، بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ ].
θ وقَالَ الإمَامُ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ الآيَةِ [وأمَّا الكَافِرُ فَحُكْمُ الرَّدِّ عَلَيْهِ أنْ يُقَالَ لَهُ (وَعَلَيْكُمْ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وغَيْرُهُ: المُرَادُ بالآيَةِ (وَإِذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ) إذا كَانَتْ مِنْ مُؤْمِنٍ (فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا)، وإنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ فَرُدُّوا عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أنْ يُقَالَ لَهُمْ (وَعَلَيْكُمْ)، وقَالَ عَطَاءُ: الآيَةُ في المُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، ومَنْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِمْ قِيلَ لَهُ (عَلَيْكَ)؛ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ ]، ثُمَّ قَالَ [ وفي صَحِيحِ مُسْلِمِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ (لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ)، وهذا يَقْتَضِي إفْشَاءَهُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ دُونَ المُشْرِكِينَ ].
θ وفي تَفْسِيرِ الجَلاَلَيْن [وخَصَّتِ السُّنَّةُ الكَافِرَ؛ والمُبْتَدِعَ؛ والفَاسِقَ؛ والمُسَلِّمَ عَلَى قَاضِي الحَاجَةِ ومَنْ في الحَمَّامِ؛ والآكِلِ؛ فَلاَ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهم، بَلْ يُكْرَهُ في غَيْرِ الأخِيرِ، ويُقَالُ للكَافِرِ: وَعَلَيْكَ ].
θ وقَالَ العَلاَّمَةُ السَّعْدِيُّ في تَفْسِيرِ الآيَةِ [ ويُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَنْ حَيَّا بحَالٍ غَيْرِ مَأمُورٍ بِهَا؛ كـ (مُشْتَغِلٍ بقِرَاءَةٍ, أو اسْتِمَاعِ خُطْبَةٍ, أو مُصَلٍّ ونَحْوِ ذَلِكَ) فَإنَّهُ لا يُطْلَبُ إجَابَةُ تَحِيَّتِهِ، وكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ أمَرَ الشَّارِعُ بهَجْرِهِ وعَدَمِ تَحِيَّتِهِ, وهُوَ العَاصِي غَيْرُ التَّائِبِ, الَّذِي يَرْتَدِعُ بالهَجْرِ, فَإنَّهُ يُهْجَرُ, ولا يُحَيَّا, ولا تُرَدُّ تَحِيَّتُهُ, وذَلِكَ لمُعَارَضَةِ المَصْلَحَةِ الكُبْرَى ]، وهُنَا يَتَّضِحُ أنَّ هَجْرَ العَاصِي (والكَافِرِ مِنْ بَابِ أوْلَى) فِيهِ مَصْلَحَةٌ كُبْرَى، وهي بَيَانٌ أنَّهُ عَلَى بَاطِلٍ لا يَصِحُّ مَعَهُ إكْرَامُهُ أو تَوْقِيرُهُ أوِ الدُّعَاءُ لَهُ بالخَيْرِ والسَّلاَمِ والبَرَكَةِ، وهُوَ عَكْسُ مَا يَقُولُهُ المُسْتَدِلُّونَ بالآيَةِ لإبَاحَةِ بَدْءِ الكَافِرِ بالسَّلاَمِ، حَيْثُ أنَّ حُجَّتَهُمْ في ذَلِكَ أنَّهُمْ يُؤَلِّفُونَ بِهَا قَلْبَ الكَافِرِ لدَعْوَتِهِ للإسْلاَمِ، وهُوَ مَا يُخَالِفُ الأمْرَ الشَّرْعِيَّ في تَحْقِيقِ المَصْلَحَةِ الكُبْرَى كَمَا سَمَّاهَا الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ مِنْ زَجْرِهِ ورَدْعِهِ وبَيَانِ أنَّهُ عَلَى بَاطِلٍ.
θ وقَالَ الإمَامُ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِ الآيَةِ بَعْدَ أنْ اسْتَعْرَضَ أقْوَالَ فَرِيقَيْنِ في تَأوِيلِ الآيَةِ [ قَالَ أبُو جَعْفَرٍ: وأوْلَى التَّأوِيلَيْنِ بتَأوِيلِ الآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ (ذَلِكَ في أهْلِ الإسْلاَمِ), ووَجَّهَ مَعْنَاهُ إلى أنَّهُ يَرُدُّ السَّلاَمَ عَلَى المُسْلِمِ إذا حَيَّاهُ تَحِيَّةً أحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أو مِثْلَهَا، وذَلِكَ أنَّ الصِّحَاحَ مِنَ الآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ رَدُّ تَحِيَّةِ كُلِّ كَافِرٍ أحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ, وقَدْ أمَرَ اللهُ برَدِّ الأحْسَنِ والمِثْلِ في هذه الآيَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ مِنْهُ بَيْنَ المُسْتَوْجِبِ رَدِّ الأحْسَنِ مِنْ تَحِيَّتِهِ عَلَيْهِ والمَرْدُودِ عَلَيْهِ مِثْلُهَا بدَلاَلَةٍ يُعْلَمُ بِهَا صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ (عَنَى برَدِّ الأحْسَنِ المُسْلِمُ, وبرَدِّ المِثْلِ: أهْلُ الكُفْرِ)، والصَّوَابُ: إذْ لَمْ يَكُنْ في الآيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ ولا بصِحَّتِهِ أثَرٌ لاَزِمٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, أنْ يَكُونَ الخِيَارُ في ذَلِكَ إلى المُسَلَّمِ عَلَيْهِ بَيْنَ رَدِّ الأحْسَنِ أو المِثْلِ، إلاَّ في المَوْضِعِ الَّذِي خَصَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سُنَّةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, فَيَكُونُ مُسَلِّمًا لَهَا، وقَدْ خَصَّتِ السُّنَّةُ أهْلَ الكُفْرِ بالنَّهْيِ عَنْ رَدِّ الأحْسَنِ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ أو مِثْلِهَا, إلاَّ بأنْ يُقَالَ (وَعَلَيْكُمْ), فَلاَ يَنْبَغِي لأحَدٍ أنْ يَتَعَدَّى مَا حَدَّ في ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَأمَّا أهْلُ الإسْلاَمِ, فَإنَّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْه مِنْهُمْ في الرَّدِّ مِنَ الخيَارِ مَا جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ].
وعَلَى ذَلِكَ لا نَجِدُ عَالِمًا بالتَّفْسِيرِ فَسَّرَ الآيَةَ بأنَّ مَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ أو رَدُّهُ عَلَيْهِمْ سَلاَمًا كَامِلاً أو بزِيَادَةٍ كَالرَّدِّ عَلَى المُسْلِمِ، ولا نَجِدُ صَحَابِيًّا قَالَ بذَلِكَ أو فَعَلَهُ، ولا نَجِدُ حَدِيثًا لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَرَ فِيهِ بذَلِكَ أو فَعَلَهُ أو أقَرَّهُ، بَلِ الأدِلَّةُ تَتَضَافَرُ عَلَى النَّهْيِ والمَنْعِ والتَّقْيِيدِ بخِلاَفِ مَا يَدَّعُونَ، وبالتَّالِي تَسْقُطُ حُجَّةُ المُسْتَدِلُّونَ بهذه الآيَةِ لإبَاحَةِ بَدْءِ الكَافِرِ بالسَّلاَمِ أو الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بغَيْرِ كَلِمَةِ (وَعَلَيْكُمْ) أو (عَلَيْكَ) أو (وَعَلَيْكَ) الَّتي ثَبَتَتْ في صَحِيحِ السُّنَّةِ، ويَظْهَرُ تَأوُّلُهُمْ للآيَاتِ والأحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ المُرَادِ مِنْهَا ومُخَالَفَتُهُمْ للنُّصُوصِ والإجْمَاعِ.
الاسْتِدْلاَلُ الثَّالِثُ:
أمَّا حُجَّةُ البَعْضِ بأنَّ حَدِيثَ (لا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَإذَا لَقيتُمُوهُمْ في الطَّرِيقِ فاضْطَرُّوهُمْ إلَى أضْيَقِ الطَّرِيقِ) هُوَ حَدِيثٌ خَاصٌّ بوَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ قَوْلٌ وَقَعَ فِيهِ الخِلاَفُ قَدِيمًا وحَدِيثًا، فَامْتَنَعَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنِ السَّلاَمِ اعْتِمَادًا عَلَيْهِ، وسَلَّمَ بَعْضُهُمُ اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أنَّهُ خَاصٌّ ولَيْسَ بعَامٍّ، وكَانَ أكْثَرُهُمْ عَلَى المَنْعِ، رَوَى ذَلِكَ الإمَامُ ابْنُ القَيِّمِ في كِتَابِهِ زَادُ المِعَادِ [ وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ والخَلَفُ في ذَلِكَ، فَقَالَ أكْثَرُهُمْ: لا يُبْدَؤُونَ بالسَّلاَمِ، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى جَوَازِ ابْتِدَائِهِمْ كَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وأبِي أُمَامَةَ وابْنِ مُحَيْرِيز، وهُوَ وَجْهٌ في مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، لَكِنْ صَاحِبُ هذا الوَجْهِ قَالَ (يُقَالُ لَهُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ، فَقَطْ بدُونِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ، وبلَفْظِ الإفْرَادِ)، وقَالَتْ طَائِفَةٌ (يَجُوزُ الابْتِدَاءُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مِنْ حَاجَةٍ تَكُونُ لَهُ إلَيْهِ، أو خَوْفٍ مِنْ أذَاهُ، أو لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أو لِسَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ)، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ وعَلْقَمَةَ، وقَالَ الأوْزَاعِيُّ (إنْ سَلَّمْتَ، فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ، وإنْ تَرَكْتَ، فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ) ]، ومَعْرُوفٌ أنَّ مِنْ مَبَادِئِ الفِقْهِ أنَّ التَّخْصِيصَ أو الاسْتِثْنَاءَ لاَبُدَّ لَهُمَا مِنْ دَلِيلٍ، وأيْضًا مِنْ مَبَادِئِ الفِقْهِ الجَمْعُ بَيْنَ رِوَايَاتِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ والنَّظَرُ في الحَدِيثِ بطُولِهِ وفي الرِّوَايَاتِ مُجْتَمِعَةً، وذَلِكَ كي لا يَقَعَ الشَّخْصُ في خَلَلٍ كَبِيرٍ وتَخَبُّطٍ خَطِيرٍ، كَالَّذِي يَعْمَدُ إلى حَدِيثٍ نَهَى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وسَلَّمَعَلِيًّا أنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَيَبْنِي عَلَى هذا حُكْمًا فَحْوَاهُ مَنْعُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إلاَّ بإذْنِ الزَّوْجَةِ الأُولَى أو أوْلِيَائِهَا، ويَغْفَلُ عَمَّا وَرَدَ في نَفْسِ الحَدِيثِ [ وإنَّهَا؛ والله؛ لا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ وبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أبَدًا ]، ويَنْسَى الآيَاتِ الوَارِدَةَ في ذَلِكَ [ ... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ... ]، والمُتَتَبِّعُ لأحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الثَّابِتَةِ في النَّهْيِ عَنْ بَدْءِ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ يَجِدُ أنَّهَا بمَجْمُوعِهَا لَيْسَتْ خَاصَّةً بوَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ ويُحْمَلُ الخَاصُّ مِنْهَا عَلَى العَامِّ إذا اتَّحَدَ المُخَرِّجُ، أو يَثْبُتُ بذَلِكَ تَعَدُّدُ الحَوَادِثِ إذا اخْتَلَفَ مُخَرِّجُ الرِّوَايَاتِ، وفي كِلْتَا الحَالَتَيْنِ إثْبَاتٌ أنَّ الحُكْمَ لَيْسَ خَاصًّا بوَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وإنَّمَا هُوَ عَامٌّ مِنْ مُجْمَلِ الأحَادِيثِ، لذَلِكَ قَالَ الإمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ [ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (لا تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَإذَا لَقيتُمُوهُمْ في الطَّرِيقِ؛ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أضْيَقِ الطَّرِيقِ)، لَكِنْ قَدْ قِيلَ (إنَّ هذا كَانَ في قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ لَمَّا سَارُوا إلى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ (لاَ تَبْدَؤُوهُمْ بالسَّلاَم)ِ، فَهَلْ هذا حُكْمٌ عَامٌّ لأهْلِ الذِّمَّةِ مُطْلَقًا؛ أو يَخْتَصُّ بِمَنْ كَانَتْ حَالُهُ بمِثْلِ حَالِ أُولَئِكَ؟ هذا مَوْضِعُ نَظَرٍ، ولَكِنْ قَدْ رَوَى مُسْلِمُ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ (لاَ تَبْدَؤُوا اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وَإذَا لَقِيْتُمْ أحَدَهُمْ في الطَّرِيقِ؛ فَاضْطَرُّوهُ إلى أَضْيَقِهِ)، والظَّاهِرُ أنَّ هذا حُكْمٌ عَامٌّ ].
الاسْتِدْلاَلُ الرَّابِعُ:
وأمَّا مَنْ يَحْتَجُّ بأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ المُشْرِكِينَ والمُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعًا؛ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وأنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ الرَّسَائِلَ إلى غَيْرِ المُسْلِمِينَ يَدْعُوهُمْ فِيهَا إلى الإسْلاَمِ ويَبْدَؤُهُمْ بالسَّلاَمِ، فَاسْتِدْلاَلُهُ بهذه الوَاقِعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ رَغْمَ أنَّهُ اسْتَدَلَّ بأحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، لأسْبَابٍ:
أوَّلاً: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَلَى القَوْمِ الأخْلاَطِ لا لَكْوِنِ الكُفَّارِ مِنْ بَيْنِهِمْ، ولَكِنْ لوُجُودِ مُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ، فَيُسَلِّمُ عَلَى الجَمِيعِ وفي نِيَّتِهِ السَّلاَمُ عَلَى المُسْلِمِينَ ولَوْ كَانُوا فَرْدًا وَاحِدًا بصِيغَةِ الجَمْعِ، ولَيْسَ هذا بسَلاَمٍ عَلَى الكُفَّارِ، لأنَّ أحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَدْءِ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ تَقْتَضِي ألاَّ يَكُونَ المَقْصُودُ بالسَّلاَمِ هَاهُنَا الكُفَّارُ.
ثَانِيًا: قَدْ تَكُونُ هذه الوَاقِعَةُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ بَدْءِ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ، وبالتَّالِي حَتَّى وإنْ كَانَ السَّلاَمُ فِيهَا قَدْ وُجِّهَ للكُفَّارِ؛ فَإنَّهُ قَدْ نُسِخَ فِيمَا بَعْدُ بأدِلَّةِ المَنْعِ.
ثَالِثًا: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ؛ آمَنَ بنَبِيِّهِ وآمَنَ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ... ]، وهذا يُثْبِتُ أنَّ في فَتْرَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للإسْلاَمِ كَانَ يُوجَدُ مَنْ آمَنَ بـمُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنَ اليَهُودِ وبِمَا جَاءَ بِهِ دُونَ تَحْرِيفٍ، ومَنْ آمَنَ بعِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنَ النَّصَارَى وبِمَا جَاءَ بِهِ دُونَ تَحْرِيفٍ، وعَلَى ذَلِكَ فَهُؤلاَءِ مِنَ المُسْلِمِينَ إنْ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ، ولَكِنْ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ؛ جَعَلَ اللهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ أجْرَانِ، وبالتَّالِي يَجُوزُ بَدْؤُهُمْ بالسَّلاَمِ لأنَّهُمْ مُسْلِمُونَ (إذا تَيَقَّنَّا مِنْ إسْلاَمِهِمْ)، أمَّا إذا لَمْ نَتَيَقَّنْ، فَلاَ يَجُوزُ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِمْ لكُفْرِهِمْ، لذَلِكَ لا نَجِدُ رِسَالَةً لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَبْدَأُ فِيهَا كَافِرًا بقَوْلِهِ (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ)، لأنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ مَنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، ولَكِنْ كَانَ يَبْدَؤُهُمْ بقَوْلِهِ (سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى)، وهي تَحِيَّةٌ لا يَقُولُهَا إلاَّ دَاعِيَةٌ أو مَنْ في حُكْمِهِ وهُوَ يُرَاسِلُ كُفَّارًا يَدْعُوهُمْ في رِسَالَتِهِ إلى الإسْلاَمِ، فَلَمْ يَثْبُتْ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ هذه التَّحِيَّةَ إلاَّ في المُرَاسَلاَتِِ الدَّعَوِيَّةِ فَقَط، ومِنْ قَبْلِهِ أمَرَ اللهُ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى [ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ]، قَالَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ [ لا يَخْفَى أنَّهُ يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ مُرَاعَاةُ حُقُوقِ إخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ، ورِعَايَةُ مَشَاعِرِهِمْ، وأنَّهُ يَلْزَمُهُ أنْ يُحِبَّ لأخِيهِ المُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَمَا لا يَخْفَى أنَّ مِنْ حِكَمِ السَّلاَمِ إشْعَارُ المُسْلِمِ أخِيهِ المُسَلَّمِ عَلَيْهِ بطِيبَةِ نَفْسِهِ نَحْوِهِ، ومَحَبَّتِهِ إيَّاهُ كَأخٍ مِنْ إخْوَانِهِ المُسْلِمِينَ، وذَلِكَ بدُعَائِهِ لَهُ بالسَّلاَمَةِ المُطْلَقَة، ورَحْمَةِ اللهِ وبَرَكَاتِهِ عَلَيْهِ، ولاَشَكَّ أنَّ السَّلاَمَ عَلَى المُسَلِّمِ بعِبَارَةِ (السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى) فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ واللَّمْزِ مَا لا يَتَّفِقُ مَعَ الأُصُولِ العَامَّةِ في وُجُوبِ تَرَابُطِ المُسْلِمِينَ وتَعَاطُفِهِمْ وتَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ، وأنَّهُمْ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَرِ، وأنَّهُمْ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وأنَّ الأصْلَ فِيهِمْ الخَيْرُ، وعَلَيْهِ فَلاَ يَنْبَغِي للمُسْلِمِ أنْ يُحَيِّيَ إخْوَانَهُ المُسْلِمِينَ بهذه العِبَارَةِ (السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى)، وإنَّمَا هذه التَّحِيَّةُ يَبْعَثُهَا الدَّاعِيَةُ ومَنْ في حُكْمِهِ إلى غَيْرِ المُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ]، ومِمَّا يُثْبِتُ أنَّ لَفْظَةَ (السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى) أو (سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى) فِيهَا لَمْزٌ وتَعْرِيضٌ؛ مَا جَاءَ في الرِّوَايَاتِ الَّتي بَدَأ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الرَّسَائِلَ بالسَّلاَمِ بلَفْظَةِ (سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وآمَنَ باللهِ ورَسُولِهِ، وشَهِدَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ)، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بهذه الرِّوَايَاتِ عَلَى جَوَازِ بَدْءِ الكَافِرِ المُجَاهِرِ بكُفْرِهِ بالسَّلاَمِ بلَفْظَةِ (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ)؟؟
رَابِعًا: مَعْلُومٌ أنَّ لَفْظَةَ السَّلاَمِ الشَّرْعِيَّةِ هي (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ)، وهي تَحْتَوِي عَلَى اسْمٍ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى، ودُعَاءٍ بالسَّلاَمَةِ والرَّحْمَةِ والبَرَكَةِ، ومُتَرَتِّبٌ عَلَى قَوْلِهَا الثَّوَابُ للمُسَلِّمِ والمُسَلَّمِ عَلَيْهِ، وهي لَفْظَةٌ خَاصَّةٌ بالمُسْلِمِينَ فَقَط كَمَا ثَبَتَ، وبالتَّالِي لا يَجُوزُ قَوْلُهَا لغَيْرِ المُسْلِمِ، لأنَّهُ لا يَجُوزُ الدُّعَاءُ للكَافِرِ بالرَّحْمَةِ، ولَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ لَهُ بالهِدَايَةِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ قَالَ [ كَانَ اليَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَرْجُونَ أنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللهُ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، ويُصْلِحُ بَالَكُمْ ]، وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي ]، والحَدِيثَانِ مِصْدَاقًا لقَوْلِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي سَبَقَ تَوْضِيحُهُ في البَرَاءِ مِنَ الكُفَّارِ [ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ 113 وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ 114 ]، ولهذا أخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّ أبَاهُ في النَّارِ، رَوَى مُسْلِمُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أيْنَ أبِي؟ قَالَ: في النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ؛ فَقَالَ: إنَّ أبِي وَأبَاكَ في النَّار ]، ولَوْ كَانَ الدُّعَاءُ بالرَّحْمَةِ للكُفَّارِ جَائِزًا لَكَانَ أوْلَى النَّاسُ بِهِ وَالِدَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
الاسْتِدْلاَلُ الخَامِسُ:
يَسْتَدِلُّ البَعْضُ بتَهْنِئَةِ النَّصَارَى لَنَا في الأعْيَادِ والمُنَاسَبَاتِ، ويَقُولُ: كَيْفَ لا نُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أو نَرُدُّ السَّلاَمَ وهُمْ لا يَتْرُكُونَ مُنَاسَبَةً إلاَّ وهَنَّئُونَا بِهَا؟ وهذا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، والرَّدُّ عَلَيْهِ سَهْلٌ عَلَى مَنْ سَهَّلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ مُسْتَعِينِينَ باللهِ:
أوَّلاً: إنَّهُمْ إنْ هَنَّئُونَا بأعْيَادِنَا؛ فَلاَ يَجُوزُ أنْ نُهَنِّئَهُمْ بأعْيَادِهِمْ لوُجُودِ الفَارِقِ، فَأعْيَادُنَا حَقٌّ مِنْ دِينِنَا الحَقِّ، بخِلاَفِ أعْيَادِهِمُ البَاطِلَةِ الَّتي هي مِنْ دِينِهِمُ البَاطِلِ، فَإنْ هَنَّئُونَا عَلَى الحَقِّ فَلَنْ نُهَنِّئَهُم عَلَى البَاطِلِ، ثُمَّ إنَّ أعْيَادَهُمْ لا تَنْفَكُّ عَنِ المَعْصِيَةِ والمُنْكَرِ وأعْظَمُ ذَلِكَ تَعْظِيمُهُمْ للصَّلِيبِ وإشْرَاكُهُمْ باللهِ تَعَالَى، وهَلْ هُنَاكَ شِرْكٌ أعْظَمُ مِنْ دَعْوَتِهِمْ لعِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بأنَّهُ إلَهٌ أو ابْنُ إلَهٍ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، إضَافَةً إلى مَا يَقَعُ في احْتِفَالاَتِهِمْ بأعْيَادِهِمْ مِنْ هَتْكٍ للأعْرَاضِ واقْتِرَافٍ للفَوَاحِشِ وشُرْبٍ للمُسْكِرَاتِ ولَهْوٍ ومُجُونٍ، مِمَّا هُوَ مُوجِبٌ لسَخَطِ اللهِ ومَقْتِهِ، فَهَلْ يَلِيقُ بالمُسْلِمِ المُوَحِّدِ باللهِ رَبِّ العَالَمِينَ أنْ يُشَارِكَ أو يُهَنِّئَ هَؤُلاَءِ الضَّالِّينَ بهذه المُنَاسَبَةِ؟؟!! وهَلْ هذا مِثَالٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ؟؟!!
ثَانِيًا: لا يُوجَدُ أعْيَادٌ للمُسْلِمِينَ ولا مُنَاسَبَاتٌ إلاَّ مَا أقَرَّهَا الشَّرْعُ وحَدَّدَ لَهَا اليَوْمَ وكَيْفِيَّةَ الاحْتِفَالِ، وغَالِبًا مَا يُهَنِّئُونَنَا بِهِ هُوَ مِنَ الأعْيَادِ المُبْتَدَعَةِ الَّتي لا تَجُوزُ التَّهْنِئَةُ فِيهَا بَيْنَ المُسْلِمِينَ وبَعْضِهِمْ فَضْلاً عَنْ تَهْنِئَةِ الكُفَّارِ، ومِنْ ضِمْنِ هذه الأعْيَادِ بَلْ أكْثَرُهَا أعْيَادُ النَّصَارَى أنْفُسُهُمْ، وتَهْنِئَتُهُمْ بِهَا سَوَاءً ابْتِدَاءً أو رَدًّا حَرَامٌ بالإجْمَاعِ، وهذه فَتْوَى مَوْقِعِ: الإسْلاَمُ سُؤَالٌ وجَوَابٌ تُوَضِّحُ ذَلِكَ:
السُّؤَالُ: هَلْ يَجُوزُ لِي أنْ أقُولَ لغَيْرِ المُسْلِمِينَ (ولَكُمْ بالمِثْلِ) عِنْدَمَا يُهَنِّئُونَنِي بالعَامِ الجَدِيدِ بعِبَارَةِ: عَامٌ سَعِيدٌ أو أحْلَى التَّهَانِي؟
الجَوَابُ:
الحَمْدُ للهِ؛؛
لا يَجُوزُ تَهْنِئَةُ الكُفَّارِ بعِيدِ الكِرِيسْمَاس (رَأسُ السَّنَةِ المِيلاَدِيَّةِ) أو غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أعْيَادِهِمْ، كَمَا لا يَجُوزُ إجَابَتُهُمْ في حَالِ تَهْنِئَتِهِمْ لَنَا بهذه الأعْيَادِ، لأنَّهَا لَيْسَتْ أعْيَادًا مَشْرُوعَةً في دِينِنَا، وفي إجَابَةِ التَّهْنِئَةِ بِهَا إقْرَارٌ واعْتِرَافٌ بِهَا، وعَلَى المُسْلِمِ أنْ يَكُونَ مُعْتَزًّا بدِينِهِ، فَخُورًا بأحْكَامِهِ، حَرِيصًا عَلَى دَعْوَةِ الآخَرِينَ وتَبْلِيغِهِمْ دِينِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
وقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ عَنْ حُكْمِ تَهْنِئَةِ الكُفَّارِ بعِيدِ الكِرِيسْمَاس؟ وكَيْفَ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ إذا هَنَّئُونَا بِهِ؟ وهَلْ يَجُوزُ الذّهَابُ إلى أمَاكِنِ الحَفَلاَتِ الَّتي يُقِيمُونَهَا بهذه المُنَاسَبَةِ؟ وهَلْ يَأثَمُ الإنْسَانُ إذا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ بغَيْرِ قَصْدٍ؛ وإنَّمَا فَعَلَهُ إمَّا مُجَامَلَةً أو حَيَاءً أو إحْرَاجًا أو غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأسْبَابِ؟ وهَلْ يَجُوزُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ في ذَلِكَ؟ فَأجَابَ [ تَهْنِئَةُ الكُفَّارِ بعِيدِ الكِرِيسْمَاس أو غَيْرِهِ مِنْ أعْيَادِهِمُ الدِّينِيَّةِ حَرَامٌ بالاتِّفَاقِ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ (أحْكَامُ أهْلِ الذِّمَّةِ)، حَيْثُ قَالَ (وأمَّا التَّهْنِئَةُ بشَعَائِرِ الكُفْرِ المُخْتَصَّةِ بِهِ فَحَرَامٌ بالاتِّفَاقِ، مِثْلَ أنْ يُهَنِّئَهُمْ بأعْيَادِهِمْ وصَوْمِهِمْ، فَيَقُولُ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، أو تَهْنَأُ بهذا العِيدِ، ونَحْوِهِ، فهذا إنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِنَ الكُفْرِ فَهُوَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وهُوَ بمَنْزِلَةِ أنْ تُهَنِّئَهُ بسُجُودِهِ للصَّلِيبِ، بَلْ ذَلِكَ أعْظَمُ إثْمًا عِنْدَ اللهِ، وأشَدُّ مَقْتًا مِنَ التَّهْنِئَةِ بشُرْبِ الخَمْرِ وقَتْلِ النَّفْسِ وارْتِكَابِ الفَرْجِ الحَرَامِ ونَحْوِهِ، وكَثِيرٌ مِمَّنْ لا قَدْرَ للدِّينِ عِنْدَهُ يَقَعُ في ذَلِكَ، ولا يَدْرِي قُبْحَ مَا فَعَلَ، فَمَنْ هَنَّأَ عَبْدًا بمَعْصِيَةٍ أو بِدْعَةٍ أو كُفْرٍ فَقَدْ تَعَرَّضَ لمَقْتِ اللهِ وسَخَطِهِ) انْتَهَى كَلاَمُهُ رَحِمَهُ اللهُ، وإنَّمَا كَانَتْ تَهْنِئَةُ الكُفَّارِ بأعْيَادِهِمُ الدِّينِيَّةِ حَرَامًا وبهذه المَثَابَةِ الَّتي ذَكَرَهَا ابْنُ القَيِّمِ لأنَّ فِيهَا إقْرَارًا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ شَعَائِرِ الكُفْرِ، ورِضًا بِهِ لَهُمْ، وإنْ كَانَ هُوَ لا يَرْضَى بهذا الكُفْرِ لنَفْسِهِ، لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَى المُسْلِمِ أنْ يَرْضَى بشَعَائِرِ الكُفْرِ أو يُهَنِّئَ بِهَا غَيْرَهُ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى لا يَرْضَى بذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (الزُّمَرُ: 7)، وقَالَ تَعَالَى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المَائِدَةُ: 3)، وتَهْنِئَتُهُمْ بذَلِكَ حَرَامٌ، سَوَاءٌ كَانُوا مُشَارِكِينَ للشَّخْصِ في العَمَلِ أمْ لا، وإذا هَنَّئُونَا بأعْيَادِهِمْ فَإنَّنَا لا نُجِيبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لأنَّهَا لَيْسَتْ بأعْيَادٍ لَنَا، ولأنَّهَا أعْيَادُ لا يَرْضَاهَا اللهُ تَعَالَى، لأنَّهَا إمَّا مُبْتَدَعَةٌ في دِينِهِمْ، وإمَّا مَشْرُوعَةٌ لَكِنْ نُسِخَتْ بدِينِ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى جَمِيعِ الخَلْقِ، وقَالَ فِيهِ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (آل عِمْرَان: 85)، وإجَابَةُ المُسْلِمِ دَعْوَتِهِمْ بهذه المُنَاسَبَةِ حَرَامٌ، لأنَّ هذا أعْظَمُ مِنْ تَهْنِئَتِهِمْ بِهَا، لِمَا في ذَلِكَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهَا، وكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى المُسْلِمِينَ التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ بإقَامَةِ الحَفَلاَتِ بهذه المُنَاسَبَةِ، أو تَبَادُلِ الهَدَايَا أو تَوْزِيعِ الحَلْوَى أو أطْبَاقِ الطَّعَامِ، أو تَعْطِيلِ الأعْمَالِ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)، قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في كِتَابِهِ (اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ مُخَالَفَةُ أصْحَابِ الجَحِيمِ) (مُشَابَهَتُهُمْ في بَعْضِ أعْيَادِهِمْ تُوجِبُ سُرُورُ قُلُوبِهِمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ البَاطِلِ، ورُبَّمَا أطْمَعَهُمْ ذَلِكَ في انْتِهَازِ الفُرَصِ واسْتِذْلاَلِ الضُّعَفَاءِ) انْتَهَى كَلاَمُهُ رَحِمَهُ اللهُ، ومَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ، سَوَاءٌَ فَعَلَهُ مُجَامَلَةً، أو تَوَدُّدًا، أو حَيَاءً، أو لغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأسْبَابِ، لأنَّهُ مِنَ المُدَاهَنَةِ في دِينِ اللهِ، ومِنْ أسْبَابِ تَقْوِيَةِ نُفُوسِ الكُفَّارِ وفَخْرِهِمْ بدِينِهِمْ، واللهُ المَسْئُولُ أنْ يُعِزَّ المُسْلِمِينَ بدِينِهِمْ، ويَرْزُقَهُمُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ، ويَنْصُرَهُمْ عَلَى أعْدَائِهِمْ، إنَّهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ] انْتَهَى مِنْ مَجْمُوعِ فَتَاوَى الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِين (3/44).
ثَالِثًا: هُمْ لا يُهَنِّئُونَنَا حُبًّا فِينَا، ولا اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بدِينِنَا، ولا احْتِرَامًا مِنْهُمْ لشَعَائِرِنَا، ولا حَتَّى بدَعْوَى الأُخُوَّةِ والمُوَاطَنَةِ الَّتي يُدَنْدِنُونَ بِهَا ليَخْدَعُوا البُسَطَاءَ والسُّفَهَاءَ مِنَّا، ولَكِنَّهُمْ يُهَنِّئُونَنَا لأنَّ هذا جُزْءٌ مِنْ خُطَّةِ الخِدَاعِ الَّتي يَتَلَقَّوْنَهَا بأوَامِرَ مِنَ البَابَا شُنُودَة نَفْسِهِ، فَفِي التَّقْرِيرِ الَّذِي نَشَرَهُ الإمَامُ مُحَمَّدُ الغَزَالِيِّ في كِتَابِهِ قَذَائِفُ الحَقِّ تَحْتَ عُنْوَانِ: التَّقْرِيرُ الرَّهِيبُ؛ جَاءَ مَا يَلِي عَلَى لِسَانِ شُنُودَة نَفْسِهِ في تَسْجِيلٍ لأحَدِ اجْتِمَاعَاتِهِ السِّرِّيَّةِ في الكَنِيسَةِ [ وإنَّ الخَطَأَ الَّذِي وَقَعَ مِنَّا في المُحَاوَلاَتِ التَّبْشِيرِيَّةِ الأخِيرَةِ - الَّتي نَجَحَ مُبَشِّرُونَا فِيهَا في هِدَايَةِ عَدَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ إلى الإيِمَانِ والخَلاَصِ عَلَى يَدِ الرَّبِّ يَسُوعَ المُخْلِصِ - هُوَ تَسَرُّبُ أنْبَاءَ هذا النَّجَاحِ إلى المُسْلِمِينَ، لأنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأنِهِ تَنْبِيهِ المُسْلِمِينَ وإيِقَاظِهِمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وهذا أمْرٌ ثَابِتٌ في تَارِيخِهِمُ الطَّوِيلِ مَعَنَا، ولَيْسَ هُوَ بالأمْرِ الهَيِّنِ، ومِنْ شَأنِ هذه اليَقَظَةِ أنْ تُفْسِدَ عَلَيْنَا مُخَطَّطَاتِنَا المَدْرُوسَةَ، وتُؤَخِّرَ ثِمَارَهَا وتُضَيِّعَ جُهُودَنَا، ولِذَا فَقَدْ أُصْدِرَتِ التَّعْلِيمَاتُ الخَاصَّةُ بهذا الأمْرِ، وسَنَنْشُرُهَا في كُلِّ الكَنَائِسِ لكَيْ يَتَصَرَّفَ جَمِيعُ شَعْبِنَا مَعَ المُسْلِمِينَ بطَرِيقَةٍ وِدِّيَّةٍ تَمْتَصُّ غَضَبَهُمْ، وتُقْنِعُهُمْ بكَذِبِ هذه الأنْبَاءِ، كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى رُعَاةِ الكَنَائِسِ والآبَاءِ والقَسَاوِسَةِ بمُشَارَكَةِ المُسْلِمِينَ احْتِفَالاَتِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وتَهْنِئَتِهِمْ بأعْيَادِهِمْ، وإظْهَارِ المَوَدَّةِ والمَحَبَّةِ لَـهُمْ، وعَلَى شَعْبِ الكَنِيسَةِ في المَصَالِحِ والوزَارَاتِ والمُؤَسَّسَاتِ إظْهَارُ هذه الرُّوحِ لمَنْ يُخَالِطُونَهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ ]، ووالله هذا وَحْدَهُ سَبَبٌ كَافٍ لعَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لإحْبَاطِ مُخَطَّطَاتِهِمْ، فَضْلاً عَنْ كَوْنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أصْلاً لا يَجُوزُ.
فَكَيْفَ يَكُونُ القِيَاسُ؟ وعَلاَمَ الجِدَالُ والتَّأوِيلُ؟
مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ يَتَّضِحُ أنَّ مَسْألَةَ بَدْءِ اليَهُودِ والنَّصَارَى بالسَّلاَمِ والرَّدِّ عَلَيْهِمْ بسَلاَمٍ كَامِلٍ؛ مَسْألَةٌ مَحْسُومَةٌ مُنْذُ أنْ شُرِعَتْ، ومَا أقْوَالُ المُبِيحِينَ فِيهَا إلاَّ تَأوُّلاَتٍ في غَيْرِ مَوْضِعِهَا يَرُدُّهَا الدَّلِيلُ والإجْمَاعُ، والخُلاَصَةُ:
θ لا يَجُوزُ بَدْءُ اليَهُودِ والنَّصَارَى خُصُوصًا والكُفَّار عُمُومًا بالسَّلاَمِ بصِيغَتِهِ الإسْلاَمِيَّةِ (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) أو بزِيَادَتِهِ (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ)، ولا الرَّدُّ عَلَيْهِم بغَيْرِ كَلِمَةِ (وعَلَيْكَ) أو (عَلَيْكَ) أو (وعَلَيْكُمْ).
θ عَدَمُ بَدْئِهِمْ بالسَّلاَمِ أو رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بصِيغَةِ سَلاَمِ المُسْلِمِينَ لا يَعْنِي عَدَمُ الإحْسَانِ إلَيْهِمْ ومُعَامَلَتِهِمْ بالحُسْنَى، والعَدْلُ مَعَهُمْ يَكُونُ في الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إذا سَلَّمُوا، ولَيْسَ في بَدْئِهِم أو بالزِّيَادَةِ عَنْ (وَعَلَيْكُمْ).
θ يُبَاحُ فَقَطْ بَدْؤُهُمْ بصِيَغٍ أُخْرَى للسَّلاَمِ إذا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَقَرَابَةٍ أو خَوْفِ ضَرَرٍ، أو عِنْدَ دَعْوَتِهِمْ للإسْلاَمِ وبَيَانِ كُفْرِهِمْ لَهُمْ، وتَكُونُ بصِيغَةِ اللَّمْزِ والتَّعْرِيضِ (سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى)، وإنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ هذه الشُّرُوطُ فَلاَ بَدْءَ؛ ولا رَدَّ بغَيْرِ مَا ثَبَتَ.
وهذا مَا نَعْلَمُ، واللهُ تَعَالَى أعْلَى وأعْلَمُ.
والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
تعليق