رد: هل يلزمُنا إعادة بناء إيماننا أم بوسعنا إصلاحه ؟
ذكرنا فى المرة السابقة أن للتوحيد ثلاثة أقسام منها توحيد الربوبية ، ونذكرالآن بعض مظاهر الإنحراف فى توحيد الربوبية :
1 ) جحد ربوبية الله أصلاً و إنكار وجوده سبحانه كما يعتقد ذلك الملاحدة الذين يسندون إيجاد المخلوقات للطبيعة
2 ) جحد بعض خصائص الرب سبحانه و إنكار بعض معانى ربوبيته كمن ينفى قدرته على إحيائه بعد موته أو جلب النفع له و دفع الضر عنه أو نحو ذلك
3 ) إعطاء شئ من خصائص الربوبية لغير الله سبحانه ، فمن اعتقد وجود متصرف مع الله عز وجل فى أى شئ من تدبير الكون من إيجاد أو إعدام أو إحياء أو إماتة أو جلب خير أو دفع شر أو غير ذلك من معانى الربوبية فهو مشرك بالله العظيم
4 ) اعتقاد أن الإنسان يملك نفسه و له الحرية المطلقة حتى مع أوامر ربه إن شاء قبلها و إن شاء ردها ، و يُسمونها حرية الإعتقاد ،
و يستدلون بقوله تعالى ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )
مع أن المفسرين قالوا إن هذا تهديد ووعيد بدليل أن الله تعالى قال بعدها
( ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )
إذن فالأمر ليس للحرية و للتخيير إنما هو للتهديد فإن كفرت فإن الله يتوعدك بالعذاب الشديد
فأنت عبد لله و لا تملك تجاه أوامر ربك إلا السمع و الطاعة و الخضوع له وحده
5 ) الرهبة من الجن و الخوف منهم و الإستغاثة بهم و تقديم القرابين لهم كأفعال المشعوذين
6 ) تقديس المشايخ من المبتدعين بشكل زائد عن الحد مما يخرجهم عن بشريتهم و طاعتهم فى تحريم الحلال و تحليل الحرام و الخضوع لهم
هذه بعض مظاهر الإنحراف فى هذا القسم من التوحيد ، و إنه إن كان لا يصح إيمان العبد إلا بتحقيق توحيد الربوبية على أكمل وجه فإنه لا يكفى وحده لينجى العبد من النار و الخلود فيها
بل لابد من تحقيق التوحيد بأقسامه الثلاثة تحقيقًا كاملاً لا خلل فيه
و الدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)
قال عكرمة : تسألهم من خلقهم و من خلق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله و هم يعبدون غيره
فالمعنى المُراد من الآية : أى ما يُقر أكثرهم بالله ربًا و خالقًا و رازقًا و مدبرًا إلا و هم مشركون معه فى عبادته غيره من الأوثان التى لا تضر ولا تنفع ولا تعطى ولا تمنع
وإن من مُستلزمات توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية وهو القسم الثانى من أقسام التوحيد
فمادمتِ آمنتِ أن الله هو الذى بيده الأمر كله و هو الخالق الرزاق المحيى المميت الذى بيده النفع و الضرإيمانًا حقيقيًا فلماذا لا تخضعى له وحده و تذلى له وحده وتعبديه وحده لا شريك له ؟!
فهيا لنعرف أولاً ما المقصود بتوحيد الألوهية و لننتبه جيدًا لأن هذا القسم من التوحيد انحرف عنه الكثير من العباد و هو من أهم أقسام التوحيد
ثانيًا : توحيد الألوهية :
هو إفراد الله وحده بالعبادة ، و ذلك بأن يعلم العبد علم اليقين أن الله وحده هو المعبود على الحقيقة و أن صفات الألوهية و معانيها ليست موجودة فى أحد من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله ،
فإذا علم العبد ذلك و اعترف به حقًا أفرد الله وحده بالعبادة كلها الظاهرة و الباطنة ،
فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و بر الوالدين وصلة الأرحام ،
ويقوم بأصوله الباطنة من الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره وشره ،
لا يقصد بذلك غرضًا من الأغراض إلا رضا ربه و طلب ثوابه
لذلك يُسمى هذا التوحيد بتوحيد القصد و الإرادة أى لا أريد إلا الله و لا أقصد غيره بعبادتى وطاعتى
ونتساءل هنا سؤالاً هامًا : ما هى العبادة و ما معناها ؟ و هل هى الصلاة والصوم والحج وما شابه فقط ؟
و الجواب : إن العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضه من الأقوال الظاهرة و الباطنة و الأعمال الظاهرة و الباطنة
الأقوال الظاهرة ( كالذكر و الدعوة إلى الله و تلاوة القرآن )
و الأقوال الباطنة ( الذكر القلبى بأن تذكر الله فى نفسك بلا تحريك للسان )
و الأعمال الظاهرة ( كالصلاة و الصوم و الحج و ما شابه )
و الأعمال الباطنة ( أعمال القلوب من توحيد و حب و رجاء و خوف وتوكل و إنابة و يقين وما شابه)
و للعبادة أركان و شروط :
أركان العبادة ثلاثة :
1_ كمال الحب للمعبود سبحانه ، قال تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ )
2_ كمال الرجاء ، قال تعالى ( ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ )
3 _ كمال الخوف من الله سبحانه ، قال تعالى ( وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ )
و لا تُقبل العبادة إلا بشرطين :
الأول : الإخلاص لله فلا تبتغى بها إلا وجهه سبحانه و رضاه
قال تعالى ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ )
و قال تعالى ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي )
و الثانى : متابعة النبى صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل العمل إن لم يكن على السُنة موافقًا لهديه صلى الله عليه وسلم
قال تعالى ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )
و عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أخرجه البخاري ومسلم
وفي رواية لمسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ومن كل ما سبق نفهم أن العبادة تدور حول معانى ( الحب التام و الذل التام لله مع التعظيم )
فكأن توحيد الألوهية يعنى أنه لا محبوب أعلى فى قلبى من الله ولا أخضع لسواه و لا أطيع غيره ولا أبتغى بعملى كله إلا مرضاته وحده
فهل نحن كذلك حقًا ؟
إن من أعظم الإنحراف فى هذا القسم هو شرك المحبة و التعلق بغير الله
و هو أمر منتشر كثيرًا و قل من ينتبه إليه أو يعرفه
فإن الحب أقسام :
منها الحب الفطرى الجبلى مثل حب الأم و الأب والأبناء
ومنه الحب الغريزى كحب الرجل لزوجه
ومنه حب العبادة و هو الذى يدور حول الأمر والنهى وهو الذى لا ينبغى أن يكون لله :
ومعناه أنكِ تطيعين حبيبك فى كل ما أمر حتى و إن كان مخالفًا لما تهوين و تحبين لأن حبه فى قلبك أعلى من حبكِ لنفسكِ وتنتهين عن كل ما نهاكِ عنه وهذا لا يكون إلا لله ،
أما إن كنتِ تحبين أحدًا من البشر بهذه الصورة فتطيعيه فى كل ما أمر حتى و إن كان لا يُرضى ربك و تنتهى عما نهاكِ حتى و إن نهاكِ عن طاعة فراجعى إيمانكِ و احذرى
قال الله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)
فهذا الذى تعلقتِ به و خضعتِ له من دون الله سيتبرأ منكِ غدًا و ستجدين كل ما عملتِ من أجله وضحيتِ به ليرضى عنكِ انقلب عليكِ حسرة فى الدنيا والآخرة
قال تعالى ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ
وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)
هل علمتِ الآن لماذا يخذلكِ الناس كثيرًا ؟ وتقولين إن أكثر من أحسنتِ إليهم أساءوا إليكِ ؟
فتشى بداخل قلبكِ هل أحسنتِ إليهم لله وابتغاء وجهه ولتتقربى إليه أم لتتقربى لهم هم ؟
هل أحسنتِ إليهم فأمرتيهم بالمعروف و نهيتِ عن المنكر أم وافقتيهم فى المنكرات وسكتِ عن المعروف خوفًا على مشاعرهم ؟
ولماذا أحببتيهم من الأساس ؟ هل لأنهم هل طاعة الله يعينوكِ على طاعته و يذكرونكِ إذا غفلتِ و يقيمونكِ إذا تعثرتِ ؟ أم أحببتيهم لأسباب أخرى ؟
على هذه الأسس أعيدى تقييم علاقاتك بمن حولك لتعلمى من تحبين حقًا لله ومن تحبينها هوى وتعلقًا بغير الله
وهذه علامة تعرفين بها هل قلبك متعلق بغير الله أم لا؟
انظرى فى علاقاتك بمن حولك فإذا شعرتِ أن هناك شخصًا ما فى حياتك لا تستطيعى العيش بدونه و إذا فقدتيه أو فارقكِ انهرتِ تمامًا ووقعتِ فى عذاب نفسى شديد حتى إنكِ لتتمنين الموت و تشعرين الموت خيرًا لكِ من الحياة بدونه فأنتِ متعلقة بهذا الشخص تعلقًا شديدًا من دون الله و صرفتِ الحب الذى كان ينبغى أن يكون لله لغيره ، و من أحب شيئًا سوى الله عُذِب به ولابد
و اعلمى أن الله عزيز إذا وجد فى قلبك تعلقًا بغيره وكلك لما تعلقتِ به وترككِ معه و تولى عنكِ و إذا تولى الله عنكِ فأى خير يُرجى تحصيله بدون توفيق الله و أى هداية تُرتجى من دون معيته
ابحثى فى قلبك عن التعلق هذا وفتشى فى نفسكِ فلعلك غارقة فى حب غير الله و أنت لا تشعرين و ربما يكون هذا التعلق هو الذى يحجب قلبك عن الله و يجعلك إلى الآن لا تستطيعى الوصول لربك ومولاكِ الذى لا غنى لكِ عنه فإن التعلق بعير الله من أشد القواطع التى تقطعك عن الله
لأن الطريق إلى الله تُقطع بالقلوب لا بالأبدان ، فإن كان القلب مشغولاً بغيره ملتفتًا عنه فكيف له أن يصل و هو يسير فى غير وجهته ؟
وتذكرى أن عبادتك لله ليست على سبيل الإضطرار إنما هى على سبيل الحب و الإعتراف بفضله ومنه و الإعتراف بجلاله وجماله وكماله ،
فعبادتك لله هى تعامل محب مع حبيبه يلتمس رضاه و يبحث عما يحبه فيفعله له بطيب نفسٍ وهو يُمنى نفسه برضا حبيبه عنه و نظرة إلى وجهه الكريم يَمُن عليه بها يوم يلقاه ،
انظرى كيف يتودد إليكِ و أنتِ مازلتِ معرضة عنه ملتفتة بقلبك إلى غيره .... انظرى كيف يُحسن إليكِ و يسترك ويُنعم عليكِ ثم تشكرين غيره ...... انظرى كيف إذا اخطأتِ فى حق إنسان تعتذرين له ليل نهار و تبحثين عما يحبه لتقديمه له هدية اعتذارًا منكِ عن إساءتك ثم أنتِ تفرطين فى حق ربك ليل ونهار و هو يبسط يده لكِ بالليل و النهار لتتوبى و يتنزل سبحانه فى الثلث الأخير كل ليلة نزولاً يليق بجلاله وكماله لينادى هل من مستغفر هل من تائب وأنت مشغولة عنه بهذه و تلك ،
مشغولة بالناس هل يحبوننى أم لا ؟ مشغولة بصديقتك هل رضيت عنى ونسيت إساءتى أم لا ؟ مشغولة بدراستك و عملك و بيتك و لم تنشغلى هل الله راضٍ عنى أم لا ؟ هل غفر لى و تجاوز عن سيئاتى القديمة أم لا؟
أم أن أغلبنا قد تاب توبة مهزوزة ثم اطمئن قلبه أن الله غفر له و كأنه أخذ صك الأمان و لم يشغل باله كيف اتقرب إليه بما يُحب ليقبل توبتى ويغفرلى ماكان منى من عصيان ، بل إنه إن ابُتلى و قيل له بسبب ذنوبك يقول ألست قد تبت؟ وكأنه متيقن تمام اليقين أنه تاب توبة صادقة لا خداع فيها
أين الله فى قلبنا يا أخوات ؟ أين حظ الله فى قلبك؟
هذه حقيقة توحيد الألوهية ، ألا تبتغى شيئًا إلا رضاه وحده ولا يكون حبك إلا له وحده ،
فأين هذه المعانى منكِ و أين أنتِ منها ؟
أين قلبكِ يا أختااااااااه ؟ ابحثى عنه و ابحثى أين أضعتيه و لمن سلمتيه وممن حرمتيه
فلا سعادة لقلبكِ إلا بحب الله
وكما قال بن القيم :
في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله ، وفيه وحشه لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته ،
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته ،
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه ،
وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه .
وفيه فاقه لا يسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً .
هيا الآن إلى التطبيق العملى ، إلى خلوة تخلو كل واحدة منها بنفسها و تتساءل أين الله فى قلبى ؟
ما مقدار حبى لله ؟ كم من الوقت فى يومى أفكر فيه و فى رضاه؟
هيا لنتوب من غفلتنا ونجدد توبتنا و من اليوم ننوى ألا يكون فى قلوبنا إلا الله وحده
اللهم لا تجعل فى قلوبنا حبًا إلا لك ولا تعلقًا إلا بك ولا همًا إلا رضاك ولا رغبة إلا فيما عندك
ملحوظة : الكلام العلمى الخاص بمعانى التوحيد نقلته من كتاب أصول الإيمان لمجموعة من العلماء مع الإستعانة بشرح الشيخ هانى حلمى له
المقالات السابقة
البداية
لماذا الإيمان ؟
التوحيد و أقسامه و شرح توحيد الربوبية
يُــتبع إن شاء الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذكرنا فى المرة السابقة أن للتوحيد ثلاثة أقسام منها توحيد الربوبية ، ونذكرالآن بعض مظاهر الإنحراف فى توحيد الربوبية :
1 ) جحد ربوبية الله أصلاً و إنكار وجوده سبحانه كما يعتقد ذلك الملاحدة الذين يسندون إيجاد المخلوقات للطبيعة
2 ) جحد بعض خصائص الرب سبحانه و إنكار بعض معانى ربوبيته كمن ينفى قدرته على إحيائه بعد موته أو جلب النفع له و دفع الضر عنه أو نحو ذلك
3 ) إعطاء شئ من خصائص الربوبية لغير الله سبحانه ، فمن اعتقد وجود متصرف مع الله عز وجل فى أى شئ من تدبير الكون من إيجاد أو إعدام أو إحياء أو إماتة أو جلب خير أو دفع شر أو غير ذلك من معانى الربوبية فهو مشرك بالله العظيم
4 ) اعتقاد أن الإنسان يملك نفسه و له الحرية المطلقة حتى مع أوامر ربه إن شاء قبلها و إن شاء ردها ، و يُسمونها حرية الإعتقاد ،
و يستدلون بقوله تعالى ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )
مع أن المفسرين قالوا إن هذا تهديد ووعيد بدليل أن الله تعالى قال بعدها
( ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )
إذن فالأمر ليس للحرية و للتخيير إنما هو للتهديد فإن كفرت فإن الله يتوعدك بالعذاب الشديد
فأنت عبد لله و لا تملك تجاه أوامر ربك إلا السمع و الطاعة و الخضوع له وحده
5 ) الرهبة من الجن و الخوف منهم و الإستغاثة بهم و تقديم القرابين لهم كأفعال المشعوذين
6 ) تقديس المشايخ من المبتدعين بشكل زائد عن الحد مما يخرجهم عن بشريتهم و طاعتهم فى تحريم الحلال و تحليل الحرام و الخضوع لهم
هذه بعض مظاهر الإنحراف فى هذا القسم من التوحيد ، و إنه إن كان لا يصح إيمان العبد إلا بتحقيق توحيد الربوبية على أكمل وجه فإنه لا يكفى وحده لينجى العبد من النار و الخلود فيها
بل لابد من تحقيق التوحيد بأقسامه الثلاثة تحقيقًا كاملاً لا خلل فيه
و الدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)
قال عكرمة : تسألهم من خلقهم و من خلق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله و هم يعبدون غيره
فالمعنى المُراد من الآية : أى ما يُقر أكثرهم بالله ربًا و خالقًا و رازقًا و مدبرًا إلا و هم مشركون معه فى عبادته غيره من الأوثان التى لا تضر ولا تنفع ولا تعطى ولا تمنع
وإن من مُستلزمات توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية وهو القسم الثانى من أقسام التوحيد
فمادمتِ آمنتِ أن الله هو الذى بيده الأمر كله و هو الخالق الرزاق المحيى المميت الذى بيده النفع و الضرإيمانًا حقيقيًا فلماذا لا تخضعى له وحده و تذلى له وحده وتعبديه وحده لا شريك له ؟!
فهيا لنعرف أولاً ما المقصود بتوحيد الألوهية و لننتبه جيدًا لأن هذا القسم من التوحيد انحرف عنه الكثير من العباد و هو من أهم أقسام التوحيد
ثانيًا : توحيد الألوهية :
هو إفراد الله وحده بالعبادة ، و ذلك بأن يعلم العبد علم اليقين أن الله وحده هو المعبود على الحقيقة و أن صفات الألوهية و معانيها ليست موجودة فى أحد من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله ،
فإذا علم العبد ذلك و اعترف به حقًا أفرد الله وحده بالعبادة كلها الظاهرة و الباطنة ،
فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و بر الوالدين وصلة الأرحام ،
ويقوم بأصوله الباطنة من الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره وشره ،
لا يقصد بذلك غرضًا من الأغراض إلا رضا ربه و طلب ثوابه
لذلك يُسمى هذا التوحيد بتوحيد القصد و الإرادة أى لا أريد إلا الله و لا أقصد غيره بعبادتى وطاعتى
ونتساءل هنا سؤالاً هامًا : ما هى العبادة و ما معناها ؟ و هل هى الصلاة والصوم والحج وما شابه فقط ؟
و الجواب : إن العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضه من الأقوال الظاهرة و الباطنة و الأعمال الظاهرة و الباطنة
الأقوال الظاهرة ( كالذكر و الدعوة إلى الله و تلاوة القرآن )
و الأقوال الباطنة ( الذكر القلبى بأن تذكر الله فى نفسك بلا تحريك للسان )
و الأعمال الظاهرة ( كالصلاة و الصوم و الحج و ما شابه )
و الأعمال الباطنة ( أعمال القلوب من توحيد و حب و رجاء و خوف وتوكل و إنابة و يقين وما شابه)
و للعبادة أركان و شروط :
أركان العبادة ثلاثة :
1_ كمال الحب للمعبود سبحانه ، قال تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ )
2_ كمال الرجاء ، قال تعالى ( ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ )
3 _ كمال الخوف من الله سبحانه ، قال تعالى ( وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ )
و لا تُقبل العبادة إلا بشرطين :
الأول : الإخلاص لله فلا تبتغى بها إلا وجهه سبحانه و رضاه
قال تعالى ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ )
و قال تعالى ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي )
و الثانى : متابعة النبى صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل العمل إن لم يكن على السُنة موافقًا لهديه صلى الله عليه وسلم
قال تعالى ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )
و عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أخرجه البخاري ومسلم
وفي رواية لمسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
ومن كل ما سبق نفهم أن العبادة تدور حول معانى ( الحب التام و الذل التام لله مع التعظيم )
فكأن توحيد الألوهية يعنى أنه لا محبوب أعلى فى قلبى من الله ولا أخضع لسواه و لا أطيع غيره ولا أبتغى بعملى كله إلا مرضاته وحده
فهل نحن كذلك حقًا ؟
إن من أعظم الإنحراف فى هذا القسم هو شرك المحبة و التعلق بغير الله
و هو أمر منتشر كثيرًا و قل من ينتبه إليه أو يعرفه
فإن الحب أقسام :
منها الحب الفطرى الجبلى مثل حب الأم و الأب والأبناء
ومنه الحب الغريزى كحب الرجل لزوجه
ومنه حب العبادة و هو الذى يدور حول الأمر والنهى وهو الذى لا ينبغى أن يكون لله :
ومعناه أنكِ تطيعين حبيبك فى كل ما أمر حتى و إن كان مخالفًا لما تهوين و تحبين لأن حبه فى قلبك أعلى من حبكِ لنفسكِ وتنتهين عن كل ما نهاكِ عنه وهذا لا يكون إلا لله ،
أما إن كنتِ تحبين أحدًا من البشر بهذه الصورة فتطيعيه فى كل ما أمر حتى و إن كان لا يُرضى ربك و تنتهى عما نهاكِ حتى و إن نهاكِ عن طاعة فراجعى إيمانكِ و احذرى
قال الله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)
فهذا الذى تعلقتِ به و خضعتِ له من دون الله سيتبرأ منكِ غدًا و ستجدين كل ما عملتِ من أجله وضحيتِ به ليرضى عنكِ انقلب عليكِ حسرة فى الدنيا والآخرة
قال تعالى ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ
وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)
هل علمتِ الآن لماذا يخذلكِ الناس كثيرًا ؟ وتقولين إن أكثر من أحسنتِ إليهم أساءوا إليكِ ؟
فتشى بداخل قلبكِ هل أحسنتِ إليهم لله وابتغاء وجهه ولتتقربى إليه أم لتتقربى لهم هم ؟
هل أحسنتِ إليهم فأمرتيهم بالمعروف و نهيتِ عن المنكر أم وافقتيهم فى المنكرات وسكتِ عن المعروف خوفًا على مشاعرهم ؟
ولماذا أحببتيهم من الأساس ؟ هل لأنهم هل طاعة الله يعينوكِ على طاعته و يذكرونكِ إذا غفلتِ و يقيمونكِ إذا تعثرتِ ؟ أم أحببتيهم لأسباب أخرى ؟
على هذه الأسس أعيدى تقييم علاقاتك بمن حولك لتعلمى من تحبين حقًا لله ومن تحبينها هوى وتعلقًا بغير الله
وهذه علامة تعرفين بها هل قلبك متعلق بغير الله أم لا؟
انظرى فى علاقاتك بمن حولك فإذا شعرتِ أن هناك شخصًا ما فى حياتك لا تستطيعى العيش بدونه و إذا فقدتيه أو فارقكِ انهرتِ تمامًا ووقعتِ فى عذاب نفسى شديد حتى إنكِ لتتمنين الموت و تشعرين الموت خيرًا لكِ من الحياة بدونه فأنتِ متعلقة بهذا الشخص تعلقًا شديدًا من دون الله و صرفتِ الحب الذى كان ينبغى أن يكون لله لغيره ، و من أحب شيئًا سوى الله عُذِب به ولابد
و اعلمى أن الله عزيز إذا وجد فى قلبك تعلقًا بغيره وكلك لما تعلقتِ به وترككِ معه و تولى عنكِ و إذا تولى الله عنكِ فأى خير يُرجى تحصيله بدون توفيق الله و أى هداية تُرتجى من دون معيته
ابحثى فى قلبك عن التعلق هذا وفتشى فى نفسكِ فلعلك غارقة فى حب غير الله و أنت لا تشعرين و ربما يكون هذا التعلق هو الذى يحجب قلبك عن الله و يجعلك إلى الآن لا تستطيعى الوصول لربك ومولاكِ الذى لا غنى لكِ عنه فإن التعلق بعير الله من أشد القواطع التى تقطعك عن الله
لأن الطريق إلى الله تُقطع بالقلوب لا بالأبدان ، فإن كان القلب مشغولاً بغيره ملتفتًا عنه فكيف له أن يصل و هو يسير فى غير وجهته ؟
وتذكرى أن عبادتك لله ليست على سبيل الإضطرار إنما هى على سبيل الحب و الإعتراف بفضله ومنه و الإعتراف بجلاله وجماله وكماله ،
فعبادتك لله هى تعامل محب مع حبيبه يلتمس رضاه و يبحث عما يحبه فيفعله له بطيب نفسٍ وهو يُمنى نفسه برضا حبيبه عنه و نظرة إلى وجهه الكريم يَمُن عليه بها يوم يلقاه ،
انظرى كيف يتودد إليكِ و أنتِ مازلتِ معرضة عنه ملتفتة بقلبك إلى غيره .... انظرى كيف يُحسن إليكِ و يسترك ويُنعم عليكِ ثم تشكرين غيره ...... انظرى كيف إذا اخطأتِ فى حق إنسان تعتذرين له ليل نهار و تبحثين عما يحبه لتقديمه له هدية اعتذارًا منكِ عن إساءتك ثم أنتِ تفرطين فى حق ربك ليل ونهار و هو يبسط يده لكِ بالليل و النهار لتتوبى و يتنزل سبحانه فى الثلث الأخير كل ليلة نزولاً يليق بجلاله وكماله لينادى هل من مستغفر هل من تائب وأنت مشغولة عنه بهذه و تلك ،
مشغولة بالناس هل يحبوننى أم لا ؟ مشغولة بصديقتك هل رضيت عنى ونسيت إساءتى أم لا ؟ مشغولة بدراستك و عملك و بيتك و لم تنشغلى هل الله راضٍ عنى أم لا ؟ هل غفر لى و تجاوز عن سيئاتى القديمة أم لا؟
أم أن أغلبنا قد تاب توبة مهزوزة ثم اطمئن قلبه أن الله غفر له و كأنه أخذ صك الأمان و لم يشغل باله كيف اتقرب إليه بما يُحب ليقبل توبتى ويغفرلى ماكان منى من عصيان ، بل إنه إن ابُتلى و قيل له بسبب ذنوبك يقول ألست قد تبت؟ وكأنه متيقن تمام اليقين أنه تاب توبة صادقة لا خداع فيها
أين الله فى قلبنا يا أخوات ؟ أين حظ الله فى قلبك؟
هذه حقيقة توحيد الألوهية ، ألا تبتغى شيئًا إلا رضاه وحده ولا يكون حبك إلا له وحده ،
فأين هذه المعانى منكِ و أين أنتِ منها ؟
أين قلبكِ يا أختااااااااه ؟ ابحثى عنه و ابحثى أين أضعتيه و لمن سلمتيه وممن حرمتيه
فلا سعادة لقلبكِ إلا بحب الله
وكما قال بن القيم :
في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله ، وفيه وحشه لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته ،
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته ،
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه ،
وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه .
وفيه فاقه لا يسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً .
هيا الآن إلى التطبيق العملى ، إلى خلوة تخلو كل واحدة منها بنفسها و تتساءل أين الله فى قلبى ؟
ما مقدار حبى لله ؟ كم من الوقت فى يومى أفكر فيه و فى رضاه؟
هيا لنتوب من غفلتنا ونجدد توبتنا و من اليوم ننوى ألا يكون فى قلوبنا إلا الله وحده
اللهم لا تجعل فى قلوبنا حبًا إلا لك ولا تعلقًا إلا بك ولا همًا إلا رضاك ولا رغبة إلا فيما عندك
ملحوظة : الكلام العلمى الخاص بمعانى التوحيد نقلته من كتاب أصول الإيمان لمجموعة من العلماء مع الإستعانة بشرح الشيخ هانى حلمى له
المقالات السابقة
البداية
لماذا الإيمان ؟
التوحيد و أقسامه و شرح توحيد الربوبية
يُــتبع إن شاء الله
تعليق