مثال عن الإحسان :
أكتفي بمثال واحد تطبيقي من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإحسان .
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها إحسان ؛ فبيتم النبي الذي قدره الرب العلي أحسن الله عز وجل بيتمه إلى كل يتيم ؛ فكان يتم النبي صلى الله عليه وسلم تشريفا لكل يتيم ، ومن ذلك إحسانه في الدعوة ، وإحسانه في المعاملة ، وإحسانه في العطاء ، وإحسانه في الحب والبغض ، وإحسانه في الخلق .. إلى ذلك ؛ لكن قف - فقط - مع هذا المثال ، لجماله ورقته ، وإلا ؛ فالأمثلة في الإحسان مشهورة رقيقة معلومة .
ففي (( صحيح مسلم )) من حديث المقداد رضي الله عنه قال : أقبلت أنا وصاحبان لي ، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد - أي : من الجوع والمشقة - فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس أحد منهم يقبلنا - يعني : ضيوفا - ومن الأدب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن نحمل هذا القول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا من فقراء الصحابة كذلك ، وإلا فهم كلهم رمز الكرم ، ومثال العطاء رضي الله عنهم - فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا - إلى أهله ، فإذا ثلاثة أعنز - في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( احتلبوا هذا اللبن بيننا )) قال فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه ، قال : فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان - قال - ثم يأتي المسجد ، فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب ، فأتاني الشيطان ذات ليلة ، وقد شربت نصيبي فقال - لنفسه : محمد يأتي الأنصار فيتحفونه - يعني : يقدمون له الغالي كله - ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة ( أي : ليس محتاجا إلى هذا الشراب ) ... فأتيتها فشربتها - شرب نصيب النبي صلى الله عليه وسلم - يقول : فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل ، قال : فندمني الشيطان ! فقال : ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد صلى الله عليه وسلم فيجيء فلا يجده فيدعوا عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك ؟ - قال المقداد : وعلي شملة - مثل غطاء الرأس - إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي ، وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ، ولم يصنعا ما صنعت ، قال : فجائني النبي صلى الله عليه وسلم ( انتبه إلى هذا اﻹحسان النبوي ) فسلم كما كان يسلم ، ثم أتى المسجد ، فصلى ، ثم أتى شرابه فكشف عنه ، فلم يجد فيه شيئا - أي : لم يجد نصيبه في الإناء - فرفع رأسه إلى السماء - والمقداد يراقب الموقف ، فلم ينم بعد رضي الله عنه - والله مشهد عجيب !! فقلت :الآن يدعوا علي فأهلك - فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال : - (( اللهم ! أطعم من أطعمني ، وأسق من أسقاني )) - وهذا دعاء بالخير للمقداد ليس دعاء بالهلاك ! والمقداد يسمع - قال : فعمدت إلى الشملة فشددتها علي ، وأخذت الشفرفرة - السكينة -فانطلقت إلى اﻷعنز ، أيها أسمن ، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هي حافلة - يعني : ممتلئة باللبن في وقت لا يأتي فيه اللبن في أضرعها ، فقد نفد ما في ضرعها ، واحتلبها الصحابة في هذا الوقت - يقول : فإذا هي حافلة ، وإذا هن حفل كلهن ، قال : فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم كما كانوا يطعمون أن يحتلبوا فيه - إناء ضخم لم يطمع أن يحلب فيه لبن - قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : (( أشربتم شرابكم الليلة ؟ )) قال : قلت يا رسول الله ، اشرب ، فشرب ( بأدب وخلق ) ، ثم ناولني - أي : رد القدح أو الإناء إلى المقداد - فقلت : يا رسول الله ، اشرب ، ثم ناولني - الإناء - فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي ، وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض ( من شدة الضحك ؛ فلقد أصبح المقداد في أمان وطمأنينة ، فظل يضحك ضحكا شديدا أمام النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقع على الأرض من شدة الضحك !! ) ، فلما ضحك المقداد ، قال - له النبي صلى الله عليه وسلم : (( إحداى سوآتك يا مقداد )) - يعني : إنك فعلت سوءة من الفعلات ؛ فهذه ليست أول مرة - فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما هذه إلا رحمة من الله )) - أي إحسان هذا ؟ - (( أفلا كنت آذنتني ، فنوقذ صاحبينا فيصيبان منها )) - أي : أفلا أعلمتني بالأمر ، وأن الله أكرمنا بهذا الخير حتى يصيب منه صاحبنا ؟ فترى ماذا يقول له المقداد ؟ - قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ! ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك ، من أصابها من الناس . أي : لا يضرني أن لا يشرب أحد ، ما دمت أنا وأنت قد شربنا !! . أخرجه مسلم ، كتاب (( الأشربة )) ، باب إكرام الضيف ، وفضل إيثاره ( 2055 ) .
أيها الأحبة : تلك الكلمات الشمولية في معاني الإحسان ، وفي أيات الإحسان ، وفي أحاديث الإحسان وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزقنا وإياكم الإحسان في الأقوال وجميع الأعمال .
المصدر : كتاب الإحسان لفضيلة الشيخ : محمد حسان ، الطبعة الأولى ،1431 ه - 2010 م ، مكبة فياض للتجارة والتوزيع ، نقلا من موضوع : وقفات مع معاني الإحسن ، رقم الصفحة : ( 10 - 29 ) .
تعليق