إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رواية ( خيول الشوق )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: رواية ( خيول الشوق )


    ( 10 )

    من قمة الجبل بدت غروزني في هذه الساعات الأولى من الفجر ... متلألئة ... تتوسد أغلالها و تتأمل الأفق ... هادئة كانت ... لا غير غمزات المصابيح التي تخبو حتى تعود للإضاءة بقوة ... و رمقها الصقر عبد الرحمن قائد المجموعة بنظرة فيها الكثير من المعاني ، فهي مدينته ، ولد فيها .. و فيها ولد أجداده .. مسلمة كانت منذ قرون ، ألقى عليها البعض رداءه الأحمر ، لكنه ظلت في ليل الشيوعية الأليل تعلن إسلامها .. و أنها لله لا لقيصر ..

    غروزني ملحمة الفداء و ملتقى ليوث المجد ، أخت سراييفو ، و القدس ، و قندهار ...

    كان الوقت صباحاً ، و ليس في غروزني صباح ، فكل أوقاتها مساءات للسبي ، و للقيود ، و للأسى ... و تحرك لسان عبد الرحمن :
    لهفي عليكِ غروزني هذا المساء .. فـتـلفعي بالثـلج إن عز الرداء
    و توضـئي بالحزن يا أختي التـي .. عبثت بها أيدي الغزاة الأشقياء

    فاقترب منه أبو مصعب و وضع يده على كتفه و هو يقول :
    إن لم نحررها فستأتي أجيال تحررها ، و المهم أن نبقى نقاتل لنورث السلاح ساخناً حاراً للأجيال القادمة .. كم سيصمد الذين أخذوا أراضينا و امتهنوا شعوبنا المسلمة ، و عقيدتنا الطيبة في مشارق الأرض و مغاربها ؟ .. كم سيصمدون ؟ عاماً .. عشرة .. قرناً ؟ لن ندعهم يستريحون .

    قال أبو الوليد :
    لكن ألا تظن أن أجيالنا نحن أيضاً ستتعب .

    فرد أبو مصعب :
    و متى استراحت أجيالنا ؟ هم لهم خياران ... أما نحن فلا خيار لنا ، هناك واقع واحد كان دوماً قدرنا ، و هو العيش في ظل الاستعمار ، و الامتهان ... أيمكن أن تقول لي متى عاش الشعب الفلسطيني مستريحاً قبل الانتفاضة ؟ الشعب الفلسطيني كان دائماً مذبوحاً ، أما في أوقات المقاومة ، فإنه يصير ذابحاً و مذبوجاً ، و وحدهم الظلمة و المغتصبون من يخسرون إن ووجهوا بالنار و الدمار .. ذلك لأن النار عندهم تقابل الأمن الممكن .. أما الضعفاء فلا أمن عندهم لتكون الحرب بالنسبة لهم خسارة .. الأمر شبيه بجوع الأغنياء المتخمين و الفقراء .. الفقراء حياتهم كلها جوع ، لذلك فهم يحسون بشيء من النشوة حين تأتي الظروف التي يجوع فيها معهم الأغنياء المتخمون .

    تأملت المجموعة المدينة الحبيبة ، التي يغفى فيها أهلها المسلمون في هذه اللحظة على أحزانهم ، كباراً و صغاراً .. و تحركت الخطى منحدرة بين الأشجار ، كما لم تكف الألسنة عن حركتها بالدعاء و الذكر .

    شهق الضوء شهقته الأولى ، و بدأت حبيبات النور تمتزج بالأثير ، و تمسح الظلمة عن الوهاد و النجود ... لحظات عجيبة تلك التي يخرج فيها النهار من صلب الليل ، ضعيفاً ، مغبشاً ، و يبدأ يغول في الظهور حتى يستوي عوده ، و يصبح نهاراً كاملاً بضوئه و وضوحه ..

    و أخرج سالم من جيبه ورقة مغلفة بالشريط اللاصق ، و هو يقول :
    يا إخوتي هذه وصيتي ، إنها هنا تحت الصخرة ، أضعها هنا فإذا حدث لي شيء ، فخذوها في طريق رجوعكم ، إنني أحس بدماء الشهادة قد ضجت في عروقي .. لقد حضرت عشرات المعارك هنا ، و في البوسنة و في أفغانستان .. و ما أحسست بهذا الإحساس الذي يتملكني الآن .. إنني أكاد أحلِّق في عالم آخر ...

    كانت الكلمات مؤثرة ، و لم يجد إخوانه كلمة يقولونها له ، لذلك فقد ساد الصمت ، و كان سالم أول من قطعه بوقع خطواته ، و هو يستأنف السير منحدراً .. و تبعه إخوانه .. و ترامت أصوات محركات تهدر ...

    أسْ .. سْــ .. سْ ... ( قالها بعضهم بصوت واحد ) ، و توقفت الحركة ، و أصغت الآذان موجهة نحو الأسفل ..

    كانت الأصوات أصوات شاحنات ، و لم يكن هناك مجال للشك أنها القافلة الموعودة ، لذلم فقد تسارعت الخطى ، و اندفع الشباب نحو مقصدهم ، و كانوا كلما تقدموا أكثر ازداد الهدير وضوحاً ..

    و وصلوا إلى المكان الذي اختاروه لإقامة الكمين فيه ، مصطبة مشرفة على الطريق ، و لا أسفل من الطريق في الجهة المقابلة سوى الهاوية التي لا منجى منها و لا مهرب من خلالها .

    أخذ كل فرد مكانه ، و حبست الأنفاس في انتظار اللحظة الحاسمة ... كانت دقات القلوب تزداد مع دوران عجلات الشاحنات المتتالية التي صارت على مرأى من المتربصين بها ...

    حبست الأنفاس ، و تقدمت القافلة ، حتى إذا أحس المجاهدون و رأوا أنها في قلب المصيدة ، انهالوا عليها بزخات القنابل ، و أمام المفاجأة بدأ جنود العدو يقفزون من الشاحنات و رشاشاتهم تثرثر في كل اتجاه .. و حاولت بعض الشاحنات التحرك ، غير أن تركيز المجاهدين على الشاحنات الأولى التي في رأس القافلة و الأخيرة التي في ذيلها قد شلّ حركتها و حال دون تقدمها أو تراجعها ..

    كانت رشاشات المجاهدين حصاداً لا يهدأ للجنود الروس الذين علا عويلهم و صراخهم أمام تكبيرات الأسُودِ و هول الموقف .
    و رفع عبد الرحمن جهاز المكبر ( الميغافون ) و دعا الجنرال إلى الاستسلام .

    كانت غروزني تشاهد الموقف من بعيد ، و تضع يدها على فمها خوفاً من أن تنكشف نشوتها ..

    و خرج الجنرال تشرنومردن زيغانوف من بين الشاحنات يصرخ :
    أنا الجنرال ..

    و ترنح و هو يأخذ طريقه نحو المصطبة ، تدفعه خطوة إلى الأمام ، و ترجع به أخرى إلى الخلف ... كانت الطلقات تتناقص شيئاً فشيئاً ، حتى خمدت ، بينما كانت ألسنة النار تلتهم الشاحنات التهاماً ...

    و رفع القائد عبد الرحمن يده و هو يقول :
    أوقفوا إطلاق النار ..

    و خرج سالم بخفة مذهلة نحو الجنرال يريد استلامه ، فإذا به يخرج من حزامه مسدساً و يطلق منه طلقتين باتجاه الشاب الذي بات ليلته بين يدي ربه يتوسل إليه و يدعوه بكل اسم من أسمائه الحسنى أن يرزقه الشهادة ..

    كانت المسافة بين االمجرم و الشهيد لا تتجاوز خمسة أمتار ، و تحسس سالم صدره بيمناه ثم رفعها أمام عينية ، فإذا هو مهر الجنة .. أحمر قانياً .. حاراً .. السائل الملتهب الذي طالما أقض مضجع صاحبه و جاء به يقطع الوهاد و النجود ...

    كان الجنرال واقفاً كخشبة ... و تأمله سالم بنظرة رهيبة ، ثم اقترب منه ، يغالب نهايته ... و مد يده إلى رقبته فأمسك بها ، و أطبق عليها يخنقه .. و حاول الجنرال أن يدافع عن نفسه ، لكن اليدين كانتا تضخان آخر ما فيهما من عزم و من قوة ، و تلوّى الجنرال ، غير أن الفتى لم يفلته ، سقط معه على الأرض ، و ظل بعصر أوداجه حتى أرداه جثة هامدة .

    كان سالم على ركبتيه حين ألقى من يده رأس عدوه ، ثم سجد لله سجدة ، رفع منها و التفت إلى أصحابه ، تأمل وجوههم و هو يبتسم ، و يقول : فزت و رب الكعبة و هوى إلى الأرض ساكناً ..

    كانت خسائر العدو ثلاثمئة جندي من الأرواح ، مع الكثير من الأسلحة و الغنائم ...

    التي اهتم المجاهدون بجمعها و السنتهم لا تكف عن حمد الله تعالى ، و في تلك الأثناء كان أبو مصعب و أبو الوليد و معهم القائد عبد الرحمن يقفون على جسد الشهيد الذي عاش حالماً و مات مبتسماً .. فقال أبو مصعب و هو يمسح دموعه :
    إنه ابن حيِّنا ، كان ولداً صغيراً ، أذكره مع الصبيان .. يملأون الحي حيوية و مرحاً .. و أذكره حين يدخل المسجد يقطر وجهه و ذراعاه من ماء الوضوء .. كان صادقاً .. أخلاقه في المسجد هي أخلاقه و هو يلعب الكرة ، لايعرف التصنع و لا يحمل الحقد ... و كانت أمه تحبه ، حدثهم بعضهم في رسائلهم إليّ ، أنها قبل موتها بشهور كانت تجلس على عتبة الباب الخارجي ، تنظر نحو الجهة التي قيل لها أن الشيشان فيها .. تتنهد ساهمة ، و ربما غلبتها عبراتها إذا سألها عنه أحد ، فتقول و هي تمسح عيونها : كنت أحبه .. و اشتقت إليه كثيراً .. حينما كان صغيراً ، كنت أضع رأسه في حجري ، و أمسحه و أفلّيه ... و كنت أتأمل عينيه فأرى فيهما اشياء مخيفة ...

    مسح مصعب نهر الماء و الملح على خده ، و أضاف :
    ما فتئت هذه العقيدة تنجب مصعباً بعد مصعب .. شباب يترك حياة الرغد ، و رقيق الملبس ، ليلتحق بأهوال الجهاد ، ليموت غريباً .. لله ما أعظم هذ الدين ، و ما أروع أتباعه الصادقين الذين تمثلوه فعلاً ...

    كانت لفحات البرد تلسع الوجوه البادي بعضها من خلال اللحف ، أما وجه سالم فقد استحال في تلك اللحظة قطعة من فضة .. مشرقة ، باردة ، و تأمله إخوته قبل أن يدفنوه .. و استرجع بعضهم صورته في الليلة السابقة حين كان ساجداً لله تعالى يدعوه و يلحّ ...

    دارت عقارب الساعة ... و كانت أنفاس المجاهدين تتراءى كدخان ، نضح بعضهم ما عنده من الماء على سنام القبر .. و تحركت الخطى راجعة من حيث أتت ، و وحده سالم لم يرجع مع إخوته ، وحدها قدماه التي رسمت في الأرض آثار المجيء ، و انقطع الدرب ... وحده المتروك هنا ... فمن كان يظن أنه يقطع كل هذه الأميال ليدفن في قبر سيطويه الزمان ، و لن يتعرف عليه بعد عقود أحد ... سوى أن صاحبه جاءت به خيول الشوق تضج من بعيد .. حتى إذا بلغت به هذا المبلغ ، رحم الله توقه و شوقه و اختاره إليه .

    كان الرتل خاشعاً .. خطوة .. عشرة .. مائة ، كاد القبريختفي ، استدار أبو مصعب إلى الخلف ، استدار لاستدارته أصحابه .. مسح عينيه ، مسح بعضهم عينيه ، و هم يقولون :
    رحمه الله و تقبله شهيداً

    قال أبو الوليد و هو يطوق خصر صابه أبي مصعب و يشده إله مسرياً عنه :

    مشينا خطى كتبت علـيـنـا .. و من كتبت عليه خطى مشاها


    مد أبو مصعب يده إلى حيث وضع سالم وصيته ، أخرجها ، تابع السير لاحقاً بأصحابه ، فك عنها غطاءها في حذر و رهبة كأنه يفك عن صاحبها أكفانه ، قرأ سطراً ، لم يتمالك نفسه ، قربها من فمه مرتجفاً ، قبلها و البكاء يخنقه ، استدار إلى الخلف و هو يقول :
    بالله عليك كيف أتركك هنا و أرجع ؟




    * * * *


    تعليق


    • #17
      رد: رواية ( خيول الشوق )


      ( 11 )


      كان القادم من أوروبا يحمل البريد في أقراص ... إذ أن الترتيبات تقتضي كما هو معمول به منذ سنرات ، أن يرسل اهالي المجاهدين رسائلهم إلى ذويهم عن طريق عناوين في بلدان أوروبية ، و يقوم شباب هناك بتنضيد هذه الرسائل على الكمبيوتر ، و إدخالها في أقراص ، ثم يحمل القرص الواحد الذي يحتوي على مئات الرسائل و الصور و الوثائق إلى الشيشان ، و هناك يتم تفريغه و طبعه ، ليتسلم كل مجاهد ما يخصه .. و نقل قرص واحد في زمن التكنولوجيا أسرع من نقل بريد ورقي من مئات الرسائل ...

      استلم أبو مصعب رسالته ، و مد يده ساكناً ليستلم رسالة سالم بعد أن سمع اسمه ..

      وصلت متأخرة رسالة سالم .. إنها من أخته .. و الأخت أم في حنانها .. غير أن يد سالم لا تستطيع أن تمتد لتلمس هذا الحنان في هذه الورقة ، كما أن عينيه لا ماء فيها لتتهجى أحرف الشوق ...

      ارتعشت يد أبي مصعب و هو يفتح رسالة سالم .. كانت شقيقته توصيه بأن يهتم بنفسه ، أن يأكل جيداً ، أن يتدثر من البرد ، و برقت في عيني أبي مصعب حبتا دمع .. و هو يتمتم :
      كان مدللاً ، و حرصوا على تدليله حتى في رسائلهم .. أما بعد اليوم فلا .. و لم يستطع إكمال الجملة .. كان أبو الوليد ينتصب أمامه ، و رفع بصره نحوه و هو يقول : ما الأمر ؟
      قال أبو الوليد :
      وصلتني رسائل عدة من الأهل و الإخوة .. ابن أختي الأصغر يقول لهم : عندما أكبر سألتحق بخالي ، يقصدني .. أتعرف ؟ إن سمط الجهاد في هذه الأمة لن ينقطع ، يموت عليه الكبار و يولد عليه الصغار ... و في فلسطين أكبر دليل على ذلك ، إن هؤلاء الذين أشعلوا المقاومة و بدؤوا كصغار الحطب التي تكون مبدأ النار الكبيرة هم أبناء اليوم .. لم يولدوا قبل 1948 و لا قبل 1967 ، لكنهم ولدوا يحملون القضية .. أين يذهب أعداؤنا منا ..؟ إنهم يظنون أنهم سينعمون بالأمن غداً ، و لن يكون ذلك ، فبعد أبي الوليد ، هناك ابن أخت أبي الوليد .. و سنذيقهم الويل ، فويل لهم ...

      قال أبو مصعب : و كيف حال الأهل ؟

      قال أبو الوليد : الحمد لله ، بنعم و فضل .. مشكور ربك غير مكفور .

      قال أبو مصعب : الحمد لله .

      كان الليل يقترب حثيثاً و كان الشيخ مروان يقوم مع بعض الشباب بإعداد العشاء ...

      قال أبو الوليد و هو يكسّر بين أصابعه غصناً يابساً التقطه لتوه من الأرض :
      هل من رسالة من الأهل ؟..

      فرد أبو مصعب :
      أصيب إبني في رجله فانكسرت .. أحس مرارة اللحظة التي وقع فيها الحادث ، لربما لم يجدني أمامة فأحس بالحزن .. أتعرف ؟ منذ أن قرأت الرسالة و قصيدة حزينة تعجن في ضلوعي .. حاولت استلالها من لساني كما تستل الشعرة من العجين ، حاولت استخلاصها من أضلاعي كما تستخلص الزبدة من اللبن .. فلم أنجح إلا في بعض أبيات .. و بقي غيرها ممتنع .

      قال أبو الوليد :
      و ما هي هذه الأبيات ؟ ( و كان أبو الوليد يحب سماع الشعر من أبي مصعب )

      و تنهد أبو مصعب تنهيدة عميقة عمق المحيط الهادي ، و عصر جبينه ، ثم نظر إلى الأفق و هو يقول :

      بــأي جــنـاح أطــيـــر إليــك ؟ .. و من أي سَمّ يكون العبورْ ؟!
      و قيل انكسرت ، سلمت فؤادي .. قـلبـي ، حـبـيـبــي الـصـغـيـر
      أنـا لـو قـدرت قـطعـت البحــار .. و جـئـتـك حـبـوا بدون انتظار
      و لـــكـــن أبـــوك لـه عـــــذره .. و قد شقّ يا ابـني عليه المـزارْ
      لماذا انكسـرت ؟ لما يـا ولــدي .. و كسّرت قلب غريب البلــدْ ؟!
      أقلْت ( أبي ) حينها ؟ ويلتي .. لطفل على الأرض دون سندْ !!
      أتَـذْكُرُ كـنـتَ تجـيئُ تـقولْ : .. هـنــا وجـع و الـدمـوع تــسـيــلْ
      فــألــثــم أيــن أشـرت هــنـا .. فـتـجــري و بـأسـكَ فـوراً يـزولْ
      فـكـيــف أُقـبّـلُ تـلـك الـقــدم .. و كـيـف أهـدهـد فــيــها الألـــمْ ؟
      و كـيـف سـألـمـسـهـا حـانيـاً .. و أمـسح فيها ازرقــاق الــورمْ ؟
      أنـا الآن في البـُعد شبه أسير .. فــمـن ذا يـلـثـم تلـك الـكـسـورْ ؟
      إلى مـن سـتـشـكـوا يقـبّـلها ؟ .. لـك الله يا ابـني و نـعْـم النصـيــرْ
      فماذا سأكـتـب ؟ ذاك يـطـول .. و يــفــنـى بــذاك مــداد السـيــولْ
      و ما مــن طريق إليك فعذرا .. و حــســبــيَ ربـي و نعـم الوكيـلْ


      في تلك الليلة كان هناك شيء متميز ، ليس جديداً ، لكنه لا يحدث إلا لماماً ، كان هناك صمت ، و تبادل لنظرات تعني الكثير ... هل هو موت سالم ؟!! أم هي الرسائل التي يقرأها المجاهدون الغرباء هنا مرات و مرات ؟

      أهو الشوق حين يتحرك ؟

      ليكن كل ذلك ، غير أنهم باعوا و انتهى الأمر .. سمعوا نداء العرض :
      ﴿ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ ﴿١٠﴾ فباعوا دفء الأُسَر، و لمسة حنان الأمهات ، و أشواق الشقيقات ، و دموع الآباء على كبر ، و أحزان الأبناء في ليالي العيد .. و باعوا أنفسهم .

      وسط الصمت رفع الشيخ مروان صوته بقوله :
      جنة عرضها السماوات و الأرض .. ألا تستأهل هذا القطمير من الجهد و التضحية؟! .. حدثوني إذاً عن بلال و عمّار و سمية و خباب .. و حدثوني عن نومكم و أكلكم و شربكم بين أهاليكم و ديار المسلمين تحتل ، و المساجد تداس ، و النساء تستغيث ...

      و اهتز السكون بتكبيرة من أبي الوليد .. تلتها تكبيرات عدة شقت صدر الصمت .. و ابتسم أبو مصعب و هو يقول :
      الحمد لله على نعمة الإسلام .




      * * * *


      تعليق


      • #18
        رد: رواية ( خيول الشوق )


        ( 12 )


        بقي الأخير و ندخل في المنطقة الآمنة قال محمود ، و هو ينظر في المرآة الأمامية إلى حاجز الشرطة الذي اجتازوه ، ثم سأل أحمد الذي كان في الخلف :
        أما زال الخنزير نائماً ..؟

        و ردّ أحمد بالإيجاب .

        كانت السيارة تسير بسرعة كبيرة ، إذ لم يكن من الممكن إضاعة الوقت ، خاصة و أن سر اختفاء نزيل الغرفة ( 504 ) لن يدوم طويلاً .. و مد جميل الرحمن يده إلى المذياع ، فضغط زراً فيه ، و ادار زراً آخر : أش شـ .. ش ، قالها الكل و هو يوجه أذنه نحو مصدر الصوت .. و زاد المذيع :
        و يجري البحث الآن ، رغم أنه لم يمر من الوقت ما يعد معه المعني مفقوداً .. هذا و تجدر الإشارة هنا إلى أن الشخص محل البحث ، مجرد مرافق إسعاف للّجنة التي تزور بلادنا ..
        قال بدر :
        إنهم يريدون إيهامنا أنه غير مهم ، على كل المسألة فيها قولان ، و استجواب المعني يرجح .

        قال أحمد :
        يجب أن تعلموا أننا الآن أمام مشكلة حقيقية ، فالخبر أذيع ، و إخفاء إنسان في سيارة أمر غير ممكن .. و لا شك أن الأمر لن يكون سهلاً في الحاجز القادم ..

        و سأله بدر :
        و كم يبعد هذا الحاجز من هنا ؟

        قال محمود :
        قرابة الكيلومترين .

        و بعدها ؟ قال بدر ..

        بعدها سنكون في مأمن رد محمود ، لكن لا تكن زبيباً قبل أن تتحصرم ..

        قال بدر :
        هل أنوب عنك في السياقة و أتحمل مسؤوليتي ؟!!

        قال محمود :
        الأمر ليس في سهولة شرب الماء .

        قال بدر :
        لا عليكم و بإذن الله سننجو ..

        على اليمين توقفت السيارة ، و نزل منها بدر ليأخذ مكان محمود ، في لحظات كهذه يحس المرء أن في رقبته أمانة أمة يجب أن يؤديها ، لذلك يكون الحرص على النجاح أكبر .

        كانت انطلاقة السيارة تدل على أن سائقها مغامر قديم ، و له مع القيادة تاريخ .. كان صوت السديس بـ طـه يتغلغل في النفس ، و يمتزج بالروح نورانياً ، مريحاً .. و مد محمود يده فخلع نظارات بدر ثم مدها إلى وجه أحمد فخلع نظاراته و هو يقول :
        النظارات مثيرة للريبة و الفضول ، لأنه تخفي شيئاً خلفها ..و رجال الشرطة لا يحبون أحد أن يخفي عليهم شيء ..

        و ابتسم بدر ، و رفع عينيه إلى المرآة فرأى الجالسين خلفه يبتسمان ، و كان الجنرال تحت تأثير المخدر لا يتحرك .
        من بعيد بدا حاجز الشرطة ، و تحركت الشفاه تدعو .. و قرأ جميل الرحمن :
        ﴿ وَجَعَلْنَا مِنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّۭا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّۭا فَأَغْشَيْنَـٰهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ، و لم يكن يعلم ما يدور في رأس بدر الذي خفف من سرعة السيارة و بدأ يوجهها نحو المكان الذي أشار له الشرطي بالتوقف فيه على اليمين .

        كان هناك خمسة رجال من الشرطة فيما يبدو ، اثنان في سيارة متوقفة جانباً ، و ثلاثة واقفون على الحاجز ، و بحركة مذهلة سريعة صعّد بدر من سرعة السيارة ، و اقتحم بها الحاجز ، فأردى شرطيين ، و كان الثالث أسرع إلى الرصيف فتحاشى الصدمة ، و مرقت السيارة مروق السهم ، و كان لعجلاتها مع الأرض أصوات و أصوات .

        انطلقت رصاصات من سيارة الشرطة المتوقفة ... و رد عليها محمود برشاش أخرج ماسورته من خلال الزجاج ، و ما هي إلا دقائق حتى كانت السيارة تنعطف يميناً و تأخذ طريقاً جبلياً غير مزفت .. يبدو متعرجاً و صعباً .

        كانت الألسنة لا تكف عن حمد الله تعالى .. و كان الذي يهم الشباب أكثر هو إنجاز المهمة بنجاح ، و إيصال هذا الذي قيل عنه في نشرة الأخبار خبير إسعاف ، و هو في الحقيقة ضابط سامٍ في الموساد و قائد المجموعة ، إلى الذين طلبوه .
        و تعالت الضحكات حين قال جميل الرحمن عن بدر :
        أهذا جني ؟

        فرد عليه أحمد : كأنه هو ..

        و لعل أثر المخدر قد بدأ يخف في تلك اللحظة عن المخطوف ، فبدأ يتململ كأنه يخرج من تحت ركام ثقيل ، و فتح عينيه .. و ذهل .. هل كان يظن أنه سيفتح عينيه على السقف الجميل للغرفة رقم 504 مثلاً ؟!!

        برعشة و حركات تدل على الرعب استدار الجنرال يميناً و يساراً ليلقى النظرة الأولى على اللذين يجلسان إلى جانبه .. و ضرب جبينه بكف يده اليسرى ... لقد علم أنه وقع .. و أن الأمر لن يكون سهلاً .. خاصة و أن الشعب الفلسطيني المسلم يتعرض إلى أبشع أنواع التنكيل ..

        الموساد .. هذا الجهاز القذر الذي يمد أذرعه الأخطبوطية في كل مكان .. هكذا قال جميل الرحمن في نفسه ، ثم توجه إلى المخطوف يسأله :
        حتى هنا .. جئتم ليكون لكم موضع قدم ؟ لماذا لا تتركون حرباً ضد الإسلام و المسلمين إلا و تشعلونها ، أو تساعدون على إشعالها ؟!! لماذا أيها الأوغاد ، و أنتم حفنة ، تجعلون أمة كاملة تدفع الثمن غالياً .. من دينها ، و أمنها ، و أخلاقها ، و مصيرها ؟!!

        كان المخطوف مطأطئ الرأس ، ينظر إلى محدثه من جنب ، نظرة فيها المكر و المذلة ...

        و من خلف الأشجار و الصخور كان الحرس المجاهدون يخرجون مسلّمين بعد أن يتأكدوا أن من في السيارة إخوانهم ..
        و نزل جميل الرحمن ، ثم تلاه محمود يمسك بالمخطوف من يديه المقيدتين خلفه ...

        و من خيمته خرج القائد عبد الرحمن و هو يقول :
        الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .



        * * * *


        تعليق


        • #19
          رد: رواية ( خيول الشوق )


          ( 13 )

          في الغرفة السوداء التي يرتسم على أرضيتها رمز المخابرات الروسية الـKJP كان الجنرال ل.ليفيتش المسؤول عن الملف الأفغاني يعلن عن إنهاء الاجتماع و هو يسلم إلى أحد الضباط بجانبه علبة مختومة ، و يقول :
          حسبما اتفقنا ، يجب أن يتسلمها قبل 18 ساعة و إلا ضاع كل شيء ، الخطأ غير مسموح به ، و التأخر خطأ .. لقد رتبنا لكل شيء .

          و طأطأ الضابط رأسه و هو يتسلم العلبة و قال :
          بالتأكيد يا سيدي .. ستكون عنده قبل الموعد .




          * * * *

          ( 14 )




          رنَّ الهاتف المحمول في يد القائد خطَّاب رنات عدة .. و تطع إلى الرقم ، فعلم أنها مكالمة خارجية ، و للتو ضغط زر فتح الخط ، و هو يقول :
          - السلام عليكم .

          كان صوت الأخ مسعود من أوروبا ، كما كان دائماً جهورياً .. له رنته المميزة :
          - كيف حالكم ؟

          - الحمد لله ، بنِعَم .

          - يصلك الأخ عبد الغفور ، يحمل رسالة تلقيناها من عائلتكم .. يصل اليوم مساء إليكم .. انتظروه في المكان المعهود ، لقد وصفته له ، و سيستدل عليه .

          - و الكلمة ؟

          - ( المثنّى يعبر .. )

          - طيّب .. اتفقنا ، سأرسل إليكم من يستقبله .

          - لقد كلمني من الحدود الروسية ، قد يحتاج إلى خمس ساعات للوصول إليكم .

          - طيب .. طيب .. السلام عليكم .

          و ضغط خطَّاب الزر ، و أعاد الجهاز إلى مكتنه في حزامه .. و هو يقول لعبداييف :
          يصلنا شخص من أوروبا في مهمة .. أرسلوا من يستقبله في جهة محطة البنزين الكبرى في غروزني .



          * * * *


          تعليق


          • #20
            رد: رواية ( خيول الشوق )


            ( 15 )


            كانت عدسة الكاميرا موجهة إلى المخطوف الإسرائلي جالساً على الأرض ، و قد قام خلفه شابان ملثمان يحملان رشاشين ..

            و جلس القائد عبد الرحمن قبالة المخطوف قريباً منه ، و إلى جانبه أسامة ، المختص في الملف الإسرائلي – الروسي ، كان الوقت مساءً ، انقضت فيه صلاة العصر ... و تحلق قادة المجموعة يحضرون الاستجواب ... أما بقية المجاهدين فقد صُرفوا لأعمال شتى ، إذ إن الإجراءات الأمنية تمنع وجودهم .

            كان المخطوف دون قيود ، يفترش حصيراً ، و ابتدره أسامة بسؤال :
            - لماذا أنتم هنا ؟

            - لا علم لي ، أنا مجرد صحفي أرافق المجموعة .

            قال أبو الوليد :
            - و بدأ الكذب و المراوغة ، لماذا لا تأخذون بنصيحة أزرق اليمامة : تخرجون لسانه و تذبحونه ذبح السلحفاة ؟

            و نظر إليه القائد عبد الرحمن نظرة جادة فعاد إلى صمته .

            قال أسامة و هو يوجه كلامه إلى المخطوف :
            - سأختصر عليك الطريق ، و أقرأ جزءاً من المعلومات عنك ، و تناول أحد الحاضرين كومبيوتراً محمولاً ، و راح يداعب أزراره بأنامله باقتدار مذهل ، ثم قال :
            - نعم هو ذا .. العميد جوزيف درعي ، 52 سنة ، عميد في الموساد ، صاحب نظرية الاستيعاب بالردع المدني المقدمة إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية في بداية التسعينات ، الأصول : من يهود الخزر ، أي لست يهودياً أصلياً ، مملكة أجدادك القديمة كانت قريباً من هنا ، أي في القسم الجنوبي من روسيا ، بين نهر الغولف ، و الدون ، ممتدة حتى شواطئ البحر الأسود و بحر قزوين .. عشت في تشيكوسلوفاكيا قبل أن تنتقل مع عائلتك إلى إسرائل في بداية الستينات .. و كما أسلفت فأنت الآن عميد في الموساد . أيكفي هذا أم أزيد؟

            و أغمض العميد عينيه في حنق ، ثم ضرب الأرض بقبضته و هو يضغط بأسنانه ضغطاً يدل على أنه اكتشف أنه وقع فعلاً .. و أن الأفق مسدوداً أمامه ، و رفع رأسه و هو يقول :
            - هو كذلك .

            - إذاً أنت قائد المجموعة ؟

            - نعم

            - لماذا حضرت إلى هنا ؟

            - هناك تخطيط إسرائلي لتوسيع دائرة الحرب و الردع في المنطقة ليشمل دولاً أخرى .. بالنسبة لأمريكا لا مانع عندها ، خاصة أننا سنضرب هذه الدول بتهمة دعم الأرهاب ، و هو الشعار الذي ترفعه واشنطن منذ 11 أيلول 2001 و تعتبر من يحارب في ظله حليفاً لها .. بقي علينا إقناع روسيا بأمرين : غض الطرف عما سنفعله ، و ثانياً عدم بيع السلاح لهذه الدول التي سنستهدفها .

            قال أسامة :
            - و بالنسبة لنا ..؟ أقصد الملف الشيشاني ؟


            قال العميد :
            - جاءت المجموعة لتقدم لروسيا هدية بسيطة ، لتدلل لها على القوة الاستخباراتية الإسرائيلية .. فإذا هي قبلت العرض و أعطتنا الضوء الأخضر ، ساعدناها على القضاء على المقاومة الشيشانية ..

            قال أسامة :
            - ماذا تعني بالهدية ..؟

            - رأس القائد خطَّاب ..

            - خطَّاب .. كيف ؟

            - هناك خطة لتسميمه ..

            - متى ؟

            - أظن أنه قد فات الأوان ..

            - كيف ..؟ كيف ..؟ كيف ..؟

            كان أسامة ينهال بالسؤال المصيري .. كيف ؟ و ودّ لو أنه انهال على رأس عميد الموساد بضربات من أخمس بندقيته ، فأرداه جيفة هامدة ..

            قال العميد :
            - دعوني الآن أستريح ، و بعد الراحة أخبركم ..

            قال عبد الرحمن :
            - تستريح و إخواننا في خطر ؟ و الله لا يُغمض لك جفن حتى تقول ماعندك .. أم إنك تريد رصاصة في الفم ؟ هيا تكلم .. و قام القائد عبد الرحمن ، فأخرج مسدسه من حزامه ..

            و ما كاد المترجم ينهي ترجمة ما قاله القائد عبد الرحمن ، حتى كاد العميد يرتجف فرقاً و هو يشير بيده إلى القائد :
            - لا بأس .. لا بأس .. سأقول ما تريد .

            قال اسامة :
            - تكلم


            قال العميد :
            - كانوا يراقبون اتصالاته الهاتفية ، و جاؤوا بمقلد أصوات ، و كانت الخطة أن يكلمه من أوروبا على أنه مسعود أحد أصدقائه هناك ، و أخبره أنه أرسل إليه رسالة مع أحد الشباب .. الرسالة مسمومة ، و سيكون خطَّاب بعد ربع ساعة من لمْسها هامداً دون حراك ..

            قال أسامة :
            متى ستسلم الرسالة ..؟

            قال العميد :
            اختطفتموني قبل الاجتماع مع الـKJP ، كل شيء من توقيت و غيره من تفاصيل تنفيذ ، يتوقف على ذلك الاجتماع ، الخطأ خطؤكم ، كان من الممكن أن تؤجلوا خطفي يومين .

            و كالملسوع هبّ القائد عبد الرحمن ، و هو يقول :
            - إليّ ببدر



            * * * *


            تعليق


            • #21
              رد: رواية ( خيول الشوق )


              ( 16 )


              كان يذرع المكان جيئة و ذهاباً .. للبر، و سآمة الانتظار .. و فاجأه شخص قريب منه ، يقول :
              المثنى ..
              المثنى يعبر .. ثم سلّم .

              كان عبد الغفور في الخامسة و العشرين من عمره ، تغلب على نطقه العُجمة ، و يتكلم العربية بصعوبة ، يُرجع ذلك و هو يعتذر إلى أنه عاش طوال حياته في أوروبا ...

              أما سعيد الذي جاء لاستقباله فهو في العشرين ، قد يتجاوزها أو يصغر عنها بقليل .. شيشاني ، عيناه زرقاوان و بشرته بيضاء ..

              و كان عليهما الآن أن يسيرا قرابة ساعة حتى يخرجا من منطقة الخطر ، ثم يستقلا السيارة التي تنتظرهما هناك ، حيث خلّفها سعيد ..
              - كيف حال القائد خطَّاب ؟ ( قال عبد الغفور )

              - الحمد لله .. جيد ( رد عليه سعيد )

              - آه قد حلمت كثيراً بلقائه و لقاء المجاهدين ، و ها قد جاء الوقت المناسب ، الحمد لله . قال ذلك و أخرج من حقيبته علبة كعك ، أعطى منها قطعة لمرافقه فاعتذر ، فأخذ هو قطعة و قضمها و هو يضيف : الكثير من الشباب المسلم في أوروبا يتشوقون إلى الجهاد هنا ...

              و يبدو أنه كانت لعبد الغفور شهية كبيرة للكلام ، لذلك راح يسرد قصصاً بلغته المفككة و يفيض في التفصيل دون أن يكف عن قضم قطعة أخرى من الكعك .. أما سعيد فقد رحل به فكره إلى هذا الجيل الطالع من المسلمين ، و الذي همه نصر دين الله تعالى ... في كل مكان هو ، في مشارق الأرض و مغاربها ، ليس في بلاد المسلمين فقط ، بل في الغرب أيضاً ، هذا الجيل المضحي بما يشبه الخيال .. في فلسطين و غيرها .. لعله في أثناء ذلك تذكر المآسي التي أصابت هذه الأمة لقرون .. و تنبت في عيونهم حقول الخير ، و من قلوبهم يعجن هذا الكوكب الأرضي أخضر آمناً ، لا ظلم فيه و لا جهالة ...

              فلماذا يصر أعداء الإسلام على أن يأخذوا البيدر و البقرة ، و أن ينعتوا الفلاح بالإرهابي إن قال لهم فقط : لا ..؟

              خطف عبد الغفور من ساعة يده رقمين ، و قال : إنها الواحدة و الربع ، كم بقي من الوقت لنصل ؟ فردّ سعيد : نحن على مرمى حجر من الجماعة .. لا شك أنّ رحلتك كانت متعبة ، لا عليك سنستريح بعد وصولنا ...

              كان شريط عائض القرني يدور آخر دوراته في مسجلة السيارة قبل أن ينتهي ، و قال سعيد و هو يطفئ المسجلة : جزاك الله خيراً يا شيخ ... ثم مال بالسيارة نحو عريش و أوقفها ، ثم نزل صافعاً الباب خلفه ، و هو يقول :
              أهلاً بأخي عبد الغفور .. تفضل .

              و تفحص الضيف المكان من خلال الزجاج قبل أن ينزل .. ترى ما الذي يدور في رأسه هذه الساعة ؟

              كان المجاهدون قد أدوا صلاة الظهر بعد حصة تدريب شاقة ، و وزعت عليهم مهام المساء ، ثم انتشروا للراحة .. فقام بعضهم يصلي ، و استند البعض إلى جذوع النخل ينظف سلاحه ، أو يقرأ كتاباً ، أو يكتب رسالة .. أو يتأمل .

              و سلّم عليهم سعيد و هو يقول : أخونا عبد الغفور .. و أشار إليه بيده . فقال عبد الغفور : السلام عليكم .. و ردوا السلام بصوت واحد .

              و انطلق أزرق اليمامة الذي التحق بهذه المجموعة مؤخراً ، يقول :
              - هل أحضرت لنا معك عطر كوبرا ؟ طبعاً لا .. إذاً كيف تريدنا أن نجاهد دون عطر و قمصان بياركاردان ؟

              و ضحك عبد الغفور ضحكة توجّس ، إذ إن كلمة كوبرا التي تعني نوعاً ساماً و خطيراً من الثعابين ارتبطت عنده بالرسالة ، و كان المريب أن يقول خذوني .. لكنه تمالك نفسه .. فكيف لهؤلاء أن يعرفوا قصة الرسالة ، و عملية التشويش التي قامت بها الأجهزة الروسية قد عطلت التقاط و إرسال هواتفهم منذ 24 ساعة ؟

              كان الخوف بادياً على وجه عبد الغفور .. غير أن علامات الخوف يمكن أن تشبه علامات التعب ، و الرحلة التي قام بها ليست قصيرة ، لذلك كان تلعثمه في الكلام و قلقه له تفسير واحد عند الجماعة ، و هو التعب .

              قال أحدهم و هو يقدم للضيف بعض الأكل :
              - تفضل ، يمكنك الاستراحة بعد الغداء .

              - لكنني أريد أولاً أن أقابل القائد خطّاب ، هناك أمر مستعجل .

              قال أزرق و هو يشير إلى أحد الشباب :
              - هذا اسمه محمدين .. هل رأيت في حياتك مجاهداً يريد تحرير أرض الإسلام اسمه محمدين ؟ و هل هذه أمة ؟ قل يا محمدين : من سمّاك بهذا الاسم ؟

              قال محمدين و هو يبتسم ، و يجيب تسليماً لأزرق :
              - جدي هو من سمّاني .

              قال أزرق : سامحه الله ، هو الذي أفسد عليك مستقبلك و جعلك بدعة تمشي على الأرض .. أم يكفه اسم محمد واحد ، و هو اسم نبيك عليه الصلاة و السلام ، فذهب يجمع جمع مذكر سالم محمدين ؟

              قالها أزرق باستهزاء و هو يمط شفتيه بها .. ثم أضاف : ماذا بعد الكمال إلا النقصان ؟ ثم أين جدك الآن يا محمدين ؟

              قال محمدين و هو يزداد ضحكاً مع من حوله : مات .. رحمه الله .

              قال أزرق : لو بقي لارتكب في حق ذريتك أشنع مما ارتكب في حققك أنت .. خذها مني يا محمدين : احذف عنك الياء و النون و تبْ عن هذا المنكر ، و إلا علقناك في الشجرة من عرقوبك و أذقناك طُعْمَ السوط أسبوعاً .

              و خرج أحدهم من خيمة قريبة يتوجه نحو الضيف و يقول :
              - أهلاً بك يا أخي .. جزاك الله عنا خيراً .. القائد خطّاب يطلبك ..

              و ارتعشت فرائص الضيف ، و مد يده إلى حقيبته فأخرج منها مذكرة كبيرة سوداء ، تأبطها و سار نحو الخيمة التي فيها القائد خطّاب ، و ما إن دخلها حتى سلّم ، و احتضن القائد بحرارة ، و هو يقول :
              - بلغنا عنك الكثير يا أسد .. دمت ذخراً .

              و ضرب القائد على ظهر الضيف و هو يقول :
              - أهلاً بك ..

              ثم جلس و أجلسه إلى جانبه ، و فتح عبد الغفور المذكرة السوداء و سلّم القائد خطّاباً رسالته ، و هو يقول :
              - إنها من أهلك ..

              و تأملها خطّاب فإذا هي فعلاً بخط يد أخيه الأصغر .. ثم فض غلافها ... و بدأ يجيل عينيه بين أسطرها و هو يبتسم .




              * * * *


              تعليق


              • #22
                رد: رواية ( خيول الشوق )


                ( 17 )

                كانت الساعة الثانية و النصف حين وصل بدر .. ترك باب السيارة مفتوحاً و جرى نحو المعسكر و هو ينادي :
                الرسالة مسمومة يا قائد خطّاب لا تلمسها .. الرسالة مسمومة ، لا تعطوها للقائد .. إنها مسمومة .

                و توقف بدر عن الجري فجأة حين رأى المشهد ..

                كان خطّاب مسجى بين أصحابه ، يده اليمنى على اليسرى كأنه قائم في الصلاة ، لحيته تغطي صدره و حوله ذارفوا الدمع المحبين ، من أخوانه .. هؤلاء الذين يذكر بعضهم يوم جاءهم بركاناً من الحماس و النشاط ، رائع الدعابة ، خجولاً ، شديداً على الأعداء .. رحيماً بإخوانه .

                ترى هل أحست أمه في هذه اللحظة ـ و لقلب الأم إحساس خاص ـ أن ابنها قد خمدت أنفاسه في هذه الحياة الفانية ؟

                هل أحس الذين أحبوه بحبهم الجهاد من الشباب المسلم في مشارق الأرض و مغاربها أن أخاهم القائم على ثغر قد ترك رشاشه مكرهاً ..؟

                كانت اللحظات شديدة .. غريب آخر سيودع في تراب هذه الأرض البعيدة .. جاء يسعى ، حاديه نبض قلبه العامر بحب الجهاد ، و عطره النقع الذي تثيره فرس شوقه في الوهاد و النجود التي يقطعها ..

                جثا بعض إخوانه على ركبهم إلى جانبه ممدّداً .. تأملوة ... لمسوه ... مسح أحدهم تلك اليد المقطوعة الأصابع التي طالما أقضّت مضاجع الأعداء و هي تحتضن الرشاش .. و قال :
                كان قريباً من المستحيل ، مدهشاً ، قريباً من اللاممكن ، ثم أنشد :

                لماذا نقاوم فيك الذهولا .. و لا ممكن العصر و المستحيلا ؟!
                و لسنا نصدق أنك .. متّ لأنك كنت احتمالاً جميلا

                مات إذاً خطّاب ... مات الأسد الذي عرفته هذه الأرض يخط بعمره أسفار البطولة ، و متون التضحية ..
                مات دون أن يقول شيئاً ..

                قال بدر و هو يسأل أحدهم :
                كيف حدث ذلك ؟

                - سلمه الخائن الرسالة ، قرأها مبتسماً ، ثم لثم سطورها ، رقة المسلم تلك ، و هو يرى سطوراً حبرتها أيدي أناس أحبهم .. و وقعت من عينيه دمعة .. مسحها ثم قام لئلا نراه دامعاً .. خجولاً كما كان دائماً ـ رحمه الله ـ و خرج من باب الخيمة ، اعتصره الألم ، تشهد و هو على ركبتيه ينظر إلى السماء .. ثم نظر إلينا ملياً .. لم يقل شيئاً .. تأملنا واحداً واحداً .. و أسند رأسه إلى الأرض ثم مات .. رحمه الله .



                * * * *

                أنزل قبره .. و رمقته العيون .. لم يصدق الكثيرون .. نزلت معه في الظلمة بعض دمعات إخوانه .. كانوا يحبونه ، لم تكن في تلك الدمعات دمعة أم أو أب أو أخت ... مات غريباً ... كما عاش ، فطوبى للغرباء .

                قال الشيخ عوف و هو يقطع الصمت الذي خيّم على الرؤوس المطرقة التي تسمرت عيونها بالقبر :
                طوبى لكم .. و قد اخترتم ظهور خيول الشوق تطير بكم بين الثغور في فجاج الأرض البعيدة
                فتقتُلون و تُقتلون .. طوبى لأكفكم المحروقة من الجمر التي تقبضون عليه ....




                * * * *

                تمت بحمد الله

                و لا تنسوا إخوانكم في الشيشان من الدعاء .. فمازال الجهاد مستمر يدافعون عن إسلامهم و عقيدتهم ..

                لا تنسوهم .. فهناك تعتيم إعلامي ممنهج على قضيتهم . انصروا إخوانكم و لو بالدعاء .


                تعليق


                • #23
                  رد: رواية ( خيول الشوق )

                  بسم الله ما شاء الله
                  والله من أروع الروايات التى قرأتها
                  رحم الله القائد خطاب
                  ونصر اخواننا المجاهدين فى الشيشان وكل بقاع الأرض
                  وجزاكِ الله خيرا ياأختى على الرواية الأكثر من رائعة

                  أستغفر الله وأتوب إليه
                  أستغفر الله وأتوب إليه
                  أستغفر الله وأتوب إليه
                  أستغفر الله وأتوب إليه
                  أستغفر الله وأتوب إليه

                  تعليق


                  • #24
                    رد: رواية ( خيول الشوق )

                    المشاركة الأصلية بواسطة الأميره جودى مشاهدة المشاركة
                    بسم الله ما شاء الله

                    والله من أروع الروايات التى قرأتها
                    رحم الله القائد خطاب
                    ونصر اخواننا المجاهدين فى الشيشان وكل بقاع الأرض
                    وجزاكِ الله خيرا ياأختى على الرواية الأكثر من رائعة
                    اللهم آمين

                    و جزاكِ الله مثله أختي الكريمة

                    وفقنا الله و إياكم إلى ما يحب و يرضى


                    تعليق

                    يعمل...
                    X