رد: رواية ( خيول الشوق )
( 10 )
من قمة الجبل بدت غروزني في هذه الساعات الأولى من الفجر ... متلألئة ... تتوسد أغلالها و تتأمل الأفق ... هادئة كانت ... لا غير غمزات المصابيح التي تخبو حتى تعود للإضاءة بقوة ... و رمقها الصقر عبد الرحمن قائد المجموعة بنظرة فيها الكثير من المعاني ، فهي مدينته ، ولد فيها .. و فيها ولد أجداده .. مسلمة كانت منذ قرون ، ألقى عليها البعض رداءه الأحمر ، لكنه ظلت في ليل الشيوعية الأليل تعلن إسلامها .. و أنها لله لا لقيصر ..
غروزني ملحمة الفداء و ملتقى ليوث المجد ، أخت سراييفو ، و القدس ، و قندهار ...
كان الوقت صباحاً ، و ليس في غروزني صباح ، فكل أوقاتها مساءات للسبي ، و للقيود ، و للأسى ... و تحرك لسان عبد الرحمن :
لهفي عليكِ غروزني هذا المساء .. فـتـلفعي بالثـلج إن عز الرداء
و توضـئي بالحزن يا أختي التـي .. عبثت بها أيدي الغزاة الأشقياء
لهفي عليكِ غروزني هذا المساء .. فـتـلفعي بالثـلج إن عز الرداء
و توضـئي بالحزن يا أختي التـي .. عبثت بها أيدي الغزاة الأشقياء
فاقترب منه أبو مصعب و وضع يده على كتفه و هو يقول :
إن لم نحررها فستأتي أجيال تحررها ، و المهم أن نبقى نقاتل لنورث السلاح ساخناً حاراً للأجيال القادمة .. كم سيصمد الذين أخذوا أراضينا و امتهنوا شعوبنا المسلمة ، و عقيدتنا الطيبة في مشارق الأرض و مغاربها ؟ .. كم سيصمدون ؟ عاماً .. عشرة .. قرناً ؟ لن ندعهم يستريحون .
إن لم نحررها فستأتي أجيال تحررها ، و المهم أن نبقى نقاتل لنورث السلاح ساخناً حاراً للأجيال القادمة .. كم سيصمد الذين أخذوا أراضينا و امتهنوا شعوبنا المسلمة ، و عقيدتنا الطيبة في مشارق الأرض و مغاربها ؟ .. كم سيصمدون ؟ عاماً .. عشرة .. قرناً ؟ لن ندعهم يستريحون .
قال أبو الوليد :
لكن ألا تظن أن أجيالنا نحن أيضاً ستتعب .
لكن ألا تظن أن أجيالنا نحن أيضاً ستتعب .
فرد أبو مصعب :
و متى استراحت أجيالنا ؟ هم لهم خياران ... أما نحن فلا خيار لنا ، هناك واقع واحد كان دوماً قدرنا ، و هو العيش في ظل الاستعمار ، و الامتهان ... أيمكن أن تقول لي متى عاش الشعب الفلسطيني مستريحاً قبل الانتفاضة ؟ الشعب الفلسطيني كان دائماً مذبوحاً ، أما في أوقات المقاومة ، فإنه يصير ذابحاً و مذبوجاً ، و وحدهم الظلمة و المغتصبون من يخسرون إن ووجهوا بالنار و الدمار .. ذلك لأن النار عندهم تقابل الأمن الممكن .. أما الضعفاء فلا أمن عندهم لتكون الحرب بالنسبة لهم خسارة .. الأمر شبيه بجوع الأغنياء المتخمين و الفقراء .. الفقراء حياتهم كلها جوع ، لذلك فهم يحسون بشيء من النشوة حين تأتي الظروف التي يجوع فيها معهم الأغنياء المتخمون .
و متى استراحت أجيالنا ؟ هم لهم خياران ... أما نحن فلا خيار لنا ، هناك واقع واحد كان دوماً قدرنا ، و هو العيش في ظل الاستعمار ، و الامتهان ... أيمكن أن تقول لي متى عاش الشعب الفلسطيني مستريحاً قبل الانتفاضة ؟ الشعب الفلسطيني كان دائماً مذبوحاً ، أما في أوقات المقاومة ، فإنه يصير ذابحاً و مذبوجاً ، و وحدهم الظلمة و المغتصبون من يخسرون إن ووجهوا بالنار و الدمار .. ذلك لأن النار عندهم تقابل الأمن الممكن .. أما الضعفاء فلا أمن عندهم لتكون الحرب بالنسبة لهم خسارة .. الأمر شبيه بجوع الأغنياء المتخمين و الفقراء .. الفقراء حياتهم كلها جوع ، لذلك فهم يحسون بشيء من النشوة حين تأتي الظروف التي يجوع فيها معهم الأغنياء المتخمون .
تأملت المجموعة المدينة الحبيبة ، التي يغفى فيها أهلها المسلمون في هذه اللحظة على أحزانهم ، كباراً و صغاراً .. و تحركت الخطى منحدرة بين الأشجار ، كما لم تكف الألسنة عن حركتها بالدعاء و الذكر .
شهق الضوء شهقته الأولى ، و بدأت حبيبات النور تمتزج بالأثير ، و تمسح الظلمة عن الوهاد و النجود ... لحظات عجيبة تلك التي يخرج فيها النهار من صلب الليل ، ضعيفاً ، مغبشاً ، و يبدأ يغول في الظهور حتى يستوي عوده ، و يصبح نهاراً كاملاً بضوئه و وضوحه ..
و أخرج سالم من جيبه ورقة مغلفة بالشريط اللاصق ، و هو يقول :
يا إخوتي هذه وصيتي ، إنها هنا تحت الصخرة ، أضعها هنا فإذا حدث لي شيء ، فخذوها في طريق رجوعكم ، إنني أحس بدماء الشهادة قد ضجت في عروقي .. لقد حضرت عشرات المعارك هنا ، و في البوسنة و في أفغانستان .. و ما أحسست بهذا الإحساس الذي يتملكني الآن .. إنني أكاد أحلِّق في عالم آخر ...
يا إخوتي هذه وصيتي ، إنها هنا تحت الصخرة ، أضعها هنا فإذا حدث لي شيء ، فخذوها في طريق رجوعكم ، إنني أحس بدماء الشهادة قد ضجت في عروقي .. لقد حضرت عشرات المعارك هنا ، و في البوسنة و في أفغانستان .. و ما أحسست بهذا الإحساس الذي يتملكني الآن .. إنني أكاد أحلِّق في عالم آخر ...
كانت الكلمات مؤثرة ، و لم يجد إخوانه كلمة يقولونها له ، لذلك فقد ساد الصمت ، و كان سالم أول من قطعه بوقع خطواته ، و هو يستأنف السير منحدراً .. و تبعه إخوانه .. و ترامت أصوات محركات تهدر ...
أسْ .. سْــ .. سْ ... ( قالها بعضهم بصوت واحد ) ، و توقفت الحركة ، و أصغت الآذان موجهة نحو الأسفل ..
كانت الأصوات أصوات شاحنات ، و لم يكن هناك مجال للشك أنها القافلة الموعودة ، لذلم فقد تسارعت الخطى ، و اندفع الشباب نحو مقصدهم ، و كانوا كلما تقدموا أكثر ازداد الهدير وضوحاً ..
و وصلوا إلى المكان الذي اختاروه لإقامة الكمين فيه ، مصطبة مشرفة على الطريق ، و لا أسفل من الطريق في الجهة المقابلة سوى الهاوية التي لا منجى منها و لا مهرب من خلالها .
أخذ كل فرد مكانه ، و حبست الأنفاس في انتظار اللحظة الحاسمة ... كانت دقات القلوب تزداد مع دوران عجلات الشاحنات المتتالية التي صارت على مرأى من المتربصين بها ...
حبست الأنفاس ، و تقدمت القافلة ، حتى إذا أحس المجاهدون و رأوا أنها في قلب المصيدة ، انهالوا عليها بزخات القنابل ، و أمام المفاجأة بدأ جنود العدو يقفزون من الشاحنات و رشاشاتهم تثرثر في كل اتجاه .. و حاولت بعض الشاحنات التحرك ، غير أن تركيز المجاهدين على الشاحنات الأولى التي في رأس القافلة و الأخيرة التي في ذيلها قد شلّ حركتها و حال دون تقدمها أو تراجعها ..
كانت رشاشات المجاهدين حصاداً لا يهدأ للجنود الروس الذين علا عويلهم و صراخهم أمام تكبيرات الأسُودِ و هول الموقف .
و رفع عبد الرحمن جهاز المكبر ( الميغافون ) و دعا الجنرال إلى الاستسلام .
و رفع عبد الرحمن جهاز المكبر ( الميغافون ) و دعا الجنرال إلى الاستسلام .
كانت غروزني تشاهد الموقف من بعيد ، و تضع يدها على فمها خوفاً من أن تنكشف نشوتها ..
و خرج الجنرال تشرنومردن زيغانوف من بين الشاحنات يصرخ :
أنا الجنرال ..
أنا الجنرال ..
و ترنح و هو يأخذ طريقه نحو المصطبة ، تدفعه خطوة إلى الأمام ، و ترجع به أخرى إلى الخلف ... كانت الطلقات تتناقص شيئاً فشيئاً ، حتى خمدت ، بينما كانت ألسنة النار تلتهم الشاحنات التهاماً ...
و رفع القائد عبد الرحمن يده و هو يقول :
أوقفوا إطلاق النار ..
أوقفوا إطلاق النار ..
و خرج سالم بخفة مذهلة نحو الجنرال يريد استلامه ، فإذا به يخرج من حزامه مسدساً و يطلق منه طلقتين باتجاه الشاب الذي بات ليلته بين يدي ربه يتوسل إليه و يدعوه بكل اسم من أسمائه الحسنى أن يرزقه الشهادة ..
كانت المسافة بين االمجرم و الشهيد لا تتجاوز خمسة أمتار ، و تحسس سالم صدره بيمناه ثم رفعها أمام عينية ، فإذا هو مهر الجنة .. أحمر قانياً .. حاراً .. السائل الملتهب الذي طالما أقض مضجع صاحبه و جاء به يقطع الوهاد و النجود ...
كان الجنرال واقفاً كخشبة ... و تأمله سالم بنظرة رهيبة ، ثم اقترب منه ، يغالب نهايته ... و مد يده إلى رقبته فأمسك بها ، و أطبق عليها يخنقه .. و حاول الجنرال أن يدافع عن نفسه ، لكن اليدين كانتا تضخان آخر ما فيهما من عزم و من قوة ، و تلوّى الجنرال ، غير أن الفتى لم يفلته ، سقط معه على الأرض ، و ظل بعصر أوداجه حتى أرداه جثة هامدة .
كان سالم على ركبتيه حين ألقى من يده رأس عدوه ، ثم سجد لله سجدة ، رفع منها و التفت إلى أصحابه ، تأمل وجوههم و هو يبتسم ، و يقول : فزت و رب الكعبة و هوى إلى الأرض ساكناً ..
كانت خسائر العدو ثلاثمئة جندي من الأرواح ، مع الكثير من الأسلحة و الغنائم ...
التي اهتم المجاهدون بجمعها و السنتهم لا تكف عن حمد الله تعالى ، و في تلك الأثناء كان أبو مصعب و أبو الوليد و معهم القائد عبد الرحمن يقفون على جسد الشهيد الذي عاش حالماً و مات مبتسماً .. فقال أبو مصعب و هو يمسح دموعه :
إنه ابن حيِّنا ، كان ولداً صغيراً ، أذكره مع الصبيان .. يملأون الحي حيوية و مرحاً .. و أذكره حين يدخل المسجد يقطر وجهه و ذراعاه من ماء الوضوء .. كان صادقاً .. أخلاقه في المسجد هي أخلاقه و هو يلعب الكرة ، لايعرف التصنع و لا يحمل الحقد ... و كانت أمه تحبه ، حدثهم بعضهم في رسائلهم إليّ ، أنها قبل موتها بشهور كانت تجلس على عتبة الباب الخارجي ، تنظر نحو الجهة التي قيل لها أن الشيشان فيها .. تتنهد ساهمة ، و ربما غلبتها عبراتها إذا سألها عنه أحد ، فتقول و هي تمسح عيونها : كنت أحبه .. و اشتقت إليه كثيراً .. حينما كان صغيراً ، كنت أضع رأسه في حجري ، و أمسحه و أفلّيه ... و كنت أتأمل عينيه فأرى فيهما اشياء مخيفة ...
إنه ابن حيِّنا ، كان ولداً صغيراً ، أذكره مع الصبيان .. يملأون الحي حيوية و مرحاً .. و أذكره حين يدخل المسجد يقطر وجهه و ذراعاه من ماء الوضوء .. كان صادقاً .. أخلاقه في المسجد هي أخلاقه و هو يلعب الكرة ، لايعرف التصنع و لا يحمل الحقد ... و كانت أمه تحبه ، حدثهم بعضهم في رسائلهم إليّ ، أنها قبل موتها بشهور كانت تجلس على عتبة الباب الخارجي ، تنظر نحو الجهة التي قيل لها أن الشيشان فيها .. تتنهد ساهمة ، و ربما غلبتها عبراتها إذا سألها عنه أحد ، فتقول و هي تمسح عيونها : كنت أحبه .. و اشتقت إليه كثيراً .. حينما كان صغيراً ، كنت أضع رأسه في حجري ، و أمسحه و أفلّيه ... و كنت أتأمل عينيه فأرى فيهما اشياء مخيفة ...
مسح مصعب نهر الماء و الملح على خده ، و أضاف :
ما فتئت هذه العقيدة تنجب مصعباً بعد مصعب .. شباب يترك حياة الرغد ، و رقيق الملبس ، ليلتحق بأهوال الجهاد ، ليموت غريباً .. لله ما أعظم هذ الدين ، و ما أروع أتباعه الصادقين الذين تمثلوه فعلاً ...
ما فتئت هذه العقيدة تنجب مصعباً بعد مصعب .. شباب يترك حياة الرغد ، و رقيق الملبس ، ليلتحق بأهوال الجهاد ، ليموت غريباً .. لله ما أعظم هذ الدين ، و ما أروع أتباعه الصادقين الذين تمثلوه فعلاً ...
كانت لفحات البرد تلسع الوجوه البادي بعضها من خلال اللحف ، أما وجه سالم فقد استحال في تلك اللحظة قطعة من فضة .. مشرقة ، باردة ، و تأمله إخوته قبل أن يدفنوه .. و استرجع بعضهم صورته في الليلة السابقة حين كان ساجداً لله تعالى يدعوه و يلحّ ...
دارت عقارب الساعة ... و كانت أنفاس المجاهدين تتراءى كدخان ، نضح بعضهم ما عنده من الماء على سنام القبر .. و تحركت الخطى راجعة من حيث أتت ، و وحده سالم لم يرجع مع إخوته ، وحدها قدماه التي رسمت في الأرض آثار المجيء ، و انقطع الدرب ... وحده المتروك هنا ... فمن كان يظن أنه يقطع كل هذه الأميال ليدفن في قبر سيطويه الزمان ، و لن يتعرف عليه بعد عقود أحد ... سوى أن صاحبه جاءت به خيول الشوق تضج من بعيد .. حتى إذا بلغت به هذا المبلغ ، رحم الله توقه و شوقه و اختاره إليه .
كان الرتل خاشعاً .. خطوة .. عشرة .. مائة ، كاد القبريختفي ، استدار أبو مصعب إلى الخلف ، استدار لاستدارته أصحابه .. مسح عينيه ، مسح بعضهم عينيه ، و هم يقولون :
رحمه الله و تقبله شهيداً
رحمه الله و تقبله شهيداً
قال أبو الوليد و هو يطوق خصر صابه أبي مصعب و يشده إله مسرياً عنه :
مشينا خطى كتبت علـيـنـا .. و من كتبت عليه خطى مشاها
مد أبو مصعب يده إلى حيث وضع سالم وصيته ، أخرجها ، تابع السير لاحقاً بأصحابه ، فك عنها غطاءها في حذر و رهبة كأنه يفك عن صاحبها أكفانه ، قرأ سطراً ، لم يتمالك نفسه ، قربها من فمه مرتجفاً ، قبلها و البكاء يخنقه ، استدار إلى الخلف و هو يقول :
بالله عليك كيف أتركك هنا و أرجع ؟
بالله عليك كيف أتركك هنا و أرجع ؟
* * * *
تعليق