من كتاب جعلناه نوراً...
للدكتورخالد أبوشادي
حصاد_التدبر
الجزء الأول
أول صفة مدح الله بها عباده في كتابه:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )، وبها يتمايز الخلق، فأشدهم إيمانا أعظمهم تصديقا بالغيب، وبهذا سبقنا أبو بكر.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ):
لا تخسر هذه الصفة بكثرة حرصك على أخبار الإعجاز العلمي التي تؤيد ما في القرآن من حقائق،
بل اجعل شعارك:
إن كان قال فقد صدق!
﴿ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى ﴾: جاء بلفظ (على) أي مستعلين بهدايتهم،
وذكر الله أهل الضلالة فقال: ﴿أولئك (في) ضلال مبين﴾ أي منغمسين به.
﴿.وَمِنَ النَّاسِ مَن (يَقُولُ) آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾
تقييم كل إنسان بأفعاله لا بأقواله.
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ" ﴾
قال ابن عرفة: نفى عنهم الشعور، وهو مبادئ الإدراك فبنفي مبادئ الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرى.
( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ):
المريض يجد طعم الطعام على خلاف ما هو عليه، فيرى الحلو مرا،
وكذلك المنافقين يرون الحق باطلاً والباطل حقا!
( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ ):
البعض يستعجل نزول العقوبة بالمنافقين.
وما درى أن أعظم عقوبة هي مرض القلب، فكيف بزيادته واشتداده؟!
( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ):
نادرا ما يَشعر المفسد أنه مُفسد!
ولو شعر لانحلت المشكلة!
﴿. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3 ]:
المال مال الله، ثم يمدحنا على إنفاقه!
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 5 ]:
من كتب الله عليه الشقاوة في أُمِّ الكتاب، لن تجدي معه بِشارة ولا نذارة ولا عتاب.
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ﴾ [البقرة: 9 ]:
أسلوب الحصر يدلُّ على أنَّ خداعهم مرتدٌّ عليهم، فلن يضروا الله شيئًا، ولا رسولَه، ولا المؤمنين.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9 ]:
شدة الغفلة وتتابع الذنوب تجعل من صاحبها بلا شعور ولا إحساس.
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12]:
أخطر آثار الذنوب هو نزع إحساس القلب بوقعها عليه أي موته!
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12]:
لا عداء أشد من عداء المنافقين للمؤمنين؛ ولا إفساد أعظم من إفساد المنافقين في ديار المسلمين،
ولذا جاءت الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكِّدات: ﴿ألا﴾، و ﴿إنَّهُمْ﴾، و ﴿هُمْ﴾، وهو من أبلغ صيغ التوكيد.
﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا )
مرض القلب هو السبب الذي رأوا به الصور مقلوبة، وظنوا إفسادهم صلاحا..
ألم أقل لكم: أمراض القلوب مهلِكة؟!
﴿قالوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: 11-12]:
مَنْ ادَّعى منزلة ونسبها لنفسه عوقِب بالحرمان منها.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16 ]:
شغف المنافقين بالنار عجيب! كأنهم يشترونها.
﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 16 ]:
خسروا كل شي: الربح ورأس المال، فما ربحوا دنيا ولا آخرة، ولا نالوا العاجل ولا الآجل،
وهذا جزاء من قدَّم على الله سواه، وآثر شهوته وهواه.
من صفات المنافقين احتقار الصالحين فضلا عن المصلحين، والتقليل دوما من شأنهم
(أنؤمن كما آمن السفهاء).
( أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) ..(أنؤمن لك واتبعك الأرذلون):
الكِبر من أهم أسباب عدم اتباع الحق، هل فهمتٓ الآن لم لا يدخل الجنة من كان فيه ذرة من كِبر؟
(إِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ)
تحذير هام!
بعض الأصحاب شيطان في صورة إنسان، لكن لا يراه على حقيقته إلا أهل الإيمان.
لا تتعجب من إملاء الله للمستهزئ بالحق، فإن الله يبغضه، لذا يملي له ليزداد إثما، فيتضاعف عذابه
(الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).
(وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب)
يتلو اﻵيات فيخاطب بها الناس، وينسى نفسه!
(وَاستَعِينوا بالصبر والصلاة وإنها لَكبيرة إلا على الخاشعين)
قد ينفد زاد الصبر، لذا أمرنا الله أن نستعين بالصلاة الخاشعة لتعين الصبر وتقويه.
(وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين):
خفَّت عليهم عظائم الأمور بخشوعهم في الصلاة، فالخشوع قوة!
كثيرا ما نوصي من أصيب بمصيبة أن يصبر،
لكن ننسى أن نوصيه بقرينة الصبر: الصلاة (واستعينوا بالصبر والصلاة)،
وكانﷺ إذا حزبه أمر فزع للصلاة.
الصلاة ثقيلة على كل من لم يخشع فيها، وأكثر ما يجلب الخشوع اليقين باليوم الآخر
(وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم).
(وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون):
تأمل: (وأنتم تنظرون).
عند اشتداد الظلم لا يشفي غيظ المظلوم إلا رؤية مصارع الظالم.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17 ]:
النار إما أن تضيء وإما أن تُحرِق، فمن أراد الله به الخير منحه النور من النار، ومن أعرض عن الله أحرقه الله بالنار.
﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: 17 ]:
هذه عقوبة الله للمنافق الذي آثر الغواية على الهداية، وهجر نور الإيمان بعد أن استضاء به، وعرف ثم أنكر.
﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: 17 ]:
فليست ظلمة واحدة بل ظلمات متراكمة مركبة؛ ظُلمة الحقد على المؤمنين والكراهية لهم، وظلمة تمني هزيمة المؤمنين،
وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر، وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله المنافق ليتظاهر بالإيمان.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾[البقرة: 20 ]:
على المؤمن أن يسأل ربه دائما أن يُمتِّعه بسَمْعه وبصره؛ وألا يسلبه هذه الحواس حقيقة أو مجازا بعدم انتفاعه بها.
﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21 ]:
ما هدف العبادة؟!
هدفها: بلوغ شاطئ التقوى، كأنه قال: اعبدوا ربكم رجاء اللحاق بقوافل المتقين، وفيه إشارة إلى أن التقوى منتهى أمل وغاية طموح العابدين.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22 ]:
لا تعلِّقوا قلوبكم بغير الله، فإنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر، فإذا توهَّمْتم أن شيئا من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يجري بتدبير مخلوق مثلكم، فاعلموا أنه لون من الشِّرك الخفي.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22 ]:
من كان محتاجا، هل يصلح أن ترفع إليه حاجتك؟! اعلموا أن تعلُّق الفقير بالفقير، واعتماد المحتاج على المحتاج يزيد الفقر، ولا يزيل أثر الضُّر.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22]:
فيه إشارة إلى أن وقوع الخطأ من الجاهل قبيح، لكنه من العالِم أشد قبحا.
﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 24]:
إذا كانت هذه النار لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها، فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم ولين أبدانهم؟!
﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ [البقرة:24]:
السيئات نار موقدة، لكنها نار مؤجَّلة، لا تشتعل على صاحبها إلا بعد الموت، والعاقل من يتقيها لا من يوقدها ويُذْكيها.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة:26]:حُكْم الله، والتساؤل باستمرار حول حكمة الله في الأحداث بغرض بثِّ الشبهات.
﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: 25]:ثمار الجنة رائعة ومتجدِّدة، الشكل هو الشكل، لكن الطعم مختلف، واللذة متزايدة، يوما بعد يوم إلى ما لا نهاية. قال ابن عباس: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي».
﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]:
مجامع اللذات في ثلاثة: المسكن والمطعم والمنكح، فجمعها الله في هذه الآية، لكن هذه النعم إذا اقترن بها خوف الزوال كان التنعم بها منغَّصا، فبشَّرهم الله بالخلود ليزيل عنهم هذا الخوف، فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرور.
﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾[البقرة: 27]:يدخل في الآية كلُّ قطيعة لا ترضي الله كقطع الرحم، وهجر المؤمنين، وعدم موالاة الصالحين، وترك حضور الجماعات المفروضة، والمعاملة بالمِثْل! ففي الحديث الصحيح: «من وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله». صحيح الجامع رقم: 6590
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[البقرة: 29]:
كل ما هذا الكون مسخَّر لخدمتك، فيا لسمو مكانتك وعظيم رتبتك، وفي الآية إشارة خفية إلى شناعة كفر الكافرين رغم إحسان رب العالمين.حتى الملائكة -وهم أطهر الخلق- تحرسك وترعاك : ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [الرعد: 11]
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[البقرة: 29]:
أعطاك عطاء لا ينقطع، دون سَعْي منك أو سؤال، فهل شكرتَ ذلك أم تأخذ كل شيء دون أن تعطي كالمحتال؟!
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]:
مهما علت رتبتك ستظل بعض حكمة الله غائبة عنك، وهل هناك أعبد وأطهر من الملائكة؟!ومع ذلك غاب عنهم حكمة خلق آدم.
﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]:كلما طهر القلب زادت حساسية صاحبه تجاه المعصية!قالت الملائكة هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله لمن يعصيه، أو التعجب من عصيان من يستخلفه الله في أرضه.
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]:
كل علم لدينا إنما هو مما أذِن الله لنا أن نعلمه، ثم يأتي بعد هذا (مُلْحِد) يجادل في وجود الله بسبب ما وصل إليه من علم!
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]:الكِبر يقود إلى الكفر.
﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.قال ابن كثير: لا تقابلوا النعم بالعصيان فتُسلَبوها.
ذل الأمة عقوبة على ابتعادها عن دينها، فالله يعز الطائع ولو كان ضعيفا، ويذل العاصي ولو كان قوياً(ضربت عليهم الذلة) (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). عبد العزيز الطريفي
الحق مهما كان قوياً فلا بد من ثقة صاحبه به ليؤثر،قال الله: (فخذها بقوة) وقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) وقال: (خذ الكتاب بقوة) / عبد العزيز الطريفي
(صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)للألوان المبهجة أثر على النفوس، فلوِّن حياتك بألوان الفرح.
(والله مخرج ما كنتم تكتمون):ما تكتمه سيخرجه الله لا محالة، فزيِّن باطنك كما زيَّنت ظاهرك.
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)قست قلوبهم بعد أن رأوا معجزة إحياء الله قتيل بني إسرائيل، والدرس:لا تأمن قسوة القلب بعد اليقظة.
﴿ومنهم أميُّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني﴾:قال ابن تيمية: ذلك متناولٌ لمن ترك تدبر القرآن ، ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه!
﴿وقُولوا (للناس) حُسنا﴾:إحسان القول مع الكل! قال ابن عباس: لو قال لي فرعون خيرا، لرَددت عليه مثله .
يتبع
من كتاب جعلناه نوراً...
للدكتورخالد أبوشادي
حصاد_التدبر
الجزء الأول
أول صفة مدح الله بها عباده في كتابه:
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )، وبها يتمايز الخلق، فأشدهم إيمانا أعظمهم تصديقا بالغيب، وبهذا سبقنا أبو بكر.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ):
لا تخسر هذه الصفة بكثرة حرصك على أخبار الإعجاز العلمي التي تؤيد ما في القرآن من حقائق،
بل اجعل شعارك:
إن كان قال فقد صدق!
﴿ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى ﴾: جاء بلفظ (على) أي مستعلين بهدايتهم،
وذكر الله أهل الضلالة فقال: ﴿أولئك (في) ضلال مبين﴾ أي منغمسين به.
﴿.وَمِنَ النَّاسِ مَن (يَقُولُ) آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾
تقييم كل إنسان بأفعاله لا بأقواله.
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ" ﴾
قال ابن عرفة: نفى عنهم الشعور، وهو مبادئ الإدراك فبنفي مبادئ الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرى.
( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ):
المريض يجد طعم الطعام على خلاف ما هو عليه، فيرى الحلو مرا،
وكذلك المنافقين يرون الحق باطلاً والباطل حقا!
( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ ):
البعض يستعجل نزول العقوبة بالمنافقين.
وما درى أن أعظم عقوبة هي مرض القلب، فكيف بزيادته واشتداده؟!
( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ):
نادرا ما يَشعر المفسد أنه مُفسد!
ولو شعر لانحلت المشكلة!
﴿. وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3 ]:
المال مال الله، ثم يمدحنا على إنفاقه!
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 5 ]:
من كتب الله عليه الشقاوة في أُمِّ الكتاب، لن تجدي معه بِشارة ولا نذارة ولا عتاب.
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ﴾ [البقرة: 9 ]:
أسلوب الحصر يدلُّ على أنَّ خداعهم مرتدٌّ عليهم، فلن يضروا الله شيئًا، ولا رسولَه، ولا المؤمنين.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9 ]:
شدة الغفلة وتتابع الذنوب تجعل من صاحبها بلا شعور ولا إحساس.
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12]:
أخطر آثار الذنوب هو نزع إحساس القلب بوقعها عليه أي موته!
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12]:
لا عداء أشد من عداء المنافقين للمؤمنين؛ ولا إفساد أعظم من إفساد المنافقين في ديار المسلمين،
ولذا جاءت الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكِّدات: ﴿ألا﴾، و ﴿إنَّهُمْ﴾، و ﴿هُمْ﴾، وهو من أبلغ صيغ التوكيد.
﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا )
مرض القلب هو السبب الذي رأوا به الصور مقلوبة، وظنوا إفسادهم صلاحا..
ألم أقل لكم: أمراض القلوب مهلِكة؟!
﴿قالوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: 11-12]:
مَنْ ادَّعى منزلة ونسبها لنفسه عوقِب بالحرمان منها.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16 ]:
شغف المنافقين بالنار عجيب! كأنهم يشترونها.
﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 16 ]:
خسروا كل شي: الربح ورأس المال، فما ربحوا دنيا ولا آخرة، ولا نالوا العاجل ولا الآجل،
وهذا جزاء من قدَّم على الله سواه، وآثر شهوته وهواه.
من صفات المنافقين احتقار الصالحين فضلا عن المصلحين، والتقليل دوما من شأنهم
(أنؤمن كما آمن السفهاء).
( أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) ..(أنؤمن لك واتبعك الأرذلون):
الكِبر من أهم أسباب عدم اتباع الحق، هل فهمتٓ الآن لم لا يدخل الجنة من كان فيه ذرة من كِبر؟
(إِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ)
تحذير هام!
بعض الأصحاب شيطان في صورة إنسان، لكن لا يراه على حقيقته إلا أهل الإيمان.
لا تتعجب من إملاء الله للمستهزئ بالحق، فإن الله يبغضه، لذا يملي له ليزداد إثما، فيتضاعف عذابه
(الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).
(وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب)
يتلو اﻵيات فيخاطب بها الناس، وينسى نفسه!
(وَاستَعِينوا بالصبر والصلاة وإنها لَكبيرة إلا على الخاشعين)
قد ينفد زاد الصبر، لذا أمرنا الله أن نستعين بالصلاة الخاشعة لتعين الصبر وتقويه.
(وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين):
خفَّت عليهم عظائم الأمور بخشوعهم في الصلاة، فالخشوع قوة!
كثيرا ما نوصي من أصيب بمصيبة أن يصبر،
لكن ننسى أن نوصيه بقرينة الصبر: الصلاة (واستعينوا بالصبر والصلاة)،
وكانﷺ إذا حزبه أمر فزع للصلاة.
الصلاة ثقيلة على كل من لم يخشع فيها، وأكثر ما يجلب الخشوع اليقين باليوم الآخر
(وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم).
(وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون):
تأمل: (وأنتم تنظرون).
عند اشتداد الظلم لا يشفي غيظ المظلوم إلا رؤية مصارع الظالم.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17 ]:
النار إما أن تضيء وإما أن تُحرِق، فمن أراد الله به الخير منحه النور من النار، ومن أعرض عن الله أحرقه الله بالنار.
﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: 17 ]:
هذه عقوبة الله للمنافق الذي آثر الغواية على الهداية، وهجر نور الإيمان بعد أن استضاء به، وعرف ثم أنكر.
﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ [البقرة: 17 ]:
فليست ظلمة واحدة بل ظلمات متراكمة مركبة؛ ظُلمة الحقد على المؤمنين والكراهية لهم، وظلمة تمني هزيمة المؤمنين،
وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر، وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله المنافق ليتظاهر بالإيمان.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾[البقرة: 20 ]:
على المؤمن أن يسأل ربه دائما أن يُمتِّعه بسَمْعه وبصره؛ وألا يسلبه هذه الحواس حقيقة أو مجازا بعدم انتفاعه بها.
﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21 ]:
ما هدف العبادة؟!
هدفها: بلوغ شاطئ التقوى، كأنه قال: اعبدوا ربكم رجاء اللحاق بقوافل المتقين، وفيه إشارة إلى أن التقوى منتهى أمل وغاية طموح العابدين.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22 ]:
لا تعلِّقوا قلوبكم بغير الله، فإنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر، فإذا توهَّمْتم أن شيئا من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يجري بتدبير مخلوق مثلكم، فاعلموا أنه لون من الشِّرك الخفي.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22 ]:
من كان محتاجا، هل يصلح أن ترفع إليه حاجتك؟! اعلموا أن تعلُّق الفقير بالفقير، واعتماد المحتاج على المحتاج يزيد الفقر، ولا يزيل أثر الضُّر.
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 22]:
فيه إشارة إلى أن وقوع الخطأ من الجاهل قبيح، لكنه من العالِم أشد قبحا.
﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 24]:
إذا كانت هذه النار لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها، فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم ولين أبدانهم؟!
﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ [البقرة:24]:
السيئات نار موقدة، لكنها نار مؤجَّلة، لا تشتعل على صاحبها إلا بعد الموت، والعاقل من يتقيها لا من يوقدها ويُذْكيها.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة:26]:حُكْم الله، والتساؤل باستمرار حول حكمة الله في الأحداث بغرض بثِّ الشبهات.
﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: 25]:ثمار الجنة رائعة ومتجدِّدة، الشكل هو الشكل، لكن الطعم مختلف، واللذة متزايدة، يوما بعد يوم إلى ما لا نهاية. قال ابن عباس: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي».
﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]:
مجامع اللذات في ثلاثة: المسكن والمطعم والمنكح، فجمعها الله في هذه الآية، لكن هذه النعم إذا اقترن بها خوف الزوال كان التنعم بها منغَّصا، فبشَّرهم الله بالخلود ليزيل عنهم هذا الخوف، فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرور.
﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾[البقرة: 27]:يدخل في الآية كلُّ قطيعة لا ترضي الله كقطع الرحم، وهجر المؤمنين، وعدم موالاة الصالحين، وترك حضور الجماعات المفروضة، والمعاملة بالمِثْل! ففي الحديث الصحيح: «من وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله». صحيح الجامع رقم: 6590
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[البقرة: 29]:
كل ما هذا الكون مسخَّر لخدمتك، فيا لسمو مكانتك وعظيم رتبتك، وفي الآية إشارة خفية إلى شناعة كفر الكافرين رغم إحسان رب العالمين.حتى الملائكة -وهم أطهر الخلق- تحرسك وترعاك : ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [الرعد: 11]
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[البقرة: 29]:
أعطاك عطاء لا ينقطع، دون سَعْي منك أو سؤال، فهل شكرتَ ذلك أم تأخذ كل شيء دون أن تعطي كالمحتال؟!
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]:
مهما علت رتبتك ستظل بعض حكمة الله غائبة عنك، وهل هناك أعبد وأطهر من الملائكة؟!ومع ذلك غاب عنهم حكمة خلق آدم.
﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]:كلما طهر القلب زادت حساسية صاحبه تجاه المعصية!قالت الملائكة هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله لمن يعصيه، أو التعجب من عصيان من يستخلفه الله في أرضه.
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]:
كل علم لدينا إنما هو مما أذِن الله لنا أن نعلمه، ثم يأتي بعد هذا (مُلْحِد) يجادل في وجود الله بسبب ما وصل إليه من علم!
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]:الكِبر يقود إلى الكفر.
﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.قال ابن كثير: لا تقابلوا النعم بالعصيان فتُسلَبوها.
ذل الأمة عقوبة على ابتعادها عن دينها، فالله يعز الطائع ولو كان ضعيفا، ويذل العاصي ولو كان قوياً(ضربت عليهم الذلة) (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). عبد العزيز الطريفي
الحق مهما كان قوياً فلا بد من ثقة صاحبه به ليؤثر،قال الله: (فخذها بقوة) وقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) وقال: (خذ الكتاب بقوة) / عبد العزيز الطريفي
(صفراء فاقع لونها تسر الناظرين)للألوان المبهجة أثر على النفوس، فلوِّن حياتك بألوان الفرح.
(والله مخرج ما كنتم تكتمون):ما تكتمه سيخرجه الله لا محالة، فزيِّن باطنك كما زيَّنت ظاهرك.
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)قست قلوبهم بعد أن رأوا معجزة إحياء الله قتيل بني إسرائيل، والدرس:لا تأمن قسوة القلب بعد اليقظة.
﴿ومنهم أميُّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني﴾:قال ابن تيمية: ذلك متناولٌ لمن ترك تدبر القرآن ، ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه!
﴿وقُولوا (للناس) حُسنا﴾:إحسان القول مع الكل! قال ابن عباس: لو قال لي فرعون خيرا، لرَددت عليه مثله .
يتبع
تعليق