فقه السيرة شرح الدكتور / عبد العظيم بدوي
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
مرحبًا بكم -أيُّها الأحبة الكرام- في هذه اللِّقاءات التي سنتدارس فيها -إن شاء الله تعالى- سيرةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بهذه الدِّراسة، وأن يرزقنا التَّأسِّي والاقتداء والاهتداء بنبينا محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم.
فإنَّ هذا -بارك الله فيكم- هو المقصود من دراسة السِّيرة، فالمقصود من دراسة السِّيرة هو حصول التَّأسِّي بصاحب هذه السِّيرة الزَّكية العَطِرة -صلى الله عليه وسلم- كما أمر الله -عز وجل- في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
إن شاء الله تعالى سنتحدث في هذا الدرس الأول عن نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وميلاده، ورضاعه، وكُفَلائِهِ بعد وفاة أبيه.
وقد يتَّسع الوقتُ فتزيد بعضُ العناصر، وقد يضيق الوقتُ فتقلّ بعضُ العناصر، لكن هذا ما نُريد أن نتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- في هذا الدرس الأول من هذه الدروس المباركة -إن شاء الله- في سيرة النبي محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام.
وقبل أن نبدأ في ذكر العناصر التي أشرنا إليها في هذا الدرس أرى أن نذكر شيئًا من فوائد دراسة السيرة بعد أن أَلْمَحْتُ إلى المقصود الأعظم منها، فأقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
إنَّ خير ما يتدارسه المسلمون ولاسيَّما النَّاشِئون والمتعلِّمون ويُعنَى به الباحثون والكاتبون دراسة السِّيرة المحمديَّة، إذ هي خير مُعَلِّمٍ وَمُثَقِّفٍ ومُهَذِّبٍ ومُؤدِّبٍ، وهي آصل مدرسةٍ تخرَّج فيها الرَّعيلُ الأول من المسلمين والمُسلمات الذين قلَّما تجود الدنيا بأمثالهم.
ففي السِّيرة ما ينشده المسلمُ وطالبُ الكمال من دينٍ، ودنيا، وإيمانٍ، واعتقادٍ، وعلمٍ، وعملٍ، وآدابٍ، وأخلاقٍ، وسياسةٍ، وكياسةٍ، وإمامةٍ، وقيادةٍ، وعدلٍ، ورحمةٍ، وبطولةٍ، وكفاحٍ، وجهادٍ، واستشهادٍ في سبيل العقيدة والشَّريعة، والمُثُل الإنسانيَّة الرَّفيعة، والقيم الخُلُقيَّة الفاضلة.
لقد كانت السيرةُ النبوية مدرسةً تخرَّج فيها أمثلُ النَّماذج البشريَّة وهم الصَّحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- فكان منهم الخليفة الرَّاشد، والقائد المُحنَّك، والبطل المِغْوَار، والسياسي الدَّاهية، والعبقري المُلْهَم، والعالم العامل، والفقيه البارع، والعاقل الحازم، والحكيم الذي تتفجَّر من قلبه ينابِعُ العلم والحكمة، والتَّاجر الذي يُحوِّل رمالَ الصَّحراء ذهبًا، والزَّارع والصَّانع اللَّذان يريان في العمل عبادةً، والكادح الذي يرى في الاحتطاب -أن يحمل الحطبَ من الصَّحراء ويبيعه- عملًا شريفًا يترفَّع به عن سؤال الناس، والغني الشَّاكر الذي يرى نفسَه مُستَخْلَفًا في هذا المال الذي بين يديه، يُنفقه في الخير والمصلحة العامَّة، والفقير الصَّابر الذي يحسبه مَن لا يعلم حاله غنيًا من التَّعفُّف.
وكلّ ذلك كان من ثمرات الإيمان بالله وبرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبهذا كانوا الأمَّة الوسط، وكانوا خير أمَّةٍ أُخرجت للناس.
لقد كان السَّلفُ الصَّالح من هذه الأمَّة الإسلامية يُدركون ما لسيرة خاتم الأنبياء وسِيَر الصَّحابة النُّبلاء من آثارٍ حسنةٍ في تربية النَّشء، وتنشئة جيلٍ صالحٍ لحمل رسالة الإسلام والتَّضحية في سبيلها بالنَّفس والمال، فمن ثَمَّ كانوا يتدارسون السِّيرة ويحفظونها ويُلقِّنونها للغلمان كما يُلقِّنونهم السُّور من القرآن، كما رُويَ عن زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنهما- قال: "كنا نُعلَّم مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نُعلَّم السورة من القرآن".
فما أجدر المسلمين في حاضرهم رجالًا ونساءً وشبابًا وشِيبًا أن يتعلَّموا السِّيرة ويُعلِّموها غيرهم، ويتَّخذوا منها نِبْرَاسًا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء والبنات، وتنشئة جيلٍ يُؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويُؤمن بالإسلام وصلاحيته لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، والتَّضحية بكلِّ شيءٍ في سبيل سيادته وانتشاره، لا يُثنِيهم عن هذه الغاية الشَّريفة بلاءٌ وإيذاءٌ، ولا إطماعٌ وإغراءٌ.
ولسنا نريد من دراسة السيرة النبوية -سيرة النبي صلى الله عليه وسلم- وسِيَرِ الرَّعيل الأول -وهم الصَّحابة الكرام- أن تكون مادةً علميَّةً يجوز بها طلابُ العلم في المعاهد والمدارس والجامعات الامتحانَ، أو الحصول على الإجازات العلميَّة، أو أن تكون حصيلةً علميَّةً نَتَفَيْهَقُ بها ونَتَشَدَّقُ في المحافل والنَّوادي وقاعات البحث والدَّرس وفي المساجد والجوامع؛ كي نحظى بالذِّكر والثَّناء، وننزع من السَّامعين مظاهر الرِّضا والإعجاب، ليس هذا هو المقصود من دراسة السيرة.
ولكنا نريد من هذه الدِّراسة أن تكون السِّيرةُ مدرسةً نتخرَّج فيها كما تخرَّج السَّادةُ الأولون، وأن نكون مُثُلًا صادقةً لصاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضوان الله عليهم- في إيمانهم وعقيدتهم، وفي علمهم وعملهم، وأخلاقهم وسُلوكهم، وسياستهم وقيادتهم؛ حتى يعتزَّ بنا الإسلامُ كما اعتزَّ بالسَّابقين الأوَّلين من الأنصار والمُهاجرين.
ونكون في حاضرنا كما كانوا هم خير أمَّةٍ أُخرجت للناس بشهادة ربِّ الناس، ملك الناس، إله الناس -سبحانه وتعالى- حيث خاطبهم بقوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
فهذا هو المقصود -أيُّها الأحبَّة- من دراسة السِّيرة، أن نتعلَّم، وأن نعمل، ونتأدَّب، ونتخلَّق، ونتأسَّى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصَّغيرة والكبيرة، في عبادته لربِّه، ومُعاملته للناس، ومُعاملته لأهله في بيته، ولأطفاله وأحفاده، وللصَّغير والكبير من عموم الناس أجمعين.
وبعد أن عرفنا هذه الفوائد من دراستنا لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نبدأ بذكر نسبه الشَّريف -صلى الله عليه وسلم- فنقول:
ذكر الإمامُ البخاري -رحمه الله- نسبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف" وعدَّ من آباء النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوَ عشرين أبًا، وانتهى إلى عدنان.
وهذا النَّسب الزَّكي مُتَّفقٌ عليه بين علماء الأنساب إلى "عدنان".
قال الحافظُ أبو الخطَّاب ابن دِحْيَة: "أجمع العلماءُ على أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنَّما انتسب إلى عدنان ولم يُجاوزه"، يعني لم يتعدَّاه إلى غيره.
وأمَّا مَن بعد عدنان من آباء النبي -صلى الله عليه وسلم- فمختلَفٌ فيهم، وإن كان النَّسَّابون اتَّفقوا على أنَّ عدنان ينتهي نسبُه إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- فإسماعيل هو جدُّ النبي الأعلى، وقد انتقلت إليه منه بعضُ الصِّفات الجُسمانيَّة: ففي الحديث الصَّحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر إبراهيم -عليه السلام- قال: «وَإِنَّهُ -يعني إبراهيم- لأَشْبَهُ النَّاسِ بِصَاحِبِكُمْ».
فالنبي محمد -عليه الصلاة والسَّلام- أبوه الأعلى إبراهيم الخليل -عليه السلام- ولم يزل -صلى الله عليه وسلم- ينتقل من أصلاب الآباء الطَّيبين إلى أرحام الأمَّهات الطَّاهرات، ولم يمسّ نسبَه من سفاح الجاهلية شيءٌ، بل كان بنكاحٍ صحيحٍ على حسب ما تواضع عليه العربُ الشُّرفاء حتى خرج من بين أبويه الكريمين.
وفي صحيح مسلمٍ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ».
ورواه التِّرمذي في سُننه بزيادةٍ في أوله، قال: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ».
والمراد بالاصطفاء: تخيُّر الفروع الزَّكية من الأصول الكريمة تخيُّرًا مبناه الأخلاق الكريمة، والفضائل الإنسانيَّة السَّامية، والطِّباع الفطريَّة السَّليمة، وينضم إلى ذلك بالنسبة إلى إسماعيل والنبي -عليهما الصَّلاة والسلام- اصطفاء النُّبوة والرِّسالة.
وإذا كان الله -سبحانه تعالى- قد جرت سُنتُه ألا يبعث نبيًّا إلا في وسطٍ من قومه شرفًا ونسبًا، فقد كان النبيُّ -عليه الصلاة والسَّلام- في الذِّروة من هذا كلِّه، فما من آبائه إلا كان مليًّا بالفضائل والمكارم، وما من أمٍّ من أمَّهاته إلا وهي أفضل نساء قومها نسبًا وموضعًا، ولم تزل الفضائلُ والكمالات البشريَّة تنحدر من الأصول إلى الفروع حتى تجمَّعت كلّها في سلالة ولد آدم ومُصَاصَة بني إبراهيمَ وإسماعيلَ: محمدٍ بن عبد الله الأمين -صلى الله عليه وسلم.
وليس من شكٍّ في أنَّ النَّسب الكريم إذا زانه الحسبُ العريقُ كان ذلك من أسباب الكمال.
ووراثة الصِّفات الخَلقيَّة والخُلُقيَّة والخصائص النَّفسيَّة والعقليَّة أمرٌ مُقرَّرٌ معلومٌ، وقد دلَّ على هذه الوراثة قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي جاء يشكو أنَّ امرأته وضعت غلامًا أسودَ، والرجل -الأب- ليس أسود، فكيف يجيء الولدُ أسودَ من أبٍ أبيض؟!
فقال النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- للرجل الذي كاد يشُكّ في امرأته: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «وَمَا أَلْوَانُهَا؟» قال: حُمْر. قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» والأَوْرَق هو ما كان لونُه مُختلِطًا- قال: نعم. قال: «فَأَنَّى ذَلِكَ؟» إذا كانت إبلُك حمراء وعندك جملٌ لونه مُختلِط –أورق- فكيف جاء هذا؟ فقال الرجلُ: لعله نزعه عرقٌ. قال -صلى الله عليه وسلم: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ».
وقد ورث -صلى الله عليه وسلم- من آبائه كلَّ المكارم، وكلَّ الفضائل في الجسم والعقل والدِّين والخُلُق والنَّسب والحسب -عليه الصَّلاة والسلام.
فهذا ما أردنا تعريفكم به من نسب النبي -صلى الله عليه وسلم.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
بعد أن عرفنا النَّسبَ الشَّريف نُريد أن نستوضِح: هل النَّسب ينفع صاحبَه إن لم يكن معه إيمانٌ أو عملٌ صالحٌ؟}
النَّسب له مكانته عند العرب قبل الإسلام، وقد كان النَّسبُ والحسبُ هو المُقدَّم على كلِّ شيءٍ، فلمَّا جاء الإسلامُ أراد أن ينزع منهم الفخرَ بالحسب والنَّسب، وأن يُبيِّن لهم أنَّ منزلة الناس عند الله -سبحانه وتعالى- إنَّما هي بالإيمان والدين، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
وبينما النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- جالس يومًا وعنده رجلٌ مرَّ رجلٌ، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام- لجليسه: «مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا؟» فقال: هذا رجلٌ من أغنياء الناس، هذا حَرِيٌّ إن خطب أن يُنْكَح، وإن شفع أن يُشَفَّع، وإن قال أن يُسمَع لقوله. فسكت -عليه الصَّلاة والسَّلام- ثم مرَّ رجلٌ آخر فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام- لجليسه: «مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا؟» فقال: هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألا يُنْكَح، وإن شفع ألا يُشَفَّع، وإن قال ألا يُسمَع لقوله. فقال -صلى الله عليه وسلم- مُصَحِّحًا للمفاهيم: «هَذَا -أي الفقير- خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».
فلمَّا نزع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من قلوب أصحابه الفخرَ بالحسب والنَّسب وتقدير الناس وتقييمهم بهذا الميزان، رسَّخ الميزانَ الصَّحيحَ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
بعد ذلك بَيَّنَ أنَّ الحسب والنَّسب لا شكَّ أنَّ له أثرًا في حياة الناس، وله قيمةً في حياة الناس إذا صاحبه الإيمانُ والتَّقوى؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسَّلام: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا» ، فالحسب والنَّسب مع الدين لا شكَّ أنَّ له قيمةً في حياة الإنسان، وأثرًا في سُلوكيَّاته.
أمَّا إذا خلا الحسبُ والنَّسب من الدين ومكارم الأخلاق والعمل الصَّالح فلا قيمةَ له.
ولذلك جاء في الحديث: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» ، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101].
ننتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني وهو: ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
من المعلوم المشهور عند الصَّغير والكبير أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِدَ عام الفيل، فهذا شيءٌ مشهورٌ عند الصِّغار والكبار، فقبل أن نتحدث عن ميلاده -عليه الصَّلاة والسَّلام- ينبغي أن نعرف ما عام الفيل؟ وما هذا الفيل؟ وما قصَّته؟ وما الواقعة والحادثة التي نُسِبَ إليها هذا العام -عام الفيل؟
فنقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
قصة الفيل قصَّةٌ مشهورةٌ أرَّخ بها العربُ لدلالتها على مزيد عناية الله تعالى ببيته الحرام، ذلك أنَّ أبرهة الحبشي لما غلب على بلاد اليمن، ورأى الناسَ يقصدون زُرفاتٍ ووُحدَانًا، ورجالًا ورُكْبَانًا الكعبةَ البيت الحرام، قال أبرهةُ: إلامَ يقصدون؟ أين يذهب هؤلاء؟ فالناس كلّ موسمٍ يذهبون، وكل شهرٍ يُسافرون، أين يذهبون؟
قالوا: إلى الكعبة بمكة يحُجُّون.
قال: وما هو البيت هذا؟
قالوا: بيتٌ من الحجارة.
قال: وما كسوته؟
قالوا: ما يأتي هاهنا من الوصائل.
والوصائل: هي ثياب مُخطَّطة يمانية كانت تُكسَى بها الكعبة قديمًا.
قال: لأبنينَّ بيتًا خيرًا من هذا البيت.
فأراد أبرهةُ أن يبني بيتًا يصرف به الناسَ عن قصد البيت الحرام للحجِّ والعُمرة. قال: لأبنينَّ بيتًا خيرًا منه. فبنى لهم كنيسةً بصنعاء، وتفنَّن في بنائها وتزيينها، وسمَّى هذه الكنيسة "القُلَّيْس"، وقصد بها صرف العرب عن التَّوجه إلى الكعبة.
فعمد أعرابيٌّ من العرب أخذته الغيرةُ على الكعبة -بيت الله الحرام- فذهب إلى هذه الكنيسة فقضى حاجته في داخلها، أي تغوَّط فيها، فلمَّا علم أبرهةُ بهذا الفعل استشاط غضبًا، وعزم على هدم الكعبة، وسار في جيشٍ جرَّارٍ عظيمٍ لا قِبَل لأهل مكة ولا للعرب كلّهم به، وأراد أن يهدم الكعبة.
فتعرَّضت له في الطَّريق بعضُ قبائل العرب، ولكنَّه تغلَّب عليها، فقتل مَن قتل منهم، وأسر مَن أسر.
وعند مشارف مكَّة وجدوا إبلًا لعبد المطلب بن هاشم، فاستاقوها وأخذوها، فذهب عبدُ المطلب إلى أبرهة، وكان عبدُ المطلب وسيمًا جميلًا تعلوه المهابةُ والوَقَارُ، فأبرهة عظَّم شأنَه وقدَّره، وأنزله منزلتَه وأكرمه.
فقال: يا عبد المطلب، لماذا جئتَ؟
قال: جئتُ أقول لك: الجمال التي أخذتها هذه جمالنا، فلماذا أخذتها؟
فقال أبرهةُ لعبد المطلب: أتُكلِّمني في الإبل ولا تُكلِّمني في بيتٍ فيه عزّك وشرفك وشرف آبائك؟! أنا جئتُ أهدم الكعبة التي تفخر بها وتعتزّ بها، فتترك هذا الأمر الذي جئتُ له وتقول: هات جمالنا؟!
فقال عبدُ المطلب هذه الكلمة التي طارت في الآفاق وسارت مسار الأمثال: "أنا ربُّ الإبل، وللبيت ربٌّ يحميه". أي أنا ربُّ الإبل، جئتُ أُكلِّمك فيما أملكه، أمَّا البيت فله ربٌّ يحميه.
ثم رجع عبدُ المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفرٌ من قريش، وأخذوا يدعون الله تعالى ويستنصرونه أن يحمي بيته، وأن يهزم أبرهةَ وجنده.
وكان مما قال عبدُ المطلب وهو مُتعلِّقٌ بأستار الكعبة:
اللَّهُمَّ إنَّ المرءَ يمنَعُ رَحْلَه
فامْنَعْ رِحَالَك
وانصر على آل الصَّلِيب
وعابديهم يوم آلك
لا يغلبَنَّ صليبُهُمْ
وَمِحَالُهُمْ أَبَدًا مِحالَكْ
إنْ كنتَ تاركَهُمْ وَقِبْلَتَنا
فأَمْرٌ ما بَدَا لَكْ
أي يا ربّ لسنا قادرين أن نُدافع عن البيت، والبيت بيتك، إن تنصره فهو بيتك، وإن كنت ستُخلِّي بين أبرهة والبيت فالأمر يا ربّ لك.
ثم أرسل حلقةَ البيت وانطلق هو ومَن معه من قريشٍ إلى الجبال، فهربوا في الجبال ينظرون ما يفعل أبرهةُ بالبيت، وكان في جيش أبرهة فيلٌ عظيمٌ، ولهذا سُمِّيت قصة الفيل، أو حادثة الفيل.
فصاروا كلَّما وجَّهوا الفيلَ إلى الطَّريق المُؤدِّي إلى مكة أبى وبرك، فكلَّما وجَّهوه إلى الكعبة ليهدمها يبرك ولا يتحرك، فإذا وجَّهوه إلى غير طريق مكة مشى وانطلق، ومع هذه الآية العظيمة التي رآها أبرهةُ أصَرَّ وجيشه على هدم الكعبة.
فما كان من الله -عز وجل- إلا أن أرسل عليهم طيرًا أبابيل، في مناقيرها وأرجُلها حجارة صغار، فصارت ترميهم بهذه الحجارة، ولكنَّها لم تُصبهم كلّهم، فكان مَن صادفه حجرٌ تمزق جسمه ومات، وخرجوا هاربين يتساقطون بكلِّ طريقٍ، ويهلِكُون بكلِّ مهلِكٍ، ونكَّل اللهُ بأبرهةَ وجيشه شرَّ تنكيلٍ.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه الحادثة في القرآن الكريم وأفرد لها سورةً من قصار السُّور اسمها سورة الفيل.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل].
فهذه سورة في القرآن تضمَّنت القصةَ وما أصاب هذا الجيش فيها.
وقد أشار النبيُّ -عليه الصلاة والسَّلام- إلى هذه الحادثة -حادثة الفيل- لما توجَّه سنة 6 من الهجرة إلى مكة للعمرة، فصدته قريش ومنعته من دخول مكة، فكانت النَّاقةُ التي يركبها -عليه الصَّلاة والسلام- كلَّما وجَّهوها إلى مكة تبرك وتأبى أن تمشي. فقالوا: خلأت القصواء -اسم الناقة. قال –صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ».
ولذلك أجاب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قريشًا إلى الصُّلح على الرغم من أن الصُّلح كان فيه شروطٌ لم يرضَ عنها الصَّحابةُ، ولكن النبيَّ -عليه الصلاة والسَّلام- رأى في بُروك النَّاقة وعدم دخولها مكة آيةً تقول له أنَّ عدم الدُّخول أفضل من الدُّخول.
هذه هي الحادثة التي أرَّخ بها العربُ، فيُسمُّونها عام الفيل، وفي ذلك العام وُلِدَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام.
هذه القصة أو هذه الحادثة فيها دروسٌ وعِبَرٌ كثيرةٌ جدًّا، ما الدُّروس التي نستفيدها من حادثة الفيل؟
أولًا: بيان شرف الكعبة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: 96]. وكيف أنَّ مُشركي العرب كانوا يُعَظِّمون الكعبة ويُقدِّسونها، ولا يُقدِّمون عليها شيئًا، وتعود هذه المنزلة للكعبة عند العرب إلى بقايا من ديانة إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما الصَّلاة والسلام.
كذلك من الدروس: التَّضحية في سبيل المُقدَّسات، والحفاظ عليها، فقد خرج -كما أشرت- بعضُ ملوك العرب إلى أبرهة ليَصُدُّوه، ولكن -كما قلت- غلب مَن غلب منهم، وأسر مَن أسر.
فالدِّفاع عن المُقدَّسات غريزةٌ في النَّفس، والتَّضحية عنها فطرةٌ في الإنسان.
كذلك في قول عبد المطلب: "سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى اللهُ بينه وبينه فوالله ما لنا بهم قوَّة". تقريرٌ دقيقٌ لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه، فمهما كانت قوة العدو وحشوده فإنَّها لا تستطيع الوقوف لحظةً واحدةً أمام قُدرة الله -سبحانه وتعالى- وبطشه ونِقْمَته، فهو سبحانه واهب الحياة وسالبها في أيِّ وقتٍ يشاء، وهو المُحيي، وهو المُمِيت.
كذلك رأينا تعظيمَ العرب لبيت الله الحرام الذي تكفَّل بحفظه وحمايته من عبث المُفسِدين وكيد الكائدين.
قال العلماءُ: كانت حادثةُ الفيل من شواهد النُّبوة، ودلالة من دلالتها، فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- حفظ البيت الحرام من أبرهة أن يهدمه لما اقتربت بعثةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي سينشر التَّوحيدَ في مكة، وسيرد العربَ إلى ما كانوا عليه من دين أبيهم إبراهيم -عليه السَّلام.
{قد عرفنا أنَّ الله تعالى حفظ البيت الحرام من أبرهة الحبشي، وهناك حديثٌ يقول أنَّ الذي سيُخَرِّب الكعبةَ ذو السُّوَيقَتَين من الحبشة، فلما لن يحفظ الله البيت من هذا الرجل كما حفظه من أبرهة؟}
الحديث: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَينِ مِنَ الْحَبَشَةِ». والسُّويقتان: تثنية ساق. فيقول -عليه الصَّلاة والسلام: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» ، يعني رجلٌ نحيفٌ جدًّا، وساقاه رفيعان جدًّا، وهو حبشيٌّ أيضًا، وأبرهة كان جبشيًّا، فهذا الرجل يتمكَّن من هدم الكعبة آخر الزَّمان وينقضها حجرًا حجرًا.
فسؤالك هو: أبرهة الحبشي لما قصد هدم الكعبة أهلكه الله وجنده، وحفظ الكعبة، فكيف يُمَكِّن اللهُ -عز وجل- هذا الحبشيَّ الآخر في آخر الزمان من هدم الكعبة؟ ولماذا لا يحفظها كما حفظها من أبرهة؟
الجواب: إنَّ الله -سبحانه وتعالى- حفظ الكعبةَ من أبرهة وجيشه في هذا الزَّمان لما كان يُنتَظر من بعثة النبي -عليه الصلاة والسَّلام- الذي قال الله فيه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [ التوبة: 33]، فحفظ الله البيتَ في ذلك الزمان من أبرهة لما أراد بالناس من الخير والرحمة، كما قال في حقِّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
أمَّا ذلك الحبشي الآخر -ذو السُّوَيْقَتَين- الذي في آخر الزمان فسيهدم الكعبة، فهدم الكعبة علامةٌ من علامات السَّاعة الكبرى، وللسَّاعة علاماتٌ كبرى، يقول العلماءُ: كالعقد المَنْظُوم. أي أنَّه ساعة أن تظهر العلامةُ الأولى تجد العلامةَ الثَّانية والثالثة والرابعة والخامسة وسائر العلامات تظهر تباعًا، ثم يُنْفَخ في الصُّور وتنتهي الدنيا.
ففي آخر الزمان حين يقلّ أهلُ الخير، ويقلّ أهلُ التَّوحيد، ويبقى في الأرض شرارُها كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللهَ اللهَ. أَو يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». فلما لم يبقَ في الأرض من أهل التَّوحيد أحدٌ، ولم يبقَ فيها إلا شرارُها؛ فلم تعُد لبقاء الكعبة فائدةٌ، فيُسَلِّط اللهُ هذا الحبشي فيهدمها؛ ليزداد إثمًا بتلك الجريمة التي يرتكبها، ويُعذَّب بذلك في النار -والله تعالى أعلم.
بعد أن عرفنا لماذا سُمِّي عام الميلاد بعام الفيل، ننتقل للحديث عن ميلاده -صلى الله عليه وسلم- فنقول:
إذا سألنا صغار المسلمين فضلًا عن كبارهم: ما اسم أبي النبي؟
سيقولون: عبد الله بن عبد المطلب.
وما اسم أمه؟
سيقولون: آمنة بنت وهبٍ.
إذن قبل أن نتحدث عن المولود نتحدث عن زواج الوالدين، مَن الوالد؟ ومَن الوالدة؟ وكيف تمَّ هذا الزَّواج المبارك الذي نشأ منه خيرُ خلق الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم؟
نقول:
كان عبدُ الله بن عبد المطلب شابًّا نسيبًا جميلًا وسيمًا، قوي البُنيان، فغدا مطمع الآمال، وغاية الأماني من الكواعب الحِسَان من شريفات قريش، فتطلَّعت كلُّ امرأةٍ حسيبةٍ نسيبةٍ ذات مكانةٍ في قريشٍ إلى أن تحظى بالزَّواج من عبد الله بن عبد المطلب.
فرأى أبوه عبد المطلب -شريف مكة وسيدها- أن يُزوِّجه بكرًا من كرائم البيوتات القرشيَّة، وفكَّر الشيخُ ثم فكَّر حتى هداه تفكيره -وهو العارف بالأعراق والأحساب والأنساب- إلى فتاة بني زُهرة آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فأخذ بيد عبد الله وذهب به حتى أتى منازل بني زهرة، ودخل وإيَّاه دار وهب بن عبد مناف الزّهري، وهو يومئذٍ سيد بني زُهرة نسبًا وشرفًا، فزوَّجه ابنتَه آمنة، وهي يومئذٍ أفضل امرأةٍ في قريش نسبًا وموضعًا. وبنى عبدُ الله بآمنة.
ما معنى بنى؟
أي دخل بها، والبناء معروف.
وبنى عبد الله بآمنة، وبقي في بيت أبيها ثلاثة أيامٍ على عادة العرب في ذلك، فقد كان العربُ إذا زوَّجوا رجلًا بنوا له بيتًا عند والد امرأته فيُقيم ثلاثًا، ثم يأخذ امرأتَه ويرجع إلى أهله، حتى كان اليوم الرابع انتقل عبدُ الله بن عبد المطلب بزوجه إلى منازل عبد المطلب.
وعاش الفتى المرمُوق المحبوب والفتاة الوادعة الجميلة الشَّريفة أيامًا معدودات، لم تتجاوز عند جمهرة المؤرخين عشرة أيام، أي أنَّ عبد الله عاش مع آمنة عشرة أيام فقط، فحياته الزَّوجية مدتها عشرة أيام، وشاء الله أن تكون هذه الأيام هي عمر الحياة الزوجية في هذا الزواج المبارك.
في هذه الأيام المعدودات حملت السيدةُ الشَّريفة آمنة بسيد هذه الأمَّة، وقد ادَّخرها القدرُ لأعظم أمومةٍ في التاريخ، وتوالت عليها الرُّؤى والبُشْرَيَات بجلال قدر هذا الجنين، فرأت فيما يرى الناَّئمُ حين حملت أنَّها خرج منها نورٌ أضاء الأرض، وبدت قصورُ بصرى من أرض الشَّام.
ولم يطل المقام بالفتى الشَّاب عبد الله مع زوجته آمنة بنت وهب حتى خرج في تجارةٍ إلى الشام وترك الزوجةَ الحبيبة، وهو لا يدري أنَّها علقت بالنَّسمة المباركة.
وقضى الزوجُ المكافحُ مدَّةً في تصريف تجارته وهو يعُدّ الأيام كي يعود إلى زوجته فيهنأ بها وتهنأ به، فما أن فرغ من تجارته حتى عاد، وفي أثناء عودته من الشَّام عرَّج على أخوال أبيه عبد المطلب -وهم بنو النَّجار في المدينة- فمرض عندهم، فبقي هو عند أخواله، وعاد رفاقُه وأصحابُه الذين كانوا معه في تلك السَّفرة.
ووصل الرَّكبُ إلى مكة، وعلم منهم عبدُ المطلب بمرض ولده عبد الله، فأرسل أكبر بنيه وهو الحارث بن عبد المطلب ليأتي بأخيه، وما أن وصل الحارثُ إلى المدينة حتى علم أنَّ عبد الله قد مات ودُفِنَ بالمدينة، فرجع حزين النفس على فقد أخيه، ولم يكن للجنين عند فقد الأب إلا شهران.
ورجع الحارثُ بدون أخيه عبد الله والد النبي -عليه الصلاة والسلام.
وتقدَّمت أشهرُ الحمل بالسيدة الشَّريفة آمنة بنت وهب وهي تترقَّب الوليد الذي لم تجد في حمله وهنًا ولا ألمًا، وهتف بها هاتفٌ قائلًا: إنَّكِ قد حملت بسيد هذه الأُمَّة، فإذا وقع على الأرض فقولي: "أُعِيذه بالواحد من شَرِّ كُلِّ حاسدٍ، وسمِّيه محمدًا".
وبلغ الكتابُ أجله، وبعد تسعة أشهر أذن اللهُ للنور أن يسطع، وللجنين المُستَكِن أن يظهر إلى الوجود، وللنَّسمة المباركة أن تخرج إلى الكون؛ لتُؤدِّي أسمى وأعظم رسالةً عرفتها الدنيا في عمرها الطَّويل.
وفي صبيحة اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، الموافق سنة 570 من ميلاد عيسى بن مريم -عليه السلام- حيث بدأ الصُّبحُ يتنفَّس، وآذن نورُ الكون بالإشراق افترَّ ثغرُ الدنيا عن مُصَاصَةِ البشر، وسيد ولد آدم، وأكرم مخلوقٍ على الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا وضعته السيدةُ والدته خرج معه نورٌ أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى رأت منه قصور بُصْرَى بالشَّام، ووقع جاثيًا على رُكبتيه، مُعتَمِدًا على يديه، رافعًا رأسَه إلى السَّماء، ثم أخذ قبضةً من التُّراب فقبضها.
وقد روى الإمامُ أحمد وغيرُه عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «إِنِّي عِنْدَ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيينَ يَرَيْنَ».
وإنَّ أمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشَّام.
وكانت ولادتُه -صلى الله عليه وسلم- في دار أبي طالب بشِعْب بني هاشم.
وكانت قابلتُه: الشِّفاء أم عبد الرحمن بن عوف.
ولقد نَعِمَت الأُمُّ التي ترمَّلت في شبابها بالوليد الجميل، المُشرِق الجبين، الذي ملأ البيتَ من حولها نورًا وسُرورًا، ورأت فيه السَّلْوَى عن الحبيب الغالي الذي تركه لها وديعةً في ضمير الغيب ثم مات.
وما إخالها إلا قد زرفت الدَّمعَ ثخينًا أن لم يرَ الأبُ الشَّابُ هذا الوليدَ الذي يملأ العيونَ جمالًا ومهابةً ومحبَّةً.
وكان أول ما فعلته السَّيدة آمنة أن أرسلت إلى جده عبد المطلب تُبَشِّره بميلاد الحفيد ابن الحبيب، وجاء الجدُّ فرحًا مسرورًا، وضمَّه إلى صدره ضمات خفق لها قلبُه، وخفَّفت من لوعة الحزن على الحبيب المُغَيَّب في ثرى المدينة، وذهب عبدُ المطلب بحفيده محمد إلى الكعبة، فقام يدعو الله ويشكره على ما أنعم به عليه وأعطاه، وسمَّاه محمدًا، ولم يكن هذا الاسمُ شائعًا عند العرب، ولا تسمَّى به إلا عددٌ قليلٌ جدًّا، ولكن الله سبحانه ألهم عبدَ المطلب ذلك إنفاذًا لأمره، وتحقيقًا لما قدَّره وذكره في الكتب السَّماويَّة التي بشَّرت به -صلى الله عليه وسلم.
ولما سُئِلَ: لماذا سمَّيت هذا الولد محمدًا؟
قال عبدُ المطلب: أردت أن يحمده اللهُ في السَّماء، ويحمده الناسُ في الأرض.
ولعلَّ السيدة آمنة أخبرت عبدَ المطلب بالرُّؤيا التي رأتها في منامها وما بُشِّرت به، وأن تُسميه محمدًا، فتوافقت الرُّؤيا مع رغبة عبد المطلب، ورجع شيخُ مكة وشريفها عبد المطلب وهو يحمل بين يديه نسمةً هي خير الدنيا على الإطلاق.
وفي اليوم السَّابع -كما هي عادة العرب- نحر الجدُّ الذَّبائح وأقام الولائم؛ شُكرًا لله، واحتفاءً بالوليد الذي رأى في حياته حياةً موصولةً لابنه الغالي عبد الله، ومرآةً صافيةً يرى في صفحتها المُشرقة النَّيرة وجهَ عبد الله كلَّما أهاجته الذِّكرى، وثار في نفسه الشَّجَنُ.
وقد شارك البيتُ الهاشميُّ في الغبطة بالولد الجديد، فهذه ثُوَيبة الأسلميَّة جارية أبي لهب ابن عبد المطلب لما بشَّرت سيدها بميلاد ابن أخيه -محمد- أعتقها.
وقد قال الشُّعراءُ في ميلاد النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ما قالوا، ومنهم قول شوقي أمير الشُّعراء:
وُلِـدَ الـهُـدَى فَـالكَائِنَاتُ ضِيَاءُ
وَفَـمُ الـزَّمَـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَنَاءُ
إلى آخر ما قاله في حقِّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
مَن الأُمَّهات اللاتي أرضعن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم؟
كانت أولى مَن أرضعته أُمُّه آمنة بنت وهب، قيل: أرضعته ثلاثة أيام. وقيل: سبعًا، وقيل: تسعًا.
ثم أرضعته ثُوَيْبَة جارية عمِّه أبي لهب بلبن ابنها مسروح بضعة أيامٍ قبل قدوم حليمة عليه، وكذلك أرضعت عمَّه حمزة، فثُوَيبَة أرضعت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأرضعت عمَّه حمزة بن عبد المطلب وابن عمَّته أبا سلمة المخزومي، فكانوا إخوةً من الرَّضاع.
ثم استُرضِع -صلى الله عليه وسلم- في بني سعدٍ، وأرضعته حليمةُ، وكان من عادة أشراف العرب أن يلتمسوا المَرَاضِع لأولادهم في البَوَادِي.
فلماذا كانوا يُرسِلون الأطفالَ لينشؤوا في الصَّحراء والبادية؟
ليكون ذلك أنجبَ للولد، وأصحَّ للبدن، وأصفى للذِّهن، وأبعد عن الوَخَم والكسل.
فكانوا يقولون: إنَّ المُرَبَّى في المدن يكون كليلَ الذِّهن، فاتر العزيمة، ضعيف البِنْيَة.
فكانوا يُربُّون الأطفالَ في الصَّحراء حتى ينشأ الأطفالُ خشنين، وعندهم جَلَدٌ وقُوَّة وعزيمة، مع الهواء النَّقي الصَّافي البعيد عن وباء وتلوث البيئة الحضريَّة المدنيَّة.
وفي نشأتهم بين الأعراب من استقامة اللِّسان بالفصيح من الكلام، والسَّلامة من اللَّحْن، والبراءة من الهجنة.
ولما قال الصِّديقُ أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت مَن هو أفصح منك يا رسول الله!". قال: «وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ».
فمن ثَمَّ كان العربُ يُرسِلون أبناءَهم إلى البادية حتى يبلغوا الثَّامنة أو العاشرة.
ومن القبائل مَن كان لها في المراضع شُهرة، أي ليست كلُّ القبائل مشهورةً بالرَّضاع، فكانت هناك قبائل مشهورة أنَّ نساءها يُرضِعْن، فكان لها شُهرة في الرَّضاع، وشُهرة في الفصاحة، ومنها قبيلة بني سعدٍ التي كانت منها حليمة بنت أبي ذُؤَيْبٍ السَّعديَّة مرضعة النبي -صلى الله عليه وسلم.
كيف أخذت حليمةُ النبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام؟ وكيف أرضعته؟ وكيف كانت نشأته عندها؟
لندع حليمةَ تقُصُّ علينا قصَّتها مع النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما فيها من العبرة والرَّوعة ورعاية الله لنبيه في صغره.
تقول حليمةُ: "قَدِمْتُ مكة في نسوةٍ من بني سعدٍ نلتمس الرُّضَعَاء، في سنةٍ شَهْبَاء -أي سنة جدبٍ وقَحْطٍ- على أتانٍ". ما الأتان؟
أُنثى الحمار.
"على أتانٍ لي، ومعي صبيٌّ لنا، وشارف -أي ناقة- والله ما تَبِضُّ بقطرةٍ". أي أنَّ ناقتها ليس فيها نقطةُ لبنٍ.
"وما ننام ليلنا ذلك مع صبينا ذاك، لا يجد في ثديي ما يُغَذِّيه، ولا في شارفنا ما يُغَذِّيه".
أي أنَّ حليمة لا تأكل، فليس في صدرها لبنٌ، والنَّاقة أيضًا ليس فيها لبنٌ؛ لأنَّها كانت سنةَ جدبٍ وقَحْطٍ، فلا يوجد أكلٌ ولا لبنٌ.
"فقدمنا مكَّة، فوالله ما علمتُ منا امرأةً إلا وقد عُرِضَ عليها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فتأباه إذا قيل أنَّه يتيمٌ".
أي أنَّ النساء اللاتي جِئْنَ من البادية يلتمسن الرُّضعاء في مكَّة، كلُّهن عُرِضَ عليهنَّ محمد، فيقلن: مَن هذا؟ مَن أبوه؟ فيُقال: هذا يتيم. فيقُلن: ماذا سنفعل باليتيم؟!
فالمُرْضِعَة أتت لتأخذ رضيعًا تُرضعه حتى تأخذ أجرةً: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6].
فهذا يتيمٌ، فمَن الذي سيُعطيها أُجرة؟!
"وذلك أنَّا كنَّا نرجو المعروفَ من أبي الصَّبي، فكنا نقول: يتيم، ما عسى أن تصنع أُمُّه؟! فكلُّنا نكره ذلك".
قالت: "فوالله ما بقيت من صواحبي امرأةٌ إلا أخذت رضيعًا غيري". فكلُّ واحدةٍ من النِّساء اللاتي جئن لالتماس الرُّضَعَاء أخذن رضيعًا، وحليمة لم تجد رضيعًا تأخذه، فلم يبقَ أمامها إلا اليتيم.
قالت: "فقلتُ لزوجي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيعٌ". كيف آتي وأرجع وليس معي رضيعٌ؟!
قالت: "لأنطلِقَنَّ إلى ذلك اليتيم فلآخُذنَّه. قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركةً".
قالت: "فذهبتُ إليه فإذا هو مُدْرَجٌ في ثوبٍ -أي مَلْفُوفٌ- أبيض من اللَّبن -ثوب من الصُّوف- يفوح منه المسك، وتحته حرير أخضر، راقِدٌ على قفاه يغُطُّ، فأشفقتُ أن أُوقِظه من نومه لحُسنه وجماله، فدنوتُ منه رُويدًا، فوضعتُ يدي على صدره فتبسَّم ضاحكًا، وفتح عينيه لينظر إليَّ، فخرج من عينيه نورٌ حتى دخل خلال السَّماء وأنا أنظر، فقبَّلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن فأقبل عليه بما شاء من لبنٍ".
انتبه! لقد قالت من قبل أنَّ ابنها لم يرضع منها لأنَّه لم يكن هناك لبنًا، ولكنَّها ساعة أن أرضعت النبيَّ تدفَّق اللَّبنُ من ثديها.
قالت: "فحوَّلتُه إلى الأيسر فأبى، فكانت تلك حالته". أي أنَّه لا يرضع إلا من اليمين، ولذلك كان دائمًا يُحبُّ التَّيَمُّن -عليه الصَّلاة والسَّلام.
نكتفي بهذا القدر في هذا الدرس -إن شاء الله- ونُواصِلُ بعد ذلك الحديثَ في كيف كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مع حليمة؟ وما الحوادث التي عرضت له عند بني سعدٍ؟
هذا والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفهرس:
اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
مرحبًا بكم -أيُّها الأحبة الكرام- في هذه اللِّقاءات التي سنتدارس فيها -إن شاء الله تعالى- سيرةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بهذه الدِّراسة، وأن يرزقنا التَّأسِّي والاقتداء والاهتداء بنبينا محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم.
فإنَّ هذا -بارك الله فيكم- هو المقصود من دراسة السِّيرة، فالمقصود من دراسة السِّيرة هو حصول التَّأسِّي بصاحب هذه السِّيرة الزَّكية العَطِرة -صلى الله عليه وسلم- كما أمر الله -عز وجل- في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
إن شاء الله تعالى سنتحدث في هذا الدرس الأول عن نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وميلاده، ورضاعه، وكُفَلائِهِ بعد وفاة أبيه.
وقد يتَّسع الوقتُ فتزيد بعضُ العناصر، وقد يضيق الوقتُ فتقلّ بعضُ العناصر، لكن هذا ما نُريد أن نتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- في هذا الدرس الأول من هذه الدروس المباركة -إن شاء الله- في سيرة النبي محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام.
وقبل أن نبدأ في ذكر العناصر التي أشرنا إليها في هذا الدرس أرى أن نذكر شيئًا من فوائد دراسة السيرة بعد أن أَلْمَحْتُ إلى المقصود الأعظم منها، فأقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
إنَّ خير ما يتدارسه المسلمون ولاسيَّما النَّاشِئون والمتعلِّمون ويُعنَى به الباحثون والكاتبون دراسة السِّيرة المحمديَّة، إذ هي خير مُعَلِّمٍ وَمُثَقِّفٍ ومُهَذِّبٍ ومُؤدِّبٍ، وهي آصل مدرسةٍ تخرَّج فيها الرَّعيلُ الأول من المسلمين والمُسلمات الذين قلَّما تجود الدنيا بأمثالهم.
ففي السِّيرة ما ينشده المسلمُ وطالبُ الكمال من دينٍ، ودنيا، وإيمانٍ، واعتقادٍ، وعلمٍ، وعملٍ، وآدابٍ، وأخلاقٍ، وسياسةٍ، وكياسةٍ، وإمامةٍ، وقيادةٍ، وعدلٍ، ورحمةٍ، وبطولةٍ، وكفاحٍ، وجهادٍ، واستشهادٍ في سبيل العقيدة والشَّريعة، والمُثُل الإنسانيَّة الرَّفيعة، والقيم الخُلُقيَّة الفاضلة.
لقد كانت السيرةُ النبوية مدرسةً تخرَّج فيها أمثلُ النَّماذج البشريَّة وهم الصَّحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- فكان منهم الخليفة الرَّاشد، والقائد المُحنَّك، والبطل المِغْوَار، والسياسي الدَّاهية، والعبقري المُلْهَم، والعالم العامل، والفقيه البارع، والعاقل الحازم، والحكيم الذي تتفجَّر من قلبه ينابِعُ العلم والحكمة، والتَّاجر الذي يُحوِّل رمالَ الصَّحراء ذهبًا، والزَّارع والصَّانع اللَّذان يريان في العمل عبادةً، والكادح الذي يرى في الاحتطاب -أن يحمل الحطبَ من الصَّحراء ويبيعه- عملًا شريفًا يترفَّع به عن سؤال الناس، والغني الشَّاكر الذي يرى نفسَه مُستَخْلَفًا في هذا المال الذي بين يديه، يُنفقه في الخير والمصلحة العامَّة، والفقير الصَّابر الذي يحسبه مَن لا يعلم حاله غنيًا من التَّعفُّف.
وكلّ ذلك كان من ثمرات الإيمان بالله وبرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبهذا كانوا الأمَّة الوسط، وكانوا خير أمَّةٍ أُخرجت للناس.
لقد كان السَّلفُ الصَّالح من هذه الأمَّة الإسلامية يُدركون ما لسيرة خاتم الأنبياء وسِيَر الصَّحابة النُّبلاء من آثارٍ حسنةٍ في تربية النَّشء، وتنشئة جيلٍ صالحٍ لحمل رسالة الإسلام والتَّضحية في سبيلها بالنَّفس والمال، فمن ثَمَّ كانوا يتدارسون السِّيرة ويحفظونها ويُلقِّنونها للغلمان كما يُلقِّنونهم السُّور من القرآن، كما رُويَ عن زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنهما- قال: "كنا نُعلَّم مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نُعلَّم السورة من القرآن".
فما أجدر المسلمين في حاضرهم رجالًا ونساءً وشبابًا وشِيبًا أن يتعلَّموا السِّيرة ويُعلِّموها غيرهم، ويتَّخذوا منها نِبْرَاسًا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء والبنات، وتنشئة جيلٍ يُؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويُؤمن بالإسلام وصلاحيته لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، والتَّضحية بكلِّ شيءٍ في سبيل سيادته وانتشاره، لا يُثنِيهم عن هذه الغاية الشَّريفة بلاءٌ وإيذاءٌ، ولا إطماعٌ وإغراءٌ.
ولسنا نريد من دراسة السيرة النبوية -سيرة النبي صلى الله عليه وسلم- وسِيَرِ الرَّعيل الأول -وهم الصَّحابة الكرام- أن تكون مادةً علميَّةً يجوز بها طلابُ العلم في المعاهد والمدارس والجامعات الامتحانَ، أو الحصول على الإجازات العلميَّة، أو أن تكون حصيلةً علميَّةً نَتَفَيْهَقُ بها ونَتَشَدَّقُ في المحافل والنَّوادي وقاعات البحث والدَّرس وفي المساجد والجوامع؛ كي نحظى بالذِّكر والثَّناء، وننزع من السَّامعين مظاهر الرِّضا والإعجاب، ليس هذا هو المقصود من دراسة السيرة.
ولكنا نريد من هذه الدِّراسة أن تكون السِّيرةُ مدرسةً نتخرَّج فيها كما تخرَّج السَّادةُ الأولون، وأن نكون مُثُلًا صادقةً لصاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضوان الله عليهم- في إيمانهم وعقيدتهم، وفي علمهم وعملهم، وأخلاقهم وسُلوكهم، وسياستهم وقيادتهم؛ حتى يعتزَّ بنا الإسلامُ كما اعتزَّ بالسَّابقين الأوَّلين من الأنصار والمُهاجرين.
ونكون في حاضرنا كما كانوا هم خير أمَّةٍ أُخرجت للناس بشهادة ربِّ الناس، ملك الناس، إله الناس -سبحانه وتعالى- حيث خاطبهم بقوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
فهذا هو المقصود -أيُّها الأحبَّة- من دراسة السِّيرة، أن نتعلَّم، وأن نعمل، ونتأدَّب، ونتخلَّق، ونتأسَّى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصَّغيرة والكبيرة، في عبادته لربِّه، ومُعاملته للناس، ومُعاملته لأهله في بيته، ولأطفاله وأحفاده، وللصَّغير والكبير من عموم الناس أجمعين.
وبعد أن عرفنا هذه الفوائد من دراستنا لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نبدأ بذكر نسبه الشَّريف -صلى الله عليه وسلم- فنقول:
ذكر الإمامُ البخاري -رحمه الله- نسبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف" وعدَّ من آباء النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوَ عشرين أبًا، وانتهى إلى عدنان.
وهذا النَّسب الزَّكي مُتَّفقٌ عليه بين علماء الأنساب إلى "عدنان".
قال الحافظُ أبو الخطَّاب ابن دِحْيَة: "أجمع العلماءُ على أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنَّما انتسب إلى عدنان ولم يُجاوزه"، يعني لم يتعدَّاه إلى غيره.
وأمَّا مَن بعد عدنان من آباء النبي -صلى الله عليه وسلم- فمختلَفٌ فيهم، وإن كان النَّسَّابون اتَّفقوا على أنَّ عدنان ينتهي نسبُه إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- فإسماعيل هو جدُّ النبي الأعلى، وقد انتقلت إليه منه بعضُ الصِّفات الجُسمانيَّة: ففي الحديث الصَّحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر إبراهيم -عليه السلام- قال: «وَإِنَّهُ -يعني إبراهيم- لأَشْبَهُ النَّاسِ بِصَاحِبِكُمْ».
فالنبي محمد -عليه الصلاة والسَّلام- أبوه الأعلى إبراهيم الخليل -عليه السلام- ولم يزل -صلى الله عليه وسلم- ينتقل من أصلاب الآباء الطَّيبين إلى أرحام الأمَّهات الطَّاهرات، ولم يمسّ نسبَه من سفاح الجاهلية شيءٌ، بل كان بنكاحٍ صحيحٍ على حسب ما تواضع عليه العربُ الشُّرفاء حتى خرج من بين أبويه الكريمين.
وفي صحيح مسلمٍ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ».
ورواه التِّرمذي في سُننه بزيادةٍ في أوله، قال: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ».
والمراد بالاصطفاء: تخيُّر الفروع الزَّكية من الأصول الكريمة تخيُّرًا مبناه الأخلاق الكريمة، والفضائل الإنسانيَّة السَّامية، والطِّباع الفطريَّة السَّليمة، وينضم إلى ذلك بالنسبة إلى إسماعيل والنبي -عليهما الصَّلاة والسلام- اصطفاء النُّبوة والرِّسالة.
وإذا كان الله -سبحانه تعالى- قد جرت سُنتُه ألا يبعث نبيًّا إلا في وسطٍ من قومه شرفًا ونسبًا، فقد كان النبيُّ -عليه الصلاة والسَّلام- في الذِّروة من هذا كلِّه، فما من آبائه إلا كان مليًّا بالفضائل والمكارم، وما من أمٍّ من أمَّهاته إلا وهي أفضل نساء قومها نسبًا وموضعًا، ولم تزل الفضائلُ والكمالات البشريَّة تنحدر من الأصول إلى الفروع حتى تجمَّعت كلّها في سلالة ولد آدم ومُصَاصَة بني إبراهيمَ وإسماعيلَ: محمدٍ بن عبد الله الأمين -صلى الله عليه وسلم.
وليس من شكٍّ في أنَّ النَّسب الكريم إذا زانه الحسبُ العريقُ كان ذلك من أسباب الكمال.
ووراثة الصِّفات الخَلقيَّة والخُلُقيَّة والخصائص النَّفسيَّة والعقليَّة أمرٌ مُقرَّرٌ معلومٌ، وقد دلَّ على هذه الوراثة قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي جاء يشكو أنَّ امرأته وضعت غلامًا أسودَ، والرجل -الأب- ليس أسود، فكيف يجيء الولدُ أسودَ من أبٍ أبيض؟!
فقال النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- للرجل الذي كاد يشُكّ في امرأته: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «وَمَا أَلْوَانُهَا؟» قال: حُمْر. قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» والأَوْرَق هو ما كان لونُه مُختلِطًا- قال: نعم. قال: «فَأَنَّى ذَلِكَ؟» إذا كانت إبلُك حمراء وعندك جملٌ لونه مُختلِط –أورق- فكيف جاء هذا؟ فقال الرجلُ: لعله نزعه عرقٌ. قال -صلى الله عليه وسلم: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ».
وقد ورث -صلى الله عليه وسلم- من آبائه كلَّ المكارم، وكلَّ الفضائل في الجسم والعقل والدِّين والخُلُق والنَّسب والحسب -عليه الصَّلاة والسلام.
فهذا ما أردنا تعريفكم به من نسب النبي -صلى الله عليه وسلم.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
بعد أن عرفنا النَّسبَ الشَّريف نُريد أن نستوضِح: هل النَّسب ينفع صاحبَه إن لم يكن معه إيمانٌ أو عملٌ صالحٌ؟}
النَّسب له مكانته عند العرب قبل الإسلام، وقد كان النَّسبُ والحسبُ هو المُقدَّم على كلِّ شيءٍ، فلمَّا جاء الإسلامُ أراد أن ينزع منهم الفخرَ بالحسب والنَّسب، وأن يُبيِّن لهم أنَّ منزلة الناس عند الله -سبحانه وتعالى- إنَّما هي بالإيمان والدين، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
وبينما النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- جالس يومًا وعنده رجلٌ مرَّ رجلٌ، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام- لجليسه: «مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا؟» فقال: هذا رجلٌ من أغنياء الناس، هذا حَرِيٌّ إن خطب أن يُنْكَح، وإن شفع أن يُشَفَّع، وإن قال أن يُسمَع لقوله. فسكت -عليه الصَّلاة والسَّلام- ثم مرَّ رجلٌ آخر فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام- لجليسه: «مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا؟» فقال: هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألا يُنْكَح، وإن شفع ألا يُشَفَّع، وإن قال ألا يُسمَع لقوله. فقال -صلى الله عليه وسلم- مُصَحِّحًا للمفاهيم: «هَذَا -أي الفقير- خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».
فلمَّا نزع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من قلوب أصحابه الفخرَ بالحسب والنَّسب وتقدير الناس وتقييمهم بهذا الميزان، رسَّخ الميزانَ الصَّحيحَ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
بعد ذلك بَيَّنَ أنَّ الحسب والنَّسب لا شكَّ أنَّ له أثرًا في حياة الناس، وله قيمةً في حياة الناس إذا صاحبه الإيمانُ والتَّقوى؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسَّلام: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا» ، فالحسب والنَّسب مع الدين لا شكَّ أنَّ له قيمةً في حياة الإنسان، وأثرًا في سُلوكيَّاته.
أمَّا إذا خلا الحسبُ والنَّسب من الدين ومكارم الأخلاق والعمل الصَّالح فلا قيمةَ له.
ولذلك جاء في الحديث: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» ، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101].
ننتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني وهو: ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
من المعلوم المشهور عند الصَّغير والكبير أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِدَ عام الفيل، فهذا شيءٌ مشهورٌ عند الصِّغار والكبار، فقبل أن نتحدث عن ميلاده -عليه الصَّلاة والسَّلام- ينبغي أن نعرف ما عام الفيل؟ وما هذا الفيل؟ وما قصَّته؟ وما الواقعة والحادثة التي نُسِبَ إليها هذا العام -عام الفيل؟
فنقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
قصة الفيل قصَّةٌ مشهورةٌ أرَّخ بها العربُ لدلالتها على مزيد عناية الله تعالى ببيته الحرام، ذلك أنَّ أبرهة الحبشي لما غلب على بلاد اليمن، ورأى الناسَ يقصدون زُرفاتٍ ووُحدَانًا، ورجالًا ورُكْبَانًا الكعبةَ البيت الحرام، قال أبرهةُ: إلامَ يقصدون؟ أين يذهب هؤلاء؟ فالناس كلّ موسمٍ يذهبون، وكل شهرٍ يُسافرون، أين يذهبون؟
قالوا: إلى الكعبة بمكة يحُجُّون.
قال: وما هو البيت هذا؟
قالوا: بيتٌ من الحجارة.
قال: وما كسوته؟
قالوا: ما يأتي هاهنا من الوصائل.
والوصائل: هي ثياب مُخطَّطة يمانية كانت تُكسَى بها الكعبة قديمًا.
قال: لأبنينَّ بيتًا خيرًا من هذا البيت.
فأراد أبرهةُ أن يبني بيتًا يصرف به الناسَ عن قصد البيت الحرام للحجِّ والعُمرة. قال: لأبنينَّ بيتًا خيرًا منه. فبنى لهم كنيسةً بصنعاء، وتفنَّن في بنائها وتزيينها، وسمَّى هذه الكنيسة "القُلَّيْس"، وقصد بها صرف العرب عن التَّوجه إلى الكعبة.
فعمد أعرابيٌّ من العرب أخذته الغيرةُ على الكعبة -بيت الله الحرام- فذهب إلى هذه الكنيسة فقضى حاجته في داخلها، أي تغوَّط فيها، فلمَّا علم أبرهةُ بهذا الفعل استشاط غضبًا، وعزم على هدم الكعبة، وسار في جيشٍ جرَّارٍ عظيمٍ لا قِبَل لأهل مكة ولا للعرب كلّهم به، وأراد أن يهدم الكعبة.
فتعرَّضت له في الطَّريق بعضُ قبائل العرب، ولكنَّه تغلَّب عليها، فقتل مَن قتل منهم، وأسر مَن أسر.
وعند مشارف مكَّة وجدوا إبلًا لعبد المطلب بن هاشم، فاستاقوها وأخذوها، فذهب عبدُ المطلب إلى أبرهة، وكان عبدُ المطلب وسيمًا جميلًا تعلوه المهابةُ والوَقَارُ، فأبرهة عظَّم شأنَه وقدَّره، وأنزله منزلتَه وأكرمه.
فقال: يا عبد المطلب، لماذا جئتَ؟
قال: جئتُ أقول لك: الجمال التي أخذتها هذه جمالنا، فلماذا أخذتها؟
فقال أبرهةُ لعبد المطلب: أتُكلِّمني في الإبل ولا تُكلِّمني في بيتٍ فيه عزّك وشرفك وشرف آبائك؟! أنا جئتُ أهدم الكعبة التي تفخر بها وتعتزّ بها، فتترك هذا الأمر الذي جئتُ له وتقول: هات جمالنا؟!
فقال عبدُ المطلب هذه الكلمة التي طارت في الآفاق وسارت مسار الأمثال: "أنا ربُّ الإبل، وللبيت ربٌّ يحميه". أي أنا ربُّ الإبل، جئتُ أُكلِّمك فيما أملكه، أمَّا البيت فله ربٌّ يحميه.
ثم رجع عبدُ المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفرٌ من قريش، وأخذوا يدعون الله تعالى ويستنصرونه أن يحمي بيته، وأن يهزم أبرهةَ وجنده.
وكان مما قال عبدُ المطلب وهو مُتعلِّقٌ بأستار الكعبة:
اللَّهُمَّ إنَّ المرءَ يمنَعُ رَحْلَه
فامْنَعْ رِحَالَك
وانصر على آل الصَّلِيب
وعابديهم يوم آلك
لا يغلبَنَّ صليبُهُمْ
وَمِحَالُهُمْ أَبَدًا مِحالَكْ
إنْ كنتَ تاركَهُمْ وَقِبْلَتَنا
فأَمْرٌ ما بَدَا لَكْ
أي يا ربّ لسنا قادرين أن نُدافع عن البيت، والبيت بيتك، إن تنصره فهو بيتك، وإن كنت ستُخلِّي بين أبرهة والبيت فالأمر يا ربّ لك.
ثم أرسل حلقةَ البيت وانطلق هو ومَن معه من قريشٍ إلى الجبال، فهربوا في الجبال ينظرون ما يفعل أبرهةُ بالبيت، وكان في جيش أبرهة فيلٌ عظيمٌ، ولهذا سُمِّيت قصة الفيل، أو حادثة الفيل.
فصاروا كلَّما وجَّهوا الفيلَ إلى الطَّريق المُؤدِّي إلى مكة أبى وبرك، فكلَّما وجَّهوه إلى الكعبة ليهدمها يبرك ولا يتحرك، فإذا وجَّهوه إلى غير طريق مكة مشى وانطلق، ومع هذه الآية العظيمة التي رآها أبرهةُ أصَرَّ وجيشه على هدم الكعبة.
فما كان من الله -عز وجل- إلا أن أرسل عليهم طيرًا أبابيل، في مناقيرها وأرجُلها حجارة صغار، فصارت ترميهم بهذه الحجارة، ولكنَّها لم تُصبهم كلّهم، فكان مَن صادفه حجرٌ تمزق جسمه ومات، وخرجوا هاربين يتساقطون بكلِّ طريقٍ، ويهلِكُون بكلِّ مهلِكٍ، ونكَّل اللهُ بأبرهةَ وجيشه شرَّ تنكيلٍ.
وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه الحادثة في القرآن الكريم وأفرد لها سورةً من قصار السُّور اسمها سورة الفيل.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل].
فهذه سورة في القرآن تضمَّنت القصةَ وما أصاب هذا الجيش فيها.
وقد أشار النبيُّ -عليه الصلاة والسَّلام- إلى هذه الحادثة -حادثة الفيل- لما توجَّه سنة 6 من الهجرة إلى مكة للعمرة، فصدته قريش ومنعته من دخول مكة، فكانت النَّاقةُ التي يركبها -عليه الصَّلاة والسلام- كلَّما وجَّهوها إلى مكة تبرك وتأبى أن تمشي. فقالوا: خلأت القصواء -اسم الناقة. قال –صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ».
ولذلك أجاب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قريشًا إلى الصُّلح على الرغم من أن الصُّلح كان فيه شروطٌ لم يرضَ عنها الصَّحابةُ، ولكن النبيَّ -عليه الصلاة والسَّلام- رأى في بُروك النَّاقة وعدم دخولها مكة آيةً تقول له أنَّ عدم الدُّخول أفضل من الدُّخول.
هذه هي الحادثة التي أرَّخ بها العربُ، فيُسمُّونها عام الفيل، وفي ذلك العام وُلِدَ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام.
هذه القصة أو هذه الحادثة فيها دروسٌ وعِبَرٌ كثيرةٌ جدًّا، ما الدُّروس التي نستفيدها من حادثة الفيل؟
أولًا: بيان شرف الكعبة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: 96]. وكيف أنَّ مُشركي العرب كانوا يُعَظِّمون الكعبة ويُقدِّسونها، ولا يُقدِّمون عليها شيئًا، وتعود هذه المنزلة للكعبة عند العرب إلى بقايا من ديانة إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما الصَّلاة والسلام.
كذلك من الدروس: التَّضحية في سبيل المُقدَّسات، والحفاظ عليها، فقد خرج -كما أشرت- بعضُ ملوك العرب إلى أبرهة ليَصُدُّوه، ولكن -كما قلت- غلب مَن غلب منهم، وأسر مَن أسر.
فالدِّفاع عن المُقدَّسات غريزةٌ في النَّفس، والتَّضحية عنها فطرةٌ في الإنسان.
كذلك في قول عبد المطلب: "سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى اللهُ بينه وبينه فوالله ما لنا بهم قوَّة". تقريرٌ دقيقٌ لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه، فمهما كانت قوة العدو وحشوده فإنَّها لا تستطيع الوقوف لحظةً واحدةً أمام قُدرة الله -سبحانه وتعالى- وبطشه ونِقْمَته، فهو سبحانه واهب الحياة وسالبها في أيِّ وقتٍ يشاء، وهو المُحيي، وهو المُمِيت.
كذلك رأينا تعظيمَ العرب لبيت الله الحرام الذي تكفَّل بحفظه وحمايته من عبث المُفسِدين وكيد الكائدين.
قال العلماءُ: كانت حادثةُ الفيل من شواهد النُّبوة، ودلالة من دلالتها، فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- حفظ البيت الحرام من أبرهة أن يهدمه لما اقتربت بعثةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي سينشر التَّوحيدَ في مكة، وسيرد العربَ إلى ما كانوا عليه من دين أبيهم إبراهيم -عليه السَّلام.
{قد عرفنا أنَّ الله تعالى حفظ البيت الحرام من أبرهة الحبشي، وهناك حديثٌ يقول أنَّ الذي سيُخَرِّب الكعبةَ ذو السُّوَيقَتَين من الحبشة، فلما لن يحفظ الله البيت من هذا الرجل كما حفظه من أبرهة؟}
الحديث: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَينِ مِنَ الْحَبَشَةِ». والسُّويقتان: تثنية ساق. فيقول -عليه الصَّلاة والسلام: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» ، يعني رجلٌ نحيفٌ جدًّا، وساقاه رفيعان جدًّا، وهو حبشيٌّ أيضًا، وأبرهة كان جبشيًّا، فهذا الرجل يتمكَّن من هدم الكعبة آخر الزَّمان وينقضها حجرًا حجرًا.
فسؤالك هو: أبرهة الحبشي لما قصد هدم الكعبة أهلكه الله وجنده، وحفظ الكعبة، فكيف يُمَكِّن اللهُ -عز وجل- هذا الحبشيَّ الآخر في آخر الزمان من هدم الكعبة؟ ولماذا لا يحفظها كما حفظها من أبرهة؟
الجواب: إنَّ الله -سبحانه وتعالى- حفظ الكعبةَ من أبرهة وجيشه في هذا الزَّمان لما كان يُنتَظر من بعثة النبي -عليه الصلاة والسَّلام- الذي قال الله فيه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [ التوبة: 33]، فحفظ الله البيتَ في ذلك الزمان من أبرهة لما أراد بالناس من الخير والرحمة، كما قال في حقِّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
أمَّا ذلك الحبشي الآخر -ذو السُّوَيْقَتَين- الذي في آخر الزمان فسيهدم الكعبة، فهدم الكعبة علامةٌ من علامات السَّاعة الكبرى، وللسَّاعة علاماتٌ كبرى، يقول العلماءُ: كالعقد المَنْظُوم. أي أنَّه ساعة أن تظهر العلامةُ الأولى تجد العلامةَ الثَّانية والثالثة والرابعة والخامسة وسائر العلامات تظهر تباعًا، ثم يُنْفَخ في الصُّور وتنتهي الدنيا.
ففي آخر الزمان حين يقلّ أهلُ الخير، ويقلّ أهلُ التَّوحيد، ويبقى في الأرض شرارُها كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللهَ اللهَ. أَو يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». فلما لم يبقَ في الأرض من أهل التَّوحيد أحدٌ، ولم يبقَ فيها إلا شرارُها؛ فلم تعُد لبقاء الكعبة فائدةٌ، فيُسَلِّط اللهُ هذا الحبشي فيهدمها؛ ليزداد إثمًا بتلك الجريمة التي يرتكبها، ويُعذَّب بذلك في النار -والله تعالى أعلم.
بعد أن عرفنا لماذا سُمِّي عام الميلاد بعام الفيل، ننتقل للحديث عن ميلاده -صلى الله عليه وسلم- فنقول:
إذا سألنا صغار المسلمين فضلًا عن كبارهم: ما اسم أبي النبي؟
سيقولون: عبد الله بن عبد المطلب.
وما اسم أمه؟
سيقولون: آمنة بنت وهبٍ.
إذن قبل أن نتحدث عن المولود نتحدث عن زواج الوالدين، مَن الوالد؟ ومَن الوالدة؟ وكيف تمَّ هذا الزَّواج المبارك الذي نشأ منه خيرُ خلق الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم؟
نقول:
كان عبدُ الله بن عبد المطلب شابًّا نسيبًا جميلًا وسيمًا، قوي البُنيان، فغدا مطمع الآمال، وغاية الأماني من الكواعب الحِسَان من شريفات قريش، فتطلَّعت كلُّ امرأةٍ حسيبةٍ نسيبةٍ ذات مكانةٍ في قريشٍ إلى أن تحظى بالزَّواج من عبد الله بن عبد المطلب.
فرأى أبوه عبد المطلب -شريف مكة وسيدها- أن يُزوِّجه بكرًا من كرائم البيوتات القرشيَّة، وفكَّر الشيخُ ثم فكَّر حتى هداه تفكيره -وهو العارف بالأعراق والأحساب والأنساب- إلى فتاة بني زُهرة آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فأخذ بيد عبد الله وذهب به حتى أتى منازل بني زهرة، ودخل وإيَّاه دار وهب بن عبد مناف الزّهري، وهو يومئذٍ سيد بني زُهرة نسبًا وشرفًا، فزوَّجه ابنتَه آمنة، وهي يومئذٍ أفضل امرأةٍ في قريش نسبًا وموضعًا. وبنى عبدُ الله بآمنة.
ما معنى بنى؟
أي دخل بها، والبناء معروف.
وبنى عبد الله بآمنة، وبقي في بيت أبيها ثلاثة أيامٍ على عادة العرب في ذلك، فقد كان العربُ إذا زوَّجوا رجلًا بنوا له بيتًا عند والد امرأته فيُقيم ثلاثًا، ثم يأخذ امرأتَه ويرجع إلى أهله، حتى كان اليوم الرابع انتقل عبدُ الله بن عبد المطلب بزوجه إلى منازل عبد المطلب.
وعاش الفتى المرمُوق المحبوب والفتاة الوادعة الجميلة الشَّريفة أيامًا معدودات، لم تتجاوز عند جمهرة المؤرخين عشرة أيام، أي أنَّ عبد الله عاش مع آمنة عشرة أيام فقط، فحياته الزَّوجية مدتها عشرة أيام، وشاء الله أن تكون هذه الأيام هي عمر الحياة الزوجية في هذا الزواج المبارك.
في هذه الأيام المعدودات حملت السيدةُ الشَّريفة آمنة بسيد هذه الأمَّة، وقد ادَّخرها القدرُ لأعظم أمومةٍ في التاريخ، وتوالت عليها الرُّؤى والبُشْرَيَات بجلال قدر هذا الجنين، فرأت فيما يرى الناَّئمُ حين حملت أنَّها خرج منها نورٌ أضاء الأرض، وبدت قصورُ بصرى من أرض الشَّام.
ولم يطل المقام بالفتى الشَّاب عبد الله مع زوجته آمنة بنت وهب حتى خرج في تجارةٍ إلى الشام وترك الزوجةَ الحبيبة، وهو لا يدري أنَّها علقت بالنَّسمة المباركة.
وقضى الزوجُ المكافحُ مدَّةً في تصريف تجارته وهو يعُدّ الأيام كي يعود إلى زوجته فيهنأ بها وتهنأ به، فما أن فرغ من تجارته حتى عاد، وفي أثناء عودته من الشَّام عرَّج على أخوال أبيه عبد المطلب -وهم بنو النَّجار في المدينة- فمرض عندهم، فبقي هو عند أخواله، وعاد رفاقُه وأصحابُه الذين كانوا معه في تلك السَّفرة.
ووصل الرَّكبُ إلى مكة، وعلم منهم عبدُ المطلب بمرض ولده عبد الله، فأرسل أكبر بنيه وهو الحارث بن عبد المطلب ليأتي بأخيه، وما أن وصل الحارثُ إلى المدينة حتى علم أنَّ عبد الله قد مات ودُفِنَ بالمدينة، فرجع حزين النفس على فقد أخيه، ولم يكن للجنين عند فقد الأب إلا شهران.
ورجع الحارثُ بدون أخيه عبد الله والد النبي -عليه الصلاة والسلام.
وتقدَّمت أشهرُ الحمل بالسيدة الشَّريفة آمنة بنت وهب وهي تترقَّب الوليد الذي لم تجد في حمله وهنًا ولا ألمًا، وهتف بها هاتفٌ قائلًا: إنَّكِ قد حملت بسيد هذه الأُمَّة، فإذا وقع على الأرض فقولي: "أُعِيذه بالواحد من شَرِّ كُلِّ حاسدٍ، وسمِّيه محمدًا".
وبلغ الكتابُ أجله، وبعد تسعة أشهر أذن اللهُ للنور أن يسطع، وللجنين المُستَكِن أن يظهر إلى الوجود، وللنَّسمة المباركة أن تخرج إلى الكون؛ لتُؤدِّي أسمى وأعظم رسالةً عرفتها الدنيا في عمرها الطَّويل.
وفي صبيحة اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، الموافق سنة 570 من ميلاد عيسى بن مريم -عليه السلام- حيث بدأ الصُّبحُ يتنفَّس، وآذن نورُ الكون بالإشراق افترَّ ثغرُ الدنيا عن مُصَاصَةِ البشر، وسيد ولد آدم، وأكرم مخلوقٍ على الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا وضعته السيدةُ والدته خرج معه نورٌ أضاء ما بين المشرق والمغرب، حتى رأت منه قصور بُصْرَى بالشَّام، ووقع جاثيًا على رُكبتيه، مُعتَمِدًا على يديه، رافعًا رأسَه إلى السَّماء، ثم أخذ قبضةً من التُّراب فقبضها.
وقد روى الإمامُ أحمد وغيرُه عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «إِنِّي عِنْدَ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيينَ يَرَيْنَ».
وإنَّ أمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشَّام.
وكانت ولادتُه -صلى الله عليه وسلم- في دار أبي طالب بشِعْب بني هاشم.
وكانت قابلتُه: الشِّفاء أم عبد الرحمن بن عوف.
ولقد نَعِمَت الأُمُّ التي ترمَّلت في شبابها بالوليد الجميل، المُشرِق الجبين، الذي ملأ البيتَ من حولها نورًا وسُرورًا، ورأت فيه السَّلْوَى عن الحبيب الغالي الذي تركه لها وديعةً في ضمير الغيب ثم مات.
وما إخالها إلا قد زرفت الدَّمعَ ثخينًا أن لم يرَ الأبُ الشَّابُ هذا الوليدَ الذي يملأ العيونَ جمالًا ومهابةً ومحبَّةً.
وكان أول ما فعلته السَّيدة آمنة أن أرسلت إلى جده عبد المطلب تُبَشِّره بميلاد الحفيد ابن الحبيب، وجاء الجدُّ فرحًا مسرورًا، وضمَّه إلى صدره ضمات خفق لها قلبُه، وخفَّفت من لوعة الحزن على الحبيب المُغَيَّب في ثرى المدينة، وذهب عبدُ المطلب بحفيده محمد إلى الكعبة، فقام يدعو الله ويشكره على ما أنعم به عليه وأعطاه، وسمَّاه محمدًا، ولم يكن هذا الاسمُ شائعًا عند العرب، ولا تسمَّى به إلا عددٌ قليلٌ جدًّا، ولكن الله سبحانه ألهم عبدَ المطلب ذلك إنفاذًا لأمره، وتحقيقًا لما قدَّره وذكره في الكتب السَّماويَّة التي بشَّرت به -صلى الله عليه وسلم.
ولما سُئِلَ: لماذا سمَّيت هذا الولد محمدًا؟
قال عبدُ المطلب: أردت أن يحمده اللهُ في السَّماء، ويحمده الناسُ في الأرض.
ولعلَّ السيدة آمنة أخبرت عبدَ المطلب بالرُّؤيا التي رأتها في منامها وما بُشِّرت به، وأن تُسميه محمدًا، فتوافقت الرُّؤيا مع رغبة عبد المطلب، ورجع شيخُ مكة وشريفها عبد المطلب وهو يحمل بين يديه نسمةً هي خير الدنيا على الإطلاق.
وفي اليوم السَّابع -كما هي عادة العرب- نحر الجدُّ الذَّبائح وأقام الولائم؛ شُكرًا لله، واحتفاءً بالوليد الذي رأى في حياته حياةً موصولةً لابنه الغالي عبد الله، ومرآةً صافيةً يرى في صفحتها المُشرقة النَّيرة وجهَ عبد الله كلَّما أهاجته الذِّكرى، وثار في نفسه الشَّجَنُ.
وقد شارك البيتُ الهاشميُّ في الغبطة بالولد الجديد، فهذه ثُوَيبة الأسلميَّة جارية أبي لهب ابن عبد المطلب لما بشَّرت سيدها بميلاد ابن أخيه -محمد- أعتقها.
وقد قال الشُّعراءُ في ميلاد النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ما قالوا، ومنهم قول شوقي أمير الشُّعراء:
وُلِـدَ الـهُـدَى فَـالكَائِنَاتُ ضِيَاءُ
وَفَـمُ الـزَّمَـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَنَاءُ
إلى آخر ما قاله في حقِّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
مَن الأُمَّهات اللاتي أرضعن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم؟
كانت أولى مَن أرضعته أُمُّه آمنة بنت وهب، قيل: أرضعته ثلاثة أيام. وقيل: سبعًا، وقيل: تسعًا.
ثم أرضعته ثُوَيْبَة جارية عمِّه أبي لهب بلبن ابنها مسروح بضعة أيامٍ قبل قدوم حليمة عليه، وكذلك أرضعت عمَّه حمزة، فثُوَيبَة أرضعت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأرضعت عمَّه حمزة بن عبد المطلب وابن عمَّته أبا سلمة المخزومي، فكانوا إخوةً من الرَّضاع.
ثم استُرضِع -صلى الله عليه وسلم- في بني سعدٍ، وأرضعته حليمةُ، وكان من عادة أشراف العرب أن يلتمسوا المَرَاضِع لأولادهم في البَوَادِي.
فلماذا كانوا يُرسِلون الأطفالَ لينشؤوا في الصَّحراء والبادية؟
ليكون ذلك أنجبَ للولد، وأصحَّ للبدن، وأصفى للذِّهن، وأبعد عن الوَخَم والكسل.
فكانوا يقولون: إنَّ المُرَبَّى في المدن يكون كليلَ الذِّهن، فاتر العزيمة، ضعيف البِنْيَة.
فكانوا يُربُّون الأطفالَ في الصَّحراء حتى ينشأ الأطفالُ خشنين، وعندهم جَلَدٌ وقُوَّة وعزيمة، مع الهواء النَّقي الصَّافي البعيد عن وباء وتلوث البيئة الحضريَّة المدنيَّة.
وفي نشأتهم بين الأعراب من استقامة اللِّسان بالفصيح من الكلام، والسَّلامة من اللَّحْن، والبراءة من الهجنة.
ولما قال الصِّديقُ أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت مَن هو أفصح منك يا رسول الله!". قال: «وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ».
فمن ثَمَّ كان العربُ يُرسِلون أبناءَهم إلى البادية حتى يبلغوا الثَّامنة أو العاشرة.
ومن القبائل مَن كان لها في المراضع شُهرة، أي ليست كلُّ القبائل مشهورةً بالرَّضاع، فكانت هناك قبائل مشهورة أنَّ نساءها يُرضِعْن، فكان لها شُهرة في الرَّضاع، وشُهرة في الفصاحة، ومنها قبيلة بني سعدٍ التي كانت منها حليمة بنت أبي ذُؤَيْبٍ السَّعديَّة مرضعة النبي -صلى الله عليه وسلم.
كيف أخذت حليمةُ النبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام؟ وكيف أرضعته؟ وكيف كانت نشأته عندها؟
لندع حليمةَ تقُصُّ علينا قصَّتها مع النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما فيها من العبرة والرَّوعة ورعاية الله لنبيه في صغره.
تقول حليمةُ: "قَدِمْتُ مكة في نسوةٍ من بني سعدٍ نلتمس الرُّضَعَاء، في سنةٍ شَهْبَاء -أي سنة جدبٍ وقَحْطٍ- على أتانٍ". ما الأتان؟
أُنثى الحمار.
"على أتانٍ لي، ومعي صبيٌّ لنا، وشارف -أي ناقة- والله ما تَبِضُّ بقطرةٍ". أي أنَّ ناقتها ليس فيها نقطةُ لبنٍ.
"وما ننام ليلنا ذلك مع صبينا ذاك، لا يجد في ثديي ما يُغَذِّيه، ولا في شارفنا ما يُغَذِّيه".
أي أنَّ حليمة لا تأكل، فليس في صدرها لبنٌ، والنَّاقة أيضًا ليس فيها لبنٌ؛ لأنَّها كانت سنةَ جدبٍ وقَحْطٍ، فلا يوجد أكلٌ ولا لبنٌ.
"فقدمنا مكَّة، فوالله ما علمتُ منا امرأةً إلا وقد عُرِضَ عليها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فتأباه إذا قيل أنَّه يتيمٌ".
أي أنَّ النساء اللاتي جِئْنَ من البادية يلتمسن الرُّضعاء في مكَّة، كلُّهن عُرِضَ عليهنَّ محمد، فيقلن: مَن هذا؟ مَن أبوه؟ فيُقال: هذا يتيم. فيقُلن: ماذا سنفعل باليتيم؟!
فالمُرْضِعَة أتت لتأخذ رضيعًا تُرضعه حتى تأخذ أجرةً: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6].
فهذا يتيمٌ، فمَن الذي سيُعطيها أُجرة؟!
"وذلك أنَّا كنَّا نرجو المعروفَ من أبي الصَّبي، فكنا نقول: يتيم، ما عسى أن تصنع أُمُّه؟! فكلُّنا نكره ذلك".
قالت: "فوالله ما بقيت من صواحبي امرأةٌ إلا أخذت رضيعًا غيري". فكلُّ واحدةٍ من النِّساء اللاتي جئن لالتماس الرُّضَعَاء أخذن رضيعًا، وحليمة لم تجد رضيعًا تأخذه، فلم يبقَ أمامها إلا اليتيم.
قالت: "فقلتُ لزوجي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيعٌ". كيف آتي وأرجع وليس معي رضيعٌ؟!
قالت: "لأنطلِقَنَّ إلى ذلك اليتيم فلآخُذنَّه. قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركةً".
قالت: "فذهبتُ إليه فإذا هو مُدْرَجٌ في ثوبٍ -أي مَلْفُوفٌ- أبيض من اللَّبن -ثوب من الصُّوف- يفوح منه المسك، وتحته حرير أخضر، راقِدٌ على قفاه يغُطُّ، فأشفقتُ أن أُوقِظه من نومه لحُسنه وجماله، فدنوتُ منه رُويدًا، فوضعتُ يدي على صدره فتبسَّم ضاحكًا، وفتح عينيه لينظر إليَّ، فخرج من عينيه نورٌ حتى دخل خلال السَّماء وأنا أنظر، فقبَّلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن فأقبل عليه بما شاء من لبنٍ".
انتبه! لقد قالت من قبل أنَّ ابنها لم يرضع منها لأنَّه لم يكن هناك لبنًا، ولكنَّها ساعة أن أرضعت النبيَّ تدفَّق اللَّبنُ من ثديها.
قالت: "فحوَّلتُه إلى الأيسر فأبى، فكانت تلك حالته". أي أنَّه لا يرضع إلا من اليمين، ولذلك كان دائمًا يُحبُّ التَّيَمُّن -عليه الصَّلاة والسَّلام.
نكتفي بهذا القدر في هذا الدرس -إن شاء الله- ونُواصِلُ بعد ذلك الحديثَ في كيف كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مع حليمة؟ وما الحوادث التي عرضت له عند بني سعدٍ؟
هذا والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفهرس:
تعليق