فقه السيرة شرح الدكتور / عبد العظيم بدوي, نفع الله به
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد،
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ثم مرحبًا بكم في هذا الدرس من دروس سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنا قد انتهينا إلى أخذ حليمة له -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهي لذلك كارهة مُضطرة، حيث جاءت في نسوةٍ من أهلها يطلبن المراضعَ من مكَّة، فكلَّما عُرِضَ محمدٌ –صلى الله عليه وسلم- على امرأةٍ منهنَّ رفضت حين تعلم أنَّه يتيمٌ، فأخذت كلُّ النِّساء من الأطفال مَن أخذت، ولم تجد حليمةُ إلا ذلك اليتيم.
فشاورت زوجها في أن تأخذه، وذلك خيرٌ من أن ترجع بلا رضيعٍ، وعسى الله أن يجعل فيه خيرًا.
وهكذا كان -بفضل الله عز وجل- لما دخلت عليه وهو نائم، ووضعت يدها على صدره استيقظ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فألقمته ثديها الأيمن، وقد كانت تشتكي من قلَّة اللَّبن فيه، فدرَّ على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لبنًا غزيرًا، وشرب حتى شبع، وشرب أخوه الذي جاءت به أيضًا حتى شبع.
ثم قام زوجها إلى النَّاقة التي كانوا يشكون أيضًا من عدم لبنها، قالت: "فإذا بها حافِل، مليئة لبنًا، فحلب لنا فشرب وشربتُ حتى شبعنا، وبتنا بخير ليلةٍ".
إذن الرَّضيعان شربا من حليمة، وحليمة وزوجها شربا من النَّاقة، وهذا من بركات النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قالت حليمة: "فقال صاحبي -تعني زوجها- تعلمي يا حليمة، والله إني لأراكِ قد أخذتِ نسمةً مباركةً. قلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا فركبتُ أنا أتاني -أنثى الحمار التي جاءت عليها- وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالرَّكب، ما يقدر عليها شيءٌ من حُمُرهم".
أي أنَّ أنثى الحمار التي كانت تركبها سبقت الحميرَ كلَّها، وما استطاع حمارٌ اللُّحوقَ بها.
قالت: "يقلن لي صواحبي: يا ابنة أبي ذُؤَيْب، ويحكِ! ارفقي علينا، أليست هذه أتانكِ التي كنت خرجتِ عليها؟" أليس هذا هو الحمار الذي كنتِ تركبينه حين جئتِ؟ ما بالها وهي راجعة سبقتنا؟
قالت: "فأقول: بلى والله، إنَّها لهي هي. فيقلن: والله إنَّ لها لشأنًا".
قالت حليمة: "ثم قدمنا منازلنا من بلاد سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها –أي أنَّها أرض قحط- فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعًا". فالغنم -مع أنَّ الأرض جدباء- ترجع شبعةً مليئةً.
قالت: "فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسانٌ قطرةَ لبنٍ، ولا يجدها في ضرعٍ، حتى كان الحاضرون يقولون لرُعْيَانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب". انظروا أين يسرح راعي حليمة ويرعى الغنم؟ واسرحوا معه.
قالت: "يقولون: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب، فتروح أغنامهم جياعًا". أي يسرحون ثم يروحون آخر النهار جياعًا.
قالت: "ما تبضُّ بقطرة لبنٍ، وتروح غنمي شباعًا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه -أي سنتي الرَّضاع- وفصلته -أي فطمته- وكان يشِبُّ شبابًا لا يشِبُّه الغلمان، فلم يبلغ سنتين حتى كان غلامًا جَفْرًا -أي قويًّا شديدًا".
قالت: "فقدمنا به على أمِّه –أي فطمناه ونُريد إرجاعه- ونحن أحرص شيءٍ على مُكْثِه عندنا؛ لما كنا نرى من بركته، فكلَّمنا أُمَّه وقلتُ لها: لو تركت بُنيَّ عندي حتى يقوى ويشِبَّ أكثر، فإني أخاف عليه وباء مكة".
قالت: "فلم نزل بها حتى ردَّته معنا".
إذن حليمة أرضعت النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- سنتين وفطمته، ثم رجعت به إلى أمِّه واستأذنتها في أن ترجع به مرةً ثانيةً، وذلك من حرصها عليه لما رأت من بركته -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قالت حليمة: "فوالله إنَّه لبعد مَقْدِمِنَا بشهرين أو ثلاثة –أي بعد أن رجعتُ به مرةً ثانيةً بشهرين أو ثلاثة- مع أخيه من الرَّضاعة لفي بَهْمٍ لنا -أي غنم، فهو وأخوه في الرَّضاعة صبيان- خلف البيوت، إذ جاء أخوه يشتدُّ -يركض ويجري- فقال: ذاك أخي القُرشي قد جاءه رجلان عليهما ثيابٌ بِيْضٌ، فأضجعاه وشقَّا بطنه".
وهي حادثة شقّ الصَّدر.
قالت: "فخرجتُ أنا وأبوه- أي من الرَّضاعة- نشتدُّ نحوه، فوجدناه قائمًا مُنْتَقَعًا لونه، فاعتنقتُه واعتنقه أبوه، وقال: أي بُني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثيابٌ بِيَاضٌ، فأضجعاني وشقَّا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا لا أدري ما هو، فطرحاه ثم ردَّاه كما كان".
قالت حليمة: "فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة، لقد خشيتُ أن يكون ابني قد أُصيب، فانطلقي بنا نردُّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوَّف". أي هيا نُرجعه إلى أهله فذلك أسلم لنا وله.
قالت: "فاحتملناه فقدمنا به على أمِّه. فقالت: ما أقدمَكِ به يا ظِئْرُ -والظِّئْر هي المُرضِعَة- وقد كنتِ حريصةً عليه وعلى مُكْثِه عندك؟" فأنتِ ألحَحْتِ حتى تأخُذيه مني، فلماذا تُرجعيه إليَّ بعد شهرين أو ثلاثة؟
"قلت: قد بلغ الله بابني -أي قد كنتُ أريد أن يكبر، وهو الآن قد كَبِرَ، فهي لا تُريد أن تقول ما حدث- وقضيتُ الذي عليَّ، وتخوَّفتُ الأحداثَ عليه، فأدَّيتُه إليكِ كما تُحِبين. قالت: ما هذا شأنُكِ " مَن التي تقول؟ آمنة.
قالت: "ما هذا شأنُكِ! فاصدُقِيني خبركِ".
قالت: "فلم تدعني حتى أخبرتها". أي قلتُ لها حصل كذا وكذا.
قالت: "أَفَتَخَوَّفْتِ عليه الشَّيطان؟" فأُمُّه آمنة تقول لحليمة: أنتِ خفتِ عليه من الشَّيطان؟
قالت: "قلتُ: نعم. قالت آمنة: كلا، والله ما للشَّيطان عليه من سبيل، وإنَّ لبُنيَّ لشأنًا، أفلا أُخبركِ يا حليمة بخبره معي؟ قالت: بلى".
قالت آمنة: "رأيت حين حملتُ به أنَّه خرج مني نورٌ أضاء لي قصور بُصْرَى من أرض الشَّام، ثم حملتُ به فوالله ما رأيتُ من حملٍ قطُّ كان أخفَّ عليَّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدتُه وإنَّه لواضِعٌ يديه بالأرض، رافعٌ رأسَه إلى السَّماء. دعيه عنكِ وانطلقي راشِدَةً".
وقد تكررت هذه الحادثة -وهي حادثة شقِّ الصَّدر- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد المرة الأولى مرةً ثانيةً عند المبعث، ومرةً ثالثةً عند الإسراء والمعرج.
إذن شُقَّ صدره -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مراتٍ:
- مرة وهو عند حليمة السَّعدية في بني سعدٍ.
- ومرة عند البعثة.
- ومرة ليلة الإسراء والمعراج.
وهذه المرة ثابتةٌ بالأحاديث الصَّحيحة من رواية الشَّيخين: البخاري ومسلم.
لماذا شُقَّ صدره -عليه الصَّلاة والسَّلام؟
يقول الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله:
"أمَّا المرة الأولى -وهو طفلٌ في بني سعدٍ- فكانت لنزع العَلَقَةِ السَّوداء التي هي حظُّ الشَّيطان من كلِّ بشرٍ، فخُلِقَت فيه -صلى الله عليه وسلم- تكمِلةً للخلق الإنساني، ثم إخراجها بعد خلقه كرامةً ربَّانيةً، فهو أدلُّ على مزيد الرِّفعة والكرامة من خلقه بدونها، وبنزعها منه نشأ على أكمل الأحوال من العِصْمَة من الشَّيطان، والاتِّصاف بصفات الرُّجوليَّة من الصِّغر، فلا لهوَ ولا عبثَ، وإنَّما هو الكمال والجدُّ منه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
أمَّا المرة الثانية -التي كانت قبل البعثة- فكان ليتلقَّى ما يُوحَى إليه من أمور الرِّسالة بقلبٍ قويٍّ، وهو على أكمل الأحوال، وأتمِّ الاستعداد.
وأمَّا المرة الثالثة -ليلة المعراج- فكانت استعدادًا لما يُلقَى إليه في هذه اللَّيلة من أنواع الفُيُوضَات الإلهيَّة، وما سيُريه ربُّه فيها من الآيات البيِّنات، وإدراك مرام المُثُل الرَّائعة التي ضُرِبَت له في مسراه ومعراجه، وكلّها تحتاج إلى شرح الصَّدر وثبات القلب -صلى الله عليه وسلم".
وهكذا ردَّت حليمةُ النبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى أُمِّه بعد حادثة شقِّ الصَّدر الأولى في مبتدأ سنته الخامسة، وقد شبَّ عن الطَّوقِ، وقويَ جسمه، وغلُظَ عودُه، وبلغ من النُّضرة ما لم يبلغه صبيٌّ في مثل عمره، وعاش -عليه الصَّلاة والسَّلام- في كَنَفِ الأم الحنون، وأضحى هو كلَّ شيءٍ في حياتها، إذا ليس هناك ما يشغلها أو يُلهيها عنه.
ودَرَجَ في كفالة جدِّه الشيخ الذي يَحْنُو عليه أكثر من حُنُوِّه على أبنائه، وقد وجد فيه عِوَضًا عن أحبِّ أبنائه إليه -أبوه عبد الله.
فلمَّا بلغ -صلى الله عليه وسلم- السَّادسة من عمره ارْتَأَتْ أُمُّه أن تذهب به إلى أخوال جدِّه عبد المطلب بالمدينة من بني النَّجار للزِّيارة؛ ليرى مكانةَ هؤلاء الأخوال الكرام، وقد كان لهذه الخُؤُولَة اعتبارها لمَّا هاجر فيما بعد إلى المدينة، وليقضي حقَّ الحبيب المُغَيَّب في تراب المدينة -وهو أبوه عبد الله- وأغلب الظَّنِّ أنَّ آمنةَ قد حدَّثت ابنَها بقصة أبيه، وكيف ذهب للتِّجارة إلى الشَّام؟ وكيف مات في المدينة؟
وخرجت الأمُّ والابنُ ومعهما أمُّ أيمن -بركة الحبشيَّة جارية أبيه- حتى وصلوا إلى المدينة، وكان المقامُ في دار النَّابغة من بني النَّجار، ومكثوا عندهم شهرًا، وزاروا الحبيبَ الثَّاوِيَ في قبره، وحرَّكت الزِّيارةُ لوعةَ الشَّوق والأحزان في نفس الأم والابن، وانطبع معنى اليُتْم في نفس النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد أن كان لاهيًا عنه، وذلك حين زار قبر أبيه وتذكَّره.
وبعد أن قضوا حاجتهم عادوا إلى مكَّة، وفي الطَّريق بين مكَّة والمدينة مرضت الأمُّ واشتدَّ عليها المرضُ، وماتت ودُفِنَت بالطَّريق بين مكة والمدينة، فدُفِنَت بقرية الأَبْوَاء، وهكذا فقد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمَّه وهو في السنة السَّادسة من عُمُره، وكان قد فَقَدَ قبلُ أباه وهو جنينٌ في بطن أمِّه، فعاش -صلى الله عليه وسلم- يتيمَ الأبوين؛ فمات أبوه وهو جنينٌ، وماتت أمُّه وهو في السَّادسة من عمره.
{فضيلة الشيخ، ما الحكمة من نشأة النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيمًا؟}
نعم، قد يقول قائلٌ: ربما لو عاش عبدُ الله بن عبد المطلب والد النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى بُعِثَ فربما آزره، ووقف بجواره، وحماه، وساعده على نشر الدَّعوة، وتبليغ الرِّسالة، وغير ذلك، كما هو دائمًا موقف الآباء.
لكن الله -سبحانه وتعالى- أراد أن يموت الأبُ والنبي –صلى الله عليه وسلم- جنينٌ في بطن أمِّه، وأن تموت أمُّه وهو في السَّادسة من عمره، والله قد وصف نفسَه بأنَّه العليم الحكيم، فكلُّ شيءٍ يجري بتقدير الله تعالى ومشيئته على وَفْقِ حكمته -سبحانه وتعالى.
فأراد الله سبحانه أن ينشأ رسولُه –صلى الله عليه وسلم- يتيمًا، تتولاه عنايةُ الله وحدها، بعيدًا عن الذِّراع التي تُمْعِنُ في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه؛ حتى لا تميل به نفسُه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثَّر بما حوله من معنى الصَّدارة والزَّعامة؛ فتلتبس على الناس قداسةُ النُّبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسِبُوه يَصْطَنِعُ الأوَّلَ ابتغاء الوصول إلى الثاني.
وكانت المصائِبُ التي أصابت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- منذ طُفولته -كموت أمِّه، ثم جدِّه، بعد أن حُرِمَ عطف الأب وذاق كأسَ الحزن مرةً بعد مرَّةٍ- قد جعلته رقيقَ القلب، مُرْهَفَ الشُّعور.
فالأحزان تصهر النُّفوسَ، وتُخلِّصها من أدران القسوة والكِبْر والغُرور، وتجعلها أكثر رقَّةً وتواضعًا.
وليست وفاةُ والديه في العشرينيَّات من حياتهما ناشئةً عن هُزَالِهِما وضعف بِنْيَتِهما، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- أبدًا سليلَ أبوين سَقِيمَين، وإنَّما توفَّاهما اللهُ بعد أن قاما بالمهمَّة التي وُجِدَا من أجلها؛ ليتأسَّى بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كلُّ مَن فقد والديه أو أحدَهما وهو صغيرٌ.
أي أنَّه حين يجد ولدٌ أنَّ والده قد مات فإنَّه يقول: لا مشكلة، فأبو النبي –صلى الله عليه وسلم- قد مات وهو جنينٌ.
وحين تموت أُمُّه يقول: أمُّ النبي –صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو صغير.
وليكون أدبُه وخُلُقُه مع يُتْمِه دليلًا على أنَّ الله تعالى هو الذي تولَّى تربيته وتأديبه.
هذا الكمال في الأخلاق والأدب لم يتلقَّاه النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن أبوين، وإنَّما أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، حتى ينشأ قويَّ الإرادة، ماضِيَ العزيمة، غير مُعتَمِدٍ على أحدٍ في شُؤونه، وحتى لا يكون لأبويه أيُّ أثرٍ في دعوته، وحتى لا تتدخل يدُ البشريَّة في تربيته وتوجِيهه، فيكون الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتولى تربيته، ولا يتلقَّن من مفاهيم الجاهليَّة وأعرافها شيئًا، إنَّما يتلقَّن من لدن الحكيم الخبير.
فالله -سبحانه وتعالى- آواه، وسخَّر له جدَّه وعمَّه لتهيئة الجانب المادي، بينما كانت التربيةُ النَّفسيَّةُ والخُلُقيَّة والفكريَّة تعهُّدًا ربانيًّا ورعايةً إلهيَّة.
وعاد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة بعد أن دفن أمَّه بالأبواء -بين مكة والمدينة- مع أمِّ أيمن بركة الحبشيَّة، فكفله جدُّه عبد المطلب، وضمَّه إليه، ورقَّ عليه رقَّةً لم يرقَّها على ولده.
وكان يُقرِّبه منه ويُدْنِيه ويُدْخِله عليه إذا خلا وإذا نام، وكان عبدُ المطلب لا يأكل طعامًا إلا ويقول: أين ابني؟ هاتوا ابني. فيُؤتَى به إليه.
وبذلك عَوَّض اللهُ محمدًا عن أبويه بحنان جدِّه، وكانت حاضِنَتُه بعد وفاة أمِّه أم أيمن.
وكان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- بعد أن كبر يعرف لأمِّ أيمن فضلها، ويقول: «هَذِهِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي».
وكان الجدُّ يُسَرُّ حين يرى من مخايل الشَّرف والعِزَّة على حفيده محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كان لعبد المطلب فراشٌ يُوضَع في ظلِّ الكعبة، وكان بنو عبد المطلب يجلسون حول فراشه حتى يخرجَ إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بَنِيهِ؛ إجلالًا لأبيهم وإكبارًا.
فكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يأتي وهو غلامٌ يافِعٌ فيجلس على فراش جدِّه، فيأخذه أعمامُه ليُؤخِّروه، فيقول عبدُ المطلب والغِبْطَة تملأ نفسَه: "دعوا ابني، فوالله إنَّ له لشأنًا" ، ثم يُجلِسه معه على فراشه، ويمسح ظهرَه بيمينه، ويضُمُّه إليه.
ولم يلبث كثيرًا حتى مات جدُّه أيضًا.
فلمَّا حضرت عبدَ المطلب الوفاةُ أوصى ابنَه أبا طالب بكفالة النبي –صلى الله عليه وسلم- وحِيَاطَته، ثم مات عبدُ المطلب ودُفِن بمكة، والنبي –صلى الله عليه وسلم- ابن ثمان سنين.
فكفله عمُّه أبو طالب، ولم يكن أبو طالب بأكبر بني عبد المطلب، ولا بأكثرهم مالًا، ولكنَّه كان أشرفَ قريشٍ، وأعظمَها مكانةً، وأكرمَها نفسًا.
وقد أحبَّ أبو طالب ابنَ أخيه محمدًا حبًّا شديدًا لا يُحبُّه أحدًا من ولده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه.
وشبَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- شبابًا مُباركًا.
وكان أبو طالب يخصُّه بالطَّعام، وكان إذا أكل عيالُ أبي طالبٍ جميعًًا أو فُرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- شبعوا.
فكان إذا أراد أن يُؤَكِلَهُم قال: "كما أنتم حتى يأتي ولدي"، فيأتي النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- فيأكل معهم، فكانوا يُفضِلون من طعامهم، فيعجب أبو طالب ويقول: "إنَّك لمباركٌ".
وهكذا كانت بركةُ النبي –صلى الله عليه وسلم- مع حليمة، وبركته مع عمِّه.
وكان الصِّبيانُ يُصبِحون رُمْصًا شُعْثًا، ويُصبِح محمدٌ دَهِينًا كَحِيلًا.
وقد زاده حبًّا في نفسه ما كان يتحلَّى به النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- في صباه من طيب الشَّمائل، وكريم الآداب في هيئة الأكل والشُّرب والجلوس والكلام، مما يَعِزُّ وجودُه في هذا السنِّ بين الصِّبيان، ويدلُّ على أنَّ الله سبحانه فطره منذ صغره على أفضل الخِلَال وأحسن الآداب -صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا شبَّ -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ العملَ والكفاحَ والسَّعي في طلب الرِّزق وكسب المال، وهكذا ينبغي أن يكون أبناؤُنا –صبياننا- فضلًا عن شبابنا، فإذا شبَّ الولدُ عن الطَّوق وصارت له قوَّة؛ ينبغي أن يشتغل بالعمل ليكسب، ولا يكون عالةً على أبيه وأهله.
فاشتغل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في صباه برعي الغنم، فرعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة، وبذلك ضرب مثلًا عاليًا منذ صِغَرِه في كسب الرِّزق بالكَدِّ والتَّعَب، فأحسنُ لقمةٍ يأكلها الإنسانُ لقمة يكسبها بيده، وأحسن مالٍ يكسبه الإنسانُ أو يَحُوزُه مالٌ كسبه بعرقه وكفاحه وجَهده.
وكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذكر ذلك في كِبَرِه وهو مُغْتَبِطٌ مَسرُورٌ، يقول: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ» ، فيقول أصحابُه: وأنت؟ فيقول: «نَعَمْ، وَأَنَا، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ».
ما الحكمة أو الفائدة من كون النبي قبل النُّبوة يرعى الغنم؟
الحكمة في رعي الأنبياء الغنمَ قبل النُّبوة: أن يحصل لهم بالتَّمَرُّن والتَّعوُّد على رعاية الغنم القُدرة على رعاية الأمم، فالرَّاعي يمشي خلف الغنم، فإذا ذهبت واحدةٌ منها بعيدًا عن القَطِيع يردّها، فيجمع شملَ الغنم، ويمنعها من الخلاف والفِرَاق، والشُّذوذ، وغير ذلك.
فالحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل النُّبوة: أن يتمَرَّنوا ويتدرَّبوا على رعاية أُمَمِهم، والقيام بشُؤونهم، إذ في رَعْيِهَا ما يحصل لهم به الحلم والشَّفقة والرَّحمة، ويُعَوِّدهم من الصِّغر الصَّبر، وطول البال، والأناة، والتَّرَيُّث، وزجر الباغي، وجبر كسر الضَّعيف، ويُربِّي فيهم مَلَكَةَ الحرص على المصلحة، ودفع المَضَرَّة، وحُسن التَّعاون، والرِّفق بمَن تحت أيديهم، والسَّهر على مصلحتهم.
هذا إلى ما في رعي الغنم من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية؛ فيتمتع بالسَّماء الصَّافية، والشَّمس المُشرقة، والهواء النَّقِي، ويُطِيل التَّأمُّل والنَّظر في السَّماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفِجَاج، والجبال ذات الألوان، وبذلك يصير التَّأمُّل والتَّدبُّر مَلَكَةً من ملكات النفس.
وقد أمر الله تعالى بالنَّظر إلى هذه المخلوقات:(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) [الغاشية: 17- 20].
ولما بلغت سِنُّه -صلى الله عليه وسلم- عشرةً؛ خرج عمُّه أبو طالب في تجارةٍ له إلى الشَّام، فتعلَّقت نفسُ ابن أخيه به، ورَغِبَ في مُصاحبته؛ فَرَقَّ له عمُّه فأخذه معه واستصحبه إلى الشَّام، حتى وصل الرَّكْبُ إلى بُصْرَى من بلاد الشَّام، وكان بها راهبٌ عنده علمٌ بالكتب السَّماوية السَّابقة، وقد علم ذلك الرَّاهِبُ من الكتب السَّماوية أنَّ مبعثَ نبي آخر الزَّمان قد اقترب، وأنَّ هذا النبي من العرب.
وقد جُذِبَ انتباه ذلك الرَّاهِب إلى القافلة -قافلة أبي طالب وهي آتية- فجعل الرَّاهِبُ ينظر من بعيدٍ إلى القافلة ويُرَاقِبها، فلفت نظره أنَّه رأى غمَامَةً -سحابة- تُظلل شخصًا واحدًا من الرَّكْب، فصنع لهم طعامًا على غير عادته، ودعاهم إليه.
وهنا تختلف الرِّوايات:
ففي بعضها: أنَّهم حضروا بما فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم.
وفي بعضها: أنَّهم حضروا جميعًا وتركوا النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- في رحالهم تحت شجرةٍ قريبةٍ.
فلمَّا حضروا تفرَّس فيهم الرَّاهِبُ فلم يجد صاحبَ الصِّفة التي يعرفها، فرغب في حضوره؛ فأحضروه.
فلمَّا حضر صار يتفرَّس فيه، ويتعرَّف على بعض صفاته، ثم تحايل عليه حتى يرى خاتم النُّبوة بين كتفيه -عليه الصَّلاة والسَّلام- على الصِّفة التي قرأها في كتبهم، فأقبل ذلك الرَّاهِبُ على أبي طالبٍ -بعدما تفرَّس في النبيِّ وعرف أنَّ الصِّفات التي تدلُّ على نبوة آخر الزمان موجودةٌ فيه- فقال: ما هذا الغلام منك؟ أي ما صلته بك؟
قال: ابني.
قال الرَّاهِبُ: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا.
إذن هم درسوا في الكتب أنَّ نبي آخر الزمان سيكون يتيمًا.
قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا.
قال أبو طالب: فإنَّه ابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: مات وأُمُّه حُبْلَى به.
قال: صدقتَ، فارجع -هذا كلام الرَّاهِب لأبي طالب- بابن أخيك إلى بلدك، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا ما عرفتُ ليُؤذونه، وليقتلونه، فإنَّه كائِنٌ لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ.
وما فرغ أبو طالبٍ من بيعه حتى عاد مُسرعًا بابن أخيه إلى مكة، وقد اشتدَّ حرصًا عليه وحُبًّا له.
وفي مكة أقامت قريش حِلْفًا عُرِفَ باسم "حِلْف الفُضُول"، وكان هذا الحِلْفُ أكرمَ وأفضلَ ما تعاهدت عليه العربُ في الجاهلية.
وكان سببه: أنَّ رجلًا من قبيلة زُبَيدٍ باليمن قدم مكة ببضاعةٍ، فاشتراها منه العاصُ بن وائل السَّهْمِي، وأبى أن يُعطيه حقَّه، فاستعدى عليه الزُّبيديُّ الأحلافَ: عبد الدَّار، ومخزُومًا، وجُمَحًا، وسهمًا، وعدي بن كعبٍ؛ فأبوا أن يُعينوه على العاص بن وائل وانتهروه.
فلمَّا رأى الزُّبيدي الشرَّ صَعِدَ على جبل أبي قُبَيصٍ عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وناداهم واستصرخهم، واستغاث بهم، فقام الزُّبير بن عبد المطلب فقال: مالِ هذا؟ لا نتركه أبدًا.
فاجتمعت بنو هاشم، وزُهرة، وبنو تيم بن مُرَّة في دار عبد الله بن جُدْعَان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهرٍ حرامٍ -وهو ذو القعدة- فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يُردَّ إليه حقّه، ما بلَّ بحرٌ صُوفَة، وما بقي جبلا: ثَبِير وحِرَاء مكانهما.
فسمَّت قريش هذا الحِلْف "حِلْف الفَضُول"، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر.
ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعةَ الزُّبيدي فدفعوها إليه.
وقيل: إنَّما سُمِّي حلف الفضول لأنَّه أشبه حِلْفًا تحالفته جُرْهُم على هذا، من نصر المظلوم، وردع الظالم.
وكان قد دُعِيَ إليه ثلاثةٌ من أشرافهم اسم كلِّ واحدٍ منهم "فضل": الفضل بن فَضَالَة، والفضل بن وَدَاعَة، والفضل بن الحارث.
وقال بعضُهم: الفضل بن شُرَاعَة، والفضل بن بُضَاعَة، والفضل بن قُضَاعَة.
وقد حضر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الحِلْفَ الذي رفعوا به منارَ الحقِّ، وهدموا صرحَ الظُّلم.
ويُعتبر من مفاخِر العرب، وعِرفانهم لحقوق الإنسان.
وكان في هذا الحِلْفِ الذي حضره النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الدُّروس والعِبَر الكثير، منها:
1- أنَّ العدل قيمةٌ مُطلقةٌ، وليست نِسْبِيَّةً، وأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُظْهِر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين.
فالقيم الإيجابيَّة تستحقُّ الإشادة بها، حتى لو صدرت من أهل الجاهليَّة.
وكان هذا الحِلْفُ واحةً في ظلام الجاهلية، وفيه دلالة بيِّنةٌ على أنَّ شُيوع الفساد في نظامٍ أو مجتمعٍ لا يعني خُلُوّه من أيِّ فضيلةٍ، فمكة مجتمعٌ جاهليٌّ، هيمنت عليه عبادةُ الأوثان والمظالم، والأخلاق الذَّميمة -كالظُّلم والزِّنى والرِّبا- ومع هذا كان فيه رجالٌ أصحاب نَخْوَةٍ ومُرُوءَةٍ يكرهون الظُّلمَ ولا يُقِرُّونه.
وفي هذا درسٌ عظيمٌ للدُّعاة في مُجتمعاتهم التي لا تُحَكِّم الإسلامَ، أو يُحَارَبُ الإسلامُ فيها.
2- كذلك من دروس هذا: أنَّ الظُّلمَ مرفُوضٌ بأيِّ صورةٍ كانت، ولا يُشترط الوقوف ضدّ الظَّالمين فقط عندما ينالُون من الدُّعاة إلى الله؛ بل إنَّ مُواجهةَ الظَّالمين قائمةٌ ولو وقع الظُّلمُ على أقلِّ الناس، فإنَّ الإسلام يُحارِب الظُّلمَ، ويقف بجانب المظلوم دون النَّظر إلى لونه ودينه ووطنه وجنسه.
3- كذلك من الدُّروس التي نأخذها من هذا: جواز التَّحالُف والتَّعاهُد على فعل الخير، وهي من قبيل التَّعاون المأمور به في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
4- ومن الدُّروس المُستفادة: أنَّ المسلمَ لا يكون في مجتمعه سلبيًّا؛ بل يجب أن يكون إيجابيًّا فاعلًا، يُؤدِّي دوره في المجتمع، ويُحقق العدلَ والمُساواةَ لكلِّ النَّاس في مجتمعه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد،
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ثم مرحبًا بكم في هذا الدرس من دروس سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنا قد انتهينا إلى أخذ حليمة له -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهي لذلك كارهة مُضطرة، حيث جاءت في نسوةٍ من أهلها يطلبن المراضعَ من مكَّة، فكلَّما عُرِضَ محمدٌ –صلى الله عليه وسلم- على امرأةٍ منهنَّ رفضت حين تعلم أنَّه يتيمٌ، فأخذت كلُّ النِّساء من الأطفال مَن أخذت، ولم تجد حليمةُ إلا ذلك اليتيم.
فشاورت زوجها في أن تأخذه، وذلك خيرٌ من أن ترجع بلا رضيعٍ، وعسى الله أن يجعل فيه خيرًا.
وهكذا كان -بفضل الله عز وجل- لما دخلت عليه وهو نائم، ووضعت يدها على صدره استيقظ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فألقمته ثديها الأيمن، وقد كانت تشتكي من قلَّة اللَّبن فيه، فدرَّ على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لبنًا غزيرًا، وشرب حتى شبع، وشرب أخوه الذي جاءت به أيضًا حتى شبع.
ثم قام زوجها إلى النَّاقة التي كانوا يشكون أيضًا من عدم لبنها، قالت: "فإذا بها حافِل، مليئة لبنًا، فحلب لنا فشرب وشربتُ حتى شبعنا، وبتنا بخير ليلةٍ".
إذن الرَّضيعان شربا من حليمة، وحليمة وزوجها شربا من النَّاقة، وهذا من بركات النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قالت حليمة: "فقال صاحبي -تعني زوجها- تعلمي يا حليمة، والله إني لأراكِ قد أخذتِ نسمةً مباركةً. قلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا فركبتُ أنا أتاني -أنثى الحمار التي جاءت عليها- وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالرَّكب، ما يقدر عليها شيءٌ من حُمُرهم".
أي أنَّ أنثى الحمار التي كانت تركبها سبقت الحميرَ كلَّها، وما استطاع حمارٌ اللُّحوقَ بها.
قالت: "يقلن لي صواحبي: يا ابنة أبي ذُؤَيْب، ويحكِ! ارفقي علينا، أليست هذه أتانكِ التي كنت خرجتِ عليها؟" أليس هذا هو الحمار الذي كنتِ تركبينه حين جئتِ؟ ما بالها وهي راجعة سبقتنا؟
قالت: "فأقول: بلى والله، إنَّها لهي هي. فيقلن: والله إنَّ لها لشأنًا".
قالت حليمة: "ثم قدمنا منازلنا من بلاد سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها –أي أنَّها أرض قحط- فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعًا". فالغنم -مع أنَّ الأرض جدباء- ترجع شبعةً مليئةً.
قالت: "فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسانٌ قطرةَ لبنٍ، ولا يجدها في ضرعٍ، حتى كان الحاضرون يقولون لرُعْيَانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب". انظروا أين يسرح راعي حليمة ويرعى الغنم؟ واسرحوا معه.
قالت: "يقولون: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب، فتروح أغنامهم جياعًا". أي يسرحون ثم يروحون آخر النهار جياعًا.
قالت: "ما تبضُّ بقطرة لبنٍ، وتروح غنمي شباعًا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه -أي سنتي الرَّضاع- وفصلته -أي فطمته- وكان يشِبُّ شبابًا لا يشِبُّه الغلمان، فلم يبلغ سنتين حتى كان غلامًا جَفْرًا -أي قويًّا شديدًا".
قالت: "فقدمنا به على أمِّه –أي فطمناه ونُريد إرجاعه- ونحن أحرص شيءٍ على مُكْثِه عندنا؛ لما كنا نرى من بركته، فكلَّمنا أُمَّه وقلتُ لها: لو تركت بُنيَّ عندي حتى يقوى ويشِبَّ أكثر، فإني أخاف عليه وباء مكة".
قالت: "فلم نزل بها حتى ردَّته معنا".
إذن حليمة أرضعت النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- سنتين وفطمته، ثم رجعت به إلى أمِّه واستأذنتها في أن ترجع به مرةً ثانيةً، وذلك من حرصها عليه لما رأت من بركته -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قالت حليمة: "فوالله إنَّه لبعد مَقْدِمِنَا بشهرين أو ثلاثة –أي بعد أن رجعتُ به مرةً ثانيةً بشهرين أو ثلاثة- مع أخيه من الرَّضاعة لفي بَهْمٍ لنا -أي غنم، فهو وأخوه في الرَّضاعة صبيان- خلف البيوت، إذ جاء أخوه يشتدُّ -يركض ويجري- فقال: ذاك أخي القُرشي قد جاءه رجلان عليهما ثيابٌ بِيْضٌ، فأضجعاه وشقَّا بطنه".
وهي حادثة شقّ الصَّدر.
قالت: "فخرجتُ أنا وأبوه- أي من الرَّضاعة- نشتدُّ نحوه، فوجدناه قائمًا مُنْتَقَعًا لونه، فاعتنقتُه واعتنقه أبوه، وقال: أي بُني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثيابٌ بِيَاضٌ، فأضجعاني وشقَّا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا لا أدري ما هو، فطرحاه ثم ردَّاه كما كان".
قالت حليمة: "فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة، لقد خشيتُ أن يكون ابني قد أُصيب، فانطلقي بنا نردُّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوَّف". أي هيا نُرجعه إلى أهله فذلك أسلم لنا وله.
قالت: "فاحتملناه فقدمنا به على أمِّه. فقالت: ما أقدمَكِ به يا ظِئْرُ -والظِّئْر هي المُرضِعَة- وقد كنتِ حريصةً عليه وعلى مُكْثِه عندك؟" فأنتِ ألحَحْتِ حتى تأخُذيه مني، فلماذا تُرجعيه إليَّ بعد شهرين أو ثلاثة؟
"قلت: قد بلغ الله بابني -أي قد كنتُ أريد أن يكبر، وهو الآن قد كَبِرَ، فهي لا تُريد أن تقول ما حدث- وقضيتُ الذي عليَّ، وتخوَّفتُ الأحداثَ عليه، فأدَّيتُه إليكِ كما تُحِبين. قالت: ما هذا شأنُكِ " مَن التي تقول؟ آمنة.
قالت: "ما هذا شأنُكِ! فاصدُقِيني خبركِ".
قالت: "فلم تدعني حتى أخبرتها". أي قلتُ لها حصل كذا وكذا.
قالت: "أَفَتَخَوَّفْتِ عليه الشَّيطان؟" فأُمُّه آمنة تقول لحليمة: أنتِ خفتِ عليه من الشَّيطان؟
قالت: "قلتُ: نعم. قالت آمنة: كلا، والله ما للشَّيطان عليه من سبيل، وإنَّ لبُنيَّ لشأنًا، أفلا أُخبركِ يا حليمة بخبره معي؟ قالت: بلى".
قالت آمنة: "رأيت حين حملتُ به أنَّه خرج مني نورٌ أضاء لي قصور بُصْرَى من أرض الشَّام، ثم حملتُ به فوالله ما رأيتُ من حملٍ قطُّ كان أخفَّ عليَّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدتُه وإنَّه لواضِعٌ يديه بالأرض، رافعٌ رأسَه إلى السَّماء. دعيه عنكِ وانطلقي راشِدَةً".
وقد تكررت هذه الحادثة -وهي حادثة شقِّ الصَّدر- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد المرة الأولى مرةً ثانيةً عند المبعث، ومرةً ثالثةً عند الإسراء والمعرج.
إذن شُقَّ صدره -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مراتٍ:
- مرة وهو عند حليمة السَّعدية في بني سعدٍ.
- ومرة عند البعثة.
- ومرة ليلة الإسراء والمعراج.
وهذه المرة ثابتةٌ بالأحاديث الصَّحيحة من رواية الشَّيخين: البخاري ومسلم.
لماذا شُقَّ صدره -عليه الصَّلاة والسَّلام؟
يقول الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله:
"أمَّا المرة الأولى -وهو طفلٌ في بني سعدٍ- فكانت لنزع العَلَقَةِ السَّوداء التي هي حظُّ الشَّيطان من كلِّ بشرٍ، فخُلِقَت فيه -صلى الله عليه وسلم- تكمِلةً للخلق الإنساني، ثم إخراجها بعد خلقه كرامةً ربَّانيةً، فهو أدلُّ على مزيد الرِّفعة والكرامة من خلقه بدونها، وبنزعها منه نشأ على أكمل الأحوال من العِصْمَة من الشَّيطان، والاتِّصاف بصفات الرُّجوليَّة من الصِّغر، فلا لهوَ ولا عبثَ، وإنَّما هو الكمال والجدُّ منه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
أمَّا المرة الثانية -التي كانت قبل البعثة- فكان ليتلقَّى ما يُوحَى إليه من أمور الرِّسالة بقلبٍ قويٍّ، وهو على أكمل الأحوال، وأتمِّ الاستعداد.
وأمَّا المرة الثالثة -ليلة المعراج- فكانت استعدادًا لما يُلقَى إليه في هذه اللَّيلة من أنواع الفُيُوضَات الإلهيَّة، وما سيُريه ربُّه فيها من الآيات البيِّنات، وإدراك مرام المُثُل الرَّائعة التي ضُرِبَت له في مسراه ومعراجه، وكلّها تحتاج إلى شرح الصَّدر وثبات القلب -صلى الله عليه وسلم".
وهكذا ردَّت حليمةُ النبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى أُمِّه بعد حادثة شقِّ الصَّدر الأولى في مبتدأ سنته الخامسة، وقد شبَّ عن الطَّوقِ، وقويَ جسمه، وغلُظَ عودُه، وبلغ من النُّضرة ما لم يبلغه صبيٌّ في مثل عمره، وعاش -عليه الصَّلاة والسَّلام- في كَنَفِ الأم الحنون، وأضحى هو كلَّ شيءٍ في حياتها، إذا ليس هناك ما يشغلها أو يُلهيها عنه.
ودَرَجَ في كفالة جدِّه الشيخ الذي يَحْنُو عليه أكثر من حُنُوِّه على أبنائه، وقد وجد فيه عِوَضًا عن أحبِّ أبنائه إليه -أبوه عبد الله.
فلمَّا بلغ -صلى الله عليه وسلم- السَّادسة من عمره ارْتَأَتْ أُمُّه أن تذهب به إلى أخوال جدِّه عبد المطلب بالمدينة من بني النَّجار للزِّيارة؛ ليرى مكانةَ هؤلاء الأخوال الكرام، وقد كان لهذه الخُؤُولَة اعتبارها لمَّا هاجر فيما بعد إلى المدينة، وليقضي حقَّ الحبيب المُغَيَّب في تراب المدينة -وهو أبوه عبد الله- وأغلب الظَّنِّ أنَّ آمنةَ قد حدَّثت ابنَها بقصة أبيه، وكيف ذهب للتِّجارة إلى الشَّام؟ وكيف مات في المدينة؟
وخرجت الأمُّ والابنُ ومعهما أمُّ أيمن -بركة الحبشيَّة جارية أبيه- حتى وصلوا إلى المدينة، وكان المقامُ في دار النَّابغة من بني النَّجار، ومكثوا عندهم شهرًا، وزاروا الحبيبَ الثَّاوِيَ في قبره، وحرَّكت الزِّيارةُ لوعةَ الشَّوق والأحزان في نفس الأم والابن، وانطبع معنى اليُتْم في نفس النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد أن كان لاهيًا عنه، وذلك حين زار قبر أبيه وتذكَّره.
وبعد أن قضوا حاجتهم عادوا إلى مكَّة، وفي الطَّريق بين مكَّة والمدينة مرضت الأمُّ واشتدَّ عليها المرضُ، وماتت ودُفِنَت بالطَّريق بين مكة والمدينة، فدُفِنَت بقرية الأَبْوَاء، وهكذا فقد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمَّه وهو في السنة السَّادسة من عُمُره، وكان قد فَقَدَ قبلُ أباه وهو جنينٌ في بطن أمِّه، فعاش -صلى الله عليه وسلم- يتيمَ الأبوين؛ فمات أبوه وهو جنينٌ، وماتت أمُّه وهو في السَّادسة من عمره.
{فضيلة الشيخ، ما الحكمة من نشأة النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيمًا؟}
نعم، قد يقول قائلٌ: ربما لو عاش عبدُ الله بن عبد المطلب والد النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى بُعِثَ فربما آزره، ووقف بجواره، وحماه، وساعده على نشر الدَّعوة، وتبليغ الرِّسالة، وغير ذلك، كما هو دائمًا موقف الآباء.
لكن الله -سبحانه وتعالى- أراد أن يموت الأبُ والنبي –صلى الله عليه وسلم- جنينٌ في بطن أمِّه، وأن تموت أمُّه وهو في السَّادسة من عمره، والله قد وصف نفسَه بأنَّه العليم الحكيم، فكلُّ شيءٍ يجري بتقدير الله تعالى ومشيئته على وَفْقِ حكمته -سبحانه وتعالى.
فأراد الله سبحانه أن ينشأ رسولُه –صلى الله عليه وسلم- يتيمًا، تتولاه عنايةُ الله وحدها، بعيدًا عن الذِّراع التي تُمْعِنُ في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه؛ حتى لا تميل به نفسُه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثَّر بما حوله من معنى الصَّدارة والزَّعامة؛ فتلتبس على الناس قداسةُ النُّبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسِبُوه يَصْطَنِعُ الأوَّلَ ابتغاء الوصول إلى الثاني.
وكانت المصائِبُ التي أصابت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- منذ طُفولته -كموت أمِّه، ثم جدِّه، بعد أن حُرِمَ عطف الأب وذاق كأسَ الحزن مرةً بعد مرَّةٍ- قد جعلته رقيقَ القلب، مُرْهَفَ الشُّعور.
فالأحزان تصهر النُّفوسَ، وتُخلِّصها من أدران القسوة والكِبْر والغُرور، وتجعلها أكثر رقَّةً وتواضعًا.
وليست وفاةُ والديه في العشرينيَّات من حياتهما ناشئةً عن هُزَالِهِما وضعف بِنْيَتِهما، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- أبدًا سليلَ أبوين سَقِيمَين، وإنَّما توفَّاهما اللهُ بعد أن قاما بالمهمَّة التي وُجِدَا من أجلها؛ ليتأسَّى بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كلُّ مَن فقد والديه أو أحدَهما وهو صغيرٌ.
أي أنَّه حين يجد ولدٌ أنَّ والده قد مات فإنَّه يقول: لا مشكلة، فأبو النبي –صلى الله عليه وسلم- قد مات وهو جنينٌ.
وحين تموت أُمُّه يقول: أمُّ النبي –صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو صغير.
وليكون أدبُه وخُلُقُه مع يُتْمِه دليلًا على أنَّ الله تعالى هو الذي تولَّى تربيته وتأديبه.
هذا الكمال في الأخلاق والأدب لم يتلقَّاه النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن أبوين، وإنَّما أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، حتى ينشأ قويَّ الإرادة، ماضِيَ العزيمة، غير مُعتَمِدٍ على أحدٍ في شُؤونه، وحتى لا يكون لأبويه أيُّ أثرٍ في دعوته، وحتى لا تتدخل يدُ البشريَّة في تربيته وتوجِيهه، فيكون الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتولى تربيته، ولا يتلقَّن من مفاهيم الجاهليَّة وأعرافها شيئًا، إنَّما يتلقَّن من لدن الحكيم الخبير.
فالله -سبحانه وتعالى- آواه، وسخَّر له جدَّه وعمَّه لتهيئة الجانب المادي، بينما كانت التربيةُ النَّفسيَّةُ والخُلُقيَّة والفكريَّة تعهُّدًا ربانيًّا ورعايةً إلهيَّة.
وعاد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة بعد أن دفن أمَّه بالأبواء -بين مكة والمدينة- مع أمِّ أيمن بركة الحبشيَّة، فكفله جدُّه عبد المطلب، وضمَّه إليه، ورقَّ عليه رقَّةً لم يرقَّها على ولده.
وكان يُقرِّبه منه ويُدْنِيه ويُدْخِله عليه إذا خلا وإذا نام، وكان عبدُ المطلب لا يأكل طعامًا إلا ويقول: أين ابني؟ هاتوا ابني. فيُؤتَى به إليه.
وبذلك عَوَّض اللهُ محمدًا عن أبويه بحنان جدِّه، وكانت حاضِنَتُه بعد وفاة أمِّه أم أيمن.
وكان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- بعد أن كبر يعرف لأمِّ أيمن فضلها، ويقول: «هَذِهِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي».
وكان الجدُّ يُسَرُّ حين يرى من مخايل الشَّرف والعِزَّة على حفيده محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كان لعبد المطلب فراشٌ يُوضَع في ظلِّ الكعبة، وكان بنو عبد المطلب يجلسون حول فراشه حتى يخرجَ إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بَنِيهِ؛ إجلالًا لأبيهم وإكبارًا.
فكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يأتي وهو غلامٌ يافِعٌ فيجلس على فراش جدِّه، فيأخذه أعمامُه ليُؤخِّروه، فيقول عبدُ المطلب والغِبْطَة تملأ نفسَه: "دعوا ابني، فوالله إنَّ له لشأنًا" ، ثم يُجلِسه معه على فراشه، ويمسح ظهرَه بيمينه، ويضُمُّه إليه.
ولم يلبث كثيرًا حتى مات جدُّه أيضًا.
فلمَّا حضرت عبدَ المطلب الوفاةُ أوصى ابنَه أبا طالب بكفالة النبي –صلى الله عليه وسلم- وحِيَاطَته، ثم مات عبدُ المطلب ودُفِن بمكة، والنبي –صلى الله عليه وسلم- ابن ثمان سنين.
فكفله عمُّه أبو طالب، ولم يكن أبو طالب بأكبر بني عبد المطلب، ولا بأكثرهم مالًا، ولكنَّه كان أشرفَ قريشٍ، وأعظمَها مكانةً، وأكرمَها نفسًا.
وقد أحبَّ أبو طالب ابنَ أخيه محمدًا حبًّا شديدًا لا يُحبُّه أحدًا من ولده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه.
وشبَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- شبابًا مُباركًا.
وكان أبو طالب يخصُّه بالطَّعام، وكان إذا أكل عيالُ أبي طالبٍ جميعًًا أو فُرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- شبعوا.
فكان إذا أراد أن يُؤَكِلَهُم قال: "كما أنتم حتى يأتي ولدي"، فيأتي النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- فيأكل معهم، فكانوا يُفضِلون من طعامهم، فيعجب أبو طالب ويقول: "إنَّك لمباركٌ".
وهكذا كانت بركةُ النبي –صلى الله عليه وسلم- مع حليمة، وبركته مع عمِّه.
وكان الصِّبيانُ يُصبِحون رُمْصًا شُعْثًا، ويُصبِح محمدٌ دَهِينًا كَحِيلًا.
وقد زاده حبًّا في نفسه ما كان يتحلَّى به النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- في صباه من طيب الشَّمائل، وكريم الآداب في هيئة الأكل والشُّرب والجلوس والكلام، مما يَعِزُّ وجودُه في هذا السنِّ بين الصِّبيان، ويدلُّ على أنَّ الله سبحانه فطره منذ صغره على أفضل الخِلَال وأحسن الآداب -صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا شبَّ -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ العملَ والكفاحَ والسَّعي في طلب الرِّزق وكسب المال، وهكذا ينبغي أن يكون أبناؤُنا –صبياننا- فضلًا عن شبابنا، فإذا شبَّ الولدُ عن الطَّوق وصارت له قوَّة؛ ينبغي أن يشتغل بالعمل ليكسب، ولا يكون عالةً على أبيه وأهله.
فاشتغل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في صباه برعي الغنم، فرعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة، وبذلك ضرب مثلًا عاليًا منذ صِغَرِه في كسب الرِّزق بالكَدِّ والتَّعَب، فأحسنُ لقمةٍ يأكلها الإنسانُ لقمة يكسبها بيده، وأحسن مالٍ يكسبه الإنسانُ أو يَحُوزُه مالٌ كسبه بعرقه وكفاحه وجَهده.
وكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذكر ذلك في كِبَرِه وهو مُغْتَبِطٌ مَسرُورٌ، يقول: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ» ، فيقول أصحابُه: وأنت؟ فيقول: «نَعَمْ، وَأَنَا، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ».
ما الحكمة أو الفائدة من كون النبي قبل النُّبوة يرعى الغنم؟
الحكمة في رعي الأنبياء الغنمَ قبل النُّبوة: أن يحصل لهم بالتَّمَرُّن والتَّعوُّد على رعاية الغنم القُدرة على رعاية الأمم، فالرَّاعي يمشي خلف الغنم، فإذا ذهبت واحدةٌ منها بعيدًا عن القَطِيع يردّها، فيجمع شملَ الغنم، ويمنعها من الخلاف والفِرَاق، والشُّذوذ، وغير ذلك.
فالحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل النُّبوة: أن يتمَرَّنوا ويتدرَّبوا على رعاية أُمَمِهم، والقيام بشُؤونهم، إذ في رَعْيِهَا ما يحصل لهم به الحلم والشَّفقة والرَّحمة، ويُعَوِّدهم من الصِّغر الصَّبر، وطول البال، والأناة، والتَّرَيُّث، وزجر الباغي، وجبر كسر الضَّعيف، ويُربِّي فيهم مَلَكَةَ الحرص على المصلحة، ودفع المَضَرَّة، وحُسن التَّعاون، والرِّفق بمَن تحت أيديهم، والسَّهر على مصلحتهم.
هذا إلى ما في رعي الغنم من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية؛ فيتمتع بالسَّماء الصَّافية، والشَّمس المُشرقة، والهواء النَّقِي، ويُطِيل التَّأمُّل والنَّظر في السَّماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفِجَاج، والجبال ذات الألوان، وبذلك يصير التَّأمُّل والتَّدبُّر مَلَكَةً من ملكات النفس.
وقد أمر الله تعالى بالنَّظر إلى هذه المخلوقات:(أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) [الغاشية: 17- 20].
ولما بلغت سِنُّه -صلى الله عليه وسلم- عشرةً؛ خرج عمُّه أبو طالب في تجارةٍ له إلى الشَّام، فتعلَّقت نفسُ ابن أخيه به، ورَغِبَ في مُصاحبته؛ فَرَقَّ له عمُّه فأخذه معه واستصحبه إلى الشَّام، حتى وصل الرَّكْبُ إلى بُصْرَى من بلاد الشَّام، وكان بها راهبٌ عنده علمٌ بالكتب السَّماوية السَّابقة، وقد علم ذلك الرَّاهِبُ من الكتب السَّماوية أنَّ مبعثَ نبي آخر الزَّمان قد اقترب، وأنَّ هذا النبي من العرب.
وقد جُذِبَ انتباه ذلك الرَّاهِب إلى القافلة -قافلة أبي طالب وهي آتية- فجعل الرَّاهِبُ ينظر من بعيدٍ إلى القافلة ويُرَاقِبها، فلفت نظره أنَّه رأى غمَامَةً -سحابة- تُظلل شخصًا واحدًا من الرَّكْب، فصنع لهم طعامًا على غير عادته، ودعاهم إليه.
وهنا تختلف الرِّوايات:
ففي بعضها: أنَّهم حضروا بما فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم.
وفي بعضها: أنَّهم حضروا جميعًا وتركوا النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- في رحالهم تحت شجرةٍ قريبةٍ.
فلمَّا حضروا تفرَّس فيهم الرَّاهِبُ فلم يجد صاحبَ الصِّفة التي يعرفها، فرغب في حضوره؛ فأحضروه.
فلمَّا حضر صار يتفرَّس فيه، ويتعرَّف على بعض صفاته، ثم تحايل عليه حتى يرى خاتم النُّبوة بين كتفيه -عليه الصَّلاة والسَّلام- على الصِّفة التي قرأها في كتبهم، فأقبل ذلك الرَّاهِبُ على أبي طالبٍ -بعدما تفرَّس في النبيِّ وعرف أنَّ الصِّفات التي تدلُّ على نبوة آخر الزمان موجودةٌ فيه- فقال: ما هذا الغلام منك؟ أي ما صلته بك؟
قال: ابني.
قال الرَّاهِبُ: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا.
إذن هم درسوا في الكتب أنَّ نبي آخر الزمان سيكون يتيمًا.
قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا.
قال أبو طالب: فإنَّه ابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: مات وأُمُّه حُبْلَى به.
قال: صدقتَ، فارجع -هذا كلام الرَّاهِب لأبي طالب- بابن أخيك إلى بلدك، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا ما عرفتُ ليُؤذونه، وليقتلونه، فإنَّه كائِنٌ لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ.
وما فرغ أبو طالبٍ من بيعه حتى عاد مُسرعًا بابن أخيه إلى مكة، وقد اشتدَّ حرصًا عليه وحُبًّا له.
وفي مكة أقامت قريش حِلْفًا عُرِفَ باسم "حِلْف الفُضُول"، وكان هذا الحِلْفُ أكرمَ وأفضلَ ما تعاهدت عليه العربُ في الجاهلية.
وكان سببه: أنَّ رجلًا من قبيلة زُبَيدٍ باليمن قدم مكة ببضاعةٍ، فاشتراها منه العاصُ بن وائل السَّهْمِي، وأبى أن يُعطيه حقَّه، فاستعدى عليه الزُّبيديُّ الأحلافَ: عبد الدَّار، ومخزُومًا، وجُمَحًا، وسهمًا، وعدي بن كعبٍ؛ فأبوا أن يُعينوه على العاص بن وائل وانتهروه.
فلمَّا رأى الزُّبيدي الشرَّ صَعِدَ على جبل أبي قُبَيصٍ عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وناداهم واستصرخهم، واستغاث بهم، فقام الزُّبير بن عبد المطلب فقال: مالِ هذا؟ لا نتركه أبدًا.
فاجتمعت بنو هاشم، وزُهرة، وبنو تيم بن مُرَّة في دار عبد الله بن جُدْعَان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهرٍ حرامٍ -وهو ذو القعدة- فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يُردَّ إليه حقّه، ما بلَّ بحرٌ صُوفَة، وما بقي جبلا: ثَبِير وحِرَاء مكانهما.
فسمَّت قريش هذا الحِلْف "حِلْف الفَضُول"، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر.
ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعةَ الزُّبيدي فدفعوها إليه.
وقيل: إنَّما سُمِّي حلف الفضول لأنَّه أشبه حِلْفًا تحالفته جُرْهُم على هذا، من نصر المظلوم، وردع الظالم.
وكان قد دُعِيَ إليه ثلاثةٌ من أشرافهم اسم كلِّ واحدٍ منهم "فضل": الفضل بن فَضَالَة، والفضل بن وَدَاعَة، والفضل بن الحارث.
وقال بعضُهم: الفضل بن شُرَاعَة، والفضل بن بُضَاعَة، والفضل بن قُضَاعَة.
وقد حضر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الحِلْفَ الذي رفعوا به منارَ الحقِّ، وهدموا صرحَ الظُّلم.
ويُعتبر من مفاخِر العرب، وعِرفانهم لحقوق الإنسان.
وكان في هذا الحِلْفِ الذي حضره النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الدُّروس والعِبَر الكثير، منها:
1- أنَّ العدل قيمةٌ مُطلقةٌ، وليست نِسْبِيَّةً، وأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُظْهِر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين.
فالقيم الإيجابيَّة تستحقُّ الإشادة بها، حتى لو صدرت من أهل الجاهليَّة.
وكان هذا الحِلْفُ واحةً في ظلام الجاهلية، وفيه دلالة بيِّنةٌ على أنَّ شُيوع الفساد في نظامٍ أو مجتمعٍ لا يعني خُلُوّه من أيِّ فضيلةٍ، فمكة مجتمعٌ جاهليٌّ، هيمنت عليه عبادةُ الأوثان والمظالم، والأخلاق الذَّميمة -كالظُّلم والزِّنى والرِّبا- ومع هذا كان فيه رجالٌ أصحاب نَخْوَةٍ ومُرُوءَةٍ يكرهون الظُّلمَ ولا يُقِرُّونه.
وفي هذا درسٌ عظيمٌ للدُّعاة في مُجتمعاتهم التي لا تُحَكِّم الإسلامَ، أو يُحَارَبُ الإسلامُ فيها.
2- كذلك من دروس هذا: أنَّ الظُّلمَ مرفُوضٌ بأيِّ صورةٍ كانت، ولا يُشترط الوقوف ضدّ الظَّالمين فقط عندما ينالُون من الدُّعاة إلى الله؛ بل إنَّ مُواجهةَ الظَّالمين قائمةٌ ولو وقع الظُّلمُ على أقلِّ الناس، فإنَّ الإسلام يُحارِب الظُّلمَ، ويقف بجانب المظلوم دون النَّظر إلى لونه ودينه ووطنه وجنسه.
3- كذلك من الدُّروس التي نأخذها من هذا: جواز التَّحالُف والتَّعاهُد على فعل الخير، وهي من قبيل التَّعاون المأمور به في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].
4- ومن الدُّروس المُستفادة: أنَّ المسلمَ لا يكون في مجتمعه سلبيًّا؛ بل يجب أن يكون إيجابيًّا فاعلًا، يُؤدِّي دوره في المجتمع، ويُحقق العدلَ والمُساواةَ لكلِّ النَّاس في مجتمعه.
تعليق