إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

فقه السيرة .. زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فقه السيرة .. زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها

    فقه السيرة شرح الدكتور / عبد العظيم بدوي, نفع الله به

    إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له.
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
    اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    أمَّا بعد،

    فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

    ثم مرحبًا بكم في هذا الدرس من دروس سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنا قد انتهينا إلى أخذ حليمة له -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهي لذلك كارهة مُضطرة، حيث جاءت في نسوةٍ من أهلها يطلبن المراضعَ من مكَّة، فكلَّما عُرِضَ محمدٌ –صلى الله عليه وسلم- على امرأةٍ منهنَّ رفضت حين تعلم أنَّه يتيمٌ، فأخذت كلُّ النِّساء من الأطفال مَن أخذت، ولم تجد حليمةُ إلا ذلك اليتيم.


    فشاورت زوجها في أن تأخذه، وذلك خيرٌ من أن ترجع بلا رضيعٍ، وعسى الله أن يجعل فيه خيرًا.
    وهكذا كان -بفضل الله عز وجل- لما دخلت عليه وهو نائم، ووضعت يدها على صدره استيقظ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فألقمته ثديها الأيمن، وقد كانت تشتكي من قلَّة اللَّبن فيه، فدرَّ على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لبنًا غزيرًا، وشرب حتى شبع، وشرب أخوه الذي جاءت به أيضًا حتى شبع.

    ثم قام زوجها إلى النَّاقة التي كانوا يشكون أيضًا من عدم لبنها، قالت: "فإذا بها حافِل، مليئة لبنًا، فحلب لنا فشرب وشربتُ حتى شبعنا، وبتنا بخير ليلةٍ".


    إذن الرَّضيعان شربا من حليمة، وحليمة وزوجها شربا من النَّاقة، وهذا من بركات النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.

    قالت حليمة: "فقال صاحبي -تعني زوجها- تعلمي يا حليمة، والله إني لأراكِ قد أخذتِ نسمةً مباركةً. قلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا فركبتُ أنا أتاني -أنثى الحمار التي جاءت عليها- وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالرَّكب، ما يقدر عليها شيءٌ من حُمُرهم".

    أي أنَّ أنثى الحمار التي كانت تركبها سبقت الحميرَ كلَّها، وما استطاع حمارٌ اللُّحوقَ بها.
    قالت: "يقلن لي صواحبي: يا ابنة أبي ذُؤَيْب، ويحكِ! ارفقي علينا، أليست هذه أتانكِ التي كنت خرجتِ عليها؟" أليس هذا هو الحمار الذي كنتِ تركبينه حين جئتِ؟ ما بالها وهي راجعة سبقتنا؟
    قالت: "فأقول: بلى والله، إنَّها لهي هي. فيقلن: والله إنَّ لها لشأنًا".


    قالت حليمة: "ثم قدمنا منازلنا من بلاد سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها –أي أنَّها أرض قحط- فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعًا". فالغنم -مع أنَّ الأرض جدباء- ترجع شبعةً مليئةً.

    قالت: "فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسانٌ قطرةَ لبنٍ، ولا يجدها في ضرعٍ، حتى كان الحاضرون يقولون لرُعْيَانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب". انظروا أين يسرح راعي حليمة ويرعى الغنم؟ واسرحوا معه.

    قالت: "يقولون: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب، فتروح أغنامهم جياعًا". أي يسرحون ثم يروحون آخر النهار جياعًا.

    قالت: "ما تبضُّ بقطرة لبنٍ، وتروح غنمي شباعًا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه -أي سنتي الرَّضاع- وفصلته -أي فطمته- وكان يشِبُّ شبابًا لا يشِبُّه الغلمان، فلم يبلغ سنتين حتى كان غلامًا جَفْرًا -أي قويًّا شديدًا".


    قالت: "فقدمنا به على أمِّه –أي فطمناه ونُريد إرجاعه- ونحن أحرص شيءٍ على مُكْثِه عندنا؛ لما كنا نرى من بركته، فكلَّمنا أُمَّه وقلتُ لها: لو تركت بُنيَّ عندي حتى يقوى ويشِبَّ أكثر، فإني أخاف عليه وباء مكة".

    قالت: "فلم نزل بها حتى ردَّته معنا".

    إذن حليمة أرضعت النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- سنتين وفطمته، ثم رجعت به إلى أمِّه واستأذنتها في أن ترجع به مرةً ثانيةً، وذلك من حرصها عليه لما رأت من بركته -عليه الصَّلاة والسَّلام.


    قالت حليمة: "فوالله إنَّه لبعد مَقْدِمِنَا بشهرين أو ثلاثة –أي بعد أن رجعتُ به مرةً ثانيةً بشهرين أو ثلاثة- مع أخيه من الرَّضاعة لفي بَهْمٍ لنا -أي غنم، فهو وأخوه في الرَّضاعة صبيان- خلف البيوت، إذ جاء أخوه يشتدُّ -يركض ويجري- فقال: ذاك أخي القُرشي قد جاءه رجلان عليهما ثيابٌ بِيْضٌ، فأضجعاه وشقَّا بطنه".

    وهي حادثة شقّ الصَّدر.

    قالت: "فخرجتُ أنا وأبوه- أي من الرَّضاعة- نشتدُّ نحوه، فوجدناه قائمًا مُنْتَقَعًا لونه، فاعتنقتُه واعتنقه أبوه، وقال: أي بُني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثيابٌ بِيَاضٌ، فأضجعاني وشقَّا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا لا أدري ما هو، فطرحاه ثم ردَّاه كما كان".

    قالت حليمة: "فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة، لقد خشيتُ أن يكون ابني قد أُصيب، فانطلقي بنا نردُّه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوَّف". أي هيا نُرجعه إلى أهله فذلك أسلم لنا وله.


    قالت: "فاحتملناه فقدمنا به على أمِّه. فقالت: ما أقدمَكِ به يا ظِئْرُ -والظِّئْر هي المُرضِعَة- وقد كنتِ حريصةً عليه وعلى مُكْثِه عندك؟" فأنتِ ألحَحْتِ حتى تأخُذيه مني، فلماذا تُرجعيه إليَّ بعد شهرين أو ثلاثة؟

    "قلت: قد بلغ الله بابني -أي قد كنتُ أريد أن يكبر، وهو الآن قد كَبِرَ، فهي لا تُريد أن تقول ما حدث- وقضيتُ الذي عليَّ، وتخوَّفتُ الأحداثَ عليه، فأدَّيتُه إليكِ كما تُحِبين. قالت: ما هذا شأنُكِ " مَن التي تقول؟ آمنة.


    قالت: "ما هذا شأنُكِ! فاصدُقِيني خبركِ".
    قالت: "فلم تدعني حتى أخبرتها". أي قلتُ لها حصل كذا وكذا.
    قالت: "أَفَتَخَوَّفْتِ عليه الشَّيطان؟" فأُمُّه آمنة تقول لحليمة: أنتِ خفتِ عليه من الشَّيطان؟
    قالت: "قلتُ: نعم. قالت آمنة: كلا، والله ما للشَّيطان عليه من سبيل، وإنَّ لبُنيَّ لشأنًا، أفلا أُخبركِ يا حليمة بخبره معي؟ قالت: بلى".


    قالت آمنة: "رأيت حين حملتُ به أنَّه خرج مني نورٌ أضاء لي قصور بُصْرَى من أرض الشَّام، ثم حملتُ به فوالله ما رأيتُ من حملٍ قطُّ كان أخفَّ عليَّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدتُه وإنَّه لواضِعٌ يديه بالأرض، رافعٌ رأسَه إلى السَّماء. دعيه عنكِ وانطلقي راشِدَةً".
    وقد تكررت هذه الحادثة -وهي حادثة شقِّ الصَّدر- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد المرة الأولى مرةً ثانيةً عند المبعث، ومرةً ثالثةً عند الإسراء والمعرج.


    إذن شُقَّ صدره -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مراتٍ:

    - مرة وهو عند حليمة السَّعدية في بني سعدٍ.
    - ومرة عند البعثة.
    - ومرة ليلة الإسراء والمعراج.


    وهذه المرة ثابتةٌ بالأحاديث الصَّحيحة من رواية الشَّيخين: البخاري ومسلم.
    لماذا شُقَّ صدره -عليه الصَّلاة والسَّلام؟

    يقول الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله:


    "أمَّا المرة الأولى -وهو طفلٌ في بني سعدٍ- فكانت لنزع العَلَقَةِ السَّوداء التي هي حظُّ الشَّيطان من كلِّ بشرٍ، فخُلِقَت فيه -صلى الله عليه وسلم- تكمِلةً للخلق الإنساني، ثم إخراجها بعد خلقه كرامةً ربَّانيةً، فهو أدلُّ على مزيد الرِّفعة والكرامة من خلقه بدونها، وبنزعها منه نشأ على أكمل الأحوال من العِصْمَة من الشَّيطان، والاتِّصاف بصفات الرُّجوليَّة من الصِّغر، فلا لهوَ ولا عبثَ، وإنَّما هو الكمال والجدُّ منه -عليه الصَّلاة والسَّلام.

    أمَّا المرة الثانية -التي كانت قبل البعثة- فكان ليتلقَّى ما يُوحَى إليه من أمور الرِّسالة بقلبٍ قويٍّ، وهو على أكمل الأحوال، وأتمِّ الاستعداد.

    وأمَّا المرة الثالثة -ليلة المعراج- فكانت استعدادًا لما يُلقَى إليه في هذه اللَّيلة من أنواع الفُيُوضَات الإلهيَّة، وما سيُريه ربُّه فيها من الآيات البيِّنات، وإدراك مرام المُثُل الرَّائعة التي ضُرِبَت له في مسراه ومعراجه، وكلّها تحتاج إلى شرح الصَّدر وثبات القلب -صلى الله عليه وسلم".


    وهكذا ردَّت حليمةُ النبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى أُمِّه بعد حادثة شقِّ الصَّدر الأولى في مبتدأ سنته الخامسة، وقد شبَّ عن الطَّوقِ، وقويَ جسمه، وغلُظَ عودُه، وبلغ من النُّضرة ما لم يبلغه صبيٌّ في مثل عمره، وعاش -عليه الصَّلاة والسَّلام- في كَنَفِ الأم الحنون، وأضحى هو كلَّ شيءٍ في حياتها، إذا ليس هناك ما يشغلها أو يُلهيها عنه.

    ودَرَجَ في كفالة جدِّه الشيخ الذي يَحْنُو عليه أكثر من حُنُوِّه على أبنائه، وقد وجد فيه عِوَضًا عن أحبِّ أبنائه إليه -أبوه عبد الله.

    فلمَّا بلغ -صلى الله عليه وسلم- السَّادسة من عمره ارْتَأَتْ أُمُّه أن تذهب به إلى أخوال جدِّه عبد المطلب بالمدينة من بني النَّجار للزِّيارة؛ ليرى مكانةَ هؤلاء الأخوال الكرام، وقد كان لهذه الخُؤُولَة اعتبارها لمَّا هاجر فيما بعد إلى المدينة، وليقضي حقَّ الحبيب المُغَيَّب في تراب المدينة -وهو أبوه عبد الله- وأغلب الظَّنِّ أنَّ آمنةَ قد حدَّثت ابنَها بقصة أبيه، وكيف ذهب للتِّجارة إلى الشَّام؟ وكيف مات في المدينة؟


    وخرجت الأمُّ والابنُ ومعهما أمُّ أيمن -بركة الحبشيَّة جارية أبيه- حتى وصلوا إلى المدينة، وكان المقامُ في دار النَّابغة من بني النَّجار، ومكثوا عندهم شهرًا، وزاروا الحبيبَ الثَّاوِيَ في قبره، وحرَّكت الزِّيارةُ لوعةَ الشَّوق والأحزان في نفس الأم والابن، وانطبع معنى اليُتْم في نفس النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد أن كان لاهيًا عنه، وذلك حين زار قبر أبيه وتذكَّره.

    وبعد أن قضوا حاجتهم عادوا إلى مكَّة، وفي الطَّريق بين مكَّة والمدينة مرضت الأمُّ واشتدَّ عليها المرضُ، وماتت ودُفِنَت بالطَّريق بين مكة والمدينة، فدُفِنَت بقرية الأَبْوَاء، وهكذا فقد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمَّه وهو في السنة السَّادسة من عُمُره، وكان قد فَقَدَ قبلُ أباه وهو جنينٌ في بطن أمِّه، فعاش -صلى الله عليه وسلم- يتيمَ الأبوين؛ فمات أبوه وهو جنينٌ، وماتت أمُّه وهو في السَّادسة من عمره.

    {فضيلة الشيخ، ما الحكمة من نشأة النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيمًا؟}

    نعم، قد يقول قائلٌ: ربما لو عاش عبدُ الله بن عبد المطلب والد النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى بُعِثَ فربما آزره، ووقف بجواره، وحماه، وساعده على نشر الدَّعوة، وتبليغ الرِّسالة، وغير ذلك، كما هو دائمًا موقف الآباء.

    لكن الله -سبحانه وتعالى- أراد أن يموت الأبُ والنبي –صلى الله عليه وسلم- جنينٌ في بطن أمِّه، وأن تموت أمُّه وهو في السَّادسة من عمره، والله قد وصف نفسَه بأنَّه العليم الحكيم، فكلُّ شيءٍ يجري بتقدير الله تعالى ومشيئته على وَفْقِ حكمته -سبحانه وتعالى.


    فأراد الله سبحانه أن ينشأ رسولُه –صلى الله عليه وسلم- يتيمًا، تتولاه عنايةُ الله وحدها، بعيدًا عن الذِّراع التي تُمْعِنُ في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه؛ حتى لا تميل به نفسُه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثَّر بما حوله من معنى الصَّدارة والزَّعامة؛ فتلتبس على الناس قداسةُ النُّبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسِبُوه يَصْطَنِعُ الأوَّلَ ابتغاء الوصول إلى الثاني.

    وكانت المصائِبُ التي أصابت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- منذ طُفولته -كموت أمِّه، ثم جدِّه، بعد أن حُرِمَ عطف الأب وذاق كأسَ الحزن مرةً بعد مرَّةٍ- قد جعلته رقيقَ القلب، مُرْهَفَ الشُّعور.


    فالأحزان تصهر النُّفوسَ، وتُخلِّصها من أدران القسوة والكِبْر والغُرور، وتجعلها أكثر رقَّةً وتواضعًا.
    وليست وفاةُ والديه في العشرينيَّات من حياتهما ناشئةً عن هُزَالِهِما وضعف بِنْيَتِهما، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- أبدًا سليلَ أبوين سَقِيمَين، وإنَّما توفَّاهما اللهُ بعد أن قاما بالمهمَّة التي وُجِدَا من أجلها؛ ليتأسَّى بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كلُّ مَن فقد والديه أو أحدَهما وهو صغيرٌ.

    أي أنَّه حين يجد ولدٌ أنَّ والده قد مات فإنَّه يقول: لا مشكلة، فأبو النبي –صلى الله عليه وسلم- قد مات وهو جنينٌ.


    وحين تموت أُمُّه يقول: أمُّ النبي –صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو صغير.
    وليكون أدبُه وخُلُقُه مع يُتْمِه دليلًا على أنَّ الله تعالى هو الذي تولَّى تربيته وتأديبه.
    هذا الكمال في الأخلاق والأدب لم يتلقَّاه النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن أبوين، وإنَّما أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، حتى ينشأ قويَّ الإرادة، ماضِيَ العزيمة، غير مُعتَمِدٍ على أحدٍ في شُؤونه، وحتى لا يكون لأبويه أيُّ أثرٍ في دعوته، وحتى لا تتدخل يدُ البشريَّة في تربيته وتوجِيهه، فيكون الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتولى تربيته، ولا يتلقَّن من مفاهيم الجاهليَّة وأعرافها شيئًا، إنَّما يتلقَّن من لدن الحكيم الخبير.
    فالله -سبحانه وتعالى- آواه، وسخَّر له جدَّه وعمَّه لتهيئة الجانب المادي، بينما كانت التربيةُ النَّفسيَّةُ والخُلُقيَّة والفكريَّة تعهُّدًا ربانيًّا ورعايةً إلهيَّة.


    وعاد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة بعد أن دفن أمَّه بالأبواء -بين مكة والمدينة- مع أمِّ أيمن بركة الحبشيَّة، فكفله جدُّه عبد المطلب، وضمَّه إليه، ورقَّ عليه رقَّةً لم يرقَّها على ولده.
    وكان يُقرِّبه منه ويُدْنِيه ويُدْخِله عليه إذا خلا وإذا نام، وكان عبدُ المطلب لا يأكل طعامًا إلا ويقول: أين ابني؟ هاتوا ابني. فيُؤتَى به إليه.

    وبذلك عَوَّض اللهُ محمدًا عن أبويه بحنان جدِّه، وكانت حاضِنَتُه بعد وفاة أمِّه أم أيمن.


    وكان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- بعد أن كبر يعرف لأمِّ أيمن فضلها، ويقول: «هَذِهِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي».
    وكان الجدُّ يُسَرُّ حين يرى من مخايل الشَّرف والعِزَّة على حفيده محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد كان لعبد المطلب فراشٌ يُوضَع في ظلِّ الكعبة، وكان بنو عبد المطلب يجلسون حول فراشه حتى يخرجَ إليه، لا يجلس عليه أحدٌ من بَنِيهِ؛ إجلالًا لأبيهم وإكبارًا.

    فكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يأتي وهو غلامٌ يافِعٌ فيجلس على فراش جدِّه، فيأخذه أعمامُه ليُؤخِّروه، فيقول عبدُ المطلب والغِبْطَة تملأ نفسَه:
    "دعوا ابني، فوالله إنَّ له لشأنًا" ، ثم يُجلِسه معه على فراشه، ويمسح ظهرَه بيمينه، ويضُمُّه إليه.
    ولم يلبث كثيرًا حتى مات جدُّه أيضًا.

    فلمَّا حضرت عبدَ المطلب الوفاةُ أوصى ابنَه أبا طالب بكفالة النبي –صلى الله عليه وسلم- وحِيَاطَته، ثم مات عبدُ المطلب ودُفِن بمكة، والنبي –صلى الله عليه وسلم- ابن ثمان سنين.
    فكفله عمُّه أبو طالب، ولم يكن أبو طالب بأكبر بني عبد المطلب، ولا بأكثرهم مالًا، ولكنَّه كان أشرفَ قريشٍ، وأعظمَها مكانةً، وأكرمَها نفسًا.
    وقد أحبَّ أبو طالب ابنَ أخيه محمدًا حبًّا شديدًا لا يُحبُّه أحدًا من ولده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه.

    وشبَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- شبابًا مُباركًا.
    وكان أبو طالب يخصُّه بالطَّعام، وكان إذا أكل عيالُ أبي طالبٍ جميعًًا أو فُرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- شبعوا.

    فكان إذا أراد أن يُؤَكِلَهُم قال: "كما أنتم حتى يأتي ولدي"، فيأتي النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- فيأكل معهم، فكانوا يُفضِلون من طعامهم، فيعجب أبو طالب ويقول: "إنَّك لمباركٌ".


    وهكذا كانت بركةُ النبي –صلى الله عليه وسلم- مع حليمة، وبركته مع عمِّه.
    وكان الصِّبيانُ يُصبِحون رُمْصًا شُعْثًا، ويُصبِح محمدٌ دَهِينًا كَحِيلًا.

    وقد زاده حبًّا في نفسه ما كان يتحلَّى به النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- في صباه من طيب الشَّمائل، وكريم الآداب في هيئة الأكل والشُّرب والجلوس والكلام، مما يَعِزُّ وجودُه في هذا السنِّ بين الصِّبيان، ويدلُّ على أنَّ الله سبحانه فطره منذ صغره على أفضل الخِلَال وأحسن الآداب -صلى الله عليه وسلم.

    فلمَّا شبَّ -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ العملَ والكفاحَ والسَّعي في طلب الرِّزق وكسب المال، وهكذا ينبغي أن يكون أبناؤُنا –صبياننا- فضلًا عن شبابنا، فإذا شبَّ الولدُ عن الطَّوق وصارت له قوَّة؛ ينبغي أن يشتغل بالعمل ليكسب، ولا يكون عالةً على أبيه وأهله.


    فاشتغل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في صباه برعي الغنم، فرعاها لأهله، ورعاها لبعض أهل مكة، وبذلك ضرب مثلًا عاليًا منذ صِغَرِه في كسب الرِّزق بالكَدِّ والتَّعَب، فأحسنُ لقمةٍ يأكلها الإنسانُ لقمة يكسبها بيده، وأحسن مالٍ يكسبه الإنسانُ أو يَحُوزُه مالٌ كسبه بعرقه وكفاحه وجَهده.
    وكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذكر ذلك في كِبَرِه وهو مُغْتَبِطٌ مَسرُورٌ، يقول:
    «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ» ، فيقول أصحابُه: وأنت؟ فيقول: «نَعَمْ، وَأَنَا، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ».

    ما الحكمة أو الفائدة من كون النبي قبل النُّبوة يرعى الغنم؟

    الحكمة في رعي الأنبياء الغنمَ قبل النُّبوة: أن يحصل لهم بالتَّمَرُّن والتَّعوُّد على رعاية الغنم القُدرة على رعاية الأمم، فالرَّاعي يمشي خلف الغنم، فإذا ذهبت واحدةٌ منها بعيدًا عن القَطِيع يردّها، فيجمع شملَ الغنم، ويمنعها من الخلاف والفِرَاق، والشُّذوذ، وغير ذلك.

    فالحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل النُّبوة: أن يتمَرَّنوا ويتدرَّبوا على رعاية أُمَمِهم، والقيام بشُؤونهم، إذ في رَعْيِهَا ما يحصل لهم به الحلم والشَّفقة والرَّحمة، ويُعَوِّدهم من الصِّغر الصَّبر، وطول البال، والأناة، والتَّرَيُّث، وزجر الباغي، وجبر كسر الضَّعيف، ويُربِّي فيهم مَلَكَةَ الحرص على المصلحة، ودفع المَضَرَّة، وحُسن التَّعاون، والرِّفق بمَن تحت أيديهم، والسَّهر على مصلحتهم.

    هذا إلى ما في رعي الغنم من قضاء نهاره وبعض ليله في البادية؛ فيتمتع بالسَّماء الصَّافية، والشَّمس المُشرقة، والهواء النَّقِي، ويُطِيل التَّأمُّل والنَّظر في السَّماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفِجَاج، والجبال ذات الألوان، وبذلك يصير التَّأمُّل والتَّدبُّر مَلَكَةً من ملكات النفس.

    وقد أمر الله تعالى بالنَّظر إلى هذه المخلوقات:(
    أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) [الغاشية: 17- 20].

    ولما بلغت سِنُّه -صلى الله عليه وسلم- عشرةً؛ خرج عمُّه أبو طالب في تجارةٍ له إلى الشَّام، فتعلَّقت نفسُ ابن أخيه به، ورَغِبَ في مُصاحبته؛ فَرَقَّ له عمُّه فأخذه معه واستصحبه إلى الشَّام، حتى وصل الرَّكْبُ إلى بُصْرَى من بلاد الشَّام، وكان بها راهبٌ عنده علمٌ بالكتب السَّماوية السَّابقة، وقد علم ذلك الرَّاهِبُ من الكتب السَّماوية أنَّ مبعثَ نبي آخر الزَّمان قد اقترب، وأنَّ هذا النبي من العرب.

    وقد جُذِبَ انتباه ذلك الرَّاهِب إلى القافلة -قافلة أبي طالب وهي آتية- فجعل الرَّاهِبُ ينظر من بعيدٍ إلى القافلة ويُرَاقِبها، فلفت نظره أنَّه رأى غمَامَةً -سحابة- تُظلل شخصًا واحدًا من الرَّكْب، فصنع لهم طعامًا على غير عادته، ودعاهم إليه.


    وهنا تختلف الرِّوايات:

    ففي بعضها: أنَّهم حضروا بما فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم.
    وفي بعضها: أنَّهم حضروا جميعًا وتركوا النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- في رحالهم تحت شجرةٍ قريبةٍ.
    فلمَّا حضروا تفرَّس فيهم الرَّاهِبُ فلم يجد صاحبَ الصِّفة التي يعرفها، فرغب في حضوره؛ فأحضروه.

    فلمَّا حضر صار يتفرَّس فيه، ويتعرَّف على بعض صفاته، ثم تحايل عليه حتى يرى خاتم النُّبوة بين كتفيه -عليه الصَّلاة والسَّلام- على الصِّفة التي قرأها في كتبهم، فأقبل ذلك الرَّاهِبُ على أبي طالبٍ -بعدما تفرَّس في النبيِّ وعرف أنَّ الصِّفات التي تدلُّ على نبوة آخر الزمان موجودةٌ فيه- فقال: ما هذا الغلام منك؟ أي ما صلته بك؟
    قال: ابني.
    قال الرَّاهِبُ: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا.
    إذن هم درسوا في الكتب أنَّ نبي آخر الزمان سيكون يتيمًا.
    قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا.
    قال أبو طالب: فإنَّه ابن أخي.
    قال: فما فعل أبوه؟
    قال: مات وأُمُّه حُبْلَى به.

    قال: صدقتَ، فارجع -هذا كلام الرَّاهِب لأبي طالب- بابن أخيك إلى بلدك، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا ما عرفتُ ليُؤذونه، وليقتلونه، فإنَّه كائِنٌ لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ.

    وما فرغ أبو طالبٍ من بيعه حتى عاد مُسرعًا بابن أخيه إلى مكة، وقد اشتدَّ حرصًا عليه وحُبًّا له.
    وفي مكة أقامت قريش حِلْفًا عُرِفَ باسم "حِلْف الفُضُول"، وكان هذا الحِلْفُ أكرمَ وأفضلَ ما تعاهدت عليه العربُ في الجاهلية.


    وكان سببه: أنَّ رجلًا من قبيلة زُبَيدٍ باليمن قدم مكة ببضاعةٍ، فاشتراها منه العاصُ بن وائل السَّهْمِي، وأبى أن يُعطيه حقَّه، فاستعدى عليه الزُّبيديُّ الأحلافَ: عبد الدَّار، ومخزُومًا، وجُمَحًا، وسهمًا، وعدي بن كعبٍ؛ فأبوا أن يُعينوه على العاص بن وائل وانتهروه.

    فلمَّا رأى الزُّبيدي الشرَّ صَعِدَ على جبل أبي قُبَيصٍ عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وناداهم واستصرخهم، واستغاث بهم، فقام الزُّبير بن عبد المطلب فقال: مالِ هذا؟ لا نتركه أبدًا.
    فاجتمعت بنو هاشم، وزُهرة، وبنو تيم بن مُرَّة في دار عبد الله بن جُدْعَان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهرٍ حرامٍ -وهو ذو القعدة- فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يُردَّ إليه حقّه، ما بلَّ بحرٌ صُوفَة، وما بقي جبلا: ثَبِير وحِرَاء مكانهما.


    فسمَّت قريش هذا الحِلْف "حِلْف الفَضُول"، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر.
    ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعةَ الزُّبيدي فدفعوها إليه.

    وقيل: إنَّما سُمِّي حلف الفضول لأنَّه أشبه حِلْفًا تحالفته جُرْهُم على هذا، من نصر المظلوم، وردع الظالم.
    وكان قد دُعِيَ إليه ثلاثةٌ من أشرافهم اسم كلِّ واحدٍ منهم "فضل": الفضل بن فَضَالَة، والفضل بن وَدَاعَة، والفضل بن الحارث.


    وقال بعضُهم: الفضل بن شُرَاعَة، والفضل بن بُضَاعَة، والفضل بن قُضَاعَة.
    وقد حضر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الحِلْفَ الذي رفعوا به منارَ الحقِّ، وهدموا صرحَ الظُّلم.
    ويُعتبر من مفاخِر العرب، وعِرفانهم لحقوق الإنسان.


    وكان في هذا الحِلْفِ الذي حضره النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الدُّروس والعِبَر الكثير، منها:

    1- أنَّ العدل قيمةٌ مُطلقةٌ، وليست نِسْبِيَّةً، وأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُظْهِر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين.

    فالقيم الإيجابيَّة تستحقُّ الإشادة بها، حتى لو صدرت من أهل الجاهليَّة.
    وكان هذا الحِلْفُ واحةً في ظلام الجاهلية، وفيه دلالة بيِّنةٌ على أنَّ شُيوع الفساد في نظامٍ أو مجتمعٍ لا يعني خُلُوّه من أيِّ فضيلةٍ، فمكة مجتمعٌ جاهليٌّ، هيمنت عليه عبادةُ الأوثان والمظالم، والأخلاق الذَّميمة -كالظُّلم والزِّنى والرِّبا- ومع هذا كان فيه رجالٌ أصحاب نَخْوَةٍ ومُرُوءَةٍ يكرهون الظُّلمَ ولا يُقِرُّونه.

    وفي هذا درسٌ عظيمٌ للدُّعاة في مُجتمعاتهم التي لا تُحَكِّم الإسلامَ، أو يُحَارَبُ الإسلامُ فيها.


    2- كذلك من دروس هذا: أنَّ الظُّلمَ مرفُوضٌ بأيِّ صورةٍ كانت، ولا يُشترط الوقوف ضدّ الظَّالمين فقط عندما ينالُون من الدُّعاة إلى الله؛ بل إنَّ مُواجهةَ الظَّالمين قائمةٌ ولو وقع الظُّلمُ على أقلِّ الناس، فإنَّ الإسلام يُحارِب الظُّلمَ، ويقف بجانب المظلوم دون النَّظر إلى لونه ودينه ووطنه وجنسه.

    3- كذلك من الدُّروس التي نأخذها من هذا: جواز التَّحالُف والتَّعاهُد على فعل الخير، وهي من قبيل التَّعاون المأمور به في قوله تعالى:
    (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].

    4- ومن الدُّروس المُستفادة: أنَّ المسلمَ لا يكون في مجتمعه سلبيًّا؛ بل يجب أن يكون إيجابيًّا فاعلًا، يُؤدِّي دوره في المجتمع، ويُحقق العدلَ والمُساواةَ لكلِّ النَّاس في مجتمعه.

    التعديل الأخير تم بواسطة عطر الفجر; الساعة 12-07-2014, 07:21 AM.

  • #2
    رد: زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها .. فقه السيرة

    وقد تاجر النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فيما تاجر بعد ذلك لخديجة -رضي الله عنها- بمالها، وكانت هذه التِّجارة سببًا في زواجه -صلى الله عليه وسلم- من خديجة.

    كانت خديجةُ -رضي الله عنها- امرأةً حازمةً شريفةً، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذٍ أوسط قريشًا نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالًا، وكلُّ قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، وقد طلبوها وبذلوا لها الأموالَ، فأبت حتى تعرض نفسَها على ذلك المُبارك محمد -صلى الله عليه وسلم.

    فبعثت خديجةُ إحدى النِّساء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تعرضها عليه، فوافق -عليه الصَّلاة والسَّلام- واصطحب عمَّه أبا طالب وبعضَ الأشراف من مكَّة وذهبوا إلى خطبة خديجة -رضي الله عنها.
    وتقدَّم أبو طالبٍ إلى ولي أمرها وخطبها منه بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر من شرف محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- ما ذكر، وكان فيما قال:
    "إنَّ محمدًا لا يُوزَن به رجلٌ من قريشٍ شرفًا ونُبلًا وفضلًا إلا رجح به، وهو إن كان في المال قليلًا؛ فإنَّ المال ظِلٌّ زائِلٌ، وأمرٌ حائِلٌ، وعاريةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ، ومحمد مَنْ عرفتم قرابته، وهو والله بعد هذا له نبأٌ عظيمٌ، وخطرٌ جليلٌ جسيمٌ، وله في خديجة بنت خُوَيْلِد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصَّداق فعليَّ".

    وأمهرها أبو طالب اثنتي عشرة أوقيَّة، أي خمسمئة درهم، وأصدقها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- زيادةً على ذلك عشرين ناقةً.

    وبنى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بخديجة، وأَوْلَمَ عليها، فنحر جزورًا أو جزورين، وأطعم الناسَ، وأمرت خديجةُ جواريها أن يُغنين ويضربن بالدُّفوف، كما هو الرُّخصة في الأفراح والأعراس، فيُرخَّص للنِّساء في ضرب الدُّفِّ والغناء بالكلام الحسن الجميل المباح.

    وكان عمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الزَّواج خمسًا وعشرين سنةً، وكان عمر خديجة أربعين عامًا، فهي أكبر منه بخمسة عشر عامًا.


    وقد نَعِمَت خديجةُ بهذا الزَّواج المبارك الذي لم تعرف له الدنيا مثيلًا في تاريخ الأزواج، ونَعِم النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- أيضًا بهذا الزَّواج الميمون المبارك، فقد كانت خديجةُ حازمةً عاقلةً، طاهرةً، عَرُوبًا لزوجها، وواست النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- بالنَّفس والمال، ورزقه الله -سبحانه وتعالى- منها البنين والبنات، فولدت له القاسم وعبد الله.

    وقيل: الطَّيب.
    وقيل زيادة: الطَّاهر.
    وولدت له: زينب، ورُقيَّة، وأم كلثوم، وفاطمة.

    أمَّا الذُّكور فماتوا جميعًا صِغَارًا، وأمَّا الإناث فقد عِشْنَ حتى تزوَّجنَ، وكلُّهنَّ تُوفِّيت في حياة أبيها إلا فاطمة -رضي الله عنها- فقد عاشت بعده -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر، كما هو مشهورٌ من سيرتها -رضي الله عنها.


    ونحن نعلم أنَّ خديجة -رضي الله عنها- كانت مُتزوِّجةً قبل النبي –صلى الله عليه وسلم- برجلين، وكانت قد أنجبت من كلا الرَّجلين، وكانت تكبره بخمسة عشر عامًا، ومعنى ذلك: أنَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن رجلًا شهوانيًّا كما يزعم المُستشرقون -أعداء النبي وأعداء الإسلام والمسلمين- ويطعنون في كثرة الزَّواج، ويقولون أنَّه كان رجلًا شهوانيًّا.

    نقول: كيف يكون رجلًا شهوانِيًّا وأول مَن تزوَّجها في شبابه كانت امرأةً تكبره بخمسة عشر سنة، وليست بكرًا؛ بل تزوَّجت قبله مرتين؟!


    مع علمنا بأنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لم يتزوج على خديجة في حياتها، ومعنى ذلك أنَّه لم يُعَدِّد ويتزوَّج غيرَها إلا بعد خمسين سنةً، وبعد وفاتها، ولم يكن هذا التَّعدُّد إلا لحِكَمٍ أرادها ربُّ العالمين -سبحانه وتعالى- ولعلنا نتمكَّن من ذكر هذه الحِكَم من زواج النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وتعدد نسائه -رضي الله عنهن جميعًا.

    ولمَّا بلغ -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وثلاثين سنةً جاء سيلٌ عارمٌ فصدع جُدرانَ الكعبة، وأوهَن أساسها، وكان قد أصابها من قبل حريقٌ بسبب امرأةٍ كانت تُجَمِّرها، فأرادت قريشٌ هدمها، ولكنَّهم تهيَّبوا ذلك لمكانتها في قلوبهم، وخوَّفهم بعضُهم أن يُصيبهم الأذى.


    ثم إنَّهم عزموا على بنائها، وهدموها وبنوها، وحين أرادوا أن يضعوا الحجرَ الأسودَ في مكانه اختلفت القبائلُ: أيُّ قبيلةٍ تتشرف بوضع الحجر الأسود في مكانه فتذهب بذلك الشَّرف إلى ما لا نهاية، إلى أن تقوم السَّاعة؟

    فاختلفت القبائلُ فيمَن يتشرف بذلك، فأبت كلُّ قبيلةٍ أن تتنازل، فاختلفوا وتنازعوا حتى كادوا أن يقتتلوا، فأُلْهِمَ بعضُهم أن يقول: لا نختلف ونتحاكم إلى أول داخلٍ علينا. فكان أوَّلُ داخلٍ هو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم.


    فلمَّا رأوه أشخصوا أبصارهم إليه، واشرأبَّت الأعناقُ إليه، وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، رضينا بحكم محمدٍ بيننا.

    فقصُّوا عليه الخبرَ، ففكَّر -عليه الصَّلاة والسَّلام- ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى بسط رداءَه على الأرض، وأخذ الحجرَ فوضعه في وسط الرِّداء، ثم قال: لتأخذ كلُّ قبيلةٍ بطرفٍ من الرِّداء، وحملوا الحجرَ في الرِّداء حتى رفعوه، فلمَّا وصلوا إلى مستوى وضعه أخذه -عليه الصَّلاة والسَّلام- بيده المباركة ووضعه موضعه وبنى عليه، وبهذا وقى اللهُ تعالى قريشًا شرَّ حربٍ ربما أفنتهم.


    وقد ازداد النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- بهذا منزلةً فوق منزلته، وقدرًا إلى قدره، وأصبح حديثَ العرب في كلِّ نادٍ ومجلسٍ -عليه الصَّلاة والسَّلام.

    وهكذا رأينا شيئًا من صور حياة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته.


    فلمَّا اقترب -عليه الصَّلاة والسَّلام- من سِنِّ الأربعين حُبِّبَ إليه الخلاءُ، فكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذهب إلى غار حِرَاء -كما تعلمون- يتعبَّد فيه، فيخلو بنفسه ويعتزل الناسَ، ويتفكَّر في ملكوت السَّماوات والأرض، ويتعبَّد اللَّيالي ذوات العدد، حتى إذا نَفِدَ زادُه نزل إلى خديجةَ فزَوَّدته فرجع إلى الغار.

    وكانت هذه هي بداية الاستعداد لتلقِّي الوحي والنُّبوة التي اختارها اللهُ -سبحانه وتعالى- لنبيه -عليه الصَّلاة والسَّلام.


    ولندع أُمَّنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- تُحدِّثنا عن الوحي وبدايته وصوره وأنواعه كما في البخاري وغيره من كتب السُّنن والمسانيد.

    عن عائشة -رضي الله عنها قالت:


    "أول ما بُدِءَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرُّؤيا الصَّالحة في النَّوم، فكان لا يرى رُؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَقِ الصُّبْح، ثم حُبِّبَ إليه الخَلاءُ؛ فكان يخلو بغار حِرَاء، فيَتَحَنَّث فيه -والتَّحَنُّث التَّعبُّد- اللَّيالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك".

    أي أنَّه كان إذا أراد أن يدخل الغارَ -غار حِرَاء في قمة الجبل- ويعتزل الناسَ يأخذ معه ما يحتاجه من الطَّعام والشَّراب.

    قالت:

    "ثم يرجع إلى خديجةَ فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غار حِرَاء، فجاءه الملكُ فقال: «اقْرَأْ». قال: «قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قال: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، قَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قال: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ï´؟اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْï´¾ [العلق: 1- 5]».

    فرجع بها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤادُه، فدخل على خديجة بنت خُوَيلِد، فقال: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي». أي غطُّوني غطُّوني، فزَمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوعُ.
    فقال لخديجة وأخبرها الخبرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».
    فبعد أن حكى لها ما حدث قال: أنا خائفٌ على نفسي يا خديجة.

    فقالت خديجةُ -رضي الله عنها: "كلا -لا تخف- والله ما يُخزيك اللهُ أبدًا".
    فهي تحلف بكلِّ ثقةٍ أنَّ الله لا يُخْزِي نبيَّه. لماذا هذه الثِّقة؟
    لما رأت فيه من الصِّفات ومكارم الأخلاق، وما كان اللهُ ليُخزي مثلَ هذا الذي جمع هذه الشَّمائل، وهذه المناقب، وهذه الفضائل، وهذه الأخلاق الكريمة.


    قالت: "والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا -لماذا؟- إنَّك لتَصِل الرَّحِمَ، وتَحْمِل الكَلَّ، وتكسِب المَعْدُومَ، وتُكْرِم الضَّيفَ، وتُعِين على نَوَائِب الحقِّ".
    فانطلقت به خديجةُ حتى أتت به ورقةَ بن نَوفَل بن أسد بن عبد العُزَّى ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتابَ العربي، فيكتب الإنجيلَ بالعربيَّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ.
    فقالت له خديجةُ: "يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك".
    فقال له ورقة: "يا ابن أخي، ما ترى؟"
    فأخبره رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خبرَ ما رأى.
    فقال ورقةُ: "هذا النَّامُوس الذي نزَّل اللهُ على موسى، يا ليتني فيها جَذعًا -ليتني أكون حيًّا- إذ يُخْرِجُك قومُك".


    يا ليت عُمري يمتدُّ وأعيشُ حتى يُجبِرُك قومُك على الخروج من مكَّة.
    فقال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» لماذا سيُخرجونني من مكَّة؟

    قال: "نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإن يُدركني يومُك أنصرك نصرًا مُؤزَّرًا".


    تقول عائشةُ –رضي الله عنها: "ولكن لم يَنْشَبْ ورقةُ أن تُوفي وفَتَرَ الوحيُ".

    هكذا حدَّثتنا أمُّنا عائشة -رضي الله عنها- عن بدايات الوحي وأنواعه.
    وحين نتأمَّل حديثَها -رضي الله عنها- نستنتج قضايا مُهمَّة تتعلَّق بسيرة الحبيب المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- من أهمِّها:


    أولًا: الرُّؤيا الصَّالحة: ففي حديثها -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بُدِءَ به محمد -صلى الله عليه وسلم- من الوحي: الرُّؤيا الصَّالحة".
    وتُسمَّى أحيانًا بالرُّؤيا الصَّادقة.

    والمُراد بالرُّؤيا: رؤيا جميلة، ينشرح لها الصَّدرُ، وتزكو بها الروحُ.

    ولعلَّ الحكمةَ من ابتداء الله تعالى رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بالوحي بالمنام: أنَّه لو لم يَبْتَدِئْهُ بالرُّؤيا وأتاه الملكُ فجأةً ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل؛ فقد يُصيبه شيءٌ من الفزع؛ فلا يستطيع أن يتلقَّى منه شيئًا، لذلك اقتضت حكمةُ الله تعالى أن يأتيه الوحي أولًا في المنام؛ ليتدرَّب عليه ويعتاده.
    والرُّؤيا الصَّادقة الصَّالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءًا من النُّبوة، كما في الحديث عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام.


    وقد ذكر غيرُ واحدٍ أنَّ مدَّة الرُّؤيا الصَّالحة كانت ستَّة أشهرٍ، والرُّؤيا الصَّالحة من المُبَشِّرات كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام.

    ثم حُبِّبَ إليه الخَلاءُ، فكان يخلو بغار حِرَاء فيتَحَنَّث فيه -أي يتعبَّد- وقد اختلف العلماءُ في صفة تعبُّده -عليه الصَّلاة والسَّلام- كيف كان يتعبَّد؟ وبأيِّ شريعةٍ كان يتعبَّد؟
    فقال بعضُهم: كانت العبادة: التَّأمُّل والتَّفكُّر في ملكوت السَّماوات والأرض، والتَّفكُّر عبادة دعانا اللهُ -عز وجل- إليها.

    وقال بعضُهم: كان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يتعبَّد الله -عز وجل- بشريعةٍ من شرائع إبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام.

    فكانت هذه الخَلْوةُ التي حُبِّبت إلى نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- لونًا من ألوان الإعداد الخاصّ، وتصفيةً للنَّفس من علائق المادة البشريَّة، إلى جانب تعهُّده الخاصّ بالتربية الإلهيَّة، والتَّأديب الرَّباني في جميع أحواله.


    ولذلك استحبَّ بعضُ المُربِّين والمُرشدين للمُرِيد والطَّالب أن يحرص على هذه الخَلْوة، وأن ينفرد بنفسه، وأن ينعزل عن الناس أحيانًا، ففي العُزلة من الفوائد الكثير والكثير، ومنها: أن يتعوَّد الإنسانُ على الأُنْس بالله -عز وجل.

    ولذلك كان -عليه الصَّلاة والسَّلام- لا يترك هذه الخَلْوة بعد ذلك، فكان يعتكف في كلِّ رمضان العشرة الأواخر؛ ليتعوَّد الأُنْس بالله -عز وجل.


    فينبغي لطالب العلم وللعابد ولكلِّ مسلمٍ أن يجعل من ساعات يومه ساعةً للخَلْوة، فلا تكن حياتُك كلُّها خُلْطَةً، فتختلط بالناس طوال اليوم، بل حاول أن تجعل ساعةً تكون لك فيها عُزلة وانفراد بنفسك، تُحاسِب نفسَك على ما قدَّمَتْ وأخَّرَتْ، وتنظر في أوقاتك، وتتأمَّل في ملكوت ربِّك، وتتعوَّد الأُنْس بالله -سبحانه وتعالى- حتى إذا أسلمك أهلُك للقبر وحدك وتركوك تأنس بالله -عز وجل- كما تعوَّدت أن تأنس به في حياتك وأنت حيٌّ قبل مماتك.

    فالخَلْوة -أيُّها الأحبَّة- والعُزلة فيها فوائد كثيرةٌ ذكرها العلماءُ، وقد تكلَّم العلماءُ في العزلة والاختلاط: أيُّهما أفضل؟

    والرَّاجح أنَّ العُزلة أفضل ما لم يكن في الاختلاط خيرٌ.

    والقول الفصل: أنَّ الإنسان لا يحتجب عن الناس أبدًا، ولا ينفتح عليهم أبدًا، ولكن يُخالِطهم ليتعاون معهم على البرِّ والتَّقوى، فإذا قُضِيَ ما أراد من اختلاطٍ رجع إلى بيته، وتلك هي وصيَّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لعقبة بن عامر لما قال له: «امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ».

    هذا والله تعالى أعلم، ونُواصل الحديثَ -إن شاء الله- في دروس السِّيرة، وماذا كان بعد ذلك من أنواع الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اللِّقاء القادم.

    إلى ذلك الحين نستودعكم الله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

    تعليق


    • #3
      رد: فقه السيرة .. زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها

      جزاكم الله خيرا

      تعليق

      يعمل...
      X