فقه السيرة شرح الدكتور / عبد العظيم بدوي
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الحديثِ كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله سلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
لعلكم تذكرون أننا انتهينا في دروس السِّيرة النَّبوية العطرة المُباركة إلى بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعرفنا مما سبق أنَّ أول ما بُدِء به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الرُّؤيا الصَّالحة -أو الصَّادقة- فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبْح، ثم حُبِّب إليه الخَلاءُ، فكان يتزوَّد بما يحتاج إليه من الطَّعام والشَّراب ويصعد إلى غار حِرَاء فيتعبَّد اللَّيالي ذوات العدد، فإذا نَفِدَ زادُه رجع إلى خديجة -رضي الله عنها- فزوَّدته بزادٍ فرجع، وظلَّ هكذا حتى جاءه جبريلُ -عليه السلام- لأول مرَّةٍ بأولى الآيات نزولًا وهي: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].
وحي الله -أيُّها الأحبَّة- لأنبيائه له أنواعٌ وصورٌ.
ما أنواع الوحي وصُوره؟
من أنواع الوحي: تكليم الله نبيَّه بما يُريد من وراء حجابٍ:
- إمَّا في اليقظة: وذلك مثل تكليم الله موسى -عليه السلام- ومثل ما حدث لنبينا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمِعْرَاج.
- وإمَّا في المنام: كما في حديث ابن عباسٍ ومعاذٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «أَتَانِي رَبِّي فَقَالَ: فِيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟».
فأول نوعٍ من أنواع الوحي: أن يُكلِّم اللهُ نبيَّه بما يُريد من وراء حجابٍ: إمَّا في اليقظة، وإمَّا في المنام.
والذي عليه السَّلفُ الصَّالح من أهل السُّنة والجماعة: أنَّ نبي الله موسى ونبينا -عليهما الصَّلاة والسَّلام- سمعا كلامَ الله الأزلي القديم، الذي هو صفةٌ من صفاته، وليس المسموع الكلام النَّفسي كما تزعم الأشاعرة، وليس المسموع الكلام الذي خلقه الله في الشَّجرة كما زعمت المُعتَزِلة .
ومن أنواع الوحي: إعلام الله أنبياءه ما يُريد بوساطة جبريل :
وهذا هو ما يُعرَف بالوحي الجليِّ، وحالات مجيء جبريل -عليه السلام- إلى النبي عديدة، منها:
- أن يظهر جبريلُ -عليه السلام- في صورته التي خلقه اللهُ عليها -الصُّورة الملائكيَّة- وهي حالة نادرة، ولم يرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جبريلَ على هذه الحالة إلا مرتين:
* مرة وهو نازلٌ بعد فترة الوحي من غار حِرَاء.
* ومرة وهو في السَّماء ليلة الإسراء والمِعْرَاج.
- الحالة الثانية: أن يأتي جبريلُ -عليه السَّلام- في صورة رجلٍ، وكان غالبًا يأتي في صورة دِحْيَة الكلبي، ويراه الناسُ ويسمعون قوله، ولكن لا يعرفون أنَّه جبريل –عليه السلام- لأنَّه في صورة بشرٍ.
أو في صورة رجلٍ غير معروفٍ، كما في حديث عمر المشهور: "بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بَيَاضِ الثِّياب، شديدُ سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثر السَّفر، ولا يعرفه منَّا أحدٌ".
- ثالثًا: أن يأتي في صورته المَلَكِيَّة، وفي هذه الحالة لا يُرى، ولكن يصحب مجيئه صوتٌ كصوت الجرس، أو كدويِّ النَّحل، وفي هذه الحالة يتحوَّل النبيُّ من حالته البشريَّة الخالصة إلى حالةٍ يحصل فيها استعدادٌ للتَّلقِّي عن المَلَك، وهذه الحالة هي أشدُّ الحالات على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إنَّه كان ليَتَصَبَّبُ عرقًا في اليوم الشَّاتي البرد من شدَّة الوحي.
النوع الثالث من أنواع الوحي : القذف في قلب النبي :
وهو أن يُلقي الله أو جبريل في قلب النبي ما يُريد من الوحي، مع تيقن النبي أنَّ ما أُلقِي في قلبه من قِبَل الله تعالى.
وذلك كما قال النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ نَفَثَ فِي رُوعِي: لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».
والنوع الرابع من أنواع الوحي: الإلهام:
وهو العلم الذي يُلقيه الله تعالى في قلب نبيه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51].
خامسًا: الرُّؤيا في المنام:
ورُؤيا الأنبياء وحيٌ، ولذلك لما رأى الخليلُ إبراهيم -عليه السلام- في المنام أنَّه يذبح إسماعيلَ بادر إلى الامتثال وتنفيذ الأمر؛ لأنَّه يعلم أنَّها وحيٌ من الله -تبارك وتعالى.
والوحي بجميع أنواعه يصحبه علمٌ يقينيٌّ ضروريٌّ من المُوحَى إليه بأنَّ ما أُلْقِيَ إليه حقٌّ من عند الله، وليس من خطرات النَّفس، ولا نزغات الشَّيطان.
وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مُقدِّماتٍ؛ وإنَّما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانيَّة: كالجوع والعطش ونحوهما. فأنت إذا جعت تشعر بالجوع، وإذا عَطِشت تشعر بالعطش، فكذلك النبي حين يُلقَى في قلبه يقينٌ بأنَّ هذا من الله -سبحانه وتعالى.
وهكذا تحدَّثنا عن بدء الوحي إلى النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وعرفنا في حديث أمِّنا عائشة كيف رجع إلى خديجة يرجف فؤاده ويقول: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي» ، إلى آخر الحديث. وبعد هذه المرة فَتَرَ الوحيُ.
وفتر: أي انقطع عن النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فغاب جبريلُ عن النبي فترةً اختُلِفَ في مقدارها: فقيل: كانت أيامًا. وقيل: كانت أربعين يومًا. وقيل: ستة أشهر. وقيل أكثر من ذلك. والأقوال التي هي ستة أشهر وسنتان وثلاثة وأكثر لا تصحُّ.
والراجح -والله أعلم- أنَّ جبريل انقطع عن النبي أيامًا.
وفي فترة الوحي هذه جاءت في صحيح البخاري رواية مُعلَّقة، فيها "أنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما فتر الوحيُ حزن حزنًا شديدًا حتى غدا مرارًا إلى الجبل ليرمي بنفسه من رأس الجبل، فكلَّما أوفى بذِرْوَة جبلٍ لكي يُلقِي نفسَه منه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنَّك رسول الله حقًّا. فيسكن لذلك جأشُه، وتقر نفسُه فيرجع، فإذا طالت عليه فترةُ الوحي غدا لمثل ذلك".
وهذه الرِّواية وإن كانت في صحيح البخاري لكنَّها ليست على شرط الصَّحيح؛ لأنَّها من البلاغات، وهي من قبيل المُنْقَطِع، والمُنْقَطِع من أنواع الحديث الضَّعيف، والبخاري لا يُخرِّج إلا الأحاديث المُسْنَدة المُتَّصِلة برواية العُدُول الضَّابطين، فلماذا أورد هذا الحديث المنقطع؟
قال: لعلَّه ذكره ليُنبهنا إلى أنَّ هذه الرِّواية مُخالفة لما صحَّ عنده من حديث بدء الوحي -الذي ذكرناه- أو لم تُذكَر هذه الزِّيادة في حديث بدء الوحي.
ولو أنَّ هذه الرِّواية كانت صحيحةً لأوَّلناها تأويلًا مقبولًا، أمَّا وهي على هذه الحالة من الضَّعف فلا نُكلِّف أنفسنا عناءَ البحث عن مخرجٍ لها، فهي روايةٌ ضعيفةٌ.
فالرِّواية التي تقول أنَّه لما غاب عنه الوحي صار يصعد الجبلَ ليرمي نفسَه؛ لا تصح.
وفي أثناء فترة الوحي -أي في انقطاعه- كان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذهب إلى غار حِرَاء فيخلوا فيه ويتعبَّد، وبينما هو نازلٌ ذات يومٍ إذا سمع صوتًا من السَّماء، فرفع رأسَه فإذا جبريل في صُورته التي خلقه اللهُ عليها سادًّا ما بين الأُفُق، فرُعِبَ منه –خاف- ثم رجع إلى السيدة خديجة -رضي الله عنها- فقال: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي» ، فزَمَّلُوه، فأنزل الله عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 1- 5].
فكانت أول آياتٍ نزلت بعد فترة الوحي آمرةً له بالإنذار: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2]، وداعيةً إلى توحيد الله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 3]، فهي تدعو إلى توحيد الله وتعظيمه، وعبادته وحده، وترك عبادة غيره.
فنُبِّئ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- باللِّقاء الأول لما قال: ﴿اقْرَأ﴾ [العلق: 1] ، وأُرسِل باللِّقاء الثاني لما قال له:
﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2].
فالصَّحيح أنَّ أول ما نزل: (اقْرَأ﴾، وأنَّ المدثر أول ما نزل بعد فُتُور الوحي؛ يدلُّ على ذلك ما رواه البخاريُّ في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله أنَّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّث عن فترة الوحي فقال: «فَبَيْنَ أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ -أي من جهة السَّماء- فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ -أي الملك الذي جاءني بحِرَاء قبل ذلك- قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِفْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي»، فزمَّلوه، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 1- 5]، ثم حَمِيَ الوحيُ وتتابع.
وهناك رواية تقول أنَّ أول ما نزل بعد فتور الوحي سورة الضُّحى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 1- 3].
والصَّحيح ما ذكرناه أنَّ أول ما نزل بعد انقطاع الوحي بعد أول مرةٍ هو المدثر، ولعلَّ سورة الضُّحى نزلت في فُتور الوحي مرةً ثانيةً بعد ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا أُمِرَ بالإنذار: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2]، بدأ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الدَّعوة. كيف يبدأها؟ هل يخرج ويقف في صَحْن الكعبة ويقول: إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد هكذا فجأةً على الملأ؟
لا، لابُدَّ من التَّمهيد والتَّخطيط، ولابُدَّ من جذب عُصْبَةٍ وإن كانت قليلةً تقف بجواره -عليه الصَّلاة والسَّلام- تحميه وتدفع عنه؛ لأنَّه سيُفاجئ الناسَ بتغيير عقيدتهم، فكانت الحكمةُ تقتضي أن يبدأ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الدَّعوةَ سرًّا.
فبعد نزول آيات المُدثر قام -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا. طيب سيبدأ الدَّعوة بمَن؟ من الطَّبيعي أن يبدأ بأهل بيته وأصدقائه وألصق الناس به.
وكان أول مَن آمن به من النِّساء؛ بل أول مَن آمن به على الإطلاق: زوجه السَّيدة خديجة -رضي الله عنها.
ثم أول مَن آمن به من الرِّجال الأحرار الأشراف: صديقه الحميم أبو بكر عبد الله ابن عثمان -رضي الله عنه.
وأول مَن آمن به من الصِّبيان: ابن عمِّه المُتَرَبِّي في حِجْره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وكان سنُّه إذ ذاك عشر سنين.
وأول مَن آمن به من المَوَالِي: حِبُّه ومَولاه ومُتَبَنَّاه زيد بن حارثة.
وأول مَن آمن به من العبيد: بلال بن رَبَاح الحبشي.
وكذلك سارعت إلى الإسلام بناتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه لا شكَّ في تمسُّكهنَّ قبل البعثة بما كان عليه أبوهنَّ من الاستقامة وحُسن السيرة، والتَّنزُّه عمَّا كان يفعله أهلُ الجاهلية من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام.
فهذا التَّرتيب في إسلام السَّابقين هو أرجح الأقوال في ترتيب إسلام السَّابقين الذين دعاهم النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى الإسلام.
فلمَّا أسلم أبو بكر -رضي الله عنه- لم يكتَفِ بالمُسارعة إلى الإيمان والتَّصديق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بل قام أبو بكر بالدَّعوة أيضًا إلى الإسلام سرًّا، وهذا هو واجب كلِّ مَن يهديه الله تعالى للإسلام، فكلُّ مَن يهديه الله للإسلام يجب عليه مُباشرةً بعدما يهتدي أن يبدأ في دعوة الآخرين وهِدَايتهم.
فلم يكتفِ أبو بكر -رضي الله عنه- بالإسلام فقط؛ بل بدأ يدعو الناسَ أيضًا سرًّا إلى الإسلام واتِّباع النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكان له فضلٌ كبيرٌ في إسلام كثيرٍ من أشراف قُريش وكُبرائها، فأسلم بدعوة أبي بكر جماعةٌ من الأشراف، منهم: عثمان بن عفان، والزُّبير بن العَوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عُبيد الله.
فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له، فأسلموا وأصبحوا من جنود الإسلام المُخلِصين لدعوته.
ثم أسلم بعد ذلك الرَّعيلُ الأول، والرَّعيلُ الثاني، والثالث، وكَثُرَ الصَّحْبُ كثرةً ليست كثيرةً، فأختار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكانًا يجتمع فيه بهؤلاء الأصحاب الذين آمنوا به وصدَّقوه؛ لأنَّه لا يستطيع أن يجتمع بأصحابه علانيةً وجهرًا، فلا يستطيع أن يجتمع بهم في صَحْن الكعبة، ولا على جبل الصَّفا، ولابُدَّ أن يلتقي بهم ليُربيهم ويُعلِّمهم ويُبَلِّغهم ما يأتيه من عند الله -سبحانه وتعالى.
فاختار -عليه الصَّلاة والسَّلام- دارَ الأرقم بن الأرقم، وكان الأرقمُ -رضي الله عنه- من السَّابقين الأوَّلين، وكانت داره مُنتدى يجتمع فيه المسلمون، ويعبدون الله سرًّا، ويُلقِّنهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الإسلامَ وأصولَه، ويتعهَّدهم بالتَّربية حتى كوَّن منهم أُناسًا يستهينون بكلِّ الآلام والبلاء في سبيل دينهم وعقيدتهم، وكان مَن يُريد الإسلامَ منهم يأتي إلى دار الأرقم مُسْتَخْفِيًا خشية أن يناله أذى قريش، وكانت دار ابن الأرقم عند جبل الصَّفا.
ومكث -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه في هذه الدَّار حتى أسلم الفاروقُ عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- فاستَعْلَنُوا بعبادتهم، وراغَمُوا أهلَ مكَّة وأذلُّوهم.
وقد أعطى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الأرقمَ دارًا بالمدينة مُكافأةً له على ما أدَّته دارُه بمكَّة من خدمةٍ جليلةٍ للإسلام في أول عهده، فكانت هذه الدَّار أولَ مدرسةٍ في الإسلام؛ بل كانت أكبرَ جامعةٍ وأعظمَ جامعةٍ عرفها العالم، فخرَّجت أعظمَ رجالٍ عرفهم التاريخُ، ولا تزال هذه الدار مفخرةً خالدةً للأرقم -رضي الله عنه- على مدار التاريخ، وشَذَى جميل وعطر طيِّب يَتَضَوَّع إلى يوم القيامة.
ومضى أبو بكر -رضي الله عنه- يدعو الناسَ إلى الإسلام مع الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى أيَّد الله تعالى رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بعُصْبَةٍ مُؤمنةٍ، ربَّاهم على التَّضحية من أجل العقيدة ومن أجل الدين، وحرصًا على رضا ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى.
وبعد ثلاث سنواتٍ من الدَّعوة سرًّا جاء التَّكليفُ من ربِّ العالمين لنبيه الأمين بأن يجهر بالدَّعوة، وأن تكون الدَّعوةُ علانيةً، فانتهت السِّريةُ منذ ذلك التاريخ.
فأمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث سنوات من عمر الدَّعوة السِّرية أن يَصْدَع، وأن يجهر، وأن يُبَلِّغ الناسَ جميعًا ما أوحاه الله إليه، فقال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم:
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾
[ الحجر: 94].
فجهر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالدَّعوة، واستَعْلَنَ بها هو وأصحابه، فلم يبعد منه قومه ولم يردُّوا عليه حتى عاب آلهتَهم، وسفَّه أحلامَهم، وبيَّن لهم ما هم فيه من الضَّلالة والجهل والخُرافات؛ فحينئذٍ جاهروه وصحبَه بالعداوة، وعزموا على مُخالفته عصبيَّةً وجهلًا.
ولمَّا لم يُمكنهم أن يقرعوا الحُجَّة بالحُجَّة وأُفْحِمُوا لجؤوا إلى السِّباب والشَّتم والإيذاء والتَّعذيب، ومن ثَمَّ بدأ دور المحنة والبلاء، وكان دورًا طويلًا شاقًّا أُوذِي فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الرَّغم من دفاع عمِّه أبي طالب عنه، ووقوفه بجواره، وأُوذِي المسلمون غاية الإيذاء، ولاسيَّما العبيد والضُّعفاء.
فلمَّا نزل قولُ الله -تبارك وتعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾
[الشعراء: 214- 216] صَعِدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الصَّفا، فجعل يُنادي: «يَا بَنِي فِهْر، يَا بَنِي عَدِي». لبطون قريش: يا بني فلان، يا بني فلان. حتى اجتمعوا عنده، وكان الرجلُ إذا لم يستطع الخروجَ يبعث من عنده مَن يتحرى له الخبرَ ويعرف له الحقيقة.
فجاء أبو لهبٍ وقريش والنبيّ على الصَّفا، فقال: «أَرَأَيْتُكُمْ لَو أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» فهم في الوادي أسفل، وهو فوق الجبل، ومَن على الجبل يرى ما لا يراه مَن في الأسفل.
فقال: لو قلتُ لكم أنَّ ورائي عدو يُريد أن يُغِير عليكم، أتُصدِّقوني؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا.
قال: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فقال أبو لهب -وللأسف هو عم النبي: تبًّا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟!
أنت أخرجتنا من بيوتنا حتى تقول هذا الكلام! تبًّا لك.
وتبًّا: أي هلاكًا وموتًا.
فأنزل الله تعالى في الردِّ على أبي لهب: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ [سورة المسد].
وكانت امرأةُ أبي لهبٍ أيضًا من أشدِّ الناس عداوةً للنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنَّميمة، وكانت تضع الشَّوكَ في طريقه، والقذر على بابه، فكان يُنَحِّيه ويقول: «أَيُّ جِوَارٍ هَذَا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ؟!» فلا عجبَ إذا كان الله -عز شأنه- توعَّد امرأةَ أبي لهب بشديد العذاب كما توعَّد زوجها.
ولما سمعت امرأةُ أبي لهبٍ ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن؛ أتت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالسٌ في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصِّديق، وفي يدها حجرٌ مِلْء الكَفِّ، فلمَّا وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبُك؟ قد بلغني أنَّه يهجُوني، والله لو وجدتُه لضربته بهذا الحجر. فانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أَمَا تراها رأتك؟ قال: «مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي». وهكذا حفظ اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- من تلك المرأة التي جاهرته بالعداوة.
فلمَّا رأت قريش أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ماضٍ في دعوته، يُسَفِّه أحلامَهم، ويذمُّ آلهتهم، ويدعوهم إلى ترك ما يعبدون وآباؤهم الأقدَمُون؛ حاولت قريش بكلِّ الأساليب وكلِّ الطُّرق أن تصُدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الدَّعوة، وأن تصرف الناسَ من حوله، فاستخدموا لذلك أساليبَ كثيرةً.
فمن أساليب قريش التي حاولت أن تُوقِف بها الدَّعوة، وتُسْكِت بها صوتَ الحقِّ: أنَّهم حاولوا أن يصرفوا أبا طالبٍ عن النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فجاؤوا إليه فقالوا: إنَّ ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنَّا.
فقال أبو طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أي بُني، هؤلاء أعمامك زعموا أنَّك تُؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانتهِ عن أذاهم.
فحلَّق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السَّماء، فقال: «تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟». قالوا: نعم. فقال: «مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا بِشُعْلَةٍ».
أي إذا كنتم تستطيعون أن تستوقِدُوا من الشَّمس فسأترك الأمرَ الذي بعثني الله به.
وفي روايةٍ قال: «وَاللهِ مَا أَنَا بِأَقْدَرَ أَنْ أَدَعَ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ شُعْلَةً مِنَ النَّارِ». فقال أبو طالب: والله ما كذب ابنُ أخي قط، فارجعوا راشدين.
وحاولت قريش مرات عديدة الضَّغط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوساطة عائلته، ولكنَّها فشلت.
كذلك حاولوا تشويه دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذوا يتَّهمونه بالتُّهَم، ويصفونه بالصِّفات الذَّميمة والقبيحة، فقالوا: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقالوا في القرآن: سِحْرٌ يُؤْثَر. فبرَّأه اللهُ مما قالوا، فقال: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: 29]. وقال: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: 1، 2]. وقال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة: 38- 43].
ثم لجؤوا إلى الاضطهاد والتَّعذيب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولمَن آمن معه، وأُوذِي -عليه الصَّلاة والسَّلام- إيذاءً كثيرًا، ومن هذا الأذى الذي لحقه من قومه: قول أبي جهلٍ: هل يُعَفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ ويعني به: الصلاة، أي أليس محمد يُصلي ويضع وجهَه في الأرض؟ فقيل: نعم. فقال: واللاتِ والعُزَّى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأُعَفِّرنَّ وجهَه في التُّراب.
قال: فأتى رسولَ الله وهو يُصلي يزعم أنَّه قادرٌ على أن يفعل ما توعَّد به. قال: فما فجأهم منه إلا وهو يرجع إلى الوراء ناكِصًا على عَقِبَيهِ ويتَّقي بيديه.
فقيل: ما لك؟ قال: إنَّ بيني وبينه لخندقًا من نارٍ وهولًا وأجنحةً.
فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «لَو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا».
ومما لحقه من الأذى ما ذكره ابنُ مسعودٍ فقال: "بينما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ يُصلي عند الكعبة، وجمعٌ من قريشٍ في مجالسهم، إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المُرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جَزُور آل فلان فيعمد إلى فَرْثِها ودَمِها وسَلَاهَا". هناك جمل مذبوح، مَن يقوم فيأتي ببطن الجمل ويضعه على محمد وهو يُصلي؟ "فانبعث أشقاهُم، فلمَّا سجد -صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه"، ومع ذلك ثبت -عليه الصَّلاة والسَّلام- في سجوده، وهم يضحكون ويتمايل بعضُهم على بعضٍ، "فانطلق مُنطَلِقٌ إلى فاطمة -رضي الله عنها- وهي جُويريَّة صغيرة، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ حتى جاءت فاطمةُ وألقت عنه ما وضعوه على ظهره، وأقبلت عليهم تسُبُّهم، فلمَّا قضى -عليه الصَّلاة والسَّلام- الصلاةَ قال: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ، ثم سمَّى منهم بعضَهم: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِفُلَانٍ، وَعَلَيْكَ بِفُلَانٍ، وَعَلَيْكَ بِفُلَانٍ»، فقُتِلُوا جميعًا يوم بدر".
كذلك لحق الصَّحابة -رضوان الله عليهم- من الأذى الشَّيء الكثير، فأُوذي أبو بكر -رضي الله عنه- نفسه، فضلًا عن ضُعفاء المسلمين.
وقصة تعذيب بلال -رضي الله عنه- بسبب إسلامه مشهورة، يقول عبدُ الله بن مسعود: "أول مَن أظهر الإسلامَ سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمَّار، وأُمُّه سُمَيَّة، وصُهَيب، وبلال، والمِقْدَاد.
فأمَّا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمِّه أبي طالب.
وأمَّا أبو بكر فمنعه الله بقومه.
وأمَّا سائرهم فأخذهم المُشركون فألبسوهم أَدْرُعَ الحديد، وصهروه في الشَّمس"، أي ألبسوهم قمصان الحديد ووضعوهم في الشمس، "فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم -أي وافقهم- على ما أرادوا".
فكان المشركون يضربون الواحد منهم ويقولون له: اكفر بمحمد. ماذا سيفعل تحت وطأة التَّعذيب؟ أجابهم إلى ما قالوا كارهًا؛ إلا بلال فإنَّه هانت عليه نفسُه في الله، وهان عليه قومُه، فأعطوه الولدان -أعطوه للأطفال الصِّغار- وأخذوا يطوفون به شِعَابَ مكة، وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد.
أذى كثير وتعذيب واضطهاد لحق النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومع ذلك صبروا كما أمرهم الله -تبارك وتعالى- واحتسبوا الأجر والثواب عند الله -سبحانه وتعالى.
فلمَّا رأى النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ الأذى يشتد بأصحابه أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجروا -رضي الله عنهم.
فماذا كان من شأنهم في هذه الهجرة؟ وما الدُّروس المُستفادة التي نأخذها من هذه الهجرة؟
كانت للهجرة إلى الحبشة أسبابٌ:
منها: الأذى والاضطهاد والتَّعذيب الذي لحق الصَّحابة -رضوان الله عليهم- كما أشرنا.
ومنها: الفرار بالدِّين، فالله -سبحانه وتعالى- قد أمر المُستَضْعَفِين في الأرض بالهجرة فقال : ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56]، فإذا استُضْعِف مسلمٌ في بلدٍ وعجز عن إظهار دينه؛ وجبت عليه الهجرةُ إلى أرضٍ يستطيع فيها القيامَ بشعائره إذا كان يستطيع الهجرة، فكان الفرارُ بالدِّين خشية الافتتان سببًا مُهمًّا من أسباب الهجرة إلى الحبشة.
ومنها: نشر الدَّعوة خارج مكة.
ومنها: البحث عن مكانٍ آمنٍ للمسلمين، فهم في مكة لا يأمنون على أنفسهم، فهاجروا للبحث عن بلدٍ يأمنون فيه على أنفسهم.
لماذا أشار النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة دون غيرها من البلاد؟ فلِمَ لم يذهبوا لليمن، أو للمدينة؟ لماذا لم يذهبوا إلى أيِّ مكانٍ هنا أو هناك؟ لماذا خصَّ الهجرةَ بالحبشة؟
أشار النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى السبب في الهجرة إلى الحبشة بقوله لأصحابه: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ».
وكان النَّجاشِيُّ ملكًا، وكان نصرانيًّا، لكنَّه كان ملكًا عادلًا موصُوفًا بالصلاح، فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ: النَّجَاشِيّ، لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ بِأَرْضِهِ»، وكان يُثني عليه، فلذلك أشار -عليه الصَّلاة والسَّلام- على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة.
ثم إنَّ الحبشة هي مَتْجَر قريش، والتِّجارة كانت عماد الاقتصاد القُرشي، والحبشة تُعتبر من مراكز التِّجارة في الجزيرة، فربما عرفها بعضُ المسلمين عندما ذهبوا إليها في التِّجارة.
وحاولت قريش أن تُطارد المُهاجرين من الصَّحابة، وتردهم إليهم؛ لينتقموا منهم، فيُعذِّبوهم أو يقتلوهم، فأرسلوا إلى النَّجاشي وفدًا ليردّهم إليهم، ولكن النَّجاشي لصلاحه وعدله أبى أن يردَّ المُهاجرين مع وفد قريش الذي بعثته إليه.
وفي أثناء إقامة المسلمين الأوَّلين الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى؛ أسلم حمزة -رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
فلمَّا أسلم حمزة وعمر وجد المسلمون في ذلك مَلاذًا، وصاروا يُظهِرون إسلامَهم، ويُظهِرون عزَّتهم وكرامتهم بإسلام حمزة وعمر -رضي الله عنهما.
فبلغ الخبرُ المُهاجرين في الحبشة أنَّ حمزة أسلم -عم النبي- الأسد المشهور المعروف بشجاعته وجرأته، وعمر كذلك، وهو الفاروق المشهور بجرأته وشجاعته، فكان الخبرُ بإسلام حمزة وعمر السببَ في عودة المُهاجرين إلى مكة بعد الهجرة الأولى، فهذا هو السَّبب الرَّئيس في عودة المُهاجرين إلى الحبشة، وهناك سبب يُروَى في قصةٍ باطلةٍ يجب التَّنبيه إليها ولا يجوز تركها.
هذه القصة هي المعروفة بقصة الغَرَانِيق، ما الغَرَانِيق؟
قالوا: إنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو يقرأ القرآنَ ألقى الشيطانُ على لسانه مدح اللات والعُزَّى، فقرأ: "أفرأيتم اللات والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغَرَانِيق العُلَى"، ومدح هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها المشركون، فسُرَّ المشركون بذلك، ولذلك لما قرأ آخر السورة: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: 62]، سجدوا معه.
فقالوا: بلغ الخبرُ المهاجرين إلى الحبشة أنَّ أهل مكة أسلموا، فرجع المُهاجرون إلى مكَّة.
هذه القصة -يا إخواني- يقول عنها العلماءُ: إنَّها أسطورة باطلة، لا تصحُّ أبدًا.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الحديثِ كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله سلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
لعلكم تذكرون أننا انتهينا في دروس السِّيرة النَّبوية العطرة المُباركة إلى بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعرفنا مما سبق أنَّ أول ما بُدِء به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الرُّؤيا الصَّالحة -أو الصَّادقة- فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبْح، ثم حُبِّب إليه الخَلاءُ، فكان يتزوَّد بما يحتاج إليه من الطَّعام والشَّراب ويصعد إلى غار حِرَاء فيتعبَّد اللَّيالي ذوات العدد، فإذا نَفِدَ زادُه رجع إلى خديجة -رضي الله عنها- فزوَّدته بزادٍ فرجع، وظلَّ هكذا حتى جاءه جبريلُ -عليه السلام- لأول مرَّةٍ بأولى الآيات نزولًا وهي: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].
وحي الله -أيُّها الأحبَّة- لأنبيائه له أنواعٌ وصورٌ.
ما أنواع الوحي وصُوره؟
من أنواع الوحي: تكليم الله نبيَّه بما يُريد من وراء حجابٍ:
- إمَّا في اليقظة: وذلك مثل تكليم الله موسى -عليه السلام- ومثل ما حدث لنبينا -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمِعْرَاج.
- وإمَّا في المنام: كما في حديث ابن عباسٍ ومعاذٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «أَتَانِي رَبِّي فَقَالَ: فِيْمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟».
فأول نوعٍ من أنواع الوحي: أن يُكلِّم اللهُ نبيَّه بما يُريد من وراء حجابٍ: إمَّا في اليقظة، وإمَّا في المنام.
والذي عليه السَّلفُ الصَّالح من أهل السُّنة والجماعة: أنَّ نبي الله موسى ونبينا -عليهما الصَّلاة والسَّلام- سمعا كلامَ الله الأزلي القديم، الذي هو صفةٌ من صفاته، وليس المسموع الكلام النَّفسي كما تزعم الأشاعرة، وليس المسموع الكلام الذي خلقه الله في الشَّجرة كما زعمت المُعتَزِلة .
ومن أنواع الوحي: إعلام الله أنبياءه ما يُريد بوساطة جبريل :
وهذا هو ما يُعرَف بالوحي الجليِّ، وحالات مجيء جبريل -عليه السلام- إلى النبي عديدة، منها:
- أن يظهر جبريلُ -عليه السلام- في صورته التي خلقه اللهُ عليها -الصُّورة الملائكيَّة- وهي حالة نادرة، ولم يرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جبريلَ على هذه الحالة إلا مرتين:
* مرة وهو نازلٌ بعد فترة الوحي من غار حِرَاء.
* ومرة وهو في السَّماء ليلة الإسراء والمِعْرَاج.
- الحالة الثانية: أن يأتي جبريلُ -عليه السَّلام- في صورة رجلٍ، وكان غالبًا يأتي في صورة دِحْيَة الكلبي، ويراه الناسُ ويسمعون قوله، ولكن لا يعرفون أنَّه جبريل –عليه السلام- لأنَّه في صورة بشرٍ.
أو في صورة رجلٍ غير معروفٍ، كما في حديث عمر المشهور: "بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بَيَاضِ الثِّياب، شديدُ سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثر السَّفر، ولا يعرفه منَّا أحدٌ".
- ثالثًا: أن يأتي في صورته المَلَكِيَّة، وفي هذه الحالة لا يُرى، ولكن يصحب مجيئه صوتٌ كصوت الجرس، أو كدويِّ النَّحل، وفي هذه الحالة يتحوَّل النبيُّ من حالته البشريَّة الخالصة إلى حالةٍ يحصل فيها استعدادٌ للتَّلقِّي عن المَلَك، وهذه الحالة هي أشدُّ الحالات على النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إنَّه كان ليَتَصَبَّبُ عرقًا في اليوم الشَّاتي البرد من شدَّة الوحي.
النوع الثالث من أنواع الوحي : القذف في قلب النبي :
وهو أن يُلقي الله أو جبريل في قلب النبي ما يُريد من الوحي، مع تيقن النبي أنَّ ما أُلقِي في قلبه من قِبَل الله تعالى.
وذلك كما قال النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ نَفَثَ فِي رُوعِي: لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».
والنوع الرابع من أنواع الوحي: الإلهام:
وهو العلم الذي يُلقيه الله تعالى في قلب نبيه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51].
خامسًا: الرُّؤيا في المنام:
ورُؤيا الأنبياء وحيٌ، ولذلك لما رأى الخليلُ إبراهيم -عليه السلام- في المنام أنَّه يذبح إسماعيلَ بادر إلى الامتثال وتنفيذ الأمر؛ لأنَّه يعلم أنَّها وحيٌ من الله -تبارك وتعالى.
والوحي بجميع أنواعه يصحبه علمٌ يقينيٌّ ضروريٌّ من المُوحَى إليه بأنَّ ما أُلْقِيَ إليه حقٌّ من عند الله، وليس من خطرات النَّفس، ولا نزغات الشَّيطان.
وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مُقدِّماتٍ؛ وإنَّما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانيَّة: كالجوع والعطش ونحوهما. فأنت إذا جعت تشعر بالجوع، وإذا عَطِشت تشعر بالعطش، فكذلك النبي حين يُلقَى في قلبه يقينٌ بأنَّ هذا من الله -سبحانه وتعالى.
وهكذا تحدَّثنا عن بدء الوحي إلى النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وعرفنا في حديث أمِّنا عائشة كيف رجع إلى خديجة يرجف فؤاده ويقول: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي» ، إلى آخر الحديث. وبعد هذه المرة فَتَرَ الوحيُ.
وفتر: أي انقطع عن النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فغاب جبريلُ عن النبي فترةً اختُلِفَ في مقدارها: فقيل: كانت أيامًا. وقيل: كانت أربعين يومًا. وقيل: ستة أشهر. وقيل أكثر من ذلك. والأقوال التي هي ستة أشهر وسنتان وثلاثة وأكثر لا تصحُّ.
والراجح -والله أعلم- أنَّ جبريل انقطع عن النبي أيامًا.
وفي فترة الوحي هذه جاءت في صحيح البخاري رواية مُعلَّقة، فيها "أنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما فتر الوحيُ حزن حزنًا شديدًا حتى غدا مرارًا إلى الجبل ليرمي بنفسه من رأس الجبل، فكلَّما أوفى بذِرْوَة جبلٍ لكي يُلقِي نفسَه منه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنَّك رسول الله حقًّا. فيسكن لذلك جأشُه، وتقر نفسُه فيرجع، فإذا طالت عليه فترةُ الوحي غدا لمثل ذلك".
وهذه الرِّواية وإن كانت في صحيح البخاري لكنَّها ليست على شرط الصَّحيح؛ لأنَّها من البلاغات، وهي من قبيل المُنْقَطِع، والمُنْقَطِع من أنواع الحديث الضَّعيف، والبخاري لا يُخرِّج إلا الأحاديث المُسْنَدة المُتَّصِلة برواية العُدُول الضَّابطين، فلماذا أورد هذا الحديث المنقطع؟
قال: لعلَّه ذكره ليُنبهنا إلى أنَّ هذه الرِّواية مُخالفة لما صحَّ عنده من حديث بدء الوحي -الذي ذكرناه- أو لم تُذكَر هذه الزِّيادة في حديث بدء الوحي.
ولو أنَّ هذه الرِّواية كانت صحيحةً لأوَّلناها تأويلًا مقبولًا، أمَّا وهي على هذه الحالة من الضَّعف فلا نُكلِّف أنفسنا عناءَ البحث عن مخرجٍ لها، فهي روايةٌ ضعيفةٌ.
فالرِّواية التي تقول أنَّه لما غاب عنه الوحي صار يصعد الجبلَ ليرمي نفسَه؛ لا تصح.
وفي أثناء فترة الوحي -أي في انقطاعه- كان -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذهب إلى غار حِرَاء فيخلوا فيه ويتعبَّد، وبينما هو نازلٌ ذات يومٍ إذا سمع صوتًا من السَّماء، فرفع رأسَه فإذا جبريل في صُورته التي خلقه اللهُ عليها سادًّا ما بين الأُفُق، فرُعِبَ منه –خاف- ثم رجع إلى السيدة خديجة -رضي الله عنها- فقال: «زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي» ، فزَمَّلُوه، فأنزل الله عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 1- 5].
فكانت أول آياتٍ نزلت بعد فترة الوحي آمرةً له بالإنذار: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2]، وداعيةً إلى توحيد الله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر: 3]، فهي تدعو إلى توحيد الله وتعظيمه، وعبادته وحده، وترك عبادة غيره.
فنُبِّئ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- باللِّقاء الأول لما قال: ﴿اقْرَأ﴾ [العلق: 1] ، وأُرسِل باللِّقاء الثاني لما قال له:
﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2].
فالصَّحيح أنَّ أول ما نزل: (اقْرَأ﴾، وأنَّ المدثر أول ما نزل بعد فُتُور الوحي؛ يدلُّ على ذلك ما رواه البخاريُّ في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله أنَّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّث عن فترة الوحي فقال: «فَبَيْنَ أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ -أي من جهة السَّماء- فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ -أي الملك الذي جاءني بحِرَاء قبل ذلك- قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِفْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي»، فزمَّلوه، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 1- 5]، ثم حَمِيَ الوحيُ وتتابع.
وهناك رواية تقول أنَّ أول ما نزل بعد فتور الوحي سورة الضُّحى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 1- 3].
والصَّحيح ما ذكرناه أنَّ أول ما نزل بعد انقطاع الوحي بعد أول مرةٍ هو المدثر، ولعلَّ سورة الضُّحى نزلت في فُتور الوحي مرةً ثانيةً بعد ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا أُمِرَ بالإنذار: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: 2]، بدأ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الدَّعوة. كيف يبدأها؟ هل يخرج ويقف في صَحْن الكعبة ويقول: إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد هكذا فجأةً على الملأ؟
لا، لابُدَّ من التَّمهيد والتَّخطيط، ولابُدَّ من جذب عُصْبَةٍ وإن كانت قليلةً تقف بجواره -عليه الصَّلاة والسَّلام- تحميه وتدفع عنه؛ لأنَّه سيُفاجئ الناسَ بتغيير عقيدتهم، فكانت الحكمةُ تقتضي أن يبدأ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الدَّعوةَ سرًّا.
فبعد نزول آيات المُدثر قام -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا. طيب سيبدأ الدَّعوة بمَن؟ من الطَّبيعي أن يبدأ بأهل بيته وأصدقائه وألصق الناس به.
وكان أول مَن آمن به من النِّساء؛ بل أول مَن آمن به على الإطلاق: زوجه السَّيدة خديجة -رضي الله عنها.
ثم أول مَن آمن به من الرِّجال الأحرار الأشراف: صديقه الحميم أبو بكر عبد الله ابن عثمان -رضي الله عنه.
وأول مَن آمن به من الصِّبيان: ابن عمِّه المُتَرَبِّي في حِجْره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وكان سنُّه إذ ذاك عشر سنين.
وأول مَن آمن به من المَوَالِي: حِبُّه ومَولاه ومُتَبَنَّاه زيد بن حارثة.
وأول مَن آمن به من العبيد: بلال بن رَبَاح الحبشي.
وكذلك سارعت إلى الإسلام بناتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنَّه لا شكَّ في تمسُّكهنَّ قبل البعثة بما كان عليه أبوهنَّ من الاستقامة وحُسن السيرة، والتَّنزُّه عمَّا كان يفعله أهلُ الجاهلية من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام.
فهذا التَّرتيب في إسلام السَّابقين هو أرجح الأقوال في ترتيب إسلام السَّابقين الذين دعاهم النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى الإسلام.
فلمَّا أسلم أبو بكر -رضي الله عنه- لم يكتَفِ بالمُسارعة إلى الإيمان والتَّصديق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بل قام أبو بكر بالدَّعوة أيضًا إلى الإسلام سرًّا، وهذا هو واجب كلِّ مَن يهديه الله تعالى للإسلام، فكلُّ مَن يهديه الله للإسلام يجب عليه مُباشرةً بعدما يهتدي أن يبدأ في دعوة الآخرين وهِدَايتهم.
فلم يكتفِ أبو بكر -رضي الله عنه- بالإسلام فقط؛ بل بدأ يدعو الناسَ أيضًا سرًّا إلى الإسلام واتِّباع النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكان له فضلٌ كبيرٌ في إسلام كثيرٍ من أشراف قُريش وكُبرائها، فأسلم بدعوة أبي بكر جماعةٌ من الأشراف، منهم: عثمان بن عفان، والزُّبير بن العَوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عُبيد الله.
فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له، فأسلموا وأصبحوا من جنود الإسلام المُخلِصين لدعوته.
ثم أسلم بعد ذلك الرَّعيلُ الأول، والرَّعيلُ الثاني، والثالث، وكَثُرَ الصَّحْبُ كثرةً ليست كثيرةً، فأختار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكانًا يجتمع فيه بهؤلاء الأصحاب الذين آمنوا به وصدَّقوه؛ لأنَّه لا يستطيع أن يجتمع بأصحابه علانيةً وجهرًا، فلا يستطيع أن يجتمع بهم في صَحْن الكعبة، ولا على جبل الصَّفا، ولابُدَّ أن يلتقي بهم ليُربيهم ويُعلِّمهم ويُبَلِّغهم ما يأتيه من عند الله -سبحانه وتعالى.
فاختار -عليه الصَّلاة والسَّلام- دارَ الأرقم بن الأرقم، وكان الأرقمُ -رضي الله عنه- من السَّابقين الأوَّلين، وكانت داره مُنتدى يجتمع فيه المسلمون، ويعبدون الله سرًّا، ويُلقِّنهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الإسلامَ وأصولَه، ويتعهَّدهم بالتَّربية حتى كوَّن منهم أُناسًا يستهينون بكلِّ الآلام والبلاء في سبيل دينهم وعقيدتهم، وكان مَن يُريد الإسلامَ منهم يأتي إلى دار الأرقم مُسْتَخْفِيًا خشية أن يناله أذى قريش، وكانت دار ابن الأرقم عند جبل الصَّفا.
ومكث -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه في هذه الدَّار حتى أسلم الفاروقُ عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- فاستَعْلَنُوا بعبادتهم، وراغَمُوا أهلَ مكَّة وأذلُّوهم.
وقد أعطى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الأرقمَ دارًا بالمدينة مُكافأةً له على ما أدَّته دارُه بمكَّة من خدمةٍ جليلةٍ للإسلام في أول عهده، فكانت هذه الدَّار أولَ مدرسةٍ في الإسلام؛ بل كانت أكبرَ جامعةٍ وأعظمَ جامعةٍ عرفها العالم، فخرَّجت أعظمَ رجالٍ عرفهم التاريخُ، ولا تزال هذه الدار مفخرةً خالدةً للأرقم -رضي الله عنه- على مدار التاريخ، وشَذَى جميل وعطر طيِّب يَتَضَوَّع إلى يوم القيامة.
ومضى أبو بكر -رضي الله عنه- يدعو الناسَ إلى الإسلام مع الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى أيَّد الله تعالى رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بعُصْبَةٍ مُؤمنةٍ، ربَّاهم على التَّضحية من أجل العقيدة ومن أجل الدين، وحرصًا على رضا ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى.
وبعد ثلاث سنواتٍ من الدَّعوة سرًّا جاء التَّكليفُ من ربِّ العالمين لنبيه الأمين بأن يجهر بالدَّعوة، وأن تكون الدَّعوةُ علانيةً، فانتهت السِّريةُ منذ ذلك التاريخ.
فأمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث سنوات من عمر الدَّعوة السِّرية أن يَصْدَع، وأن يجهر، وأن يُبَلِّغ الناسَ جميعًا ما أوحاه الله إليه، فقال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم:
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾
[ الحجر: 94].
فجهر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالدَّعوة، واستَعْلَنَ بها هو وأصحابه، فلم يبعد منه قومه ولم يردُّوا عليه حتى عاب آلهتَهم، وسفَّه أحلامَهم، وبيَّن لهم ما هم فيه من الضَّلالة والجهل والخُرافات؛ فحينئذٍ جاهروه وصحبَه بالعداوة، وعزموا على مُخالفته عصبيَّةً وجهلًا.
ولمَّا لم يُمكنهم أن يقرعوا الحُجَّة بالحُجَّة وأُفْحِمُوا لجؤوا إلى السِّباب والشَّتم والإيذاء والتَّعذيب، ومن ثَمَّ بدأ دور المحنة والبلاء، وكان دورًا طويلًا شاقًّا أُوذِي فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الرَّغم من دفاع عمِّه أبي طالب عنه، ووقوفه بجواره، وأُوذِي المسلمون غاية الإيذاء، ولاسيَّما العبيد والضُّعفاء.
فلمَّا نزل قولُ الله -تبارك وتعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾
[الشعراء: 214- 216] صَعِدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الصَّفا، فجعل يُنادي: «يَا بَنِي فِهْر، يَا بَنِي عَدِي». لبطون قريش: يا بني فلان، يا بني فلان. حتى اجتمعوا عنده، وكان الرجلُ إذا لم يستطع الخروجَ يبعث من عنده مَن يتحرى له الخبرَ ويعرف له الحقيقة.
فجاء أبو لهبٍ وقريش والنبيّ على الصَّفا، فقال: «أَرَأَيْتُكُمْ لَو أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» فهم في الوادي أسفل، وهو فوق الجبل، ومَن على الجبل يرى ما لا يراه مَن في الأسفل.
فقال: لو قلتُ لكم أنَّ ورائي عدو يُريد أن يُغِير عليكم، أتُصدِّقوني؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا.
قال: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فقال أبو لهب -وللأسف هو عم النبي: تبًّا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟!
أنت أخرجتنا من بيوتنا حتى تقول هذا الكلام! تبًّا لك.
وتبًّا: أي هلاكًا وموتًا.
فأنزل الله تعالى في الردِّ على أبي لهب: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ [سورة المسد].
وكانت امرأةُ أبي لهبٍ أيضًا من أشدِّ الناس عداوةً للنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنَّميمة، وكانت تضع الشَّوكَ في طريقه، والقذر على بابه، فكان يُنَحِّيه ويقول: «أَيُّ جِوَارٍ هَذَا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ؟!» فلا عجبَ إذا كان الله -عز شأنه- توعَّد امرأةَ أبي لهب بشديد العذاب كما توعَّد زوجها.
ولما سمعت امرأةُ أبي لهبٍ ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن؛ أتت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالسٌ في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصِّديق، وفي يدها حجرٌ مِلْء الكَفِّ، فلمَّا وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبُك؟ قد بلغني أنَّه يهجُوني، والله لو وجدتُه لضربته بهذا الحجر. فانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أَمَا تراها رأتك؟ قال: «مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي». وهكذا حفظ اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- من تلك المرأة التي جاهرته بالعداوة.
فلمَّا رأت قريش أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ماضٍ في دعوته، يُسَفِّه أحلامَهم، ويذمُّ آلهتهم، ويدعوهم إلى ترك ما يعبدون وآباؤهم الأقدَمُون؛ حاولت قريش بكلِّ الأساليب وكلِّ الطُّرق أن تصُدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الدَّعوة، وأن تصرف الناسَ من حوله، فاستخدموا لذلك أساليبَ كثيرةً.
فمن أساليب قريش التي حاولت أن تُوقِف بها الدَّعوة، وتُسْكِت بها صوتَ الحقِّ: أنَّهم حاولوا أن يصرفوا أبا طالبٍ عن النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فجاؤوا إليه فقالوا: إنَّ ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنَّا.
فقال أبو طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أي بُني، هؤلاء أعمامك زعموا أنَّك تُؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانتهِ عن أذاهم.
فحلَّق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السَّماء، فقال: «تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟». قالوا: نعم. فقال: «مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا بِشُعْلَةٍ».
أي إذا كنتم تستطيعون أن تستوقِدُوا من الشَّمس فسأترك الأمرَ الذي بعثني الله به.
وفي روايةٍ قال: «وَاللهِ مَا أَنَا بِأَقْدَرَ أَنْ أَدَعَ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ شُعْلَةً مِنَ النَّارِ». فقال أبو طالب: والله ما كذب ابنُ أخي قط، فارجعوا راشدين.
وحاولت قريش مرات عديدة الضَّغط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوساطة عائلته، ولكنَّها فشلت.
كذلك حاولوا تشويه دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذوا يتَّهمونه بالتُّهَم، ويصفونه بالصِّفات الذَّميمة والقبيحة، فقالوا: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقالوا في القرآن: سِحْرٌ يُؤْثَر. فبرَّأه اللهُ مما قالوا، فقال: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولَا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: 29]. وقال: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: 1، 2]. وقال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة: 38- 43].
ثم لجؤوا إلى الاضطهاد والتَّعذيب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولمَن آمن معه، وأُوذِي -عليه الصَّلاة والسَّلام- إيذاءً كثيرًا، ومن هذا الأذى الذي لحقه من قومه: قول أبي جهلٍ: هل يُعَفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ ويعني به: الصلاة، أي أليس محمد يُصلي ويضع وجهَه في الأرض؟ فقيل: نعم. فقال: واللاتِ والعُزَّى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأُعَفِّرنَّ وجهَه في التُّراب.
قال: فأتى رسولَ الله وهو يُصلي يزعم أنَّه قادرٌ على أن يفعل ما توعَّد به. قال: فما فجأهم منه إلا وهو يرجع إلى الوراء ناكِصًا على عَقِبَيهِ ويتَّقي بيديه.
فقيل: ما لك؟ قال: إنَّ بيني وبينه لخندقًا من نارٍ وهولًا وأجنحةً.
فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «لَو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا».
ومما لحقه من الأذى ما ذكره ابنُ مسعودٍ فقال: "بينما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ يُصلي عند الكعبة، وجمعٌ من قريشٍ في مجالسهم، إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المُرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جَزُور آل فلان فيعمد إلى فَرْثِها ودَمِها وسَلَاهَا". هناك جمل مذبوح، مَن يقوم فيأتي ببطن الجمل ويضعه على محمد وهو يُصلي؟ "فانبعث أشقاهُم، فلمَّا سجد -صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه"، ومع ذلك ثبت -عليه الصَّلاة والسَّلام- في سجوده، وهم يضحكون ويتمايل بعضُهم على بعضٍ، "فانطلق مُنطَلِقٌ إلى فاطمة -رضي الله عنها- وهي جُويريَّة صغيرة، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ حتى جاءت فاطمةُ وألقت عنه ما وضعوه على ظهره، وأقبلت عليهم تسُبُّهم، فلمَّا قضى -عليه الصَّلاة والسَّلام- الصلاةَ قال: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ، ثم سمَّى منهم بعضَهم: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِفُلَانٍ، وَعَلَيْكَ بِفُلَانٍ، وَعَلَيْكَ بِفُلَانٍ»، فقُتِلُوا جميعًا يوم بدر".
كذلك لحق الصَّحابة -رضوان الله عليهم- من الأذى الشَّيء الكثير، فأُوذي أبو بكر -رضي الله عنه- نفسه، فضلًا عن ضُعفاء المسلمين.
وقصة تعذيب بلال -رضي الله عنه- بسبب إسلامه مشهورة، يقول عبدُ الله بن مسعود: "أول مَن أظهر الإسلامَ سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمَّار، وأُمُّه سُمَيَّة، وصُهَيب، وبلال، والمِقْدَاد.
فأمَّا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمِّه أبي طالب.
وأمَّا أبو بكر فمنعه الله بقومه.
وأمَّا سائرهم فأخذهم المُشركون فألبسوهم أَدْرُعَ الحديد، وصهروه في الشَّمس"، أي ألبسوهم قمصان الحديد ووضعوهم في الشمس، "فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم -أي وافقهم- على ما أرادوا".
فكان المشركون يضربون الواحد منهم ويقولون له: اكفر بمحمد. ماذا سيفعل تحت وطأة التَّعذيب؟ أجابهم إلى ما قالوا كارهًا؛ إلا بلال فإنَّه هانت عليه نفسُه في الله، وهان عليه قومُه، فأعطوه الولدان -أعطوه للأطفال الصِّغار- وأخذوا يطوفون به شِعَابَ مكة، وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد.
أذى كثير وتعذيب واضطهاد لحق النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومع ذلك صبروا كما أمرهم الله -تبارك وتعالى- واحتسبوا الأجر والثواب عند الله -سبحانه وتعالى.
فلمَّا رأى النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ الأذى يشتد بأصحابه أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجروا -رضي الله عنهم.
فماذا كان من شأنهم في هذه الهجرة؟ وما الدُّروس المُستفادة التي نأخذها من هذه الهجرة؟
كانت للهجرة إلى الحبشة أسبابٌ:
منها: الأذى والاضطهاد والتَّعذيب الذي لحق الصَّحابة -رضوان الله عليهم- كما أشرنا.
ومنها: الفرار بالدِّين، فالله -سبحانه وتعالى- قد أمر المُستَضْعَفِين في الأرض بالهجرة فقال : ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56]، فإذا استُضْعِف مسلمٌ في بلدٍ وعجز عن إظهار دينه؛ وجبت عليه الهجرةُ إلى أرضٍ يستطيع فيها القيامَ بشعائره إذا كان يستطيع الهجرة، فكان الفرارُ بالدِّين خشية الافتتان سببًا مُهمًّا من أسباب الهجرة إلى الحبشة.
ومنها: نشر الدَّعوة خارج مكة.
ومنها: البحث عن مكانٍ آمنٍ للمسلمين، فهم في مكة لا يأمنون على أنفسهم، فهاجروا للبحث عن بلدٍ يأمنون فيه على أنفسهم.
لماذا أشار النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة دون غيرها من البلاد؟ فلِمَ لم يذهبوا لليمن، أو للمدينة؟ لماذا لم يذهبوا إلى أيِّ مكانٍ هنا أو هناك؟ لماذا خصَّ الهجرةَ بالحبشة؟
أشار النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى السبب في الهجرة إلى الحبشة بقوله لأصحابه: «لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ».
وكان النَّجاشِيُّ ملكًا، وكان نصرانيًّا، لكنَّه كان ملكًا عادلًا موصُوفًا بالصلاح، فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ: النَّجَاشِيّ، لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ بِأَرْضِهِ»، وكان يُثني عليه، فلذلك أشار -عليه الصَّلاة والسَّلام- على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة.
ثم إنَّ الحبشة هي مَتْجَر قريش، والتِّجارة كانت عماد الاقتصاد القُرشي، والحبشة تُعتبر من مراكز التِّجارة في الجزيرة، فربما عرفها بعضُ المسلمين عندما ذهبوا إليها في التِّجارة.
وحاولت قريش أن تُطارد المُهاجرين من الصَّحابة، وتردهم إليهم؛ لينتقموا منهم، فيُعذِّبوهم أو يقتلوهم، فأرسلوا إلى النَّجاشي وفدًا ليردّهم إليهم، ولكن النَّجاشي لصلاحه وعدله أبى أن يردَّ المُهاجرين مع وفد قريش الذي بعثته إليه.
وفي أثناء إقامة المسلمين الأوَّلين الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرة الأولى؛ أسلم حمزة -رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
فلمَّا أسلم حمزة وعمر وجد المسلمون في ذلك مَلاذًا، وصاروا يُظهِرون إسلامَهم، ويُظهِرون عزَّتهم وكرامتهم بإسلام حمزة وعمر -رضي الله عنهما.
فبلغ الخبرُ المُهاجرين في الحبشة أنَّ حمزة أسلم -عم النبي- الأسد المشهور المعروف بشجاعته وجرأته، وعمر كذلك، وهو الفاروق المشهور بجرأته وشجاعته، فكان الخبرُ بإسلام حمزة وعمر السببَ في عودة المُهاجرين إلى مكة بعد الهجرة الأولى، فهذا هو السَّبب الرَّئيس في عودة المُهاجرين إلى الحبشة، وهناك سبب يُروَى في قصةٍ باطلةٍ يجب التَّنبيه إليها ولا يجوز تركها.
هذه القصة هي المعروفة بقصة الغَرَانِيق، ما الغَرَانِيق؟
قالوا: إنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو يقرأ القرآنَ ألقى الشيطانُ على لسانه مدح اللات والعُزَّى، فقرأ: "أفرأيتم اللات والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغَرَانِيق العُلَى"، ومدح هذه الأصنام والأوثان التي يعبدها المشركون، فسُرَّ المشركون بذلك، ولذلك لما قرأ آخر السورة: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: 62]، سجدوا معه.
فقالوا: بلغ الخبرُ المهاجرين إلى الحبشة أنَّ أهل مكة أسلموا، فرجع المُهاجرون إلى مكَّة.
هذه القصة -يا إخواني- يقول عنها العلماءُ: إنَّها أسطورة باطلة، لا تصحُّ أبدًا.
تعليق