هذه مُحَاوَلَةٌ بَسِيطَةٌ للتَّعْرِيفِ برَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، سَوَاء للمُسْلِمِينَ أو لغَيْرِهِم، بكَلِمَاتٍ يَتَّفِقُ عَلَيْهَا كُلّ مَنْ لَهُ عَقْل سَلِيم وفِطْرَة نَقِيَّة، وبالتَّالِي هي تَصْلُح للتَّرْجَمَةِ، أرْجُو أنْ أكُون قَدْ وُفِّقْت في جَمْعِهَا وتَرْتِيبِهَا وإخْرَاجِهَا بصُورَةٍ تَلِيقُ بالمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأرْجُو أنْ تُحَقِّقَ الهَدَفَ مِنْ وَرَائِهَا، وهُوَ تَعْرِيف المُسْلِم وغَيْر المُسْلِم: مَنْ هُوَ رَسُولِ المُسْلِمِين، واللهُ المُوَفِّقُ والمُسْتَعَانُ.
----------------------------
----------------------------
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
ثُمَّ أمَّا بَعْدُ؛؛
فَمُنْذُ أنْ خَلَقَ اللهُ الأرْضَ وقَدَّرَ للإنْسَانِ أنْ يُعَمِّرَهَا وهي تَمْتَلِئُ بالاخْتِلاَفَاتِ والتَّنَوُّعَاتِ والمُتَنَاقِضَاتِ، مِنْهَا مَا هُوَ جَيِّدٌ وأكْثَرُهَا سَيِّئٌ، وعَلَى مَرِّ العُصُورِ واخْتِلاَفِ الأزْمِنَةِ والطَّبَائِعِ كَانَ لابُدَّ مِنْ وُجُودِ قَانُونٍ للحَيَاةِ، يَتَّبِعُهُ الجَمِيعُ دُونَ اخْتِلاَفِ الجِنْسِ أو اللَّوْنِ أو الهَوِيَّةِ، فَبَدَأَ الإنْسَانُ يَبْحَثُ لنَفْسِهِ عَنْ قَوَانِينٍ وشَرَائِعٍ تُنَظِّمُ حَيَاتَهُ وتَصَرُّفَاتِهِ، فَنَجَحَ فِيمَا نَجَحَ، وفَشَلَ فِيمَا فَشَلَ، وكَانَ فَشَلُهُ أكْبَرَ، فَأبَى اللهُ أنْ يَتْرُكَ الإنْسَانَ ظَلُومًا جَهُولاً تَائِهًا حَائِرًا، فَأرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ والأنْبِيَاءَ كُلٌ في قَوْمِهِ ليَكُونُوا هَدْيًا للأُمَمِ فِيمَا عَجَزُوا عَنْ تَحْقِيقِهِ، وكَلَّفَ كُلَّ نَبِيٍّ أو رَسُولٍ بمُهِمَّةٍ، وخَصَّ بَعْضَهُمْ برِسَالَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَحْمِلُ للنَّاسِ دِيَانَةً تُناسِبُ زَمَانَهُمْ ومَكَانَهُمْ وطَبِيعَتَهُمْ، فَآمَنَ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، واتَّبَعَ مِنْهُمْ مَنِ اتَّبَعَ، ورَفَضَ مِنْهُمْ مَنْ رَفَضَ، وكَانَ أكْثَرُهُمْ غَافِلُونَ [ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ]، فَيَأبَى برَحْمَتِهِ أنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ وضَلاَلِهِمْ، فَأرْسَلَ لَهُمُ الرُّسُلَ والأنْبِيَاءَ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ ويَحْفَظُهُمْ ويُقَوِّمُ لَهُمْ حَيَاتَهُمْ وعَقِيدَتَهُمْ، ولكِنَّهُمْ ظَلُّوا في غَفْلَةٍ مِنْ أمْرِهِمْ، ولا تَنْقَطِعُ رَحْمَةُ اللهِ بعِبَادِهِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، فيُرْسِلُ اللهُ رُسُلَهُ وأنْبِيَاءَهُ بالحَقِّ هُدًى ونَذِيرًا للعَالَمِينَ، فَمَا يُلاَقُونَ إلاَّ القَهْرَ والظُّلْمَ والعَذَابَ والاسْتِنْكَارَ، ورَغْمَ أنَّ كُلَّ الدِّيَانَاتِ والرِّسَالاَتِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتي أنْزَلَهَا اللهُ عَلَى عِبَادِهِ كَانَتْ تُكْمِلُ بَعْضَهَا بَعْضًا، وتُثْبِتُ بَعْضَهَا بَعْضًا، وتُبَشِّرُ بَعْضَهَا ببَعْضٍ، إلاَّ أنَّ قَلِيلاً مِنَ النَّاسِ مَنْ آمَنَ وصَدَّقَ، وظَلَّتِ الغَالِبِيَّةُ عَلَى جَهْلِهَا وغَفْلَتِهَا وعِنَادِهَا وتَكَبُّرِهَا، فَازْدَادُوا جَهْلاً عَلَى جَهْلٍ حَتَّى صَارُوا جَاهِلِيَّةً عَفِنَةً، فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنَامَ، ويَأكُلُونَ المَيْتَةَ، ويُسِيئُونَ الجِوَارَ، ويُقَطِّعُونَ الأرْحَامَ، ويَأتُونَ الفَوَاحِشَ، ويَأكُلُ القَوِيُّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ، فَأرَادَ اللهُ أنْ يُنْهِيَ شَقَاءَ الإنْسَانِ لنَفْسِهِ في الأرْضِ، ويَرْفَعَ الظُّلْمَ والجَهْلَ عَنْ عِبَادِهِ، فَاصْطَفَى لنَفْسِهِ رَسُولاً، خَصَّهُ بالرِِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ الخَاتَمَةِ والدِّينِ الخَالِصِ القَيِّمِ القَوِيمِ؛ المُهَيْمِنِ عَلَى كُلِّ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ والجَامِعِ لَهَا، مُحْكَمَةٌ آيَاتُهُ؛ تَنْزِيلٌ مِنْ قَدِيرٍ مُقْتَدِرٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أرْسَلَ اللهُ رَسُولَهُ بَشِيرًا ونَذِيرًا ورَحْمَةً للعَالَمِينَ، وجَعَلَهُ خَاتَمًا للأنْبِيَاءِ المُرْسَلِينَ.
هُوَ الصَّادِقُ الأمَينُ مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَرْجِعُ نَسَبُهُ إلى إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ابْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، جَمَعَ في نَشْأتِهِ خَيْرَ مَا في طَبَقَاتِ النَّاسِ مِنْ مَزَايَا، فَكَانَ طِرَازًا رَفِيعًا مِنَ الفِكْرِ الصَّائِبِ، والنَّظَرِ السَّدِيدِ، نَالَ حَظًّا وَافِرًا مِنْ حُسْنِ الفِطْنَةِ وأصَالَةِ الفِكْرَةِ وسَدَادِ الوَسِيلَةِ والهَدَفِ، وكَانَ يَسْتَعِينُ بصَمْتِهِ الطَّوِيلِ عَلَى طُولِ التَّأمُّلِ وإدْمَانِ الفِكْرَةِ واسْتِيقَانِ الحَقِّ، طَالَعَ بعَقْلِهِ الخِصْبِ وفِطْرَتِهِ الصَّافِيَةِ صَحَائِفَ الحَيَاةِ وشُئونَ النَّاسِ وأحْوَالَ الجَمَاعَاتِ، فَعَافَ مَا سِوَاهَا مِنْ خُرَافَةٍ ونَأى عَنْهَا، ثُمَّ عَاشَرَ النَّاسَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أمْرِهِ وأمْرِهِمْ، فَمَا وَجَدَهُ حَسَنًا شَارَكَ فِيهِ؛ وإلاَّ عَادَ إلى عُزْلَتِهِ العَتِيدَةِ، اصْطَفَاهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لنَفْسِهِ مِنْ خَالِصِ العَرَبِ وأشْرَفِهِمْ وأشْهَرِهِمْ، وأرْسَلَهُ في قَوْمِهِ كَسَائِرِ الأنْبيَاءِ والرُّسُلِ، حَتَّى لا يَكُونَ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ في رَفْضِ دَعْوَتِهِ، فَهُوَ مِنْهُمْ، يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ، وصِدْقَهُ، وأمَانَتَهُ، وعَفَافَهُ، وكَانَ أفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وأحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وأعَزَّهُمْ جِوَارًا، وأعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وأصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وأكْرَمَهُمْ خَيْرًا، وأَبَرَّهُمْ عَمَلاً، وأوْفَاهُمْ عَهْدًا، حَتَّى أنَّهُمْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ بدِينِ اللهِ الحَقِّ بالصَّادِقِ الأمِينِ؛ لِمَا جُمِعَ فِيهِ مِنَ الأحْوَالِ الصَّالِحَةِ والخِصَالِ المُرْضِيَةِ، وحَتَّى بَعْدَ أنْ جَهَرَ بدَعْوَتِهِ وحَارَبُوهُ، كَانُوا لا يَسْتَأمِنُونَ غَيْرَهُ عَلَى وَدَائِعِهِمْ.
أرْسَلَهُ اللهُ دَاعِيًا إلى التَّوْحِيدِ كَمَا دَعَتْ كُلُّ الرِّسَالاَتِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتي سَبَقَتْهُ؛ مِثْلُ اليَهُودِيَّةِ والمَسِيحِيَّةِ، إلاَّ أنَّ الدِّيَانَةَ الَّتي بُعِثَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَتْ شَامِلَةً وكَامِلَةً ووَافِيَةً ومُحْكَمَةً ومُهَيْمِنَةً، جَمَعَتْ كُلَّ الدِّيَانَاتِ الَّتي سَبَقَتْهَا، وتَفَرَّدَتْ بإعْجَازاتٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا مَثِيلٌ في تِلْكَ الدِّيَانَاتِ الأُخْرَى، أعْلاَهَا وأوَّلُهَا وأقْوَاهَا إعْجَازُ القُرْآنِ.
هذه الدِّيَانَةُ هي الإسْلاَمُ، ولعَظِيمِ قَدْرِهَا جَعَلَ اللهُ لَهَا نَفْسَ اسْمِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لنَفْسِهِ ودَعَتْ إلَيْهِ كُلُّ رُسُلِهِ وأنْبِيَائِهِ؛ دِينُ الإسْلاَمِ، والقُرْآنُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَحْوِي تَعَالِيمَ هذا الدِّينِ؛ مِثْلُ الإنْجِيلِ الَّذِي يَحْوِي تَعَالِيمَ الدِّيَانَةِ المَسِيحِيَّةِ والتَّوْرَاةِ الَّتي تَحْوِي تَعَالِيمَ الدِّيَانَةِ اليَهُودِيَّةِ قَبْلَ أنْ يُحَرَّفَا، وكُلُّ الرُّسُلِ والأنْبِيَاءِ دَعَوْا إلى الإسْلاَمِ، وبَشَّرُوا بالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأمَرُوا قَوْمَهُمْ بإتِّبَاعِهِ حِينَ يَظْهَرُ [ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 83 قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 84 وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 85 ].
دَعَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى اللهِ الوَاحِدِ رَبِّ العَالَمِينَ، لنَعْبُدَهُ، ونُوَحِّدَهُ، ونَتْرُكَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ والأوْثَانِ والأفْكَارِ البَالِيَةِ، وأَمَرَنَا بصِدْقِ الحَدِيثِ، وأدَاءِ الأمَانَةِ، وصِلَةِ الأرْحَامِ، والكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ والدِّمَاءِ، ونَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ، ونَهَانَا عَنِ المُنْكَرِ، تِلْكَ الأُمُورُ الَّتي سَادَتِ الأرْضَ فَتَرَاتٍ طَوِيلَةً في عُصُورِ الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الإسْلاَمِ، لَكِنَّ الأمْرَ لَمْ يَكُنْ سَهْلاً، فَلَقَدْ خَشِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَجْهَرَ بدَعْوَتِهِ في بَادِئِ الأمْرِ حَتَّى لا يُقابَلَ بالرَّفْضِ والأذَى مِثْلَمَا حَدَثَ مَعَ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ، ولَمْ يَكُنْ هذا جُبْنًا وتَخَاذُلاً مِنْهُ أو تَكَاسُلاً عَنِ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ، ولَكِنَّهُ كَانَ حِرْصًا عَلَى سَلاَمَةِ هذا الدِّينِ وحُبًّا في اسْتِمْرَارِهِ وبَقَاءِهِ، ولَمْ يَكُنِ اللهُ قَدْ أَمَرَهُ بالجَهْرِ بالدَّعْوَةِ، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتَصَرَّفُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وإنَّمَا كُلُّ قَوْلٍ وعَمَلٍ كَانَ يَأتِيهِ بوَحْيٍ مِنَ اللهِ، فَبَدَأ بدَعْوَتِهِ سِرًّا، فَأمَرَهُ اللهُ أنْ يَبْدَأَ بعَرْضِ الإسْلاَمِ أوَّلاً عَلَى ألْصَقِ النَّاسِ بِهِ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ وأصْدِقَائِهِ وعَشِيرَتِهِ الأقْرَبِينَ، فَدَعَاهُمْ إلى الإسْلاَمِ، ودَعَا إلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَوَسَّمَ فِيهِ الخَيْرَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ ويَعْرِفُونَهُ، يَعْرِفُهُمْ بِحُبِّ الحَقِّ والخَيْرِ، ويَعْرِفُونَهُ بتَحَرِّي الصِّدْقِ والصَّلاَحِ، فَأجَابَهُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ لَمْ تُخَالِجْهُمْ رَيْبَةً قَطْ في عَظَمَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وجَلالَةِِ نَفْسِهِ وصِدْقِ خَبَرِهِ، في مُقَدِّمَتِهِمْ زَوْجَتُهُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ أُمُّ هِنْدَ؛ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، الَّتي سَانَدَتْهُ ونَصَرَتْهُ بنَفْسِهَا ومَالِهَا، وكَانَتْ أوَّلَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، ومَوْلاَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وكَانَ أوَّلَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ المَوَالِي، وابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ الَّذِي كَانَ صَبِيًّا يَعِيشُ في كَفَالَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ وكَانَ أوَّلَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَةِ، ثُمَّ صَدِيقُهُ الصَّدُوقِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ؛ الَّذِي عُرِفَ باسْمِ أبِي بَكْرٍ ولُقِّبَ فِيمَا بَعْدُ بأبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ لشِدَّةِ تَصْدِيقِهِ وإيِمَانِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ وكَانَ أوَّلَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ، أسْلَمَ هَؤُلاَءِ في أوَّلِ يَوْمٍ للدَّعْوَةِ، واسْتَمَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في دَعْوَتِهِ السِّرِّيَّةِ ثَلاَثَ سَنَوَاتٍ، يَتَحَيَّنُ اللَّحْظَةَ المُنَاسِبَةَ الَّتي سَيَأمُرُهُ اللهُ فِيهَا بالجَهْرِ بالدَّعْوَةِ ونَشْرِ الدِّينِ الإسْلاَمِيِّ بمَفَاهِيمِهِ وتَعَالِيمِهِ الَّتي جَاءَتْ لتُنْقِذَ الأُمَمَ مِنْ هَلاَكٍ حَتْمِيٍّ كَانَتْ تَسِيرُ نَحْوَهُ بسُرْعَةٍ كَبِيرَةٍ، سُرْعَةُ الجَهْلِ والجَهَالَةِ والكِبْرِ، ثُمَّ نَشَطَ أبُو بَكْرٍ في الدَّعْوَةِ إلى الإسْلاَمِ، وكَانَ رَجُلاً مُأَلَّفًا مُحَبَّبًا سَهْلاً ذَا خُلُقٍ ومَعْرُوفٍ، وكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأتُونَهُ ويَألَفُونَهُ لعِلْمِهِ وتِجَارَتِهِ وحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ يَغْشَاهُ ويَجْلِسُ إلَيْهِ، أيْ بنَفْسِ طَرِيقَةِ وهَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَأسْلَمَ بدَعْوَتِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، والزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وسَعْدٌ بْنُ أبِي وَقَّاصٍ، وطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدَ اللهِ، فَكَانَ هَؤُلاَءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ سَبَقُوا النَّاسَ هُمُ الرَّعِيلُ الأوَّلُ وطَلِيعَةُ الإسْلاَمِ، وهُمْ جُزْءٌ مِمَّنْ حَمَلُوا الدَّعْوَةَ الإسْلاَمِيَّةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى أكْتَافِهِمْ وصَاحَبُوهُ في مَسِيرَتِهِ، ويُطْلَقُ عَلَيْهِمْ الصَّحَابَةُ، وهُمْ خَيْرُ أُنَاسٍ عَرَفَتْهُمُ الأرْضُ بَعْدَ الرُّسُلِ والأنْبِيَاءِ، فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الدِّينُ الخَاتَمُ، وفَسَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ قَوْلاً وتَطْبِيقًا، ومَدَحَهُمُ اللهُ في قُرْآنِهِ، ومَدَحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في سُنَّتِهِ، ولا يُنْكِرُ فَضْلَهُمْ وعِلْمَهُمْ ومَكَانَتَهُمْ إلاَّ جَاحِدٌ كَافِرٌ.
ولَمَّا تَكَوَّنَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ تَقُومُ عَلَى الأُخُوَّةِ والتَّعَاوُنِ، وتَتَحَمَّلُ عِبْءَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وتَمْكِينِهَا مِنْ مَقَامِهَا، نَزَلَ الوَحْيُ يُكَلِّفُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بإعْلاَنِ الدَّعْوَةِ جَهْرًا، ومُجَابَهَةِ البَاطِلِ بالحُسْنَى، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَجْهَرُ بالدَّعْوَةِ إلى الإسْلاَمِ في قَوْمِهِ، وفي مَجَامِعِ المُشْرِكِينَ ونَوَادِيهِمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللهِ، ويَقُولُ لَهُمْ مَا قَالَتْهُ الرُّسُلُ السَّابِقَةُ لأقْوَامِهِمْ [ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ]، [ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ]، وبَدَأَ يَعْبُدُ اللهَ أمَامَ أعْيُنِهِمْ، فَكَانَ يُصَلِّي بفِنَاءِ الكَعْبَةِ نَهَارًا جِهَارًا وعَلَى رُءُوسِ الأشْهَادِ، ونَالَتْ دَعْوَتُهُ مَزِيدًا مِنَ القَبُولِ، ودَخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وحَصَلَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِمْ وعَشِيرَتِهِمْ تَبَاغُضٌ وتَبَاعُدٌ وعِنَادٌ، لَيْسَ عَنْ عَصَبِيَّةٍ أو قَبَلِيَّةٍ أو تَشَدُّدٍ، وإنَّمَا هُوَ نُفُورٌ طَبِيعِيٌّ بَيْنَ الرَّذِيلَةِ والفَضِيلَةِ، بَيْنَ الفُسُوقِ والإيِمَانِ - وهُوَ نَفْسُ النُّفُورِ الحَاصِلِ إلى الآنَ مِمَّنْ يَكْرَهُونَ الدَّعْوَةَ للإسْلاَمِ ويُحَارِبُونَهَا، حُبًّا في الانْفِلاَتِ ورَغْبَةً في البَقَاءِ عَلَى العِصْيَاِنِ ونُفُورًا مِنَ الالْتِزَامِ والطَّاعَةِ -، فَاشْمَأزَّتِ القَوْمُ مِنْ كُلّ ذَلِكَ لغَفْلَتِهِمْ، وسَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، وكَانَ مَوْسِمُ الحَجِّ قَدِ اقْتَرَبَ، وجَاءَتِ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ البِلاَدِ، فَعَرفَتْ بأمْرِ هذا النَّبِيِّ الجَدِيدِ، فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ في البِلاَدِ كُلِّهَا، وبَدَأتِ الجُمُوعُ والحُشُودُ مِنَ البِلاَدِ تَأتِي إلَيْهِ لتُبَايِعَهُ وتَدْخُلَ في الإسْلاَمِ، فَاغْتَاظَ المُشْرِكُونَ وتَأجَّجَتْ نِيرَانُ حِقْدِهِمْ.
بَدَأتِ الأسَالِيبُ المُتَنَوِّعَةُ والمُخْتَلِفَةُ تَظْهَرُ لتَقْضِيَ عَلَى هذه الدَّعْوَةِ في مَهْدِهَا، مِثْلُ السُّخْرِيَّةِ والتَّحْقِيرِ، والاسْتِهْزَاءِ والتَّكْذِيبِ، وإثَارَةِ الشُّبُهَاتِ وتَكْثِيفِ الدِّعَايَاتِ الكَاذِبَةِ، والحَيْلُولَةِ بَيْنَ النَّاسِ وبَيْنَ سَمَاعِهِمُ القُرْآنَ، والمُعَارَضَةِ بأسَاطِيرِ الأوَّلِينَ، وتَطَوَّرَ الأمْرُ إلى القِيَامِ بتَعْذِيبِ المُسْلِمِينَ وفِتْنَتِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ – والتَّارِيخُ يُكَرِّرُ نَفْسَهُ بمِثْلِ هذه المَشَاهِدِ إلى اليَوْمِ -، فَأخَذَ كُلُّ رَئِيسٍ يُعَذِّبُ مَنْ دَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِ بالإسْلاَمِ، وانْقَضَّ كُلُّ سَيِّدٍ عَلَى مَنِ اخْتَارَ مِنْ عَبِيدِهِ طَرِيقَ الإيِمَانِ، بَلْ وَصَلَ الأمْرُ إلى إلْحَاقِ الضَّرَرِ برَسُولِ اللهِ نَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَيُؤْذَى في جَسَدِهِ، ويُؤْذَى في عِرْضِهِ وشَرَفِهِ في بَنَاتِهِ وزَوْجَتِهِ، ويُهَدَّدُ عَمُّهُ، ويُؤْذَى أصْحَابُهُ في أنْفُسِهِمْ وأهْلِهِمْ ومَالِهِمْ؛ [ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ]، فَخَشِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى دَعْوَتِهِ مِنَ الانْهِيَارِ، وخَشِيَ عَلَى مَنْ أسْلَمُوا مَعَهُ وآمَنُوا بِهِ مِنْ أنْ يُقْتَلُوا أو يُفْتَنُوا في دِينِهِمْ، فَأمَرَهُمْ بالهِجْرَةِ إلى الحَبَشَةِ حَتَّى يُحَافِظُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَطْشِ الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ، وبِرَغْمِ أنَّ الاعْتِدَاءَاتِ بَدَأتْ ضَعِيفَةً، إلاَّ أنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَشْتَدُّ يَوْمًا فَيَوْمًا وشَهْرًا فَشَهْرًا حَتَّى تَفَاقَمَتْ، فَوَصَلَ الأمْرُ إلى تِكْرَارِ مُحَاوَلاَتِ قَتْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لَكِنَّ اللهَ سَلَّمَهُ وسَبَقَ في تَقْدِيرِهِ أنْ لا يَمَسَّهُ سُوءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ رِسَالَتِهِ ودَعْوَتِهِ، وكَيْفَ لا وهُوَ حَامِلُ هذا الدِّينِ إلى العَالَمِينَ، ولابُدَّ مِنْ إتْمَامِ الرِّسَالَةِ رَغْمَ كَيْدِ الحَاقِدِينَ، واسْتَمَرَّتِ الدَّعْوَةُ، ونَجَحَ الإسْلاَمُ في تَأسِيسِ وَطَنٍ لَهُ وَسَطَ صَحْرَاءَ تَمُوجُ بالكُفْرِ والجَهَالَةِ، وأذِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للمُسْلِمِينَ بالهِجْرَةِ إلى وَطَنٍ جَدِيدٍ بَعْدَمَا أخْرَجَهُ قَوْمُهُ مِنْ وَطَنِهِ وأرْضِهِ، أذِنَ لَهُمْ بالهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ بَعْدَمَا جَاءَ أمْرُ اللهِ لَهُ بالخُرُوجِ كَمَا سَبَقَ وجَاءَهُ الأمْرُ بالجَهْرِ بالدَّعْوَةِ، ليَبْدَأ عَهْدًا جَدِيدًا في الدَّعْوَةِ الإسْلاَمِيَّةِ.
تَمَيَّزَتْ تِلْكَ الفَتْرَةُ بكَثْرَةِ الحُرُوبِ والغَزَوَاتِ، وانْتَشَرَتِ الوِشَايَاتُ والفِتَنُ، وأُثِيرَتْ الشَّائِعَاتُ بأنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَدْعُوا النَّاسَ إلى الإسْلاَمِ عَنْ طَرِيقِ الحَرْبِ والقَهْرِ والغَزْوِ، ولا يَزَالُ بَعْضُ المُكَابِرِينَ المُعَانِدِينَ الحَاقِدِينَ الجُهَّالِ يُرَدِّدُونَ نَفْسَ الشُّبُهَاتِ إلى اليَوْمِ، وحَقِيقَةُ الأمْرِ غَيْرُ ذَلِكَ، فتِلْكَ الفَتْرَةُ مِنَ الدَّعْوَةِ كَانَ لَهَا ثَلاَثُ سِمَاتٍ رَئِيسِيَّةٍ تَعْمَلُ عَلَى تَحْقِيقِهَا، وهي:
1. مَرْحَلَةُ تَأسِيسِ المُجْتَمَعِ الإسْلاَمِيِّ، وتَمْكِينِ الدَّعْوَةِ الإسْلاَمِيَّةِ.
2. مَرْحَلَةُ الصُّلْحِ مَعَ العَدُوِّ الأكْبَرِ، والفَرَاغِ لدَعْوَةِ مُلُوكِ الأرْضِ إلى الإسْلاَمِ، والقَضَاءِ عَلَى أطْرَافِ المُؤَامَرَاتِ.
3. مَرْحَلَةُ اسْتِقْبَالِ الوُفُودِ، ودُخُولِ النَّاسِ في دِينِ اللهِ أفْوَاجًا.
وفي تِلْكَ المَرْحَلَةِ أُثِيرَتِ القَلاَقِلُ والفِتَنُ مِنَ الدَّاخِلِ، وزَحَفَ فِيهَا الأعْدَاءُ مِنَ الخَارِجِ ليَسْتَأصِلُوا شَأفَةَ المُسْلِمِينَ، ويَقْتَلِعُوا الدَّعْوَةَ مِنْ جُذُورِهَا، ولَمْ يَكُنِ الصَّمْتُ هُوَ الحَلُّ لكُلِّ هذه المَشَاكِلِ، فَكَانَ لابُدَّ مِنَ العَمَلِ عَلَى إنْهَاءِ هذه الأزَمَاتِ بسُرْعَةٍ وقُوَّةٍ حَتَّى لا تَتْرُكَ تَأثِيرًا عَلَى الدَّعْوَةِ، فَكَانَ الخِطَابُ اللَّيِّنُ والاتِّفِاقِيَّاتُ والمُصَالَحَاتُ وَسَائِلُ أُوْلَى في الحَلِّ، وحِينَ لا تَنْفَعُ هذه الوَسَائِلُ ولا يَفِيقُ المُشْرِكُونَ مِنْ غَيِّهِمْ ولا يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَمَرُّدِهِمْ يَكُونُ البَدِيلُ هُوَ الحَرْبُ والقِتَالُ بإذْنٍ مِنَ اللهِ، لَيْسَ رَغْبَةً في الغَزْوِ والجَبَرُوتِ، ولا طَمَعًا في مَالٍ أو سُلْطَةٍ، إنَّمَا هُوَ حِفَاظًا عَلَى مَسيرَةِ الدَّعْوَةِ ونَشْرِ دِينِ اللهِ في الأرْضِ، وطَلَبًا في حُرِّيَّةِ عَرْضِ الإسْلاَمِ عَلَى النَّاسِ لا إجْبَارًا عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، وكَانَ أمْرُ الله عَزَّ وجَلَّ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُسْلمِينَ مَعَهُ ومِنْ بَعْدِهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ [ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ]، ليُرْسِيَ الإسْلاَمَ ويُعَلِّمَ النَّاسَ أهَمَّ قَوَاعِدِ الدِّيِمُقْرَاطِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ إنْ صَحَّ التَّشْبِيهُ [ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ 1 لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ 2 وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 3 وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ 4 وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 5 لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ 6 ]، بَلِ الأكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أنَّ اللهَ جَعَلَ التَّائِبَ العَائِدَ إلى دِينِ اللهِ أخًا للمُسْلِمِ [فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]، ليَفْهَمَ الجَمِيعُ أنَّ القِتَالَ مَا كَانَ ولَنْ يَكُونَ إلاَّ لمَنْعِ الطُّغْيَانِ، ولإقْرَارِ السَّلاَمِ وتَحْقِيقِ الأمَانِ الَّذِي يَحْتَاجُهُمَا الإنْسَانُ لفَهْمِ وإقَامَةِ الدِّينِ، وهذا مَا يَفْهَمُهُ جَيِّدًا أعْدَاءُ الإسْلاَمِ، ويُحَاوِلُونَ بكُلِّ الطُّرُقِ شَغْلَ عُقُولِ النَّاسِ باسْتِمْرَارٍ بكُلِّ السُّبُلِ وبمُخْتَلَفِ القَضَايَا كي لا يَكُونَ لَدَيْهِمْ فُرْصَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهَا لكَلِمَةِ حَقٍّ تَنْفَعُهُمْ في دُنْيَاهُمْ وأُخْرَاهُمْ.2. مَرْحَلَةُ الصُّلْحِ مَعَ العَدُوِّ الأكْبَرِ، والفَرَاغِ لدَعْوَةِ مُلُوكِ الأرْضِ إلى الإسْلاَمِ، والقَضَاءِ عَلَى أطْرَافِ المُؤَامَرَاتِ.
3. مَرْحَلَةُ اسْتِقْبَالِ الوُفُودِ، ودُخُولِ النَّاسِ في دِينِ اللهِ أفْوَاجًا.
ولَمَّا تَكَامَلَتِ الدَّعْوَةُ واسْتَقَرَّتْ وسَيْطَرَ الإسْلاَمُ عَلَى المَوْقِفِ، أَخَذَتْ طَلاَئِعُ التَّوْدِيعِ للحَيَاةِ والأحْيَاءِ تَطْلُعُ مِنْ مَشَاعِرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتَتَّضِحُ بعِبَارَاتِهِ وأفْعَالِهِ، ومَا لَبِثَ أنْ هَاجَمَهُ المَرَضُ، وثَقُلَ عَلَيْهِ الوَجَعُ، واشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَلَمُ، إلاَّ أنَّهُ خَرَجَ للنَّاسِ، فَوَعَظَهُمْ وعَهِدَ إلَيْهِمْ وخَتَمَ كَلاَمَهُ قَائِلاً [ .... وإنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنْ اعْتَصَمْتُم بِهِ؛ كِتَابُ الله، وأنْتُم مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَا أنْتُم قَائِلُون؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وأدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ ]، وثَقُلَ المَرَضُ أكْثَرَ وأكْثَرَ حَتَّى أنَّهُ لَمْ يَعُدْ يَقْوَى عَلَى الصَّلاَةِ بالنَّاسِ، ونَزَلَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى [ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ] يَنْعِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ويُؤَكِّدُ انْتِهَاءَ مُهِمَّتِهِ عَلَى أكْمَلِ وَجْهٍ، ومَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مَاتَ في فِرَاشِهِ بَعْد كِفَاحٍ طَوِيلٍ وشَدِيدٍ دَامَ لأكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةٍ لنُصْرَةِ دِينِ اللهِ ورَفْعِ رَايَةِ الإسْلاَمِ عَالِيَةً، مَاتَ بَعْدَ أنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وأدَّى الأمَانَةَ، مَاتَ بَعْدَ أنْ كَشَفَ الغُمَّةَ ونَصَحَ الأُمَّةَ، مَاتَ وتَرَكَ مِنْ خَلْفِهِ أُمَّةً إسْلاَمِيَّةً، شَدِيدَةً قَوِيَّةً، مَصْدَرُ قُوَّتِهَا الإيِمَانُ باللهِ وبرَسُولِهِ وبكِتَابِهِ، إيِمَانٌ لا يَزُولُ أو يُذَلُّ أمَامَ أيِّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَى الظُّلْمِ والعُدْوَانِ، إيِمَانٌ إذا هَبَّتْ رِيحُهُ جَاءَتْ بالعَجَائِبِ في العَقِيدَةِ والعَمَلِ، وبهذا الإيِمَانِ اسْتَطَاعَ المُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يُسَجِّلُوا عَلَى أوْرَاقِ التَّارِيخِ أعْمَالاً ويَتْرُكُوا عَلَيْهَا آثَارًا خَلاَ عَنْ نَظَائِرِهَا المَاضِي والحَاضِرِ، ولَسَوْفَ يَخْلُو المُسْتَقْبَلُ بإذْنِ الله لمَنِ اسْتَقَامَ.
هذا هُوَ رَسُولُ المُسْلِمِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَهَلْ عَرفْتَهُ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا غَيْرَ المُسْلِمِ يَا مَنْ لَمْ تَسْمَعْ عَنْهُ يَوْمًا؟
· هَلْ عَرفْتَه يَا غَيْرَ المُسْلِمِ يَا مَنْ لَمْ تَسْمَعْ عَنْهُ إلاَّ مِنْ إعْلاَمٍ فَاسِدٍ تَخَصَّصَ في تَزْوِيرِ الحَقَائِقِ وقَلْبِهَا وتَلْبِيسِهَا عَلَى النَّاسِ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا غَيْرَ المُسْلِمِ يَا مَنْ عِشْتَ عُمْرَكَ تُكَابِرُ حَتَّى في مُجَرَّدِ مَعْرِفَتِهِ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ يَا مَنْ لا تَعْرِفُ عَنْ دِينِكَ إلاَّ مُجَرَّدَ كَوْنِكَ مِنْ أبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ يَا مَنْ لا تَعْرِفُ في سِيرَتِهِ إلاَّ (طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا) وبِدْعَةَ (المَوْلِدِ)؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ يَا مَنْ تَدَّعِي مَحَبَّتَهُ ولا تَعْرِفُ حَتَّى أسْمَاءَ زَوْجَاتِهِ أُمَّهَاتِكَ ولا عَدَدَهُنَّ ولا أسْبَابَ زَوَاجِهِ بِهِنَّ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ يَا مَنْ شِعَارُكَ (بأبِي وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ) و(إلاَّ رَسُولَ اللهِ) وأنْتَ لاَ تُطَبِّقُ شَيْئًا مِنْ سُنَّتِهِ ولا تَقِفُ عَلَى أوَامِرِهِ ونَوَاهِيهِ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ يَا مَنْ تَتَمَنَّى العَيْشَ في زَمَنِهِ أو يَعِيشَ هُوَ في زَمَنِكَ، وأنْتَ لاَ تَعْرِفُ كَيْفَ عَاشَ ومَاذَا فَعَلَ في زَمَنِهِ مِنْ أجْلِ أنْ يَصِلَ الإسْلاَمُ إلَيْكَ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ يَا مَنْ تقولُ (لَوْ كُنْتُ في زَمَنِهِ لكُنْتُ فَعَلْتُ ونَاصَرْتُ) وأنْتَ تَرْتَعِشُ رُعْبًا إذا طَالَبَكَ أحَدُ النَّاصِحِينَ بالتَّمَسُّكِ بسُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ؟
· هَلْ عَرفْتَهُ يَا أيُّهَا المُسْلِمُ المُتَفَرْنِجُ، المُتَشَبِّهُ بالكُفَّارِ في القَوْلِ والفِعْلِ وحَتَّى الفِكْرَ، يَا مَنْ تَتَتَبَّعُ عَادَاتِهِمْ وبِدَعَهُمْ وتَهْجُرُ سُنَنَهُ وتَسْخَرُ مِنْهَا ومِنْ مُطَبِّقِيهَا، يَا مَنْ لا تَعْرِفُ عَنْ سِيرَتِهِ إلاَّ الأكَاذِيبَ والمَوْضُوعَاتِ والشُّبُهَاتِ؟
إنْ كُنْتَ قَدْ عَرفْتَهُ مِنْ هذه الكَلِمَاتِ القَلاَئِلِ، فَالحَمْدُ للهِ، ومَا تَوْفِيقُنَا إلاَّ باللهِ، لَكِنِ اعْلَمْ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَكْفِيهِ العُمْرُ كُلُّهُ لدِرَاسَةِ سِيرَتِهِ والتَّزَوُّدِ مِنْهَا بالخَيْرَاتِ، وهذه السُّطُورُ أقَلُّ مِنْ أنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً لسِيرَتِهِ العَطِرَةِ، لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدَايَةً طَيِّبَةً، فَانْطَلِقْ وتَعَلَّمْ مَنْ هُوَ رَسُولُ المُسْلِمِينَ لتَعْرِفَ كَيْفَ تَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتي يُبَاهِي بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ مِنَ الَّتي يَقُولُ لَهَا سُحْقًا سُحْقًا بُعْدًا بُعْدًا.
وإنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ عَرفْتَهُ، فَاحْذَرْ مِنْ أنْ يَحِقَّ عَلَيْكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى [ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ]، وحَاوِلْ مَعْرِفَتَهُ ولا تَيْأسْ، فَرُبَّمَا يَكْتُبُ اللهُ لَكَ الخَيْرَ في قَوْلٍ غَيْرِ قَوْلِنَا، وليَكُنْ زَادُكَ في الطَّرِيقِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى [ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 135 أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ 136 ].
انْتَهَى
تعليق