الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع
أولا : بذور الحركة الشيعية فى المغرب
ظروف المشرق السياسية فى القرنين السادس والسابع
فتح القرن السادس الهجرى عينيه على تطورات جديدة فى العراق والشام ومصر،وكان الشيعة على إدراك بهذه التطورات بحكم توزيعهم فى هذه المناطق وغيرها، واستمرار الاتصال بينهم وترقبهم الدائم للاستفادة من كل جديد فى حربهم السرية والعلنية ضد الدولة العباسية. وأبرز التحولات الجديدة فى القرن السادس ما يلى :
أولا: بالنسبة للدولة العباسية : كان يتحكم فيهم بنوبويه الديالمة وهم شيعة أرهقوا الخلفاء العباسيين بالقتل والعزل والسمل ( أى إحراق العيون بالحديدالمحمى) ثم حل السلاجقة محل البويهين الديالمة ، ومع أن السلاجقة كانوا سنيين يدينون ببعض الولاء للخليفة العباسى وهو الزعيم الروحى للسنيين فى العالم الإسلامى ضد الشيعة الفاطميين فى مصر ، إلا أن تحكمهم- أى السلاجقة- فى الخلفاء العباسيين استمر والنزاع بينهم اشتد ، وانتهى الأمربتقلص نفوذ السلاجقة وأن يحكم الخليفة العباسى الناصر منفرداً . إلا أن ضعف الدولةالعباسية استعصى على العلاج وترتب عليه أن انتقلت مراكز التحكم والسيطرة والأضواء إلى الدولة الأيوبية التى قامت على انقاض الدولة الفاطمية.
ثانيا : ولم يكن الفاطميون فى مصربأسعد حالاً ، فالخليفة الفاطمى ضعيف مقهور أمام سطوة الوزراء العظام ، بل إن الدعوة الفاطمية الإسماعيلية تعانى انقساماً داخلياً حين انفصل عنها تيار الباطنية. وينتمى ( الباطنية) إلى الحسن بن الصباح الذى كان يؤيد الخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر، وقد قتل نزار فانفصل الحسن بن الصباح عن الدولة الفاطمية بأتباعه الذين عرفوا بأسماء شتى من الباطنية أو(الاسماعيلية ) نسبة للعقيدة الاسماعيلية أو (النزارية) نسبة للخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر الذى كانوا يؤيدونه أو ( الحشيشة) أو الملاحدة ..إلخ .وقد تملك ابن الصباح قلعة (الموت) وجمع الأنصار واتخذ من الاغتيال السياسى وسيلة للتخلص من خصومه من الحكام والعلماء والقواد ، وافزع الناس فى المنطقة بفدائييه المستميتين فى تنفيذ أوامره بالقتل مهما تكن الظروف ، وظل خطرهم ماثلا حتى قضى عليهم هولاكو سنة 654.
ثالثا: ومع وجود ذلك الضعف فى الصف الشيعي كان الشيعة ينتشرون فى كل صقع ، إما بصورة علنية كالفاطميين فى مصر وفارس وإما فى صورة سرية كالتجمعات الشيعية فى المغرب وأفريقيا .. أو فى طوائف المتصوفة التى تنتحل التصوف وتميل للتجمعات الشيعية وتبتعد عن الخوانق الصوفية الرسمية المتعاونة مع الحكام السنيين.
رابعا: ثم حل بالمنطقة خطر جديد تمثل فى الحروب الصليبية التى كونت ممالك لها فى الرها وانطاكية وبيت المقدس سنة 492 . وتوالت بعدها الحملات الصليبية التى اتخذت لها مساراً جديداً تمثل فى الهجوم على مصر بعد أن اخذت على عاتقها فى الدولة الأيوبية الجهاد ضد الصليبيين . ومع ضعف الحكام السلاجقة فى الدولة العباسية والاضطراب الصليبى والمؤامرات بين صغار الحكام انشغل الحكام الأقوياء بمواجهة الخطر الصليبى كعماد الدين زنكى وإبنه نور الدين زنكى وتلميذه صلاح الدين الأيوبى ، وفى هذه الظروف المتداخلة المتشعبة غرق الشيعة فى الشرق إما بالدفاع عن وجودهم المنهار كما فى مصر الفاطمية أو بتدبير مؤامرات القتل كما فعل الباطنية فى الشرق الفارسى..
وفى هذه الظروف المتدهورة حيث صغار الحكام وظلمهم ومؤامراتهم والمذابح الصليبية انتشر التصوف بين العامة وحظى بمكانة عالية بين الحكام والمحكومين ، إذ وجد فيه الحكام الظلمة المتنافسون وسيلة لتبرير الظلم واستجلاب الدعوات أو حرب الخصوم ، بينما وجد المظلومون فيه وسيلة للهروب من المظالم والحظوة لدى الحاكم والمحكوم ودنيا من الأحلام الوردية التى تعوض عجز الواقع وقسوته بالتحليق فى سماء أحلام اليقظة بالتصريف فى الكون بدعوى الكرامات والمنامات للهروب من واقع بائس لا سبيل للخلاص منه إلا بالخيال والأحلام.
وفى حين انشغل الشيعة فى الشرق بالأحداث الملتهبة وغرقوا فيها فإن شيعة المغرب توفر لهم قدر من الهدوء مكنهم من التفكير فى مخطط جديد واسع يشمل المنطقة بأسرها ليقوض العروش الهزيلة التى تتعاقب على البلاد بشخصية قوية يتبعها الأبناء الضعاف، كالشأن فى الدولة الزنكية التى ورثت الدولة السلجوقية ثم الدولة الأيوبية التى ورثت الدولة الزنكية، فالدولة السلجوقية قامت على أكتاف قادة عظام وما لبث أن وقع أبناؤهم فى الضعف والأختلاف فتمكن عماد الدين زنكى وهو أحد أتباعهم من أن يرث سلطانهم ، وبعد نور الدين زنكى كان الاختلاف بين الورثة من آل زنكى فتمكن التابع صلاح الدين الأيوبى من أن يستأثر دونهم بالدولة فضم إليهأملاك سادته آل زنكى ، وبعد موت صلاح الدين تنازع أبناؤه فورثهم أخوه العادل الأيوبى ثم وقع أبناء العادل فى خلاف وشقاق أضاع ما أكتسبه صلاح الدين من انتصارات على الصليبيين ..وعظمت فائدة الصلبيين بهذا الخلاف الأيوبى فاكثروا من الحملات الصليبية وادخلوا أنفسهم فى تحالف بين الأمراء الأيوبيين.
لم يكن شيعة المغرب بعيدين عما يجرى على الساحة فى مصر والشرق ، بل إن بعدهم المناسب وعدم استغراقهم فى بؤرة الصراع فى الشرق مكنهم من تقييم الموقف بدقة فأدركوا أن المنطقة تحتاج إلى تخطيط جديد يعيد توحيدها فى ظل حكم شيعى يجدد شباب الدولة الفاطمية فى مصر الآخذة فى الذبول ويمنع عنها الموت الآتى لها حتما ويقيم صرح الخلافة الشيعية فى المشرق والعراق ، ولن يكون ذلك إلا بالتستر بالتصوف الآخذ فى الانتشار فى المشرق على الخصوص ،وهم كأسلافهم أدرى بالتصوف واستغلاله،وهكذا ،ولدت الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف فى المغرب واتجهت بنظرها للمشرق ..
(ب)مدرسة المغرب :
وقد كان المغرب ـ ونقصد به غرب مصر إلى ساحل الأطلنطى ـ مسرح النشاط الشيعى ،ففيه بدأت الدولة الفاطمية الشيعية على أساس المذهب الاسماعيلى وانتقلت إلى مصر مؤثرة فى المشرق ، ثم قامت فيه دولة الملثمين المرابطين ثم الموحدين،فقد كان من السهل أن تقوم فيه الدولة وأن تسقط أيضا، فالبربر رجال حرب بطبيعتهم،والحرب إحدى أنشطتهم الضرورية، وإذا كان الموحدون قد أقاموا دولتهم على أنقاض الملثمين فإن الموحدين من جانبهم خشوا من مجاورة الشيعة لهم فى بلادهم ، فبدأ الاضطهاد التقليدى يأخذ مجراه ، ولم تعد أفريقيا أمنا للشيعة فتحركوا عنها إلى مكة حيث الأمن والأمان.وفى هجرة جماعية تحرك الشيعة من أرجاء المغرب وغيرها إلى مكة مستترين بالحج ليبدأ الإعداد للمخطط الجديد مستغلين الظروف الجديدة التى أتى بها القرن السادس وأهمها التصوف المتشيع وانهماك حكام المشرق إما فى الحرب ضد الصليبيين أو ضد بعضهم البعض .وكان منطقيا أن يكون مسرح عملهم فى المشرق الذى أتوا منه قبلا .
يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق فى مجلة السياسة الأسبوعية أن الشيعة عقدوا مؤتمراً فى مكة بحثوا فيه حال الأمصار وكيف تغلب عليها الاغراب من ترك وسلاجقة وأكراد ، وعملوا على قلب تلك العروش وإعادة الدولة الإسلامية علوية قرشية [1].ويقول:( وكان السيد على البدرى والد أحمد البدوى أحد أولئك العلويين الذين نزحوا من المغرب إلى مكة بقضهم وقضيضهم ، وبين افرادها أحمد البدوى ، وهو لم يتجاوز الحادية عشر من عمره، وكان نزوح السيد على البدرى إلى مكة عام 603)[2].
ويقول عبدالصمد فى نفس الموضوع على طريقة الصوفية فى المنامات (لما أذن للشريف على بن إبراهيم أن يسير إلى مكة أهله وأولاده ويخلى دوره وأملاكه بمدينة فاس بزقاق الحجر البلاط ، رأى هاتفا يقول له فى منامه: يا على استيقظ من منامك يا غافل ، وكن بأهلك وأولادك إلى ناحية مكة راحل ، فإن لنا فى ذلك سراً ولترى من آياتنا عجباً . قال الشريف على : فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وأخبرت أهلي وأصحابي ، وذلك فى ليلة الإثنين سنة ثلاث وستمائة ، وأصبحنا فى ذلك اليوم مسافرين ) [3].
ويقول الحلبي أن والد البدوي انتقل إلى مكة سنة 603 ( وفى مكة أكرمهم الأشراف)[4].
وقيل فى نسب أحمد الرفاعى أن أباه هو على بن يحيى المكي المغربي[5].
أى هاجر جده من المغرب إلى مكة فاكتسب لقب المكي المغربي ، ويقول العيدروس أن جد أحمد الرفاعى الأعلى وهو الحسن رفاعة نزيل المغرب هاجر من مكة إلى المغرب سنة 317 وبقيت ذريته بالمغرب إلى عهد يحيى جد أحمد الرفاعى الذى عاد إلى مكة،ومنها إلى العراق حيث سكن إبنه على (والد أحمد الرفاعى) أم عبيدة وأصهر إلى بنت يحيى البخاري فأولدها أحمد الرفاعي .
فاعمدة الحركة الشيعية الصوفية ينتمون لأصل مغربى هاجر إلى مكة حيث لا حرج فى التلاقى فى موسم الحج ثم توطن العراق وانطلق منها إلى بقية الأمصار وبخاصة مصر بعد سقوط الدولة الفاطمية فيها .
وواضح أن المغرب ليس هدفا فى حد ذاته يسعى الشيعة لإقامة الحكم الشيعي فيه،فأساطين الدعوة السرية فى اضطهاد ،وأعين السلاطين الموحدين مسلطة عليهم، وهم يعلمون طريقة الشيعة فى التستر بالتصوف والزهد ، وقد تعلموا أنفسهم هذه الطريقة فى إقامة الدولة الموحدة .
ولكن لا يعنى هذا أن يطرح المغرب جملة وتفصيلا من التخطيط الشيعى ، فلهم فى المغرب عصبية لا تزال قائمة وأتباع لا يزالون منتشرين ، إن عرف السلطان بعضهم فلن يعرف البعض الآخر .
وهكذا تمخص التخطيط الشيعى الصوفى على التركيز على المشرق ، فرحل إليه اساطين الدعوة بدعوى الحج ، وعقدوا مؤتمرهم السابق فى مكة الذى وضعوا فيه الخطط. وفى هذا الوقت تركز دور مدرسة المغرب ـ بعد رحيل الأعيان والكبار ـ في المساندة والتعضيد ، وكونه عمقا للدعوة وقد تزعم هذا الدور في المغرب أبو مدين الغوث ومدرسته.
(جـ)مدرسة أبي مدين المغربية:
وأبو مدين وثيق الصلة بعبد القادر الجيلاني أحد أساطين الدعوة الشيعية الصوفية في العراق ، ثم طوف بين(مكة)عصب التحرك الشيعي و(بجاية) و(فاس) في المغرب وتتلمذ على أبى يعزي أحد كبار الصوفية المتشيعين في فاس ، وقد وصف الشعراني أبا يعزي بأنه ( انتهت إليه تربية الصادقين بالمغرب وتخرج بصحبته جماعة من أكابر مشايخها وأعلام زهادها)[6].
وبعد أن تم إعداد أبي مدين بين المغرب ومكة عاد إلي ( بجاية ) فاتخذ منها مركزاً بعيداً عن أنظار السلطات الحاكمة، إلا أن العيون لاحقته وتعرض لكثير من الاضطهاد الذي هو سمة الدعاة المتخفين بالتصوف.
وتحاول الروايات الصوفية أن تطلق الدخان للتعمية عن الاسباب الحقيقية للاضطهاد المزمن الذي عانى منه أبومدين طيلة حياته في المغرب ،من ذلك مايرويه تلميذه ابن عربي القائل (ذهبت أنا وبعض الأبدال إلى جبل قاف فمررنا بالحيّة المحدقة به، فقال لي البدل :سلم عليها فإنها سترد عليك السلام ، فسلمنا عليها فردت ثم قالت: من أي البلاد ؟ فقلنا : من بجاية . فقالت : ما حال إبي مدين مع أهلها ؟ فقلنا لها: يرمونه بالزندقة، فقالت: عجبا والله لبني آدم ..)[7]فابن عربي نسج هذه الأسطورة عن أحد الأبدال الصوفية وجبل قاف والحية المحيطة بجبل قاف ، ودفاع الحية عن أبي مدين ، وكل ذلك ليوحي بالأسلوب الصوفي إلى الظلم الذي يتعرض له أبو مدين ، ويحصر القضية في اتهامه بالكفر وأنه مظلوم وأن أهل بجاية لا يقدرون أبا مدين حق قدره. وإذا استغرق القارىء في عصر ابن عربي في هذه الأسطورة انمحى من ذهنه أى خاطر عن دعوة أبى مدين السياسية أو أنها السبب الحقيقى فى اضطهاده، فالقارىء فى هذا العصر يتقبل بكل سهولة أى حديث عن جبل قاف والأبدال والحية المحيطة بقاف، يأخذ هذه الخرافات مأخذ التسليم والاعتقاد، وحينئذ فلن يتساءل لماذا يضطهد أبو مدين وحده مع أن كل الصوفية يحظون بالاحترام؟
وفى القرن العاشر بعد أبي مدين بأربعة قرون حاول الشعرانى فى (الطبقات الكبرى ) أن يتجاهل السبب الحقيقى فى اضطهاد أبي مدين فأخفق ، فالشعرانى يقول فى مقدمة كتابه ( وأخرجوا أبا مدين من بجاية كما سيأتى فى ترجمته) [8]وحين نأتى إلى ترجمة أبى مدين نجد الشعرانى يحاول أن يرسم صورة وردية لاعتقال السلطات لأبى مدين فيذكر رواية ابن عربى السابقة ثم يقول ( وكان سبب دخوله تلمسان أن أمير المؤمنين ( أى سلطان الموحدين ) لما بلغه خبره أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به فلما وصل إلى تلمسان قال : وما لنا وللسلطان ، الليلة نزور الاخوان ، ثم نزل واستقبل القبلة وتشهد وقال : وعجلت إليك ربى لترضى ، وفاضت روحه) [9]فهنا تناقض وقع فيه الشعرانى بين ذكره للاضطهاد الذى وقع على أبى مدين واعتقاله الأخير الذى مات فيه ، مع أن العبارات التى ذكرها الشعرانى نفسه تنبىء بالاضطهاد رغم أنف الشعرانى نفسه .. فهو يقول أن السلطان لما بلغه خبر أبى مدين ( أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به) مع أن العادة أن السلطان هو الذى يسعى للصوفي ليتبرك به لا أن يأمر باحضاره من مسافة بعيدة، ثم يروى الشعرانى أن أبا مدين لم يكن راغباً فى السفر للسلطان معرضاً عن هذه المهمة .. مع أن الشأن فى الصوفى أن يسعد بالصلة بالحكام ، ثم يختم الأسطورة بأن أبا مدين مات أو فضل الموت على لقاء السلطان ونطق بآية يفضل تلاوتها الثوار على الحكام حين الموت والاستقتال : آية ( وعجلت إليك ربى لترضى).
وبعد موت أبى مدين سنة 580 لم ينقطع الاضطهاد عن خليفته ابن بشيس فدفع ابن بشيس حياته ثمناً لتفانيه فى الدعوة ، فقد قتله ابن أبى الطواجن [10]،ومع خطورة هذا الحدث فإن المصادر الصوفية تسكت عن الخوض فيه ، مع أن ابن بشيس هو شيخ الشاذلى وهو الذى أمر الشاذلى بالتوجه للاسكندرية لملء الفراغ فيها بعد موت أبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الأسكندرية كما سيأتى ..
ومع كثرة القلاقل والمحن التى تعرضت لها مدرسة أبي مدين فلم ينقطع دورها فى الاسهام فى تعضيد الحركة السرية فى المشرق .. فأبو مدين كان يؤازر الرفاعى ، وابن بشيس يعضد مدرسة الرفاعى ومبعوثيه فى مصر ..ثم أمر الشاذلى بالهجرة إلى الاسكندرية ليكون فى خدمة البدوى الذى سيحتل مكانه فيما بعد فى طنطا ، وسنعرض لذلك فى أوانه ، إلا أن الدور الهام الذى قامت به مدرسة المغرب تمثل فى الدعاية لفكرة ( المهدى المنتظر) لتهيئة الأذهان وخلق جو عام يساعد على إنجاح المخطط الشيعى دون أن يضرّ به أو يكشفه ، وهذا ما قام به ابن عربى تلميذ ابي مدين ..
(هـ) مدرسة ابن عربى والدعاية للمهدى المنتظر:
نشأ ابن عربى فى الأندلس ثم تتلمذ لأبى مدين فى بجاية وقد عدد كثيراً من آرائه ومناقبه فى ( الفتوحات المكية) [11]أكبر ما خلفه ابن عربي من كتب ، وبعد موت أبى مدين ذهب ابن عربي إلى (فاس) المركز الشيعي وتردد عليها حتى أن السلطان الموحدي يعقوب شك فيه وضاق به فتركها خشية أن يلحق به ما لحق بشيخه أبى مدين . ثم طوّف ابن عربى بمراكز الدعوة الصوفية الشيعية فزار تونس حيث ابن بشيس ثم عرج إلى مكة بؤرة التحرك الشيعي الصوفي سنة598 فظل فيها عامين، وكان منتظراً منه بعدها أن يذهب للعراق حيث المدرسة الرفاعية ، ثم أنتقل بعدئذ إلى مصر ، فزار الاسكندرية وفيها مدرسة أبى الفتح الواسطى المبعوث من لدن الرفاعى..
ونشاط ابن عربى جعل الشكوك تحيط به حيث الدولة الأيوبية تتخوف من الشيعة المستترين بالتصوف، فيذكر أنهم سعوا به إلى السلطان العادل الأيوبى ، وقد سجل ابن عربى الكثير من نشاطه السابق فى كتابه الضخم ( الفتوحات المكية) [12].
وأثناء تجوال ابن عربي كوّن مدرسة فلسفية تخلط التشيع بالتصوف وبهما تبث دعوتها للمهدى المنتظر الذى يخلص الناس من ظلم الحكام وضعفهم وتنازعهم وتقاعسهم وصغارهم أمام الغزو الصليبى المستمر. واحاط ابن عربي آراءه تلك بالرمز الصوفي والتأويل الشيعي وحشا بذلك كتبه
( عنقاء مغرب) و( شجرة الكون) ومواضع كثيرة فى ( الفتوحات المكية) ..
وفى حياة ابن عربى وبعد مماته استمرت مدرسته تردد آراءه الشيعية ، وابرز أتباعه ابن سبعين وعفيف الدين التلمساني والقونوي وغيرهم ،وبهم وباتباعهم استمرت الدعاية الصوفية الشيعية تتردد حول الفاطمي المهدي المنتظر حتى بعد فشل الدعوة السياسية وتحولها إلى تصوف بحت ، إلى درجة أن ابن خلدون فى القرن الثامن عقد فصلاً فى المقدمة بعنوان (فى أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس فى شأنه ) وقد قرر فى هذا الفصل بأن المتصوفة المتأخرين كابن عربي وابن سبعين وغيرهما تأثروا بمذهب الشيعة فى الحلول والاتحاد وتأليه الأئمة والأولياء والقطب والأوتاد والإمام والنقباء ،ويقول (وامتلأت كتب الاسماعيلية من الرافضة ـ أى الشيعة ـوكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك فى الفاطمي المنتظر، وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم عن بعض ،وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين فى شأن الفاطمى المنتظر ابن العربى الحاتمى فى كتاب عنقاء مغرب وعبد الحق ابن سبعين)[13]أى أن ابن عربى مزج عقائد الفاطميين الاسماعيلية الشيعية بصبغة صوفية وكل ذلك للدعاية للفاطمي المنتظر، وهى الفكرة السياسية التى يدعو إليها ،وأن (بعضهم يمليه عن بعض ويلقنه بعضهم عن بعض).أى كانت لهم اجتماعات ولقاءات لبث الأفكار ونشر الدعاية،وأن هذا النشاط استمر بعد ابن عربى نفسه بأكثر من قرن حتى استحق أن ينهض ابن خلدون للرد عليه. وابن خلدون فقيه مغربى ينتمى لنفس الموطن الذى جاء منه ابن عربى والعفيف التلمسانى وابومدين ، ولابن خلدون تاريخ طويل فى الشئون السياسية لإمارات الموحدين فى المغرب والأندلس ، وله العلم الكافى بالنشاط الشيعى هناك وبآثاره وجذوره ، وقد غلب ذلك على انتباهه فعمد للهجوم على ابن عربى والمدرسة المغربية واتهمهم بالحلول والاتحاد بل عمم الحكم فاتهم به كل المتصوفة المتأخرين وجعلهم من الشيعة المغالين ولم يستثن منهم أحداً، مع أن الحلاج سبق فى القرن الثالث بمقالة الحلول والاتحاد وكانت له آثاره الشيعية ، ولكن ابن خلدون المغربى الأصل والذى يعمل فى خدمة السلطة المملوكية فى مصر استغرق فى مواجهة الدعاية الشيعية التى استمرت طالما استمرت كتب ابن عربى بعد موته، وفى هذا الدليل على عمق التأثر بالدعاية السياسية التى قامت بها مدرسة أبى مدين ومدرسة أبن عربي وتلامذتهما.
وقبل أن نترك مدرسة المغرب ونتوجه للعراق نقرر أن الاتصال قائم ونشط بين دعاة المغرب والعراق إلى درجة أن القيادة موحدة، والاتصال بينهما (أى المدرستين) على قدم وساق ، ومكة هى مكان اللقاء السنوي فى موعد الحج ، علاوة على ما يتيحه التصوف من حرية الحركة بدعوى الرحلة أو السياحة الصوفية أو أخذ العهد ، لذا لا نعجب إذا رأينا داعية كبيراً كابن بشيس زعيم المدرسة المغربية بعد أبى مدين يأخذ العهد على الشيخ بري العراقي
[14] فى مدرسة أحمد الرفاعي ، ولا نعجب إذا رأينا ابن عربي فى قمة شهرته العلمية يذهب للعراق ليأخذ العهد على داعية مجهول فى المدرسة العراقية هو ابن سيدبونه الخزاعى تلميذ أحمد الرفاعى[15].
فبالتظاهر بالسياحة والرحلة وأخذ العهد كان اللقاء يتم بين أساطين الدعوة فى العراق والمغرب ، وفى اللقاء يتم التخطيط وتبحث الظروف الجديدة فى أوانها ويبتكر الشيعة كل جديد من فنون التستر والرمز واستمالة الاتباع وتكوين الخلايا، وتتوزع الأدوار وينتقل الاتباع من مكان إلى مكان وفق الخطط الموضوعة.
لقد كان أساطين الدعوة فى المغرب يذهبون للعراق فى نشاطهم المؤيد لمدرسة الرفاعى ، فإلى مدرسة الرفاعى نتجه ونتعرف.
يتبع............
[1]مجلة السياسة : 10 عدد 89
[2]مجلة السياسة : 10 عدد 89
[3]الجواهر السنية :16
[4]النصيحة العلوية : مخطوط ورقة 17
[5]العيدورس : النجم فى مناقب القطب الرفاعى :75 ، طبقات الرفاعية لأبى الهدى الصيادى 4.
[6]الطبقات الكبرى للشعراني 1/14، 133.
[7]الطبقات الكبرى للشعراني 1/14، 133.
[8]الطبقات الكبرى 114، 133
[9]الطبقات الكبرى 114، 133
[10]) الطبقات الكبرى 26 تعطير الانفاس مخطوط 234
[11] الفتوحات المكية : 1288، 318 ، 330، 838
[12]1225، 838 ، 2/ 20 ، 242 – 4/ 701
[13]المقدمة 322 ، 323
[14]الطبقات الرفاعية 27.
[15]الطبقات الرفاعية 27.
تعليق