إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع


    الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

    أولا : بذور الحركة الشيعية فى المغرب
    ظروف المشرق السياسية فى القرنين السادس والسابع


    فتح القرن السادس الهجرى عينيه على تطورات جديدة فى العراق والشام ومصر،وكان الشيعة على إدراك بهذه التطورات بحكم توزيعهم فى هذه المناطق وغيرها، واستمرار الاتصال بينهم وترقبهم الدائم للاستفادة من كل جديد فى حربهم السرية والعلنية ضد الدولة العباسية. وأبرز التحولات الجديدة فى القرن السادس ما يلى :
    أولا: بالنسبة للدولة العباسية : كان يتحكم فيهم بنوبويه الديالمة وهم شيعة أرهقوا الخلفاء العباسيين بالقتل والعزل والسمل ( أى إحراق العيون بالحديدالمحمى) ثم حل السلاجقة محل البويهين الديالمة ، ومع أن السلاجقة كانوا سنيين يدينون ببعض الولاء للخليفة العباسى وهو الزعيم الروحى للسنيين فى العالم الإسلامى ضد الشيعة الفاطميين فى مصر ، إلا أن تحكمهم- أى السلاجقة- فى الخلفاء العباسيين استمر والنزاع بينهم اشتد ، وانتهى الأمربتقلص نفوذ السلاجقة وأن يحكم الخليفة العباسى الناصر منفرداً . إلا أن ضعف الدولةالعباسية استعصى على العلاج وترتب عليه أن انتقلت مراكز التحكم والسيطرة والأضواء إلى الدولة الأيوبية التى قامت على انقاض الدولة الفاطمية.
    ثانيا : ولم يكن الفاطميون فى مصربأسعد حالاً ، فالخليفة الفاطمى ضعيف مقهور أمام سطوة الوزراء العظام ، بل إن الدعوة الفاطمية الإسماعيلية تعانى انقساماً داخلياً حين انفصل عنها تيار الباطنية. وينتمى ( الباطنية) إلى الحسن بن الصباح الذى كان يؤيد الخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر، وقد قتل نزار فانفصل الحسن بن الصباح عن الدولة الفاطمية بأتباعه الذين عرفوا بأسماء شتى من الباطنية أو(الاسماعيلية ) نسبة للعقيدة الاسماعيلية أو (النزارية) نسبة للخليفة الفاطمى نزار بن المستنصر الذى كانوا يؤيدونه أو ( الحشيشة) أو الملاحدة ..إلخ .وقد تملك ابن الصباح قلعة (الموت) وجمع الأنصار واتخذ من الاغتيال السياسى وسيلة للتخلص من خصومه من الحكام والعلماء والقواد ، وافزع الناس فى المنطقة بفدائييه المستميتين فى تنفيذ أوامره بالقتل مهما تكن الظروف ، وظل خطرهم ماثلا حتى قضى عليهم هولاكو سنة 654.
    ثالثا: ومع وجود ذلك الضعف فى الصف الشيعي كان الشيعة ينتشرون فى كل صقع ، إما بصورة علنية كالفاطميين فى مصر وفارس وإما فى صورة سرية كالتجمعات الشيعية فى المغرب وأفريقيا .. أو فى طوائف المتصوفة التى تنتحل التصوف وتميل للتجمعات الشيعية وتبتعد عن الخوانق الصوفية الرسمية المتعاونة مع الحكام السنيين.
    رابعا: ثم حل بالمنطقة خطر جديد تمثل فى الحروب الصليبية التى كونت ممالك لها فى الرها وانطاكية وبيت المقدس سنة 492 . وتوالت بعدها الحملات الصليبية التى اتخذت لها مساراً جديداً تمثل فى الهجوم على مصر بعد أن اخذت على عاتقها فى الدولة الأيوبية الجهاد ضد الصليبيين . ومع ضعف الحكام السلاجقة فى الدولة العباسية والاضطراب الصليبى والمؤامرات بين صغار الحكام انشغل الحكام الأقوياء بمواجهة الخطر الصليبى كعماد الدين زنكى وإبنه نور الدين زنكى وتلميذه صلاح الدين الأيوبى ، وفى هذه الظروف المتداخلة المتشعبة غرق الشيعة فى الشرق إما بالدفاع عن وجودهم المنهار كما فى مصر الفاطمية أو بتدبير مؤامرات القتل كما فعل الباطنية فى الشرق الفارسى..
    وفى هذه الظروف المتدهورة حيث صغار الحكام وظلمهم ومؤامراتهم والمذابح الصليبية انتشر التصوف بين العامة وحظى بمكانة عالية بين الحكام والمحكومين ، إذ وجد فيه الحكام الظلمة المتنافسون وسيلة لتبرير الظلم واستجلاب الدعوات أو حرب الخصوم ، بينما وجد المظلومون فيه وسيلة للهروب من المظالم والحظوة لدى الحاكم والمحكوم ودنيا من الأحلام الوردية التى تعوض عجز الواقع وقسوته بالتحليق فى سماء أحلام اليقظة بالتصريف فى الكون بدعوى الكرامات والمنامات للهروب من واقع بائس لا سبيل للخلاص منه إلا بالخيال والأحلام.
    وفى حين انشغل الشيعة فى الشرق بالأحداث الملتهبة وغرقوا فيها فإن شيعة المغرب توفر لهم قدر من الهدوء مكنهم من التفكير فى مخطط جديد واسع يشمل المنطقة بأسرها ليقوض العروش الهزيلة التى تتعاقب على البلاد بشخصية قوية يتبعها الأبناء الضعاف، كالشأن فى الدولة الزنكية التى ورثت الدولة السلجوقية ثم الدولة الأيوبية التى ورثت الدولة الزنكية، فالدولة السلجوقية قامت على أكتاف قادة عظام وما لبث أن وقع أبناؤهم فى الضعف والأختلاف فتمكن عماد الدين زنكى وهو أحد أتباعهم من أن يرث سلطانهم ، وبعد نور الدين زنكى كان الاختلاف بين الورثة من آل زنكى فتمكن التابع صلاح الدين الأيوبى من أن يستأثر دونهم بالدولة فضم إليهأملاك سادته آل زنكى ، وبعد موت صلاح الدين تنازع أبناؤه فورثهم أخوه العادل الأيوبى ثم وقع أبناء العادل فى خلاف وشقاق أضاع ما أكتسبه صلاح الدين من انتصارات على الصليبيين ..وعظمت فائدة الصلبيين بهذا الخلاف الأيوبى فاكثروا من الحملات الصليبية وادخلوا أنفسهم فى تحالف بين الأمراء الأيوبيين.
    لم يكن شيعة المغرب بعيدين عما يجرى على الساحة فى مصر والشرق ، بل إن بعدهم المناسب وعدم استغراقهم فى بؤرة الصراع فى الشرق مكنهم من تقييم الموقف بدقة فأدركوا أن المنطقة تحتاج إلى تخطيط جديد يعيد توحيدها فى ظل حكم شيعى يجدد شباب الدولة الفاطمية فى مصر الآخذة فى الذبول ويمنع عنها الموت الآتى لها حتما ويقيم صرح الخلافة الشيعية فى المشرق والعراق ، ولن يكون ذلك إلا بالتستر بالتصوف الآخذ فى الانتشار فى المشرق على الخصوص ،وهم كأسلافهم أدرى بالتصوف واستغلاله،وهكذا ،ولدت الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف فى المغرب واتجهت بنظرها للمشرق ..
    (ب)مدرسة المغرب :
    وقد كان المغرب ـ ونقصد به غرب مصر إلى ساحل الأطلنطى ـ مسرح النشاط الشيعى ،ففيه بدأت الدولة الفاطمية الشيعية على أساس المذهب الاسماعيلى وانتقلت إلى مصر مؤثرة فى المشرق ، ثم قامت فيه دولة الملثمين المرابطين ثم الموحدين،فقد كان من السهل أن تقوم فيه الدولة وأن تسقط أيضا، فالبربر رجال حرب بطبيعتهم،والحرب إحدى أنشطتهم الضرورية، وإذا كان الموحدون قد أقاموا دولتهم على أنقاض الملثمين فإن الموحدين من جانبهم خشوا من مجاورة الشيعة لهم فى بلادهم ، فبدأ الاضطهاد التقليدى يأخذ مجراه ، ولم تعد أفريقيا أمنا للشيعة فتحركوا عنها إلى مكة حيث الأمن والأمان.وفى هجرة جماعية تحرك الشيعة من أرجاء المغرب وغيرها إلى مكة مستترين بالحج ليبدأ الإعداد للمخطط الجديد مستغلين الظروف الجديدة التى أتى بها القرن السادس وأهمها التصوف المتشيع وانهماك حكام المشرق إما فى الحرب ضد الصليبيين أو ضد بعضهم البعض .وكان منطقيا أن يكون مسرح عملهم فى المشرق الذى أتوا منه قبلا .
    يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق فى مجلة السياسة الأسبوعية أن الشيعة عقدوا مؤتمراً فى مكة بحثوا فيه حال الأمصار وكيف تغلب عليها الاغراب من ترك وسلاجقة وأكراد ، وعملوا على قلب تلك العروش وإعادة الدولة الإسلامية علوية قرشية [1].ويقول:( وكان السيد على البدرى والد أحمد البدوى أحد أولئك العلويين الذين نزحوا من المغرب إلى مكة بقضهم وقضيضهم ، وبين افرادها أحمد البدوى ، وهو لم يتجاوز الحادية عشر من عمره، وكان نزوح السيد على البدرى إلى مكة عام 603)[2].
    ويقول عبدالصمد فى نفس الموضوع على طريقة الصوفية فى المنامات (لما أذن للشريف على بن إبراهيم أن يسير إلى مكة أهله وأولاده ويخلى دوره وأملاكه بمدينة فاس بزقاق الحجر البلاط ، رأى هاتفا يقول له فى منامه: يا على استيقظ من منامك يا غافل ، وكن بأهلك وأولادك إلى ناحية مكة راحل ، فإن لنا فى ذلك سراً ولترى من آياتنا عجباً . قال الشريف على : فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وأخبرت أهلي وأصحابي ، وذلك فى ليلة الإثنين سنة ثلاث وستمائة ، وأصبحنا فى ذلك اليوم مسافرين ) [3].
    ويقول الحلبي أن والد البدوي انتقل إلى مكة سنة 603 ( وفى مكة أكرمهم الأشراف)[4].
    وقيل فى نسب أحمد الرفاعى أن أباه هو على بن يحيى المكي المغربي[5].
    أى هاجر جده من المغرب إلى مكة فاكتسب لقب المكي المغربي ، ويقول العيدروس أن جد أحمد الرفاعى الأعلى وهو الحسن رفاعة نزيل المغرب هاجر من مكة إلى المغرب سنة 317 وبقيت ذريته بالمغرب إلى عهد يحيى جد أحمد الرفاعى الذى عاد إلى مكة،ومنها إلى العراق حيث سكن إبنه على (والد أحمد الرفاعى) أم عبيدة وأصهر إلى بنت يحيى البخاري فأولدها أحمد الرفاعي .
    فاعمدة الحركة الشيعية الصوفية ينتمون لأصل مغربى هاجر إلى مكة حيث لا حرج فى التلاقى فى موسم الحج ثم توطن العراق وانطلق منها إلى بقية الأمصار وبخاصة مصر بعد سقوط الدولة الفاطمية فيها .
    وواضح أن المغرب ليس هدفا فى حد ذاته يسعى الشيعة لإقامة الحكم الشيعي فيه،فأساطين الدعوة السرية فى اضطهاد ،وأعين السلاطين الموحدين مسلطة عليهم، وهم يعلمون طريقة الشيعة فى التستر بالتصوف والزهد ، وقد تعلموا أنفسهم هذه الطريقة فى إقامة الدولة الموحدة .
    ولكن لا يعنى هذا أن يطرح المغرب جملة وتفصيلا من التخطيط الشيعى ، فلهم فى المغرب عصبية لا تزال قائمة وأتباع لا يزالون منتشرين ، إن عرف السلطان بعضهم فلن يعرف البعض الآخر .
    وهكذا تمخص التخطيط الشيعى الصوفى على التركيز على المشرق ، فرحل إليه اساطين الدعوة بدعوى الحج ، وعقدوا مؤتمرهم السابق فى مكة الذى وضعوا فيه الخطط. وفى هذا الوقت تركز دور مدرسة المغرب ـ بعد رحيل الأعيان والكبار ـ في المساندة والتعضيد ، وكونه عمقا للدعوة وقد تزعم هذا الدور في المغرب أبو مدين الغوث ومدرسته.
    (جـ)مدرسة أبي مدين المغربية:
    وأبو مدين وثيق الصلة بعبد القادر الجيلاني أحد أساطين الدعوة الشيعية الصوفية في العراق ، ثم طوف بين(مكة)عصب التحرك الشيعي و(بجاية) و(فاس) في المغرب وتتلمذ على أبى يعزي أحد كبار الصوفية المتشيعين في فاس ، وقد وصف الشعراني أبا يعزي بأنه ( انتهت إليه تربية الصادقين بالمغرب وتخرج بصحبته جماعة من أكابر مشايخها وأعلام زهادها)[6].
    وبعد أن تم إعداد أبي مدين بين المغرب ومكة عاد إلي ( بجاية ) فاتخذ منها مركزاً بعيداً عن أنظار السلطات الحاكمة، إلا أن العيون لاحقته وتعرض لكثير من الاضطهاد الذي هو سمة الدعاة المتخفين بالتصوف.
    وتحاول الروايات الصوفية أن تطلق الدخان للتعمية عن الاسباب الحقيقية للاضطهاد المزمن الذي عانى منه أبومدين طيلة حياته في المغرب ،من ذلك مايرويه تلميذه ابن عربي القائل (ذهبت أنا وبعض الأبدال إلى جبل قاف فمررنا بالحيّة المحدقة به، فقال لي البدل :سلم عليها فإنها سترد عليك السلام ، فسلمنا عليها فردت ثم قالت: من أي البلاد ؟ فقلنا : من بجاية . فقالت : ما حال إبي مدين مع أهلها ؟ فقلنا لها: يرمونه بالزندقة، فقالت: عجبا والله لبني آدم ..)[7]فابن عربي نسج هذه الأسطورة عن أحد الأبدال الصوفية وجبل قاف والحية المحيطة بجبل قاف ، ودفاع الحية عن أبي مدين ، وكل ذلك ليوحي بالأسلوب الصوفي إلى الظلم الذي يتعرض له أبو مدين ، ويحصر القضية في اتهامه بالكفر وأنه مظلوم وأن أهل بجاية لا يقدرون أبا مدين حق قدره. وإذا استغرق القارىء في عصر ابن عربي في هذه الأسطورة انمحى من ذهنه أى خاطر عن دعوة أبى مدين السياسية أو أنها السبب الحقيقى فى اضطهاده، فالقارىء فى هذا العصر يتقبل بكل سهولة أى حديث عن جبل قاف والأبدال والحية المحيطة بقاف، يأخذ هذه الخرافات مأخذ التسليم والاعتقاد، وحينئذ فلن يتساءل لماذا يضطهد أبو مدين وحده مع أن كل الصوفية يحظون بالاحترام؟
    وفى القرن العاشر بعد أبي مدين بأربعة قرون حاول الشعرانى فى (الطبقات الكبرى ) أن يتجاهل السبب الحقيقى فى اضطهاد أبي مدين فأخفق ، فالشعرانى يقول فى مقدمة كتابه ( وأخرجوا أبا مدين من بجاية كما سيأتى فى ترجمته) [8]وحين نأتى إلى ترجمة أبى مدين نجد الشعرانى يحاول أن يرسم صورة وردية لاعتقال السلطات لأبى مدين فيذكر رواية ابن عربى السابقة ثم يقول ( وكان سبب دخوله تلمسان أن أمير المؤمنين ( أى سلطان الموحدين ) لما بلغه خبره أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به فلما وصل إلى تلمسان قال : وما لنا وللسلطان ، الليلة نزور الاخوان ، ثم نزل واستقبل القبلة وتشهد وقال : وعجلت إليك ربى لترضى ، وفاضت روحه) [9]فهنا تناقض وقع فيه الشعرانى بين ذكره للاضطهاد الذى وقع على أبى مدين واعتقاله الأخير الذى مات فيه ، مع أن العبارات التى ذكرها الشعرانى نفسه تنبىء بالاضطهاد رغم أنف الشعرانى نفسه .. فهو يقول أن السلطان لما بلغه خبر أبى مدين ( أمر باحضاره من بجاية ليتبرك به) مع أن العادة أن السلطان هو الذى يسعى للصوفي ليتبرك به لا أن يأمر باحضاره من مسافة بعيدة، ثم يروى الشعرانى أن أبا مدين لم يكن راغباً فى السفر للسلطان معرضاً عن هذه المهمة .. مع أن الشأن فى الصوفى أن يسعد بالصلة بالحكام ، ثم يختم الأسطورة بأن أبا مدين مات أو فضل الموت على لقاء السلطان ونطق بآية يفضل تلاوتها الثوار على الحكام حين الموت والاستقتال : آية ( وعجلت إليك ربى لترضى).
    وبعد موت أبى مدين سنة 580 لم ينقطع الاضطهاد عن خليفته ابن بشيس فدفع ابن بشيس حياته ثمناً لتفانيه فى الدعوة ، فقد قتله ابن أبى الطواجن [10]،ومع خطورة هذا الحدث فإن المصادر الصوفية تسكت عن الخوض فيه ، مع أن ابن بشيس هو شيخ الشاذلى وهو الذى أمر الشاذلى بالتوجه للاسكندرية لملء الفراغ فيها بعد موت أبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الأسكندرية كما سيأتى ..
    ومع كثرة القلاقل والمحن التى تعرضت لها مدرسة أبي مدين فلم ينقطع دورها فى الاسهام فى تعضيد الحركة السرية فى المشرق .. فأبو مدين كان يؤازر الرفاعى ، وابن بشيس يعضد مدرسة الرفاعى ومبعوثيه فى مصر ..ثم أمر الشاذلى بالهجرة إلى الاسكندرية ليكون فى خدمة البدوى الذى سيحتل مكانه فيما بعد فى طنطا ، وسنعرض لذلك فى أوانه ، إلا أن الدور الهام الذى قامت به مدرسة المغرب تمثل فى الدعاية لفكرة ( المهدى المنتظر) لتهيئة الأذهان وخلق جو عام يساعد على إنجاح المخطط الشيعى دون أن يضرّ به أو يكشفه ، وهذا ما قام به ابن عربى تلميذ ابي مدين ..
    (هـ) مدرسة ابن عربى والدعاية للمهدى المنتظر:
    نشأ ابن عربى فى الأندلس ثم تتلمذ لأبى مدين فى بجاية وقد عدد كثيراً من آرائه ومناقبه فى ( الفتوحات المكية) [11]أكبر ما خلفه ابن عربي من كتب ، وبعد موت أبى مدين ذهب ابن عربي إلى (فاس) المركز الشيعي وتردد عليها حتى أن السلطان الموحدي يعقوب شك فيه وضاق به فتركها خشية أن يلحق به ما لحق بشيخه أبى مدين . ثم طوّف ابن عربى بمراكز الدعوة الصوفية الشيعية فزار تونس حيث ابن بشيس ثم عرج إلى مكة بؤرة التحرك الشيعي الصوفي سنة598 فظل فيها عامين، وكان منتظراً منه بعدها أن يذهب للعراق حيث المدرسة الرفاعية ، ثم أنتقل بعدئذ إلى مصر ، فزار الاسكندرية وفيها مدرسة أبى الفتح الواسطى المبعوث من لدن الرفاعى..
    ونشاط ابن عربى جعل الشكوك تحيط به حيث الدولة الأيوبية تتخوف من الشيعة المستترين بالتصوف، فيذكر أنهم سعوا به إلى السلطان العادل الأيوبى ، وقد سجل ابن عربى الكثير من نشاطه السابق فى كتابه الضخم ( الفتوحات المكية) [12].
    وأثناء تجوال ابن عربي كوّن مدرسة فلسفية تخلط التشيع بالتصوف وبهما تبث دعوتها للمهدى المنتظر الذى يخلص الناس من ظلم الحكام وضعفهم وتنازعهم وتقاعسهم وصغارهم أمام الغزو الصليبى المستمر. واحاط ابن عربي آراءه تلك بالرمز الصوفي والتأويل الشيعي وحشا بذلك كتبه
    ( عنقاء مغرب) و( شجرة الكون) ومواضع كثيرة فى ( الفتوحات المكية) ..
    وفى حياة ابن عربى وبعد مماته استمرت مدرسته تردد آراءه الشيعية ، وابرز أتباعه ابن سبعين وعفيف الدين التلمساني والقونوي وغيرهم ،وبهم وباتباعهم استمرت الدعاية الصوفية الشيعية تتردد حول الفاطمي المهدي المنتظر حتى بعد فشل الدعوة السياسية وتحولها إلى تصوف بحت ، إلى درجة أن ابن خلدون فى القرن الثامن عقد فصلاً فى المقدمة بعنوان (فى أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس فى شأنه ) وقد قرر فى هذا الفصل بأن المتصوفة المتأخرين كابن عربي وابن سبعين وغيرهما تأثروا بمذهب الشيعة فى الحلول والاتحاد وتأليه الأئمة والأولياء والقطب والأوتاد والإمام والنقباء ،ويقول (وامتلأت كتب الاسماعيلية من الرافضة ـ أى الشيعة ـوكتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك فى الفاطمي المنتظر، وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقنه بعضهم عن بعض ،وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين فى شأن الفاطمى المنتظر ابن العربى الحاتمى فى كتاب عنقاء مغرب وعبد الحق ابن سبعين)[13]أى أن ابن عربى مزج عقائد الفاطميين الاسماعيلية الشيعية بصبغة صوفية وكل ذلك للدعاية للفاطمي المنتظر، وهى الفكرة السياسية التى يدعو إليها ،وأن (بعضهم يمليه عن بعض ويلقنه بعضهم عن بعض).أى كانت لهم اجتماعات ولقاءات لبث الأفكار ونشر الدعاية،وأن هذا النشاط استمر بعد ابن عربى نفسه بأكثر من قرن حتى استحق أن ينهض ابن خلدون للرد عليه. وابن خلدون فقيه مغربى ينتمى لنفس الموطن الذى جاء منه ابن عربى والعفيف التلمسانى وابومدين ، ولابن خلدون تاريخ طويل فى الشئون السياسية لإمارات الموحدين فى المغرب والأندلس ، وله العلم الكافى بالنشاط الشيعى هناك وبآثاره وجذوره ، وقد غلب ذلك على انتباهه فعمد للهجوم على ابن عربى والمدرسة المغربية واتهمهم بالحلول والاتحاد بل عمم الحكم فاتهم به كل المتصوفة المتأخرين وجعلهم من الشيعة المغالين ولم يستثن منهم أحداً، مع أن الحلاج سبق فى القرن الثالث بمقالة الحلول والاتحاد وكانت له آثاره الشيعية ، ولكن ابن خلدون المغربى الأصل والذى يعمل فى خدمة السلطة المملوكية فى مصر استغرق فى مواجهة الدعاية الشيعية التى استمرت طالما استمرت كتب ابن عربى بعد موته، وفى هذا الدليل على عمق التأثر بالدعاية السياسية التى قامت بها مدرسة أبى مدين ومدرسة أبن عربي وتلامذتهما.
    وقبل أن نترك مدرسة المغرب ونتوجه للعراق نقرر أن الاتصال قائم ونشط بين دعاة المغرب والعراق إلى درجة أن القيادة موحدة، والاتصال بينهما (أى المدرستين) على قدم وساق ، ومكة هى مكان اللقاء السنوي فى موعد الحج ، علاوة على ما يتيحه التصوف من حرية الحركة بدعوى الرحلة أو السياحة الصوفية أو أخذ العهد ، لذا لا نعجب إذا رأينا داعية كبيراً كابن بشيس زعيم المدرسة المغربية بعد أبى مدين يأخذ العهد على الشيخ بري العراقي
    [14] فى مدرسة أحمد الرفاعي ، ولا نعجب إذا رأينا ابن عربي فى قمة شهرته العلمية يذهب للعراق ليأخذ العهد على داعية مجهول فى المدرسة العراقية هو ابن سيدبونه الخزاعى تلميذ أحمد الرفاعى[15].
    فبالتظاهر بالسياحة والرحلة وأخذ العهد كان اللقاء يتم بين أساطين الدعوة فى العراق والمغرب ، وفى اللقاء يتم التخطيط وتبحث الظروف الجديدة فى أوانها ويبتكر الشيعة كل جديد من فنون التستر والرمز واستمالة الاتباع وتكوين الخلايا، وتتوزع الأدوار وينتقل الاتباع من مكان إلى مكان وفق الخطط الموضوعة.
    لقد كان أساطين الدعوة فى المغرب يذهبون للعراق فى نشاطهم المؤيد لمدرسة الرفاعى ، فإلى مدرسة الرفاعى نتجه ونتعرف.
    يتبع............

    [1]مجلة السياسة : 10 عدد 89
    [2]مجلة السياسة : 10 عدد 89
    [3]الجواهر السنية :16
    [4]النصيحة العلوية : مخطوط ورقة 17
    [5]العيدورس : النجم فى مناقب القطب الرفاعى :75 ، طبقات الرفاعية لأبى الهدى الصيادى 4.

    [6]الطبقات الكبرى للشعراني 1/14، 133.
    [7]الطبقات الكبرى للشعراني 1/14، 133.
    [8]الطبقات الكبرى 114، 133
    [9]الطبقات الكبرى 114، 133
    [10]) الطبقات الكبرى 26 تعطير الانفاس مخطوط 234
    [11] الفتوحات المكية : 1288، 318 ، 330، 838
    [12]1225، 838 ، 2/ 20 ، 242 – 4/ 701
    [13]المقدمة 322 ، 323
    [14]الطبقات الرفاعية 27.
    [15]الطبقات الرفاعية 27.
    التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 05:59 PM.

  • #2
    الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع قبل البدوى

    الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع قبل السيد البدوى(2)
    رابط الموضوع السابق:

    الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع قبل البدوى

    ثانيا:شجرة الدعوة في العراق:
    مدرسة أحمد الرفاعى
    فى أم عبيدة – واسط – العراق
    أم عبيدة:

    من عادة الشيعة المتصوفة أختيار المكان المناسب (الأستراتيجي ) ليكون مركزاً لدعوتهم السرية . وقد كانت مدن العراق الشهيرة تموج بالفتن السياسية وشغب العيارين ـ أو اهل الفتوة من أصحاب الحرف ـ مع سطوة اللصوص والصراع الذي لا يهدأ بين السكان الشيعة والسنة ، والحنابلة والمعتزلة ، يزيد في ذلك كله الأغتيالات المستمرة التي يقوم بها الحشاشون اتباع أبي الحسن الصباح الباطني وقد شملت هذه المؤامرات خصومة من العلماء والوزراء والحكام .
    وقد وقع أختيار العلويين على منطقة واسط وهى مع شهرتها القديمة منذ الدولة الأموية فقد تمتعت بهدوء وسكون حرمت منه بغداد وما يليها من مدن ..ومع ذلك فإن (واسط) تتميز بموقع (وسط) بين البصرة والكوفة وقريب إلى حد معقول من العاصمة بغداد.
    ولم تكن مدينة واسط هى المركز الأساسى للدعوة السرية بل اكتفى الشيعة بتواجد بعضهم فيها وظهورهم فيها كواجهة ترقب الأحداث من موقع متقدم بينما تركزت الدعوة السرية فى قرية (أم عبيدة) وفيها عصبية الشيعة وتجمعهم وقرابتهم بحيث لا ينفذ إلى هذه القرية غريب إلا بعلمهم وتحت أنظارهم ، فإذا استطاع أن يمر من( واسط) وفيها الواجهة الشيعية فلن يمكنه التخفى فى (أم عبيدة).
    والصوفية العاديون فى الأغلب يميلون لمجاورة الحاكم والمدن الشهيرة ،أما إذا تعلق الأمر بدعوة سرية فالاقتراب من الحاكم لا يكون إلا بالعيون والواجهات الشهيرة من الأعلام المرموقين، أما مركز الدعوة فلابد أن يتخير موقعاً (استراتيجياً) سهل الاتصال هادئاً ساكناً تتركز فيه العصبية أو القرابة ، وينطبق ذلك على ( أم عبيدة ) ثم (طنطا) فيما بعد.
    ولقد أمر أحمد الرفاعي ـ حين تلقى العهد ـ بالمقام فى أم عبيدة ـ وفيها أخواله بنو النجار ( وفيها رواقهم المبارك المدفون فيه جد السيد أحمد الرفاعى لأمه الشيخ يحيى البخاري الأنصاري والد الشيخ منصور)[16].
    (ب) نشأة الرفاعي واعداده:
    وأحمد الرفاعى ( 512- 578 ) توفى أبوه وهو جنين أو طفل فى السابعة على أختلاف الروايات فكفله خاله منصور البطائحي الأنصاري، وتنفيذاً لرؤيا منامية نقله خاله إلى واسط ، وفيها أخذ التصوف وأصول الدعوة على يد أبي الفضل الواسطي مع رعاية خاله الأكبر أبى بكر الواسطى شقيق أمه واستغرقت هذه المرحلة عشرين عاماً [17].
    وأبو الفضل الواسطي ـ شيخ أحمد الرفاعي ـــ هو ما يعرف فى مصادر أخرى باسم ابن القارىء [18]وكان من أعيان الشيعة الصوفية وكانوا يدققون فى إختيار من يتتلمذ على يديه يقول صاحب طبقات الرفاعية ( وكان السيد أحمد رضى الله عنه قد أكمل قراءة القرآن العظيم حفظاً بقرية (حسن) على الشيخ الورع المقري الصالح عبد السميع الحربوني ، فلما صار فى كنف خاله أخذه إلى واسط بأمر سبق له من النبي صلى الله عليه وسلم فى منامه وأدخله على الإمام العلامة المقري الحجة الشيخ على أبى الفضل الواسطى قدس سره فتولى أمر تربيته وتعليمه وتأديبه أمتثالاً للأمر النبوى ) [19].
    وفى نفس الوقت كان الرفاعي يتمتع برعاية خاله الاكبر أبي بكر الواسطى ويلازم درسه (وهو المشار إليه فى وقته بين الشيوخ والعلماء ) ،( وكان مع إشتغاله بالدروس والتعليم ملازماً خدمة خاله سلطان الرجال،الشيخ منصور [20].وواضح أن أبناء يحيى البخاري (أبوبكر ومنصور ) قد توليا معاً مهمة الدعوة فى هذه الفترة فأشرف(سلطان الرجال الشيخ منصور ) على الإشراف الإداري وكان صاحب الخرقة بينما تمكن أخوه الأكبر أبوبكر بما أوتى من علم أن يهيمن على الإعداد العلمى للدعاة ، وقد حظى ابن أختهما ـ أحمد الرفاعي ـ برعايتهما معاً فكان يلازم درس خاله أبى بكر ويلتزم بخدمة خاله منصور ويحضر مجالسه وطريقته فى الإشراف على الدعوة .
    ويذكر العيدروس شيخاً آخر لأحمد الرفاعى هو أبو الليث الحراني (وكان معروفا بالصلاح والتقوى بين الناس وكان والده أمير حران فترك طريق الإمارة التى كانت شأن والده وتبع طريق الفقر ) [21]ورائحة السياسة واضحة فى أبى الليث الحراني هذا .فلو صح أن أباه كان أميراً لحران فإن الاضطراب السياسى وكان السائد فى هذه الآونة كفيل بأن يثبت لأبى الليث أن حصوله على ملك أبيه لا يكون إلا بالغلبة وهى عنه بعيدة فليس أمامه بعدها الا التصوف الشيعى فلعل وعسى..!!
    والزهد والتصوف كانا دائما يعبران عن رغبة دفينة فى النفس لاسترجاع ملك ضائع أو جاه بائد أو كتعبير عن النقص الذى يحس به المحكوم الطموح للحكم ،ولذا فان الصوفية لهم دولتهم الباطنية المستمدة عن أخيلة الشيعة والقائمة على القطب وأعوانه ؛وذلك كتعبير عما يعتمل فى نفوسهم من رغبة مدفونة فى التحكم والسيطرة لم تجد لها مجالاً إلا فى أحلام اليقظة وفى التحكم فى المريدين والأتباع .
    ونعود لأحمد الرفاعى (ولا زال يعظم أمره وينمو علمه حتى تفرد فى زمانه )[22].
    فأجازه شيخه ابن القارئ (اجازة عامة بجميع علوم الشريعة والطريقة فلما بلغ هذه المرتبة العلية أجازه خاله الشيخ منصور وألبسه خرقته وأمره بالمقام فى أم عبيدة )[23].
    (جـ) تولى الرفاعى المشيخة:
    يلفت النظر أن وراثة الطريق الصوفي العادي تكون دائما للابن،ولو كان منصور البطائحي صوفيا عاديا لخص إبنه بالخرقة كما هو الشأن فى الطرق الصوفية ،إلا أننا هنا أمام مسئولية ضخمة لا يستطيع تحملها إلا الكفء ، ولسنا أمام صوفية عاديين حياتهم الولائم والجاه بين الخلق ويحرصون على أن يرث أبناؤهم النعيم الذى يرتعون فيه.
    ثم إن الاختيار دقيق بين شباب الشيعة الصوفية وقد أثبت الرفاعي جدارته في الطريقين :(الشيعي العلمي ) باجازة شيخه ابن القارئ إجازة عامة و(العملي ) حين أثبت لخاله منصور شيخ الخرقة مهارته وهو يلازمه خادماً يتعرف على أسلوبه فى إدارة الدعوة والسيطرة على الأتباع.
    وقد عهد منصور البطائحى لإبن أخته أحمد وعين له قرية أم عبيدة مركزاً جديداً للدعوة وفيها أسرة منصور وعصبيته، وكانت وفاة منصور فى عام 540 . وقد عهد للرفاعي بالمشيخة قبل موته بعام ، مما يدلنا على ثقته فى كفاءة ابن أخته أو لعله أراد أن يستوثق من هذه الكفاءة وهو حى يرزق، وربما تدهورت صحته فى العام الأخير لحياته فعهد للرفاعى بأعباء المسئولية تحت رعايتة ونظره ،وكان للرفاعى وقتها ثمان وعشرون سنة شاباً فتياً وكان ذلك فى زمن الخليفة المقتفى العباسي [24].
    والمصادر الصوفية المتأخرة واجهت مشكلة العهد بالخرقة للرفاعى من خاله باضفاء المزيد من الكرامات والخصوصيات على الرفاعى لتبرز اختياره من دون أبناء خاله،يقول العيدروس أنه كان لمنصور البطائحي خال أحمد الرفاعى ولدان (وكان تقيد سيدى منصور بسيدى أحمد ولد أخته أكثر من تقيده بولديه ،وكان مراد الشيخ منصور أن يجعل سيدى أحمد قائماً مقامه فى السجادة فيكون شيخ الشيوخ أيضاً . فقال له أولاده وبعض محبيه: أن ميراث الأب لا يكون إلا للإبن ولا يكون لإبن الأخت فقال لهم إنى رأيت منه شيئاً اقتضى ذلك ) وقص كرامة كان النجيل يسبح فيها بحمد الله أمام الرفاعي [25]، وردد الشعراني ذلك فى ترجمته للرفاعى وزاد فجعل منصور البطائحي يقوم إجلالاً للرفاعي وهو جنين فى بطن أمه [26].
    والمهم أن الرفاعي عهد إليه خاله ( قبل وفاته بمشيخة الشيوخ والأروقة المباركة ، فتصدر على سجادة الارشاد العام ) [27]. وكان الرفاعي عند حسن الظن به وأثبت أن ما تعلمه على يد ابن القارئ وما خبره من أسلوب خاله حين خدمه عشرين عاما لم يذهب هباء.
    (د) تضخم أتباع الرفاعي :
    نجح الرفاعي فى استغلال التصوف فكثر أتباعه وزادت شهرته (وشاع إسمه ورسمه فى آفاق الدنيا وكان كل من رآه يعتقد فيه بالقلب)[28]،
    ( وتتلمذ له خلائق لا يحصون فى كل بلد وقطر منهم الرائحة والأكبار والأعيان ولم يكن فى مدن المسلمين مكان يخلو من زواية أو موضع برسمهم ) [29].

    وقد رددت المصادر التاريخية والصوفية كثرة أتباع الرفاعى، وقد جمعها أبو الهدى الصيادي فى كتابه طبقات الرفاعية. يقول ( قال الحافظ تقي الدين الواسطي فى كتابه ترياق المحبين ما ملخصه: أحصيت الرقاع التى وردت للسيد أحمد الرفاعىٍ فى السنة السابعة من تصدره على بساط المشيخة بعد خاله الشيخ منصور فبلغت سبعمائة ألف رقعة كلها من مريديه. وذكر الأمام ابن الجوزى فى تاريخه أنه كان عند أحمد ليلة نصف شعبان وعنده أكثر من مائة ألف إنسان من الزائرين. وذكر الأمام الشعراني فى طبقاته والمناوي فى الكواكب الدرية إن مريدي سيدنا السيد أحمد الذى يحضرون مجلس درسه وورده المعتاد كل يوم فى رواقه العالى ستة عشر ألفا يمد لهم السماط صباحاً ومساءاً.. وقال العلامة ابن الأثير فى تاريخه إن له من التلامذة ما لا يحصى ، ومثله قال القاضى الوليد بن الشحنة . وقال الإمام الذهبى فى مختصره وفى كتابه دول الإسلام أن أتباعه لا يحصى عددهم. وقال شمس الدين أبو المظفر فى تاريخه إنه كان يجتمع عنده كل سنة فى الموسم خلق عظيم لا يحصى عددهم، وقال الواسطي فى خلاصة الأكسير: كان رجال العصر يسمون السيد أحمد الرفاعي قبلة القلوب لشدة ارتباط قلوب الناس به ومحبتهم له ) [30].
    ولا ريب أن الرفاعي استفاد من إنتشار التصوف منذ بداية القرن السادس، وقد أصبح قبلة الجماهير فيما يعقده من مراسم وما ينصبه من ولائم، والعامة هم سدنة الصوفية وبهم انتشر التصوف وتكاثر عددا..
    على أن الواجهة الصوفية لم تشغل الرفاعي عن هدفه الشيعي السياسي فكان له أتباع زرعهم فى الأمصار ، كانوا فيها الائمة والكبار والأعيان ، ولم يكن فى مدن المسلمين على حد قول البكرى مكان يخلو من زاوية رفاعية.
    ولابد للرفاعى أن يصطفى من هذه الجماهير المحتشدة خلاصة من المريدين والمبعوثين ، ولابد أن تكون له سياسة محددة مع أتباعه وخصومه، وشأن من له هذه الشهرة ألا يخلو من خصوم ، خصوصا إذا كان صاحب دعوة سرية فى موطن الخلافة العباسية.
    وهذا ما سنفصله..
    (هـ) سياسة الرفاعى:
    كان له من المرونة الكافية فى التعامل بما يمكنه من تغيير سياسته حسب الظروف . فالرفاعى مع أتباعه حازم جاد صارم ، ومع خصومه مداهن متخاشع حتى يكسبهم إلى صفه ويضمن اعتقادهم فيه ، وحينئذ يظهر له بحزمه وصرامته، مع شدة التحرز والأحتياط من الأتباع والأعداء على السواء..
    يقول العيدروس ( روى عن الشيخ يحيى قال: ما رؤى الشيخ الكبير وهو يأكل الطعام ولا هو نائم ، وما كان أحد يعرف مكان نومه ، ولا مزح مع احد ولا مازحه احد ، وما كان يتكلم من غير سبب ولا موجب ، وما كان أحد يقدر أن يتكلم معه أو يكلمه من غير سبب لما كان عنده وعليه من الجلالة والمهانة ، وإذا استدعى أحداً يمشي إليه لأمر فكان يتقيد ذلك الواحد بالشيخ من ساعته ، ويحرص على السير معه بالأدب ، فلا ينطق بقليل الكلام ولا بكثيره إلا بإذن)[31]
    ووصفه خليفته عز الدين الصياد بأنه (كان قليل الضحك ذا هيبة عظيمة لا يتمكن جليسه من إباحة النظر إليه ) [32].وكان يتعهد مريديه بالحزم الزائد وقد سمع فى الرواق بعضهم يضحك فأرسل يقول لهم (إن كنتم اقتديتم بأحمد الرفاعى فإن أحمد الرفاعى لا يضحك )[33]ويبدو أنه أنشأ مريديه على نوع من الاستعداد العسكري فى الصحاري والبراري المحيطة بواسط تحسباً لأى طارئ ،يفهم ذلك من قول العيدروس (ونقل عن سيدي كنز العارفين قال : من عادة الفقراء أن خيولهم كلها سائبة فى الصحاري والبراري مجردات من آلاتها وعددها فإذا أراد أحد التوجه إلى جانب أحضروها وأسرجوها وساروا عليها ،إلا الشيخ مجرد الأكبر فإن حصانه كان دائماً معداً متهيئاً للركوب مسروجاً ملجوماً وصاحبه مجرد يلقب عندهم بفارس ميدان التوحيد وغازى الفقراء )[34]
    وقد كان (مجرد )هذا ملازماً للرفاعي لم يرسله إلى مصر من الأمصار ، ويتردد فى كرامة صوفية [35]أنه أنقذ مريداً رفاعياً فى طريق الحج استغاث بالرفاعي فسمع مجرد صوته ، وكان الرفاعي نائماً فى الخلوة فأنقذه ، ويوحى ذلك بأن مجــــــرد الأكبر- وإسمه يدل تجرده للحرب والقتــــال ـــــــــ كان يتولى الجانب الحربى حماية للفقراء الأحمدية الرفاعية ، وفرسه جاهز على أهبة الاستعداد لأى طارىء ، وإذا نام الرفاعي فهو لا ينام..
    ولم يكن لشهرة الرفاعي التى ملأت العراق أن تنجو من حسد الفقهاء وهم أعوان السلاجقة ، وأولئك خفض لهم الرفاعي جناح الذل سياسة ونفاقاً ليستميلهم وقد نجح. يقول العيدروس " وحكى أن علماء بغداد وجميع أئمة العراق كانوا يحسدون السيد الكبير لأنهم علموا زيادة رفعته وأن تزايدها فى كل يوم وكل عصر، وانتشار صيته لا ينقطع ، فكاد يهلكهم الحسد وعجزوا عن الصبر عنه، وشرعوا معه فى كلام السفاهة ، فكان السيد إذا سفهوا عليه يدعو لهم بالخير ويكلمهم بالكلام الطيب، ومع أذيتهم له وشدتها يعاملهم بالإحسان ويرتب لهم الوظائف، وإذا لقيهم بطريق يتواضع لهم غاية التواضع . فلما رأوا منه ما رأوا من هذه الأخلاق الحميدة عملوا معه التواضع الزائد وصاروا يرعونه مراعاة تامة ورجعوا أجمعين مريدين ، واعترفوا بالحق وأوصوا أولادهم وأهلهم وأتباعهم باتباع السيد الكبير وصاروا من مريديه "[36].
    ويذكر الشعراني أن بعضهم لقى الرفاعي فسبوه " وقالوا له يا أعور يا دجال يا من يستحل المحرمات يا من يبدل القرآن يا ملحد يا كلب. فكشف سيدى أحمد رأسه وقبل الأرض وقال: يا أسيادي اجعلوا عبدكم فى حلّ ، وصار يقبل أيديهم وأرجلهم ، ويقول ارضوا عني وحلمكم يسعني.. وأرسل إليه الشيخ إبراهيم السبتي كتاباً يحط عليه فيه .. فإذا فيه: أى أعور أى دجال أى مبتدع يا من تجمع بين الرجال والنساء حتى ذكر الكلب وابن الكلب وذكر أشياء تغيظ، فقال الرسول اكتب إليه الجواب: من هذا اللاش حميد إلى سيدى الشيخ إبراهيم السبتي أما قولك الذى ذكرته فإن الله تعالى خلقني كما يشاء، وأنى أريد من صدقاتك أن تدعو لى.. فلما وصل الكتاب إلى السبتي هام على وجهه.. وكان لسيدى أحمد شخص ينكر عليه وينقّصه فى نواحى أم عبيدة ، فكان كلما لقى فقيرا من جماعة سيدي أحمد يقول له خذ هذا الكتاب إلى شيخك فيفتحه سيدي أحمد فيجد فيه: أى ملحد أى باطلي أى زنديق وأمثال ذلك من الكلام القبيح.. فلما طال الأمر على ذلك الرجل وعجز عن سيدى أحمد مضى إليه فلما قرب أم عبيدة كشف رأسه وأخذ مئزره وجعله فى وسطه وأمسكه إنسان وجعل يقوده حتى دخل على سيدى أحمد. ثم طلب منه أخذ العهد فأخذه عليه وصار من جملة أصحابه إلى أن مات) [37]
    ويبدو مما سبق أن أم عبيدة قد صارت فى عهد الرفاعى حصناً له ولأنصاره لا يمكن لمنكر عليه أن يدخلها إلا مستسلما..
    (و) الرفاعى والخلافة العباسية:
    عاصر تولى الرفاعى المشيخة سنة 540 بداية خلافة المقتفى العباسى ، وقد كان زاهداً أشيع أنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فى المنام يأمره بأقتفاء أمر الله فلقب بالمقتفي لذلك، وقد وصف بالنسك والعبادة وقاسى الكثير من تسلط مسعود السلجوقى المتغلب على بغداد ، وقد أكثر من الاساءة إليه فلم يجد الخليفة طريقاً للتغلب عليه إلا بأن يتفق مع أصحابه بالدعاء عليه شهراً وفى سرية، ويقال أن مسعود السلجوقي مات بعد تمام هذا الشهر سنة 547 فتمتع الخليفة ببعض النفوذ، استخدمه فى إقامة العدل وفعل الخير [38].
    ولا ريب أن الرفاعى استفاد بوجود المقتفى كخليفة ناسك محب لمن يتظاهر بالزهد والعبادة، ويتضح ذلك من الصورة الصوفية التى غلف بها تاريخ المقتفى، فعن طريق المنامات كان تعليل تلقبه بالمقتفى، مع أن لقب المقتفى كالمهتدى والمتقى والمسترشد والراشد والطائع والمطيع وكلها مترادفات سمى بها الخلفاء العباسيون قبل المقتفي ولكن لم يحظ أحدهم باختراع منام للرسول صلى الله عليه وسلم يزكى توليه وتلقبه.. ثم كان تفسير موت السلطان مسعود السلجوقى خصم المقتفى بما يوحى بالكرامة الصوفية وأنه كان استجابة لحملة مركزة من الدعاء عليه تمت سرا وكان فيها موته, فالمقتفى قريب من الصوفية ومنطقي أن يعظم إستفادة الرفاعي بوجوده فيكثر أتباعه وتنهال عليه رقاع المريدين دون تدخل من الخليفة الناسك.
    بل إن تلك البداية الموفقة للرفاعي مع خلافة المقتفى استمرت بعد موت المقتفى وتولى إبنه المستنجد سنة 555، وفى هذه السنة حج الرفاعى وزار قبر النبى محمد عليه الصلاة و السلام ، وأشيع أنه يد النبى خرجت له من الضريح وأنه قبّل يد النبى عليه السلام ، وسارت الركبان بذكر ذلك وكيف أن اليد الشريفة خرجت من الضريح ، واستثمرت الدعاية الشيعية الصوفية هذه الاشاعة فى اجتذاب الأنصار فبدأت تصل إلى أسماع الخليفة الجديد الصورة التى أرادها الشيعة ، وكان الخليفة المستنجد كأبيه المقتفى موصوفاً بالعدل والرفق والفضل [39]فلم يكن ذلك الخليفة عائقاً أمام مدرسة الرفاعى، بل على العكس ورد فى مناقب الرفاعى ما يفيد أن المستنجد أرسل للرفاعى يطلب منه النصح فوعظه [40].
    ومات المستنجد سنة 566 وتولى إبنه المستضىء ، وفى عهده أنهى صلاح الدين الدولة الفاطمية وأعاد مصر للخلافة العباسية وخطب فيها للمستضىء بأمر الله سنة 567، واعتبر ذلك نصرا على الشيعة أدى لصدام بين طوائف الشيعة والسنة فى بغداد واشتعل الصدام بين الكرخـ وهو حىّ الشيعة فى بغداد ـ والبصرة وهم سنيون ، وأيد الخليفة البصريين ، ونشط الباطنية فى عمليات الاغتيال فهاجمهم صلاح الدين فى حصنهم الموت ، وحدث صدام فى مكة بين أميرهم الشيعى ومقدم الحجاج السلجوقى فعزل أمير مكة [41].
    وفى غمرة هذا الاضطراب وتتبع الشيعة وشى بالرفاعي لدى المستضىء فأرسل حاجبه عماد الدين الزنجي وهو من واسط ليستطلع حقيقة الرفاعى ، وتمكن الرفاعي من استمالة الزنجي فصار من أصحابه، وصورت كتب المناقب هذا الحدث بما تعودت من اضفاء الكرامات وعلم الغيب أى الكشف[42] ،
    وتصور كتب المناقب أن عماد الدين الزنجي أحرز مكانة رفيعة لدى الرفاعي( وقد حصل بخدمة السيد الكبير مقاماً جليلاً حتى صار خليفة الخلفاء ) [43]، . ولا يستبعد أن يكون عماد الدين الزنجي ـ وهو سياسي عباسي مدرك للاضطراب الذى يحيق بالخلافة العباسية – طامعاً فى جاه مرتقب فى ظل الدعوة الجديدة . وتصور ذلك كتب المناقب فتروي أن الشيخ الزنجي ( طلب من سيدى أحمد الرفاعي ملكاً يتصرف فيه فقال له سيدى أحمد : أعلم أن ملك العرب والعجم نصفه لنا من إحسان الله تعالى ونصفه الآخر لسائر المشايخ ولكن أنا قد وهبت لك قيراطاً ونصف قيراط يا زنجي )[44].
    ومات المستضىء وتولى إبنه الناصر العباسى 575 هجرية، واستمر يحكم سبعاً وأربعين سنة، وعرف الناصر بالسطوة والدهاء والتفنن فى المكائد والتجسس، وكان منتظراً أن ينال الرفاعى منه ضرر كبير لولا أن الناصر كان يتشيع على مذهب الإمامية، ولم يعش الرفاعى كثيرا فى خلافة الناصر فمات سنة 578 أى بعد ثلاث سنوات من توليه الخلافة بينما ظل الناصر حتى توفى سنة 622 [45].
    وما كان الناصر ليشك فى أحمد الرفاعى الذى ظل نحو أربعين عاماً علماً صوفياً شهيراً يرحل إليه الآلاف مجمعين على زهده ونسكه ، وقد ولد الناصر قبيل تولى الرفاعية المشيخة أى أنه نشأ على شهرة الرفاعى ورأى جده المستنجد يطلب منه النصح والوعظ ، حتى إذا تولى الناصر كانت شهرة الرفاعى قد طبقت الآفاق ، إلى درجة أنه بعد تولى الناصر الخلافة بعامين وقبل موت الرفاعى بعام أى فى سنة 577 فى الثالث من رجب جلس الرفاعي على كرسيه وفى رواقه خمسة آلاف من أنصاره بأيديهم المحابر يكتبون ما يقول ، وبعد خطابه ووعظه ازدحموا عليه يتلقون العهد " حتى عجزنا عن أن نحصيهم لكثرتهم واستمر تلقين العهد إلى نصف تلك الليلة السعيدة " [46].
    وحين احتضر الرفاعي و (انقطع أمل الناس منه غصت صحراء واسط بالوفود وضربت الأخصاص حول أم عبيدة للوفود ، وبلغ عدة من صلى عليه وشهد مشهده تسعمائة ألف من الرجال وستمائة ألف من النساء ذوات القناع ، غير الأطفال وكان يوماً مشهوداً ) [47].
    مات الرفاعي وقد جعل من (أم عبيدة ) القرية المجهولة كعبة لأنصاره وأتباعه ومركزا للتشيع الصوفى يتخرج فيها أساطين الدعاة ممن يتوسمون فيهم الكفاءة لأن يبعثوا إليها .
    وفيما بعد أرسلوا البدوى لأم عبيدة وعندما أشرف على خيامها وأعلامها قال لأخيه حسن
    " يا أخى كأن هذا ملك من بعض ملوك العرب نزل فى هذا المكان ونشر أعلامه " [48].
    لقد أحسن الرفاعى فى سياسته مع مريديه فكانوا طوع بنانه، وأحسن سياسته مع خصومه فصاروا من جملة أعوانه، وأحسن سياسته مع العباسيين وجماهير العراق فأعظموا من قدره وشانه..
    ولم تدر تلك الجماهير المحتشدة أنه يخفى خلف تصوفه حركة منظمة دقيقة، ولم يعرف العباسيون أن ذلك الزاهد الصوفي المتخاشع هو القائل " الميل إلى الحكام يستعبد العبد من الله عز وجل ، والرجوع إليهم كالرجوع إلى النار ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" [49]

    ولم يعرف العباسيون أن طموح الرفاعي السياسي جعله يتنبأ بقرب تحقيق أمله فى قيام حكم شيعي بالفاطمي المنتظر . يقول الرفاعي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح باب الارشاد وسلمه إليّ ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها . واليوم ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية [50]"
    ثم لم يعرف الجميع من عامة وحكام بأمر البعوث التى كانت تفد للرفاعى ويرسلها إلى الشرق والشمال والشمال الشرقي ..

    (ز) بعوث الرفاعي للشرق :
    يقول العيدروس " ونقل أنه كان من جملة عبيد سيدي أحمد الرفاعي ومحبيه سيدي محمود الحيراني الرومي ، وكان من قصته ، أنه كان فى عصر الشيخ.. وكان أميراً كبيراً حاكماً جليلاً متعيناً مشهوراً. فلما شاع ذكر الشيخ فى الآفاق، وكان من جملة من سمع طيب أثره سيدي محمود الحيراني هذا فعشقته أذنه على السماع واشتد حبه للشيخ.. فعزم على زيارته والتوجه إليه فترك الديار والعشيرة والأمارة والحكومات وما كان فيه من التخول فى النعيم والمباهاه.. وسار إلى الشيخ ، وأخذ عليه العهد ولزم خدمة أعتابه إثنى عشر سنة، ثم أذن له الشيخ فى السفر فتوادع معه فى أم عبيدة ، وتوجه إلى الروم من حيث أتى، فلما وصل البلاد فوافى محلاً وهو سائر فرأى جماعة جالسين فى الحضرة يتحادثون وكان منهم شخص يسمى "صاري صاليق" أمين ملك الروم ، فلما أن وقع بصره على سيدى محمود الحيراني وهو مار بهم قام إليه من بين الجماعة واستقبله وصافحه، قال سيدى محمود:افتح فمك ففتحه فوضع يده عليه فصار بذلك " صاري صاليق" حيران سكران ،لأن نفس سيدى محمود الحيراني نفس سيدي أحمد الرفاعي ، وصار صاري فى بلاده الروم من أهل الإشارة والتسليك وبه يحصل الفتح للمريدين ، كل ذلك من بركة السيد الكبير سيدي أحمد الرفاعي. وبقى سيدى محمود الحيراني فى بلاد الروم قاطناً شهراً ، وصار " صاليق" بنواحي بلاد الافرنج. ونقل أن شخصاً يدعى (براق)كان من أكابر الروم فلما سمع بأخبار الشيخ الحسنة أعنى سيدي أحمد الرفاعي ، عزم على زيارته وتوجه من الروم ، وسار إلي أن وصل إلى سيدي أحمد الكبير فاندرج فى سلك خدمته اثنى عشر سنة خدمة خالصة بالقلب ، فعند ذلك نظر إليه الشيخ بعين الرحمة والعطف وأذن له فى التوجه إلى بلاده معمراً مسلكاً، فامتثل أمر الشيخ ، فقبل يديه ورجليه واستأذنه فى السفر فأجازه ، وأذن له فيه وتوجه إلى بلاده.
    ونقل أن من جملة من وفد على سيدى أحمد الرفاعى الشيخ أحمد اليسوى ،جاء إلى خدمة الشيخ ومعه من المريدين أربعمائة درويش ، وألبسه سيدى أحمد الرفاعي خرقة الفقر وصار من بعض مريديه، وجعله من جملة الخلفاء المتعينين وأذن له فى السفر وعينه هو وتلامذته فى نواحي التركستان فأمتثل أمر الشيخ وأخذ خاطره هو ومريديه وتوجهوا الى الأماكن التى أشار إليها الشيخ ، فلما أن وصلوا اليها تعطرت بأنفاسهم بقاعها..ووصلت عدة تلامذة الشيخ اليسوي ومريديه نحو التسعين ألفا وصار صاحب الوسم والرسم فى ذلك العصر بتلك الأقاليم , وكل ذلك ببركة سيدى أحمد الرفاعى.
    ونقل أن الشيخ أبا بدر العاقولي سار إلى خدمة سيدي أحمد الرفاعي فى بعض دراويشه من أطراف بلاد واسط يريد زيارة السيد الكبير واجتمع به وتقيد هو ومن كان معه من الدراويش بخدمة الشيخ مدة طويلة..وأمرهم الشيخ بالسير الى بلادهم فتوجهوا إليها وصاروا من أهل الإشارة والتسليك.
    ونقل إن الشيخ مسعود كان من أبدال الأتراك وقد اشتد شوقه وحبه للشيخ السيد أحمد الرفاعى فجاء إليه حافياً عرياناً قاصداً خدمة عتبة الشيخ ، ولازم الشيخ أربعين يوماً وبايعه .. وصار مريداً معتقداً ، وألبسه السيد الكبير من ملبوساته وجعله من جملة المقربين عنده..وهو الآن مدفون فى موضع يافث)
    [51]
    فالحيراني وهو من ذوى المكانة وفد لأم عبيدة من بلاده فقضى فيها اثنى عشرة سنة يخدم الرفاعي ويتعلم بالضرورة أصول الدعوة وبعدها بعث به الرفاعي لبلاده داعية فتمكن من استمالة (صارى صاليق) فصيره داعية هو الآخر ووجهه إلى مكان آخر.
    و"براق" كالحيراني تماما.. والشيخ "اليسوي" وفد للرفاعي بأتباعه فجعله من خلفائه وسيره داعية فى التركستان فأصبح أتباعه فيها نحو التسعين ألفا. ومن اوسط العراق وفد أبو بدر العاقولي مع أنصاره فتعلم من الرفاعى وخدمه وبعثهم إلى بلادهم دعاة، ومثله الشيخ مسعود التركي . وعلى عادة كتب المناقب فى هذا الشأن فقد عرضت لبعوث الرفاعي فى صورة رمزية لم تشف الغليل عن أماكنهم الحقيقية أو جهودهم فى بلادهم أو ما تعلموه فى أم عبيدة وما انتهى إليه أمرهم . ولكن يستفاد مما سبق أنهم نجحوا كدعاة صوفيين وهو ما استتروا وراءه ولكن لم يظهر لهم أثر سياسي وهو المأمول من جهدهم الذى قصروا حياتهم عليه ، فلم يرد أن بعض أولئك المبعوثين ترك مكانه الذى أوفد إليه وعاد لأم عبيدة ، بل يظل أحدهم فيه إلى أن يموت، وتلك سمة أساسية فى تاريخ الدعاة الشيعة ستؤكدها الأحداث التالية ، ولا ريب أن سبل الإتصال بين الرفاعى وبعوثه كانت قائمة ومستمرة ، ينطبق ذلك على بعوثه فى المشرق و المغرب ، وإلا ما أحس الرفاعى بمزيد التفاؤل وأيقن بقرب (ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية ). وإذا عرفنا أنه مات عن ست وستين عاما فى سنة 578 أيقنا أنه كان يأمل أن يمتد به العمر ليرى هدفه قد تحقق على رأس القرن السابع، فقد قال: (إن رسول الله فتح باب الإرشاد وسلمه إلى ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها ، واليوم ظهور دولة الرفاعية وطريقتها المرتضوية العلوية).

    بيد أن الظروف لم تعد فى صالح الدعوة فى العراق، فقد وطد الناصر العباسى ملكه وملأ العراق بجواسيسه وكون لنفسه عصبة من العيارين أهل الفتوة ينقلون إليه الأخبار، وفى نفس الوقت مات الرفاعي (السيد الكبير) ولم يخلفه بعده من يطاوله فى شهرته أو سياسته، فكان التركيز السياسي على مصر بعد انهيار الحكم الفاطمي فيها وانشغال الأيوبيين بعد صلاح الدين بالتنازع فيما بينهم أو مع الصليبيين.
    ( حـ) خلفاء الرفاعي:
    خلفه إبن أخته وزوج إبنته " مهذب الدولة " على بن عثمان الرفاعي، قيل فيه " صار شيخ الرواق بعد خاله" " وكان يقدمه على غيره من أهل بيته وأصحابه" [52]ومع ما يوحى به لقبه " مهذب الدولة" من أن الطريقة الرفاعية صارت دولة بأتباعها ونفوذها ومع ما يوصف به مهذب الدولة من تحكم وهيبة إلا أن أوصافه فى المناقب لم تخل مما يشي بضعفه واضطرابه ، فيقال فيه " وكان قوياً فى الله متمكناً بأمر الله ما خالف أمره أحد إلا قتله الله، وكان له غيرة غريبة وهمه عالية وهيبة عجيبة وسطوة غريبة لا يقدر أحد يقابله لخشيته ولا أن يدانيه لهيبته ولا يخالفه " وإلى هنا وملامح سياسته واضحة ،ولكن يقال فيه بعدها " وكان دائم الهم والغم والفكر والحزن والاضطراب له قلب رحماني.. وكان سريع الغضب والرضا "[53]
    وقد ورد فى منام صوفى أن مهذب الدولة أعطى سيفاً من السماء ، ويفسر ذلك كيف أن من يخالفه كان يقتله الله، ومع شدته تلك كان سريع الغضب والرضا..وإذا جاز استعمال القتل فى الدعوات السرية فلا يكون ذلك إلا سراً وبمؤامرة تبدو ككرامة ، أما أن تتضح الأمور ثم يكون التناقض من القتل إلى الرضا فذلك قد يغتفر فى حاكم بين جنده وملكه لا فى داعية لا يزال فى طور الأعداد لدولة ، وإذا استكان الاتباع للرفاعى بشخصيته وشهرته فلن يكون هذا حالهم مع صهره وخليفته ، ولم يعمر " مهذب الدولة" فى خلافته فمات سنة 584 .ودفن إلى جانب خاله.
    وتولى بعده أخوه (ممهد الدولة) وكان صهرا للرفاعي هو الآخر فقد تزوج البنت الثانية من بناته ، ولم يبد فى سيرته أية ملامح سياسية سوى لقبه ومات سنة 604 وازدحمت سيرته بالكرامات الصوفية كدليل على أن ( أم عبيدة) قد أقفرت سياسياً وظلت مركزاً روحياً للدعوة بينما تحول عنها النشاط السياسي الى مصر بالذات .
    ويتضح ذلك فى تاريخ ( ابراهيم الأعزب) بن ( ممهد الدولة) وأقاويل الصوفية وكراماته التى لا تختلف عن أى صوفي عادى ، وقد كان ابراهيم الأعزب مقيماً بأم عبيدة [54].
    أما أخوه عز الدين الصياد الرفاعي فيمثل التطور الجديد فى السياسة الشيعية.
    (ط) عز الدين الصياد الرفاعى ( 574-670) .
    تحول عن العراق سنة 622 , ويعلل ذلك بأنه ( خاف على نفسه من آفة الشهيرة!!)[55]والواقع أن العراق لم يعد الموضع المناسب سياسياً فقد اجتذبت الدولة الأيوبية الأضواء من العراق والخلافة العباسية ، وبعد موت صلاح الدين كان تنازع أولاده فى مصر والشام واستغل أخوه السلطان العادل ذلك التنازع فى الاستئثار بملك صلاح الدين دون أولاده ، وفى هذا الوقت كان العراق مهدداً من الشرق من قبل جلال الدين منكبرتى الخوارزمى الناقم على الخلافة العباسية تعاونها مع التتار أعدائه حينئذ.
    والشيعة بما لهم من خبرة بأوضاع المنطقة أقدر على تقييم الأمور والاستفادة منها ، وقد رأوا أن الشرق لم يعد المكان المناسب لهم بعد ظهور قوة التتار والخوارزمية ولا بد لأحدهما أن تقضى على الأخرى . وكلتاهما قوة شابة، والمنتظر من المنتصرة منهما أن تسيطر على العراق ، فالحاضرة العباسية ( بغداد ) تستهوى دائما المغامرين من الشرق من الأتراك والسلاجقة والديالمة . وبالنسبة للتتار والخوارزمية فهم أشد عتواً وأعظم خطراً ..لأن السلاجقة والديالمة كانوا عصبات قبلية لم تتكون لهم دولة ثابتة فى آسيا، أما التتار والخوارزمية فلهم سلطان قائم فى قراقورم وغزنة فكلاهما ينشد التوسع والاحتلال، ووسيلته الإبادة والقهر ، وقد رأى الشيعة الصوفية أن الوضع الجديد فى الشرق قد أجهض مجهوداتهم التى قام بها الدعاة أمثال براق وصارى صاليق والحيراني واليسوي ومسعود التركي فكانوا على حذر مما يخبئه لهم الشرق من أخطار، فاستبقوا فى (أم عبيدة) مدرسة صوفية روحية فى الظاهر مثلها إبراهيم الأعزب بينما طوف أخوه ( عز الدين الصياد) فى مراكز الدعوة فى الحجاز والشام ومصر
    وقد أحسن الشيعة بابقاء ( الأعزب ) فى (أم عبيدة) ممثلاً للدعوة الصوفي مستترا بها، فالصوفية محل رعاية حكام العصر ولا يشك فيهم أحد، وللصوفية مقدرة هائلة على التكيف مع كل حاكم جديد ، واستمالته، ونقطة الضعف لدى أى حاكم تتمثل فى اعتقاده فيهم وحفاوته بهم ، لأنهم معه طالما ظل فى سلطانه فإذا تولى قبلوا له ظهر المجن ، ولقد استطاع الرفاعية فى (أم عبيدة) استمالة غازان المغولي بعد أن قضى المغول على الخلافة العباسية وتملكوا العراق ، وكانت لخليفة الرفاعية أحمد بن عبد الرحيم الرفاعي ( 604-711) صلات بالسلطان أبي سعيد المغولي وأسلم ( أو تصوف) على يديه غازان وأتباعه سنة 694 [56].
    ونعود إلى عز الدين الصياد الرفاعى (ت670) وما يمثله من تحول للنشاط السياسي إلى الغرب فنقول أنه تحول من العراق إلى الحجاز فقصد (مكة) بؤرة الدعوة ثم ذهب للمدينة فاستمال حاكمها ابن نميلة وظل يرعى الدعوة فيها تسع سنين وبنى بالمدينة رباطاً للرفاعية ، وكوّن فيها مدرسة سياسية كان عن أعلامها الأبيوردى والسخاوى وعبد الكريم القزوينى .
    وقد دخل عز الدين مصر سنة636 ـ قبل استقرار البدوي فى طنطاـ ( فأقام فى المسجد الحسيني وأقبل عليه الناس وتلمذ له العلماء والشيوخ وأكابر الرجال ..إلخ ) ثم طاف باليمن ونزل الشام ، وعمّر زاوية رفاعية فى دمشق وحمص ( وقصده الناس من العراق والمغرب والحجاز واليمن )أى كانت الشيعة على إتصال به أينما حل وأقام .إلى أن مات سنة 670. والطريف أن الصياد الرفاعي وصف بالهيبة شأن من أهتم بالسياسة من أجداده- كالرفاعي ومهذب الدولة – فوصف الصياد بأنه كان (ذا هيبة وسكينة ووقار لا يتمكن الإنسان من إباحة النظر إليه لجلالة قدره ) بينما لم يوصف شقيقه إبراهيم الأعزب بمثل ذلك.
    وثمة ناحية أخرى فى حياه الصياد تنم على أسلوب من أساليب الشيعة المتصوفة وهى المصاهرة السياسية .وقد سبق أن والد الرفاعي قد أصهر للشيخ يحيى النجاري وأنجب أحمد الرفاعى ، وكان خاله منصور البطائحى صاحب الخرقة فعهد إليه..وتكررت القصة مع أحمد الرفاعي فقد زوج أخته من ابن عمه عثمان الرفاعي, فأنجب عثمان منها مهذب الدولة وممهد الدولة. وأصهر أحمد الرفاعي إلى إبني أخته..فتزوج مهذب الدولة فاطمة بنت الرفاعي وتزوج أخوه ممهد الدولة زينب بنت الرفاعي.وقد أنجبت زينب من ممهد الدولة عز الدين الصياد..
    وقد اتبع الصياد هذه الطريقة فى تطوافه بمراكز الدعوة .فكان يمارس (الزواج السياسى ) فحين جاء إلى مصر الأيوبية (تزوج بدرية خاتون من آل الملك الأفضل وأقام بمصر سنين وهاجر منها وترك زوجته بدرية حاملا فولدت له السيد علياً المعروف بالشباك الرفاعى فى تلك السنة ، وبقى ولده عند أخواله آل الملك الأفضل )[57]. ودخل الصياد معزة النعمان فاصهر للشيخ الصوفي الشهير عبد الرحمن بن علوان وتزوج أخته وأنجب منها ذرية.
    وأسلوب المصاهرة هذا ينم على ما أعتاده الشيعة فى دعواتهم من استعمال النفس الطويل فى الدعوة وإنتظار نتائجها على مهل، وحين تتم – حسبما يأملون – تكون من نصيب ذرياتهم فى المستقبل. ولذا فإن التزاوج كان يتم بين أنصار الدعوة ويولد الطفل بين أخواله وأتباع أبيه وعصبيته.
    لقد كان عز الدين الصياد تطوراً هاماً فى الحركة الشيعية الصوفية ورث عن جده أحمد الرفاعي الكثير من الحنكة السياسية فأكمل طريقه، ذلك أن الرفاعي اهتم فى أخريات عمره بمصر بعد إنهيار الحكم الشيعي فأرسل لها البعوث السياسية المستترة بالتصوف.
    يتبع........

    [16]أبو الهدى الصيادى .طبقات الرفاعية 6
    [17]نفس المرجع :5
    [18]البكرى : تراجم صوفية .مخطوط ورقة21
    [19]طبقات الرفاعية:5
    [20]طبقات الرفاعية :5،6
    [21]ا لنجم الساعى :13.
    [22]طبقات الرفاعية 5،6
    [23]طبقات الرفاعية 5،6
    [24] طبقات الرفاعية 6
    [25]النجم الساعى :14
    [26] الطبقات الكبرى 1/115، 116.
    [27]طبقات الرفاعية:6
    [28]النجم الساعى 15
    [29]البكرى: تراجم صوفية23
    [30]طبقات الرفاعية 7 ونحو ذلك ص 8، 14 ،18 - وانظر الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 121 وتاريخ ابن الأثير 11 / 222.

    [31] النجم الساعى 46
    [32] طبقات الرفاعية 7
    [33]النجم الساعى72
    [34] النجم الساعى 56
    [35]النجم الساعى 16:17
    [36]النجم الساعى 52
    [37]الطبقات الكبرى 1/ 124
    [38]تاريخ الخلفاء للسيوطى 696 :107
    [39] تاريخ الخلفاء للسيوطى 704
    [40]البكرى .تراجم صوفية 24
    [41]تاريخ ابن الأثير 11/164 ،177 ،185 ، 195 ،197
    [42]النجم الساعى 17 :19
    [43]النجم الساعى17 : 19، 30
    [44]النجم الساعى17 : 19، 30
    [45]تاريخ ابن الأثير 12/202 وتاريخ الخلفاء للسيوطى 713 ،717.
    [46]طبقات الرفاعية 14، 18
    [47]طبقات الرفاعية22
    [48]عبد الصمد: الحواهر السنية 52: 53
    [49] النجم الساعى 68
    [50]النجم الساعى 73
    [51]النجم الساعى 19 :24 ،32،33
    [52]طبقات الرفاعية :30
    [53]طبقات الفاعية 30 ،31
    [54]طبقات الرفاعية33 وما بعدها.
    [55]طبقات الرفاعية 47
    [56]طبقات الرفاعية.39.
    [57]ترجمة الصياد فى طبقات الرفاعية 46 وما بعدها، ومخطوط البكرى 31، 32.هذا..ويقول عبد الصمد أن أم البدوى هى(فاطمة بنت محمد بن عبد الله ابن مدين بن شعيب من مدينة فاس بالمغرب، الجواهرالسنية 19 الطبقات الكبرى للشعرانى 1/ 133 ) وعليه فالأرجح أن أبا مدين الغوث وإسمه شعيب هو جد البدوى لأمه وهذه صورة أخرى من التزاوج السياسى بين أصحاب الدعوة.
    التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 05:57 PM.

    تعليق


    • #3
      رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع


      ثالثا: بعوث المدرسة الرفاعية فى مصر الأيوبية
      وطد صلاح الدين نفوذه فى مصر ابتداء من سنة 564هجرية. وانفرد بها بعد موت آخر الخلفاء الفاطميين سنة 567. واهتم صلاح الدين بحرب التشيع فى دولته الأيوبية الوليدة. ولم يكن للرفاعي وهو فى قمة شهرته وتضخم أتباعه أن يسكت عن التطورات الأخيرة فى مصر بعد انهيار الحكم الفاطمي فيها، ولعله أدرك الخطر فى طموح صلاح الدين وتواجده المستمر فى الشام وخشى أن يحكم صلاح الدين قبضته على الشام والعراق وينقل إليها حربه ضد التشيع فبادر الرفاعي بإرسال البعوث إلى مصر الأيوبية. وعلى نفس السياسة سار خلفاؤه من بعده خصوصا وأن خلفاء صلاح الدين كانوا بعده أقل شأناً وأكثر ضعفاً.
      ومع حدب الأيوبيين بالصوفية فإن رائحة الاضطهاد تغلف تاريخ الصوفية المتشيعين من أصحابنا فى هذه الحركة ، والنفور بينهم وبين الحكام مستحكم كما يبدو فى ترجمة أبى العباس الملثم وأبى الفتح الواسطى. وهناك ناحية أخرى تتجلى فى التعاون القائم بين مدرسة الرفاعي العراقية ومدرسة أبى مدين المغربية . وتمثلها العلاقات الغامضة بين أبى السعود الواسطى مبعوث الرفاعى وأبى العباس البصير المغربي .

      أبو العباس الملثم:
      نظرا لكونه مبعوثاً سرياً يتستر بالتصوف فى دولة تحارب دعوته فإن الرمز والأساطير تغلف تاريخه وتجعله أقرب للأسطورة .. أو أقرب للبدوى فكلاهما ملثم وهم رفاق دعوة ، إلا أن أبا العباس قفز إلى اهتمام المؤرخين فكتبوا عنه ، ولتستره وغموضه فلم يكن فى تاريخه إلا الغموض والرمز .
      وحين نقرأ ترجمته فى طبقات الشعرانى نحس بأن الرمز فى ترجمته كان مقصوداً ومتعمداً لإخفاء دعوته السرية التى جاء على أساسها مصر ، وأول ما يقول الشعراني[58] فى تاريخه ( وكان أبوه ملكا بالمشرق ) ومعلوم أن ملوك المشرق فى هذه الفترة كانوا معروفين تكتب الحوليات التاريخية فى صراعهم وتقلباتهم ، ولكن الذى توحى به كذبة ( كون أبائه من المشرق) أنه وفد من المشرق رسولاً لدعوة سرية تحيطها الأسرار والألغاز وتهدف لأمر سياسي يتعلق بالحكم والملك ،وليس هناك من تعارض بين تلقبه بالملثم وكونه مشرقيا ، إذ عرفنا أن ( سلاطين الدعوة الشيعية فى المشرق) أتوا إليها من المغرب ووصفوا كآبائهم باللثام والملثمين ، بهذا وصف أحمد البدوي وأحمد الرفاعي ومنصور البطائحي ثم أبو العباس الملثم.. فكلهم ملثمون مغربيون فى الأصل مشرقيون فى النشأة.
      ثم يزداد الغموض المتعمد حين يأتى الشعراني بالراويات التى حكيت عن عمره. يقول ( وكان الناس مختلفين فى عمره فمنهم من يقول : هذا من يونس عليه السلام ، ومنهم من يقول : أنه رأى الإمام الشافعي وصلّى خلفه ومنهم من يقول أنه رأى القاهرة وهى أخصاص ، وقال الشيخ عبد الغفار القوصي : فسألته عن ذلك فقال : عمرى الآن نحو أربعمائة سنة ) ونحن هنا أمام مؤامرة واضحة تتعمد إضفاء الغموض على تاريخ الرجل وعمره وتغلفه بالأساطير ، ويشارك فى هذه المؤامرة ويقودها عبد الغفار القوصي كبير الأتباع لأبى العباس الملثم .. ولكن هذه الأساطير تصله بالمشرق مركز الدعوة السرية، فيونس عليه السلام من العراق ، والشافعي تجول بين مكة والعراق ومصر.. والاضطهاد هو السبب الحقيقي فى غموض هذا الرجل ، وإن غلف الشعراني هذا الاضطهاد بالكرامات.
      يقول الشعراني " وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه فى الرؤية والخلوة فأنكر عليه بعض الفقهاء فقال : يا فقيه اشتغل بنفسك فإنه بقى من عمرك سبعة أيام وتموت فكان كما قال.. وأنكر عليه مرة قاض وكتب فيه محضرا بتكفيره ووضع القاضي المحضر فى صندوقه إلى بكرة النهار يدعوه للشرع فجاء بكرة النهار فلم يجد المحضر ومفتاح الصندوق معه، فأخرج الشيخ المحضر و قال : الذى قدر على أخذ المحضر من صندوقك قادر على أخذ إيمانك من قلبك ، فتاب القاضي ورجع عما كان أراده ، وسمّوه ثلاث مرات ليموت فعافاه الله تعالى منه وذلك لشدة ما كانوا ينكرون عليه" .
      وإذا رجعنا بالذاكرة إلى أحمد الرفاعي والإنكار عليه نجد أن أتباعه يعترفون بأن أساس الإنكار على الرفاعي هو فى جمعه بين النساء والرجال، ونسترجع بعض هذه الاتهامات التى ووجه بها الرفاعي شتما وتقرعيا كقولهم له " يا من يستحل المحرمات ، يا من جمع بين النساء والرجال" [59]. وحين وشوا بالرفاعي عند الخليفة المستضىء العباسي قالوا عنه للخلفية " يا مولانا هذا المجلس يشتمل على مفاسد كثيرة منها الجمع بين النساء والرجال " .[60].. ونحن لا نتهم الرفاعي بهذه التهم .. ولكننا نعتبرها دليلا على الدافع السياسى ، فالرضى بهذا الاتهام البشع الذى يمس الخلق لا يكون إلا للتغطية عن إتهام أخطر فيه القضاء على الدعوة وربما أصحابها. وجدير بالذكر أن كتب المناقب التى أوردت هذه الاتهامات لم تذكر أن الرفاعي نفى هذه الاتهامات أو دافع عن نفسه ، بل ركزت على التخاشع وتطيب نفوس المنكرين عليه واستمالتهم ..
      وعلى ذلك فاتهام أبى العباسى الملثم بنفس تهمة الرفاعى كانت غطاء مقصودا يحجب الصراع بينه وبين أنصار الدولة الذين يتتبعون دعاة الشيعة ويلاحقونهم بعقد المجالس للتكفير والاعتقال . ويلفت النظر أن الرواية لم يذكر فيها أن أبا العباس الملثم أنكر هذه التهمة عن نفسه كشأن الرفاعي تماما حين اتهم بها..
      وورد فى ترجمته أن خصومه حاولوا قتله بالسم ثلاث مرات ( لشدة ما كانوا ينكرون عليه) وهذا الإصرار على ملاحقته واغتياله لا يمكن أن يكون لمجرد الإنكار على رؤيته النساء والخلوة بهن ، ولو صح هذا لكان منع النساء عنه ومنعه عنهن أيسر من تتبعه بمحاولات الاغتيال السرية. ويبدو من سيرة أبى العباس الملثم أنه تجول بين القاهرة والصعيد ، فقد التقى بعبد الغفار القوصي، وقوص من مراكز التشيع فى الصعيد ، ودفن فى القاهرة بالحسينية أو فى قوص – على إختلاف فى الروايات ..
      بقى أن نعرف شيخ أبى العباس الملثم الذى يقاسى كل هذا من أجله .. يقول أبو العباس الملثم :( بلغني عن سيدي أحمد الرفاعي أنه كان يقول : إذا استولى الحق سبحانه على قلب عبد ذهب ما من العبد وبقى ما من الله ..) وبغض النظر عن مقالة الرفاعي الموحية بالاتحاد – مذهب الصوفية – فإن الملثم اعترف بتبعيته للرفاعى المقيم فى أم عبيدة ، وأنه كان على صلة بمدرسته وإلا ما قال ( بلغني عن سيدي أحمد بن الرفاعي..) .
      ثم أليس غريبا أن تخلو ترجمة أبى العباس الملثم من ذكر لأى من الشيوخ الذين أخذ عنهم الخرقة ؟ مع أن المتبع فى ترجمة الصوفية ذكر الأشياخ والتلاميذ. أما صاحبنا فلم تكن فى ترجمته إلا قوله " بلغنى عن سيدى أحمد بن الرفاعي " ، والرفاعي الحر على تشيعه السرى وتلميذه الغامض فى مصر الأيوبية والمملوكية التى تحارب التشيع الصوفى.
      أبو السعود بن أبى العشائر الواسطي:
      ينتمى إلى واسط مركز تجمع شيعة الرفاعي ، وأبوه أبو العشائر الحسني من كبار أصحاب الرفاعي [61]، وقد وفد إلى مصر ومات بالمقطم سنة 644، وتحيط( الكرامات السياسية) بتاريخ أبي السعود ، منها أن له نوبة كاسات تضرب له فى الأرض وفى كل سماء، وأنه كان أحد الملوك السبعة وأن السلطان كان يمشي إلى زيارته[62]، وهذا ما لم يثبت فى المصادر التاريخية المعاصرة للقرن السابع ، أما الشعراني والزيات – فقد كتبا عنه ذلك من أفواه مريديه حافظي سيرته ، وأولئك خلطوا سيرة الرجل بعد موته بثلاثة قرون بما يشى بالدافع السياسى والنشاط السرى وغلفوه بالكرامات فجعلوه ملكاً فى الأرض والسماء يخضع له السلطان الذى لا نعرف إسمه.
      وقد كوّن أبو السعود مدرسة صوفية شيعية كان من أعيانها أبو الغنائم ت695 الذى ( قدم القاهرة مع أبيه فاجتمعا بالعارف القدوة أبى السعود ابن أبى العشائر الواسطى واقتديا بطريقته) وشرف الدين الكردي المدفون بالحسينية – حيث دفن أبو العباس الملثم – وبدر الدين الجاكي الكردي ، وقد وشوا به للسلطان ، وعقدوا له مجلسا لمنعه من الوعظ [63].
      ثم كان أهم أصحاب أبى السعود هو الشيخ خضر العدوى وكان له شأن مع الظاهر بيبرس وقت أن كان البدوي يمارس دعوته فى طنطا .
      ويلاحظ أن مدرسة أبى السعود كلها كانت من الوافدين عليه من الأكراد والمشارقة وأولئك جاءوا مصر فقصدوا الشيخ وصاروا من أخصائه، ولو كان الأمر طبيعيا فما كان أسهل عليهم اللقاء فى بلادهم.
      وهناك ناحية أخرى فى تاريخ أبى السعود الواسطي تتمثل فى علاقته الغامضة بأبى الفتح الواسطي مبعوث الرفاعي فى الإسكندرية ، يروى بعض مريدى أبى السعود عنه( لم يمش لبيت أحد قط إلا لبيتي بمصر مرة، ومرة زار فيها الشيخ أبا الفتح الواسطي لما ورد القاهرة بسبب علم له فيه ، ولم يجتمع به بعد ذلك)[64] . ووجه الغرابة أن أبا السعود التزم بالعزلة حتى كان لا يخرج من زاويته إلا للجمعة أو الحج[65]، ومع ذلك فقد اجتمع – على غير عادته – بأبى الفتح الواسطى – الذى سعى للقائه فى القاهرة آتيا له من الإسكندرية ( بسبب علم له فيه) ثم كان التحرز من اجتماعهما بعد ذلك ( ولم يجتمع به بعد ذلك) .
      فلعل أمرا خطيراً سرياً أوجب هذا الإجتماع الطارىء ، ثم لم يكن بعده احتماع فى مصر .
      ومعلوم أن الحج إلى مكة كان ستاراً يجتمع فيه أساطين الدعوة المنتشرون فى العراق والشام ومصر ويتداولون فيه الآراء ويرسمون فيه الخطط مع أساتذتهم فى مكة .
      وأبو السعود كان داهية ، أدرك ما يعانيه أبو الفتح من اضطهاد فى الاسكندرية فتحرز من الاجتماع به فى القاهرة . ويكفى فى إدراك نجاح أبى السعود أن تاريخه خلا من أى إشارة لاضطهاد الحكام له ، بل على العكس ورد أن السلطان – ولا نعرف من هو ذلك السلطان- كان يسعى للقائه دليلاً على أن مظهره الصوفى العادى خدع السلطات الحاكمة ، بينما أخفق بعده تلميذه بدر الدين الجاكي فافتضح أمره فعقدوا له مجلسا ومنعوه من الوعظ.
      أبو الفتح الواسطي :
      فى الوقت الذى استقر فيه أبوالسعود الواسطي فى القاهرة واجهه صوفية ترقب العاصمة ، وفى الوقت الذى تجول فيه أبو العباس الملثم بين القاهرة والصعيد كان أبو الفتح الواسطي يحتل قبلهم مكانه فى الاسكندرية مبعوثا من لدن الرفاعى .. شيخ الجميع.. وقد ختمنا به لأن البدوى خلفه بعد موته . يقول الشعرانى عن أبى الفتح ( شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر المحروسة ، وكان من أصحاب سيدى أحمد بن الرفاعي فأشار إليه بالسفر إلى مدينة الإسكندرية فسافر إليها )[66] . ويروى المناوي أن الرفاعي أرسل الواسطي للاسكندرية وقال له ( إقامتك ووفاتك بها،)[67]. وهذا أسلوب الشيعة فى دعوتهم ، فمنصور البطائحي خال الرفاعي ألزمه بالبقاء فى أم عبيدة حتى مات فيها ، والرفاعي ألزم خليفته بالبقاء فى أم عبيدة حتى دفن بها ، وألزم مبعوثه الواسطي بالبقاء فى الإسكندرية حتى مات بها . وينطبق ذلك على مبعوثيه الآخرين أبى السعود الواسطي وأبى العباس الملثم .
      على أن أبا الفتح واجه معارضة عنيفة فى الإسكندرية ، وهذا أمر متوقع بحكم موقعها الساحلي ويقظة الأيوبيين لما يجري فيها خوف الإغارات الصليبية وقد كانت الحملات الصليبية تأتى لمصر الأيوبية عن طريق البحر المتوسط وتتخذ من قبرص نقطة ارتكاز للتآمر على الثغور المصرية ، ولأن أعين الأيوبيين تترصد كل تحرك فى الاسكندرية فقد تتبع أعوانهم من القضاة والفقهاء أبا الفتح بالمحاكمات والاتهامات حتى أصابة القنوط فخالف أمر شيخه الرفاعي وعاد إلى أم عبيدة.
      يقول المناوى أن الواسطي أقام فى الإسكندرية مدة ثم عاد لشيخه الرفاعي ( لأنه لم ير فى الإسكندرية إقبالا ) ثم أمره الرفاعي بالعودة إلى الإسكندرية وأنشد
      أيها السائر سر فى دعة ***** أينما كنت فما عنك خلف
      إنما أنت سحاب ممـطر *****أينما صرفه الله انصـرف
      ليت شعرى أى أرض أملحت ***** واعيــت بك من بعد التلف
      أرسلك الله إليها رحمة*****وعدمناك لذنب قد سـلف
      يقول المناوي : فسافر الواسطي للإسكندرية [68]، ويقول الشعراني عنه ( وكان مبتلى بالإنكار عليه وعقدوا له المجالس بالإسكندرية وهو يقطعهم بالحجة ) [69].
      ولا ريب أن دعوة الواسطي للأسكندرية ونجاحه فى مجابهة خصومه يرجع إلى توجيهات الرفاعي حين عاد إليه بخفى حنين ، فرجع بعدها الواسطى شخصا جديدا يقابل خصومه و( يقطعهم بالحجة ) ويجتذب الأنصار ويكون الخلايا السرية ، وأبرزهم أتباعه المقربون ( كالقليبي والبلتاجي والدنوشري والمليجي وعبد العزيز الدريني ..) وأولئك لهم شأن مع البدوي الذى جاء ليخلف الواسطي حين مات سنة 635 .
      ونجاح الواسطي يرجع لسبب آخر يتمثل فى الاضطراب الذى حاق بالأيوبيين ابتداء من مطلع القرن السابع حيث عمّ الخلاف بين أبناء العادل الأيوبي واشتدت بينهم المؤامرات والحروب فى نفس الوقت الذى آمنوا فيه للصليبيين وادخلوهم فى منازعتهم الأسرية حتى أن الكامل الأيوبي تنازل عن بيت المقدس للأمبراطور فريدريك الثاني الألماني بدون حرب فى مقابل أن يؤيد أطماعه فى دمشق. وإذ تقرر التحالف بين الكامل والصليبيين فقد أمن من ناحيتهم وانشغل عن المؤامرات الداخلية بما يجابهه من خطر أخوته فى الشام والعراق.
      وهذا الحال المتردى الذى صار إليه حال الأيوبيين من أبناء العادل قد شجع مدرسة المغرب التى كونها أبو مدين فى بجاية وقام على رعايتها ابن بشيش، وقد تم التعاون بين مدرستي العراق والمغرب فى مصر التى تتوسط الشرق والغرب .
      وإنصافاً للحق فإن بعوث المدرسة المغربية قد تلمست طريقها لمصر منذ سقوط الحكم الشيعى الفاطمى فيها وحرب صلاح الدين للدعوة الشيعية ثم زاد دورها أبان ضعف خلفائه .


      [58]الطبقات الكبرى 1135 ،136.
      [59] الطبقات الكبرى للشعرانى : ترجمة الرفاعى 124.

      [60]النجم الساعى 17
      [61]طبقات الرفاعية : 25.
      [62]الزيات : الكواكب السيارة : 316، 317 .
      الشعرانى : الطبقات الكبرى 1/ 140
      [63]السخاوى : تحفة الاحباب 21، 22.
      الشعرانى : المرجع السابق 2/2، 3
      [64]الكواكب السيارة 316, 317
      [65]الكواكب السيارة 316, 317
      [66]الطبقات الكبرى 1176.
      [67]) الطبقات الصغرى للمناوى مخطوط ورقة 89
      [68]نفس المرجع والورقة
      [69]الطبقات الكبرى 1176
      التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:22 PM.

      تعليق


      • #4
        رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

        بعوث المدرسة المغربية إلى مصر:
        1-اتخذت بعوثها من الأسكندرية القريبة للغرب نقطة ارتكاز تنطلق منها للقاهرة – العاصمة – والصعيد موطن التشيع . وأبرز الأشياخ فى هذه المدرسة أبو الحجاج الأقصري ت 642 وقد ورد للاسكندرية من المغرب ، وفيها أخذ عن داعية مجهول من تلامذة أبي مدين ،يقول الشعراني فى ترجمة أبى الحجاج " وكان شيخه الشيخ عبد الرازق الذى بالإسكندرية قبره من أجل أصحاب سيدى الشيخ أبى مدين المغربي " [70] ، وتتلمذ على هذا الشيخ المجهول أبو الحجاج الأقصري وابن الصائغ، يقول أبو الحجاج " كنت أجىء أنا وأخى أبو الحسين بن الصائغ بإسكندرية إلى شيخنا " [71]، وانتقل أبو الحجاج إلى قوص – وهى مركز كبير للتشيع الإسماعيلي – وكون فيها مدرسة كان من أعيانها كمال الدين بن عبد الظاهر يقول الشعراني فى ترجمة ابن عبد الظاهر " صحب الشيخ أبا الحجاج الأقصرى رضى الله عنه حين كان بقوص" [72].ثم استقر أبو الحجاج فى الأقصر حيث مات واكتسب لقب الأقصري ..
        2- وكعادة دعاة الشيعة المتسترين بالتصوف فقد واجه أبو الحجاج عنتاً من الأمراء ، ويقول الشعرانى " إن شخصاً من الأمراء المشهورين فى عصره أنكر عليه" [73]، ولم تنقطع المؤامرات الخفية ضده تنشد قتله يقول خادمه زكريا التميمى "طلب شخص من مريدي أبى الحجاج الأقصري قتل شيخه مرات فلم يقدر" [74] ، أى اندس بعضهم ضمن مريدى الشيخ محاولاً قتله فلم يستطع رغم تكرار المحاولة ، ليقظة الشيخ وتحرزه.


        الاتصال بين المدرستين:
        وقد أبقى الشيعة الصوفية من مدرستى الرفاعي وأبى مدين الصلات بينهما فى طى الكتمان وغلفوها بالكرامات والأساطير إذا جد ما يستدعي اتصالاً بينهما كما حدث بين أبى العباس البصير الوافد من المغرب ت623، وأبى السعود بن أبو العشائر الوافد من العراق ، يقول الشعراني فى ترجمة أبو العباس البصير " كان من معاصري الشيخ أبو السعود بن أبى العشائر ، وكان سيدي أبو السعود فى زاويته بباب القنطرة يراسله بالأوراق فى أيام خليج النيل الحاكمي إلى باب الخرق بزاوية الشيخ أبو العباس ، فكانت ورقة أبو السعود تقلع ورقة أبو العباس ولا تبتل "[75].
        وفى مناسبة الحج كان يتم بحث شتى التفصيلات بين الأشياخ ..وسبق القول بأن أبا السعود ابن أبى العشائر كان لا يخرج من داره إلا للحج أو لصلاة الجماعة .. يروى الشعراني عن خادم أبي السعود قوله" خدمت سيدى أبا السعود عشرين سنة وأنا أسأله أن يأخذ على العهد فيقول : لست من أولادي أنت من أولاد أخي أبي العباس البصير سيأتى من أرض المغرب، فلما قدم إلى مصر أرسل سيدى أبو السعود إلى سيدى حاتم- الخادم وقال له : شيخك قدم الليلة فاذهب إلى ملاقاته فى بولاق ، فأول من اجتمع به من أهل مصر سيدي حاتم ، فلما وضع يده فى يده قال : أهلا بولدي حاتم ، جزى الله أخى أبا السعود خيرا فى حفظك إلى أن قدمنا" [76].
        ومنطقي أن يجد أبو العباس البصير حين يقدم إلى مصر خادماً يمهد له سبل الاتصال بينه وبين أبى السعود . وكل شىء متفق عليه سلفاً ، ويحكى فى صورة كرامة تستغل ما شاع فى العصر من اعتقاد فى علم الصوفية بالغيب، مع أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
        هذا.. وجدير بالذكر أن أبا العباس البصير المغربي تعلم أصول الدعوة على يد الداعية العراقي الرفاعي السري ابن سيدبونه الخزاعي " ثم سافر للصعيد وأقام بالقاهرة" [77].
        وهناك اتصالات مجهولة لم يكشف عنها الستار تمت بين الشيعة المتصوفة من مدرستي العراق والمغرب ، إلا أننا يمكن أن نترصدها من تحركات الفريقين ، فأبو العباس الملثم طوف بالصعيد وأقام مدة فى "قوص" وله علاقة بالشيخ عبد الغفار القوصي[78]، والملثم موفد من قبل الرفاعي ، وفى " قوص" أقام أبو الحجاج المغربي الأقصري مدرسة كان من تلامذته فيها ابن عبد الظاهر[79]، ولعل المؤامرات التى حكيت ضد أبي الحجاج تمت فى " قوص" الشهيرة بالتشيع لدى السلطات مما جعل أبا الحجاج يرحل عنها إلى الأقصر لينشىء مدرسة جديدة غير معلومة.
        وفى " قوص" نشأ "عبد الغفار القوصي " وتنقل بينها وبين القاهرة، وفى شخصيته تبدو ثورية وعنف وميل للتآمر ، وهى صفات أبعد ما تكون عن التصوف العادى ..فقد" كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يبيع نفسه فى طاعة الله تعالى " " وكان يقول : كلام المنكرين على أهل الله تعالى كنفخة ناموسه"[80].
        ولعله كان صلة بين أبى الحجاج وأبى العباس الملثم ، ونشأ فى جو التآمر هذا حتى إذا فشلت الدعوة الصوفية لم يجد مجالاً لتآمره إلا الكنائس، فقام بمؤامرة واسعة سنة 721 أحرق فيها الكنائس المصرية فى وقت واحد بين الإسكندرية والقاهرة والصعيد ، ورددت المراجع التاريخية هذا الحدث الفريد من نوعه فى حوادث سنة 721 [81]، ولا يمكن لمؤامرة على هذا المستوى أن تتم إلا بخبرة تامة فى التآمر وتطواف مستمر بمدن مصر ومعرفة بكنائسها وتنظيم محكم بأتباع منتشرين ووسائل اتصال على مستوى عال.
        ولا بد أن يكون عبد الغفار القوصي قد استثمر أدوات الدعوة الشيعية الصوفية بعد فشلها فى إحراقه العام للكنائس المصرية فى الإسكندرية والقاهرة والصعيد ففى هذه المناطق تتركز الخلايا الشيعية الصوفية بلا عمل، وربما رأت فى هذه المؤامرة وسيلة لإفساد الأمر على السلطة المملوكية وذلك ما فطن إليه الناصر محمد بن قلاوون وسنتعرض لذلك فى أوانه.
        وجدير بالذكر أن خضر العدوي – وهو عضو هام فى الخلايا الشيعية الصوفية – كانت له تحركاته المعادية للمسيحيين وكنائسهم [82]– وقد ذكرنا ذلك كدليل على وحدة الاتجاه لدى المدرسة الشيعية الصوفية.
        ونعود للشيعة المتصوفة والكتمان الذى يسود العلاقات بينهم ، ونذكر أن أخوف ما كانوا يخافونه هو أن يتسلل إلى خلاياهم عميل للأيوبيين أو المماليك . وقد سبق أن بعض العملاء تسلل إلى جماعة أبى الحجاج الأقصري كأحد مريديه وحاول قتله ثلاث مرات فلم يفلح ، وللشيعة العذر فى هذا التحوط فقد استغل صلاح الدين أسلوب التسلل للخلايا الشيعية الصوفية حين استمال عبد الرحيم القنائي وأوفده للصعيد فتمركز فى "قنا" حربا على زملائه القدامى ، وهو بهم أدرى ، وقد استطاع استمالة ابن الصائغ السكندرى زميل أبى الحجاج الأقصري فى الإسكندرية ، وصار ابن الصائغ من جملة أتباع عبد الرحيم القنائى..
        وعبد الرحيم القنائي من الأتباع الأوائل للشيخ أبى مدين الغوث إلا أنه انقلب على الدعوة وتعاون مع صلاح الدين الأيوبي ، ولم ينس له الشيعة المغاربة هذا الموقف . وتلمح إلى هذا رواية صوفية نسبت للشيخ أبى العباس البصير المغربي ، يقول الشعراني أنه ( قدم شخص من مريدي الشيخ أبى العباس البصير على سيدي عبد الرحيم القناوي بعد وفاة الشيخ أبى العباس ، وكان الشيخ يأخذ العهد على جماعة من الحاضرين فمد يده ليد فقير أبى العباس وهو فى المحراب فخرجت يد أبى العباس من الحائط فمنعت يد الشيخ عبد الرحيم فقال : رحم الله أبا العباس يغير على أولاده حياً وميتاً ) [83]والثابت أن أبا العباس توفى بعد عبد الرحيم بمدة طويلة ، فعبد الرحيم توفى سنة 592، وأبو العباس كان معاصراً لأبى السعود وتوفى سنة 623 ، ولكن صياغة هذه الكرامة توحى بالصراع الخفي بين القناوي وبقية الشيعة الذين انشق عليهم فحقدوا عليه حتى بعد موته..
        ثم نعود لأبى الفتح الواسطي وقد استفاد من الاضطراب السياسي فى مصر فكوّن مدرسة قدر لها أن تنمو وأن تلعب دوراً هاماً فيما بعد ، وصار كما يقول الشعرانى ( شيخ مشايخ بلاد الغربية بأرض مصر المحروسة . وأخذ عنهم خلائق لا يحصون .)[84]إلا أن موته آذن بانهيار جهوده.
        فسارع الشيعة حين بلغتهم وفاته سنة 635 بإرسال أحمد البدوى ليحل محله فى مصر وليتزعم بشبابه وحيويته الدعاة فى مكانه البعيد الخفى عن الأنظار فى "طنتدا" .
        يقول باحث عن أبى الفتح الواسطي " كانت له مكانة بين أتباع الرفاعي فلقد أرسلوه إلى مصر ليبشر بطريقتهم ويتزعم الأتباع فوصل الإسكندرية سنة 620 وأقام بها داعيا ، ولقى هناك عنتا كبيرا من شيوخ الشرع والفقهاء وتوفى سنة 632 ، ولما وصل خبر وفاته إلى خلفاء الرفاعي بالعراق مركز الدعوة والطريقة الرفاعية وقع إختيارهم على السيد البدوي ليخلفه فى زعامة الإخوان وأتباع الرفاعي بمصر .[85].
        ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق فى مجلة السياسة " دوهم العلويون فى مكة بنبأ وفاة أبى الفتح الواسطي داعيتهم فى مصر ، ذلك الرجل المدهش الذى استطاع فى سنين قلائل أن يجمع إلى رايته أجل أربابالنفوذ من علماء مصر وأعيانها ، فلم يجدوا أكفأ من السيد أحمد البدوي لهذه المهمة فوجهوه إلى الديار المصرية فنزح إليها من مكة عام 637 هجرية وسكن بطنتدا)[86].
        وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى البدوي كمبعوث سياسي سري للصوفية المتشيعين .
        وقد عشنا مع المراحل السابقة من مراحل الدعوة وأشياخها ومواطنها ابتداء بالمغرب ومرورا بالحجاز والعراق ثم نحط الرحال فى طنطا لنري ماذا سيفعل البدوى بالدعوة وعلام ينتهى أمره..



        [70]طبقات الكبرى 1136
        [71]نفس المرجع ،1/136
        [72]نفس المرجع ، 1/137
        [73]نفس المرجع ،1/ 136
        [74]نفس المرجع ، 136
        [75]نفس المرجع ، 2/3
        [76]نفس المرجع ، 2/3
        [77]السيوطى : حسن المحاضرة 1517
        [78]الطبقات الكبرى للشعرانى 1136، الطالع السعيد 131
        [79] نفس المرجع 1137
        [80]نفس المرجع 1139
        [81] عقد الجمان مخطوط ، نهاية الأرب مخطوط 313، 4 ، 7 ، 8 ، الطالع السعيد 172 : 173 ، زبدة الفكرة لبيبرس الداودار 91 474 : 475 ، السلوك 2150.
        [82]) تاريخ ابن كثير13-165 ، النجوم الزاهرة 7-162
        [83]الطبقات الكبرى 24
        [84]نفس المرجع 1176
        [85]على سالم عمار: أبو الحسن الشاذلى 177

        [86]مجلة السياسة 11
        التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:01 PM.

        تعليق


        • #5
          رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

          تلخيص
          الخطوط العريضة لكثير من التفصيلات التى سبقت فى توضيح الجهد الذى قامت به مدرسة الرفاعي فى العراق ، باعتبار أن هذه المدرسة هى الأم التى أنجبت أساطين الدعوة فى مصر والشام والعراق واليمن ، فنلاحظ الآتى :

          1)نجح الرفاعي تماما فى استغلال التصوف كساتر لحركته الشيعية السرية . ظهر كصوفي أمام العامة والحكام فازداد أتباعه فى نفس الوقت الذى قرب إليه خواصه من مريديه المقيمين معه فى أم عبيدة ، وقد جعلها قلعة لأتباعه يرسل منها سراً البعوث إلى الشرق والشمال ، وكانت له سياستان حسب الظروف ، فساس أتباعه بالحزم والصرامة، وعلى العكس من ذلك صابر أعداءه ولاطفهم حتى استطاع النجاة من مكائدهم واكتسبهم أنصاراً ومريدين.
          2-) لم يكن خلفاء الرفاعي فى مستواه السياسي ، بينما تغيرت الظروف السياسية إلى غير صالح الدعوة ، فالناصر العباسى أحكم سيطرته على العراق والتحركات المغولية والخوارزمية فى أواسط آسيا وشمالها أجهضت الدعوة الناشئة فى هذه المناطق ، فيمم الشيعة وجههم شطر مصر التى كانت تعاني من الاضطراب السياسى تحت حكم أبناء العادل الأيوبي .
          ولأنه لم يوجد من خلفاء الرفاعي من يدانيه مقدرة ودهاءاً فقد توزعت مهامه بين خلفاءه ، فظلت ( أم عبيدة) مركزاً صوفياً فى الظاهر شيعياً فى الباطن يتعلم فيه المبعوثون أساليب الشيعة فى الدعوة، بينما انتقل النشاط السياسى إلى خارج العراق ممثلاً فى عز الدين الرفاعى الذى طوف بالحجاز ومصر والشام واليمن يكون فيها الخلايا وينشىء فيها الزوايا .
          3) سبق الرفاعي خلفاءه فى الاهتمام بمصر بعد سقوط الدولة الفاطمية الشيعية فأرسل أبا السعود بن أبى العشائر وأبا الفتح الواسطي وقد احتل كل منهم مكانه بين الاسكندرية والقاهرة .
          4) فى مصر نجح أبوالفتح الواسطي فى استغلال الاضطراب الذى حاق بالأيوبيين بسبب تنازعهم العائلى المستمر فأكثر من أتباعه وانتشروا فى مصر إلا إن موته حدا بالعلويين إلى إرسال من يحل محله ، فكان "البدوي".
          5-) بقى أن نقول أن اتجاه العلويين إلى مصر مكنهم من الاستفادة بإخوانهم أتباع مدرسة المغرب وبتنسيق سرى منتظم ، كما حدث من أبى الحجاج الأقصري وأبى العباس البصير، وكما سنراه مع الشاذلي والبدوي. والمنتظر منهم أن يجهزوا للقادم الجديد "البدوي" عرشه فى طنطا ، فلابد أن يستفيد مما زرعه السابقون.......... يتبع
          التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:02 PM.

          تعليق


          • #6
            رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

            حقيقة البدوي أو البدوي كداعية سياسى سري

            تمهيد
            ( استغلال الشيعة للزهد والتصوف ضد الدولة العباسية فى: حركة القرامطة ، وحركة الزنج ، وقيام الدولة الفاطمية، نشأة التصوف فى احضان التشيع معروف الكرخى والحلاج ، استغلال الدولة الفاطمية للتصوف حين ضعفت، صلاح الدين الأيوبى يحارب التشيع بالتصوف السنى.)

            فى بداية أى حركة تكمن فكرة معينة وأصحاب الدعوات هم بالضرورة أصحاب ( أفكار) يبغون ترويجها فى سبيل هدف معين ،ودعوة البدوى أو حركته السرية سلسلة من مخطط طويل قام على أساس ربط التشيع بالتصوف أملا فى إنشاء حكم شيعى يعيد سطوة الدولة الفاطمية ،
            ثم هو حلقة فى كتاب التآمر الشيعى ضد الدولة العباسية التى انفردت دونهم بالحكم والسيطرة.
            وقد استغل الشيعة سلاح الزهدوالتصوف فى الكيد للدولة العباسية، فحركة (الزنج) قام بها شيعى طموح انتحل النسب العلوى وجمع الزنوج وهم أدنى طبقات المجتمع فى العصر العباسى فثار بهم على الخلافة العباسية واستمرت ثورته من سنة 255 : 270 هجرية.
            ولم تنته مؤامرات الشيعة ضد العباسيين فبعد ثمانى سنوات بدأت حركة "القرامطة" سنة 278 على يد حميد قرمط الذى " أظهر الزهد والتقشف"آ [1]على حد قول المؤرخ ابن الأثير ، وتطورتآ قوة القرامطة فقطعوا الطريق على الحجاج وهاجموا الكعبة وأخذوا الحجر الأسود سنة 317 واستمر أمرهم إلى مابعد منتصف القرن الرابع .
            وباظهار الزهد والتستر به نجح أبو عبد الله الشيعى فى استمالة البربر وتكوين الدولة الفاطمية فى المغرب فقيل عنه أنه أظهر لكبار البربر (العبادة والزهد[2] ) أثناء الحج فى مكة حتى تمسكوا به وصحبوه إلى بلادهم وآزروه فى دعوته حتى تم قيام الدولة الفاطمية.
            والطريف أن أعداء الشيعة تعلموا منهم استغلال الزهد فى إقامة الدول،فقامت فى المغرب دولة المرابطين الملثمين(448 : 553هجرية)بدعوة (الزاهد)عبد الله بن ياسين الكرولى ،ثم قامت هناك دولة الموحدين على يد الداعية (الزاهد)محمد بن تومرت سنة 514.
            بل أن بعض أعداء الشيعة استغل الزهد فى الثورة على الفاطميين الشيعة كما فعل أبو ركوة الذى ثار على الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله سنة317،وكان أبو ركوة أمويا إلا أنه تستر بالزهد أوحسب تعبير ابن الأثير (تظاهر بالدين والنسك )[3]، وكان يجعل فى أسفاره ركوة كالصوفية فكنى بها.
            ولم يكن الزهد السلاح الوحيد الذى استغله الشيعة سياسيا بل تستروا إلى جانبه بالتصوف ، بل أن التصوف فى حقيقته ابن شرعى للتشيع فلا خلاف فى أن " معروف الكرخى " هو أقدم الرواد الصوفيين.
            ومعروف هذا كان من موالى على بن موسى الرضا رأس الشيعة فى عهد الخليفةالمأمون ، وقد عهد الخليفة المأمون لعلى بن موسى الرضا بولاية العهد إلا أن الأمر لم يتم له . وبالطبع فإن شهرة على بن موسى الرضا ومكانته لدى الخليفة المأمون أتاحت القدر الأكبر للشيعة لنشر دعوتهم ، وبداية الطريق الجديد هو التصوف الذى يتغلغل الشيعة من خلاله سرا إلى شتى المجتمعات والأجتماعات وكان معروف الكرخى وسيلتهم فى نشر التصوف، فمعروف تنتهى إليه كل ( خرقة )أو سلسلة صوفية ، وهو أستاذ سرى السقطى ، والسقطى هو شيخ الجنيد ، والجنيد هو" سيد الطائفة " فى تعبير الصوفية . أى أن معروف الكرخى نجح منذ بداية التصوف فى تكوين خلايا وتجمعات حوله حتى أنه لا يزال يحتل رأس القائمة حتى الآن فى كل سلسلة صوفية.
            وإذا عرفنا الوجه الصوفى لمعروف الكرخى كالشيخ الأقدم لكل الطرق الصوفية،فإن الوجه الشيعى يظهر فى تاريخه ،فقد كان معروف هذا نصرانيا فأسلم (أو تصوف )على يد (مولاه) على بن موسى الرضا ، ولازم خدمته ، يقول عن نفسه " تركت ما كنت عليه إلا خدمة مولاي على بن موسى الرضا"آ [4]. وظل ارتباط معروف بسيده الرضا حتى إنه مات على أبوابه حين كان يعمل حاجبا لديه، فقد ازدحم الشيعة يوما بباب الرضا ( فكسروا اضلع معروف فمات) [5].
            والآثار الشيعية تظهر جلية فى صوفى شهير أشتهر بالصراحة هو الحلاج، وقد كانت العوامل السياسية هى السبب الخفى وراء محاكمته الطويلة التى انتهت بقتله سنة 309. فقد ظهر الحلاج فى عصر يموج بتيارات التشيع وتحركاته السياسية فى الشرق والغرب ، ففى الشرق استولى الحسن بن على الأطروش الشيعى على طبرستان ، وفى الغرب تم قيام الدولة الفاطمية فى المغرب واتجهت بحركات عسكرية للاستيلاء على مصر ، وفى المنطقة الوسطى كان القرامطة الشيعة يعيثون فى الأرض فسادا فيما بين العراق والشام والحجاز.
            ونلاحظ نوعا من التوافق الزمني بين التحركات الشيعية السابقة وشكوكآ العباسيين فى الحلاج وهو تحت أيديهم وفى قبضتهم ، ففى العام الذى أعتقل فيه الحلاج وهو 301 كان الفاطميون يستولون على الاسكندرية والحسن الأطروش يستولى على طبرستان. وربما بدأت شكوك العباسيين فى الحلاج بعد قيام الدولة الفاطمية فى المغرب سنة 296، ولعلهم عرفوا بالصلة بين الحلاج والفاطميين فقد كتب الحلاج إلى بعض دعاته بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الفاطمية الزهراء[6]. وحدث بعدها قيام الدولة الفاطمية فى المغرب ، وقد ذكر الخطيب البغدادى أن أهل فارس كانوا يكاتبون الحلاج باسم ( أبى عبد الله الزاهد)[7].
            وهو نفس ما يطلقه الشيعة على أبى عبد الله الشيعى صاحب الدعوة الفاطمية فى المغرب ، أى كان للشيعة داعيتان بلقب واحد فى المشرق والمغرب وكلاهما تستر بالتصوف والزهد.
            وهناك توافق بين مصرع الحلاج والتحركات المجنونة التى قام بهاالقرامطة، فقد قتل الحلاج سنة 309 ،وقد أنتقم له القرامطة بالهجوم على البصرة سنة 311 ثم الكوفة سنة 312 ، وفى نفس العام هاجموا الحجاج ثم عاودوا الهجوم على الكوفة سنة 351 وعاثوا فى العراق فساداًآ [8].
            يؤكد ذلك أن الحلاج حين صلبه العباسيون اتهموه بأنه أحد القرامطة،ففى حوادث سنة 309 " أدخل الحسين الحلاج مشهورا على جمل على بغداد فصلب حيا ونودى عليه " هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ، ثم حبس إلى أن قتل سنة 309 ، وأشيع عنه أنه ادعى الألوهية وأنه يقول بحلول اللاهوت فى الأشرافآ [9]فالحلاج على هذا شيعى قرمطي يقول بتأليه الأئمة من الأشراف حسب عقائد الشيعة. ومع صراحة الحلاج إلا أنه لجأ للتقية حين حوكم ، والتقية مبدأ شيعى يعنى نفاق الحاكم حين الضرورة والتستر باظهار عكس ما فى الباطن للنجاة، وذلك ما فعل الحلاج حين أحاطت به أدلة الاتهام فكان لا يظهر منه ما تكرهه الشريعة حتى إن القضاة احتاروا فى سبب موجب لقتله ثم عثروا فى أوراقه على آراء له فى الحج تفيد أن الإنسان إذا أراد الحج يمكنه أن يحج فى بيته بطريقة معينة ذكرها ابن الأثير فى تفصيل الحكم بقتل الحلاج[10]آ . ويلاحظ الاتفاق بين الحلاج والقرامطة بالنسبة للكعبة والحج إليها ، إذ أن القرامطة حققوا عمليا ما ارتآه الحلاج نظريا ، إذ أن القرمطى أسس دارا أسماها ( دار الهجرة) ودعا أصحابه للحج إليها ، ثم فى العام التالى سنةآ 317 هجم على مكة فقتل الحجاج فيها حول الكعبة والقاهم فى بئر زمزم وضرب الحجر الأسود فكسره واقتلعه وحمله إلى(دار الهجرة) وظل فى حوزتهم أكثر من عشرين سنةآ [11].
            ومع التيارات السياسية المتعارضة بين القرامطة والفاطميين وهما أصدقاء الحلاج ورفاقه فى الدعوة . فإن الصلات العقائدية بينهما متينة ، وقد ذكر ابن الأثير إن المعز لدين الله الفاطمى أرسل لمقدم القرامطة كتابا يذكر فيه أن الدعوة واحدة وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه وإلى آبائه من قبلهآ [12].
            ولا شك أن مصرع الحلاج قد كشف الأصل الشيعى للتصوف لذا اضطر الصوفية المعاصرون للحلاج لإعلان التبرؤ منه، فافتى الشبلي بقتله ، وأفتى الحريري بضربه وإطالة سجنهآ [13]وخاصمه الجنيد رأس الصوفية واتهمه بالسحروالشعوزة[14].على أن ذلك كله لم يغن عنهم نفعاً إذ لاحقتهم السلطة العباسية بالمحاكمات والاضطهاد حتى اضطر الجنيد- وهو اكثرهم نفاقاً وتقية إلى التستر بالفقه والاختفاء عملا بالتقية الشيعية ، حتى أنه (كان لا يتكلم إلا في قعر داره بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت فخذه ويقول:أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى ويرمونهم بالزندقة و الكفر)[15].
            بقى أن نذكر أن الشيعة عجلوا باستغلال التصوف عسكريا في حركة ابن الصوفي الذى ثار على ابن طولون في مصر سنه 256 منتهزا فرصة الصراع بين ابن طولون والخلافة العباسية .يقول ابن الأثير : (ظهر بصعيد مصر إنسان علوي ذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيي بن عبدالله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ويعرف بابن الصوفي ، وملك مدينة إسنا ونهبها وعم شره البلاد ، فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فهزمه العلوي)[16].
            وهكذا ..استغل الشيعة الزهد في حركة القرامطة والزنج كما استغلوا التصوف مع الزهد في إقامة الدولة الفاطمية في المغرب ،وساعدهم على انجاح حركاتهم ما عانته الدولة العباسية من ضعف بعد أن تحكم الموالي الأتراك في شئون الخلافة والخلفاء حتى أن الولايات المستقلة قامت في مصر والشام ممثلة الدولتين الطولونية والاخشيدية.وصارت أفريقيا (المغرب) تحت تحكم الدولة الفاطمية بخلافة شيعية مستقلة تتطلع للزحف شرقاً ،وتم لها النصر بفتح مصر سنه 358.
            وكما قامت الدولة الفاطمية على استغلال الزهد والتستر به كما فعل أبو عبد الله الشيعى فإنها بعد استقرارها فى مصر لم تغفل عن استغلال التصوف، فكان خلفاء الفاطميين يطلقون على أنفسهم لقب الصوفية فى فاتحة رسائلهم ،وحين تمهدت الأ مور تماما أعلن الخلفية الحاكم الفاطمى الألوهية تشبها بالحلاج الصوفى, وتجسيدا لآرائهآ التى تقول بحلول اللاهوت فى الأشراف .
            ثم ازدادت حاجة الفاطميين للتصوف فى القرن السادس الهجرى ،فقد ضعفت الدولة وتحكم الوزراء العظام فى الخلفاء الفاطميين وانفض المصريون عن الدعوة الاسماعيلية الشيعية أساس الدولة الفاطمية، فى نفس الوقت الذى ازداد فيه تيار التصوف بعد ما قام به الغزالى زعيم الفقهاء والصوفية من عقد الصلح بين الإسلام والتصوف وإعطاء التصوف مسحة إسلامية ومحاولة التقريب بينهما، لذا اضطر الفاطميون فى القرن السادس للتركيز على تيار التصوف الآخذ فى الانتشار باعتبار أن التصوف فى الأصل وليد للتشيع والشيعة أخبر بالتصوف وأدرى باستغلاله والاستفادة به. والفاطميون بالذات لاتزال دولتهم قائمة ودعاتهم موجودون وهم أحوج لاستغلال التصوف فى وقت ضعفهم .
            ومع الأسف فإن طبيعة الاستغلال الشيعى للتصوف فى القرن السادس على يد الفاطميين كانت غامضة شأن النشاط الشيعى القائم دائما على التستر والتخفى ، ومع ذلك فإن هناك إشارات تنبئ عنه وتشير إليه، فالمقريزى يروى أن(الخليفة الآمر فى 524 جدد قصر القرافة واتخذ تحته مصطبة للصوفية ، فكان يجلس بالطابق الأعلى بالقصر ويرقص الصوفية أمامه بالمجامر والألويه)[17].
            ويلفت النظر هنا أن الصوفية مغرمون دائما بالقرافة وما فيها من مشاهد ولذلك اضطر الفاطميون إلى (تجديد ) قصر القرافة ،وجعل الآمر منه مسرحا لأوباش الصوفية يرقصون أمامه ، ومن خلال الرقص يكون التشاور واللقاء فى ذلك المكان القصي البعيد .
            ويذكر الشعرانى فى ترجمة الصوفى ابن مرزوق القرشى 564( انتهت إليهآ تربية المريدين الصادقين بمصر وأعمالها وانعقد إجماع المشايخ عليه بالتعظيم والتبجيل والاحترام وحكموه فيما اختلفوا فيه ورجعوا إلى قوله)[18]معنى ذلك أن هناك طرقاً صوفية لم نسمع بها باتباع ومريدين بمصرآ وأعمالها وانتهت بمشايخ كانوا يرجعون فى كل شئونهم إلى ابن مرزوق القرشى الشيخ الأكبر لهم ..
            وفى هذا العصر المتقدم لم تكن الطرق الصوفية معروفة أو مألوفة مما يدل على تفكير عملى وتخطيط ناضج يحظى بتأييد الدولة الفاطمية التى لابد أن تكون مستفيدة من هذا النشاط الصوفى المتشعب فى كل البلاد. ويلفت النظر أن ابن مرزوق القرشى لم يتعرض لنقمة الحكام شأن أغلب الصوفية فى عهده ولم يرد فى ترجمتها ما يدل على كراهيته لأولى الأمر ،بل على العكس ورد فى تاريخه ما ينبئ عن تمكنه من فنون التستر والتقية الشيعية ،يقول الشعرانى عنه (حكى أن أصحابه قالوا يوما: لم لا تحدثنا بشئ من الحقائق! فقال لهم :كم أصحابى اليوم؟ قالوا :ستمائة .فقال استخلصوا منهم مائة ثم استخلصوا من المائة عشرين ،ثم استخلصوا من العشرين أربعة ،فكان الأربعة ابن القسطلانى وأبا الطاهر وابن الصابونى وأباعبد الله القرطبى فقال الشيخ :لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رءوس الاشهاد لكان أول من يفتى بقتلى هؤلاء الأربعة [19]) . وتقسيم الدعاة إلى درجات هرمية ، وإعطاء الأسرار بقدر وحساب وكون الإمام سراً مغلقاً دائماً حتى عن كبار أتباعه، كل ذلك من أسس الدعوة الشيعية الى تظهر فى النص السابق عن ابن مرزوق القرشى. ومع ما يظهر من كثرة أتباع ابن مرزوق القرشى وانتظامهم طوائف وطرقا منظمة موزعة إلا أن هذه الطرق المتشعبة لم يعد لها وجود بعدالعصر الفاطمى ، مع أن الطرق الصوفية التى أسست فيما بعد لا تزال بيننا فى اتساع وتشعب وتفرع ,والتعليل واضح،أن الطرق التى أسسها ابن مرزوق أسست لغرض معين هو نشر الدعوة الشيعية أثناء الدولة الفاطمية خدمة لها فلما انهارت الدولة الفاطمية انهارت معها كل تنظيماتها العلنية والسرية .
            ويتضح مما سبق أن الدولة الفاطمية أبان ضعفها استغلت التصوف المعلن فى نشر عقائدها الشيعية بين طوائف المصريين مستغلة الصلات العقائدية بين التصوف والتشيع وانتشار التصوف وانخراط الكثيرين فى صفوفه . وقد فطن لهذه الحقيقة باحث متخصص فى أساليب الشيعه فقال أن الفاطميين استعملوا صنفاً من الدعاة تستر بالتصوف وأظهر الزهد، وسبّب وجود هذا الصوفى الظاهر صعوبة التفريق بينهم وبين الدعاة الشيعة العاديين[20]، بل بينهم وبين الصوفية العاديين من أوباش الصوفية الراقصين أمام الخليفة الآمر فى قصر القرافة .
            بيد أن ذلك كله لم يجد نفعا ، فازداد إعراض المصريين عن الدعوة الشيعية الفاطمية لأنهم رأوا ( الإمام المعصوم ) أو الخليفة الفاطمى ألعوبة فى أيدى الخصيان والجوارى والوزراء ، ولم يستطع الفاطميون بسبب التردي السياسي والضعف الذى وقعوا فيه أن يمنعوا الكيزاني ت 560 من نشر دعوته السنية التى تعارض التشيع . والكيزاني شاعر زاهد سنى أخذ يحارب الدعاية الشيعية الفاطمية بأشعاره السنية فالتفت إليه الكثير من المصريين وانضموا لدعوته ، وظلت طريقته حتى القرن التاسع فى عصر المقريزى، فنقم عليه المقريزى لميل المقريزى للفاطميين ، فيقول عن الكيزاني ( ابتدع مقالة أضل بها اعتقاده ، والطائفة الكيزانية على هذه البدعة مقيمون)آ [21].
            ووجد الفاطميون أنفسهم فى موقف حرج ، فسلطتهم السياسية آخذة فى الضعف والوهن وعقيدتهم الشيعية الاسماعيلية تواجه الدعاية الكيزانية السنية المستترة هى الأخرى بالتصوف ، ولأن الفاطميون أقدر على استغلال التصوف وأدرى بنفسية الصوفية وأخبرهم بأهوائهم وأذواقهم فقد لعبوا بالوجدان الصوفي وعواطف المصريين حين أنشأوا مقبرة للحسين رضى الله عنه ادعوا أنها تضم رأس الحسين ،وقصدوا بهذا الفعل أن يستردوا ما خسروه سياسيا ودعائيا أمام كل أعدائهم ومنافسيهم .
            والحق.. أن إنشاء المشهد الحسينى فى أواخر العهد الفاطمى ليدل على مهارة فائقة للفاطميين فى أستغلالهم للتصوف وفهمهم لنفسية الصوفية والعامة،فالحسين رضى الله عنه يحتل مكانة خطيرة فى العقيدة الشيعية والوجدان الصوفى والشعبى ،فهو كبير الأئمة عند الشيعة وسيد الأولياء عند الصوفية وصاحب الخطوة وسيد شباب أهل الجنة عند العامة والخاصة فى هذا العصر وما تلاه. ومنذ القرن الثانى للهجرة صيّر الشيعة من كربلاء مشهداً ومزاراً للحسين رضى الله عنه واحتلت كربلاء مكانتها فى الوجدان الشيعى ، ثم إذا ضعف الشيعة الفاطمية فى مصر التفتوا إلى استعارة قبس من كربلاء تلاعباً بعواطف المصريين المحبين لآل البيت، وتقربا للصوفية، وغرامهم بالأضرحة والمزارات معلوم ومعروف، فالصوفية إلى الأضرحة يحجون وعليها يعكفون ، والحسين أولى عندهم وأعظم شأنا ، فعند الحسين وضريحه يلتقى الصوفى السنى والشيعى ، وحتى من أعرض عن التشيع الفاطمى وانضم إلى الكيزانى الصوفى فلن يستطيع أن يمنع نفسه من تقديس مشهد الحسين.رضى الله عنه
            يقول ابن تيمية: ( لم يحمل رأس الحسين رضى الله عنه إلى القاهرة فقد دفنت جثته حيث قتل ، وروى البخارى فى تاريخه أن رأس الحسين رضى الله عنه حمل إلى المدينة ودفن فى البقيع عند قبر أمه فاطمة رضى الله عنها ، وبعض العلماء يقول إنه حمل إلى دمشق ودفن بها . فبين مقتل الحسين رضى الله عنه وبناء القاهرة نحو مائتين وخمسين سنه، وقد بنى الفاطميون مشهد الحسين فى أواخر سنة 550هجرية ، وانقرضت دولتهم بعد هذا البناء بنحو أربع عشرة سنة ، وهذا مشهد الكذب )[22]وما يقوله ابن تيمية لا غبار عليه من الناحية التاريخية ،فلا علاقة للحسين رضى الله عنه بمصر فقد قتل فى العراق سنه 62هجرية وفى ثورته تلك كان اهتمامه وأتباعه واعداؤه آ بين الحجاز والعراق والشام ، ولا مكان لمصر يومئذ ، حتى إن الدولة الفاطمية حين انتقلت لمصر قوية متماسكة لم تفكر فى الحسين رضى الله عنه ولا فى رأسه وأغفلته تماما فيما شيدت من قصور ومساجد ، فقد أقامت مدينة كاملة هى القاهرة وجامعاً ضخماً بدون ضريح - هو الأزهر وشيدت قصورا للخلافة والحاشية وخلت منشآتهم الأولى من أى مشهد علوى للحسين رضى الله عنه أو غيره. ثم إذا ضعفت الدولة الفاطمية وتحكم فيها الوزراء والخصيان وصار الخليفة (المعصوم) ألعوبة لا يستحق الاحترام - حينئذ اضطر الفاطميون لاكتساب ما فقدوه من تأييد فادعوا العثور على رأس الحسين رضى الله عنه بعد قتله بخمسة قرون دون أى سند من عقل أو منطق أوعلم، اللهم إلا خرافات التضليل الصوفية والشيعية التى أحاطوا بها ذلك المشهد المقدس والرأس المزعوم فيه.
            إلا أن تلاحق الأحداث فى نهاية الدولة الفاطمية لم يمكنهم من استثمار ذلك المشهد سياسيا، فقد تنازع على الوزارة الفاطمية شاور وضرغام ، وسرعان ما تدخل فى النزاع قوى خارجية ممثلة فى الصليبيين ونور الدين زنكى وقواده شيركوه وصلاح الدين ، وانتهى الأمر بعلو شأن صلاح الدين وتأسيسه الدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الفاطمية وتحول مشهد الحسين رضى الله عنه إلى ( ضريح صوفى) خال من أى رتوش شيعية سياسية.
            وقد كان صلاح الدين الأيوبى بعيد النظر ، إذ أدرك أن الدولة الفاطمية دولة ( إيدلوجية) تقوم على دعوة وعقيدة لها اتباع ودعاة ، لذا فإن القضاءعليها لا يتم بمجرد موت (العاضد) آخر خليفة فاطمى أو قتل الحاشية الفاطمية من الأرمن والسودانيين ، وإنما القضاء الحقيقى على الدولة لا يكون إلا بحرب الفكرة الشيعية ، وقد استفاد من خصومه فاستغل مثلهم سلاح التصوف الموالي له، يدل على ذلك أن صلاح الدين بادر حين استتب له الامر بنقل قبر الكيزاني إلى مكان آخرآ [23]اهتماماً به كرفيق له فى الدعوة ضد التشيع وكأستاذ له فى حرب التشيع الفاطمى بالتصوف المستتر بالسنة.، ثم استورد صلاح الدين صوفية من المشرق وعمر لهم خانقاه( سعيد السعداء) ، وكانت لهم طقوسهم فى تأدية صلاة الجمعة ، فاكتسبوا إعجاب المصريين حتى كانوا يخرجون للفرجة عليهمآ [24]، وسرعان ما ارتفعت الخوانق للصوفية العاملين فى خدمة الدولة الأيوبية ومذهبها السنى المناوىء للتشيع الفاطمى . ولم يكتف بذلك صلاح الدين بل أرسل من لدنه صوفية إلى الصعيد مركز التشيع الفاطمى ، وكان من مبعوثيه عبد الرحيم بن حجون أو عبد الرحيم القنائي الذى استقر فى قنا ، وكوّن فيها مدرسة لحرب التشيع باسم التصوف الرسمى السنى ، وكان من تلامذته أبوالحسن الصباغ ثم ابن دقيق العيد، وسنعرض لهذه الشخصيات فى أوانها.
            والمهم أن عبد الرحيم القنائي كان صوفياً شيعياً سابقاً إلا أنه انقلب على رفاقه وانضم إلى السلطات الأيوبية وتأرجح بعض تلامذة مدرسته بين حرب التشيع الظاهر والمستتر والتعاطف مع بعض الشيعة الصوفية كما فعل ابن دقيق العيد الذى كانت له جولات فى حروب الشيعة فى الصعيد أشار إليها الأدفوي في كتابه ( الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد) [25]ثم فى ختام حياته سلّم لبعض المستترين بالتصوف أو انخدع لهم كما سيأتى فى علاقته بالبدوي وأبى العباس الملثم.
            والآن فقد وصل بنا ( التمهيد) إلى الحركة الشيعية المستترة بالتصوف فى القرنيين السادس والسابع الهجريين والتى كان البدوى خاتمة المطاف فيها .
            التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:02 PM.

            تعليق


            • #7
              رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

              ملخص:
              1ـ - إن الشيعة بعد أن خدعهم العباسيون واستأثروا من دونهم بالسلطة لم يغفلوا عن الاستفادة بكل جديد فى الكيد للعباسيين ، استغلوا آ ترف العباسيين فأثاروا عليهم الطبقات الفقيرة فى حركة الزنج ، وحين قويت حركة الزهد الذى يعنى الاحتجاج السلبى على الترف العباسى فانهم حولوا الزهد السلبى إلى حركات ثورية تستر أصحابها بالزهد والتقشف لاستمالة الطبقات الفقيرة المحرومة ولاستقطاب الإعجاب الذى يكنه الناس للزهاد وتحويله إلى تأييد لهم فى ثورتهم ضد العباسيين كما فى حركة القرامطة آ وبداية الدولة الفاطمية فى المغرب.
              2ـ - ثم إذا انحسرت الأضواء عن الزهد نوعا ما اخترع الشيعة إلى جانبه(التصوف) الذى بدأ متداخلاً مع الزهد وإن كانت الفروق بينهما أساسية ( فمعروف الكرخي) الرائد الصوفى الأول كان خادما ومولى للرضا كبير الشيعة فى عصر المأمون ، و( الحلاج) أشهر الصوفية كانت ميوله الشيعية أقوى من الكتمان .. وتحركاته ومحاكماته تتوافق مع تحركات الشيعة ضد الدولة العباسية ، ثم يثور شيعي في مصر ويلقب نفسه (بابن الصوفي ) وينتحل التصوف مع النسب العلوي .
              وكما قامت الدولة الفاطمية بدعوى الزهد والتصوف فإنها لم تغفل عن الاستفادة بالتصوف في مصر فكونت طرقا صوفية فى الظاهر شيعية فى الباطن كما حدث مع ( ابن مرزوق القرشى ) واجتذبت لها الصوفية ، ثم إذا ازداد ضعفها ركزت على التصوف فأقامت قبر الحسين ليكون واجهة صوفية للدعوة الشيعية إلى جانب الأزهر الذى أقاموه مدرسة للتشيع الصريح من قبل .
              3 - وظهر أن الآخرين استفادوا من مبتكرات الشيعة ، بل أن أعداءهم حاربوهم بنفس السلاح الذى اخترعوه، ( فأبو ركوه) تظاهر بالزهد والتصوف حين ثار على الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي و(الكيزاني ) حارب التشيع المستتر بالتصوف ، بالتصوف المستتر بالسنة، و(صلاح الدين) سار على نهج الكيزانى فأقام الخوانق للصوفية الرسميين على حساب الدولة وتكفل باطعامهم والانفاق عليهم ثم أرسل بعوثا باسم التصوف لحرب التشيع فى الصعيد ، وازدادت الخوانق فى مصر الأيوبية ونعم الصوفية الرسميون بعطف الحكام الأيوبيين والمماليك فيما بعد ، بينما حرم من هذا العطف الصوفية الآخرون الذين كونوا لأنفسهم جماعات سرية بعيدة عن الدولة وخوانقها وأموالها ، وأولئك لاحقتهم الدولة بالشكوك والاضطهاد.
              4ـ - ومن خلال هذه الحرب السرية بين الجانبيين اللذين انتحلا التصوف جعلاه مسرحاً للحرب بينهما سنعرض للحركة الصوفية الشعية فى القرنيين السادس والسابع ، تلك الحركة التى نفهم من خلالها حقيقة البدوى كداعيةآ شيعى سرى مستتر بالتصوف ..
              ولأن البدوى كان خاتمة المطاف فى هذه الحركة السرية فإننا سنبدأ ببحث جذور هذه الحركة فى المغرب ثم ننتقل معها إلى العراق حيث مدرسة أحمد الرفاعى الذى أسس شجرة الدعوة فى أم عبيدة بواسط .. وأثمرت هذه الشجرة دعاة ملأت بهم الأقطار فى الشرق ( فارس والتركستان) والغرب.. إلا أن الخطر المغولي والخوارزمي فى الشرق جعلهم يركزون على مصر فى الغرب خصوصا بعد انهيار الحكم الشيعى الفاطمى فيها، فكان البدوى فى مصر الحلقة الأخيرة من هذا المخطط الشيعى الذى بدأ ( بذرة و جذورا ) فى المغرب ثم ( استوى على سوقه) فى العراق ثم (أثمر) البدوى فى مصر.

              [1]تاريخ ابن الأثير 7
              [2]تاريخ ابن الأثير 8
              [3]تاريخ ابن الأثير 982 و(الركوة) هى قرية الماء.
              [4]الرسالة القشيرية 15: 16
              [5]السلمى . طبقات الصوفية 85 ط 1953
              [6]التنوخى . نشورا المحاضرة 186 : تحقيق مارجليوت .
              [7]تاريخ بغداد 8k ط . دمشق .
              [8]تاريخ ابن الأثير 8 ، 53 ، 54 ، 58 ،62
              [9]السيوطى تاريخ الخلفاء 606: 607
              [10]تاريخ ابن الاثير8/47
              [11]آ تاريخ ابن الأثير 8 ،وتاريخ الخلفاء611..
              [12]ابن الأثير 8
              [13]مزروق الفاسي :قواعد الصوفية 51
              [14]أخبار الحلاج61
              [15]الشعراني: الطبقات الكبرى 1
              [16]تاريخ ابن الأثير 795
              [22]آ تكسير الأحجار. مخطوط بدار الكتب ورقة 146 ،147
              [23]الصفدى : الوافى بالوفيات
              [24]خطط المقريزى
              [25] الطالع 230
              التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:02 PM.

              تعليق


              • #8
                رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

                قبيل جهود السيد البدوي فى الدعوة السرية


                نشأته وإعداده:
                1 ـ نشأ البدوي بمكة مركز الدعوة "وكان حفظ شيئاً من القرآن وقرأ شيئا من الفقه على مذهب الإمام الشافعي " . ومعنى أنه حفظ "شيئا من القرآن" وقرأ "شيئاً من الفقه "إن الجانب الأكبر من نشأته انصب على ناحية أخرى يفسرها ما قاله عبدالصمد بعدها "واشتهر بالعطاب لكثرة ما كان يقع لمن يؤذية من الناس "[1].

                والواقع إن البدوي اشتهر فى بدايته بالفروسية يقول عنه الشعراني "لم يكن فى فرسان مكة أشجع منه ،وكانوا يسمونه فى مكة العطاب "[2]وهذا اللقب أطلقه عليهآ أخوه الحسن الذى تولى إعداده ونشأته ، يقول الحسن مفتخراً بصنيعه "ولم يكن فى مكة والمدينة من الفرسان أشجع ولا أفرس من أخي أحمد فسميته العطاب محرش الحرب "[3].
                ويبدوأن فروسية البدوي أتت بعد مران عنيف بدأ منذ صغره ،فقد وصف فى رجولته بأنها "كان بين عينيه جرح جرحه ولد أخيه الحسين بالأبطح حين كان بمكة "[4]. وتفوق البدوي في هذا المضمار فلم يكن فى مكة والمدينة من يدانيه فروسية وشجاعة ، وحق له أن يفخر بذلك على عادة الشعراء الفرسان فيقول[5]
                أنـا أحـمد البـدوي فارس مكة ***** وساكن طنت فى الملوك لى العزل
                أنا الأسد للقتال فى حومة الوغى **** إذا جلـت فى الأعـداء ينهزم الكل
                أنا صاحب الرمحين فى أرض مكة***** لى البأس فى الهيجا إذا حصل الخبل


                2 ـ وإلى جانب الفروسية تميز البدوي بالدهاء والنجابة فلفت له أنظار الكبار من أسرته المنهمكين فى التخطيط للدعوة. وفى هذه الأثناء كان بمكة والمدينة عز الدين الصياد الرفاعي الذى غادر العراق سنة 622 ثم استقر بالمدينة تسع سنوات أحدثآ فيها تغييراً هاماً حيث انتقل بالدعوة إلى المدينة وضم إليها حاكمها ابن نميلة وكوّن فيها مدرسة للدعاة تخرج فيها القزويني والسخاوي والأبيدري ،وأنشأ بها زاوية للرفاعية [6].
                وعلى ذلك فالمرجح أن يكون عز الدين الصياد الرفاعي هو الذى أشار على الحسن باصطحاب أخيه البدوي ليتعلم أصول الدعوة فى (أم عبيدة ) فى واسط العراق، وكان ذلك سنة 633 أى أثناء وجود عز الدين فى مكة ، لأنه استقر بالمدينة تسع سنوات أى إلى سنة631 . ثم أقام بمكة إلى أن انتقل منها إلى مصر سنة 637 ، فلا شك أن البدوى جذب انتباهه فى مكة وربما بالمدينة قبل ذلك حيث تفوق البدوي فى الفروسية على شباب مكة والمدينة معا .
                3 ـ وتغلف الأساطير رحلة البدوى للعراق وفيها ما يرمز للطموح السياسي ..من ذلك ما ورد فى الجواهر السنية "قال سيدي أحمد البدوي .بينما أنا نائم بجوار الكعبة وإذا أنا بهاتف يقول لى فى المنام : استيقظ من نومك يا همام ،ووحّد الملك العلام ..ولا تنم فمن طلب المعالي لا ينام ، فو حق أبائك سيكون لك حال ومقام :واطلب مطلع الشمس..لتحظى بزيارة الأبطال والرجال الكرام ..فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وكانت ليلة الأحد عاشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة،وأخبرت أخي الحسين بذلك ،وكان أخي الحسن أكبرنا سناً وأرفعنا قدراً ...وكان هو الخليفة علينا بعد والدنا ، فقال يا أخى أكتم سرك ولا تبح به ..واعلم يا أخى أحمد إن كل بلاد لها رجال ولكل رجال قطب يحكم عليهم بمشيئة الله تعالى ،وإذا دخل بلادهم أحد من الرجال من أرباب الأحوال أمرهم قطبهم بالرواح إليه فإن كانوا أقوى منه رجّعوه ، وإن لم يتأدب معهم قتلوه وسلبوه ،وإن كان أقوى منهم زجرهم وبددهم ومزق شملهم .ويقع بينهم الحرب والطعن والضرب "[7]
                فالأسطورة ترمز إلى ما آل إليه العراق فى هذه الآونة ..تلك الحال التى أخرجت عز الدين الصياد عنه ..وحين أرسل البدوي للعراق ليتعلم الدعوة فى أم عبيدة لم يفارقه الخوف الذى تعبر عنه بقية الأسطورة مع أن البدوي كان فارس وطنه ولم يذهب فى رحلته منفردا بل صحبه أخوه الأكبر مرشداً.
                وفى الأسطورة كان الرفاعى يأتى للبدوى فى منامه مرشداً سياحياً فى مسالك العراق إلى أن وصلوا أم عبيدة : "وإذا بالخيام قد لاحت وأعلام أم عبيدة قد بانت، فقلت لأخى الشريف حسن : يا أخي كأن هذا ملك من بعض ملوك العرب نزل فى هذا المكان ونصب خيامه ونشر أعلامه. فقال لى : يا أخي هذه أم عبيدة ،وهذه الخيام خيام السيد أحمد بن الرفاعي وليس يكشف هذا السر إلا القليل من الناس ، وهذه الخيام والأعلام لرجال تحتها قيام قد سهروا الليل فى الظلام وجاهدوا أنفسهم بالصيام والقيام " . وتمضى الأسطورة آ فتصور تكليف البدوي من قبل القائمين على الأمور فى ام عبيدة بأن يذهب للقاء بنت بري ,وتفصل صراعه معها[8].
                4 ـ ويقيني أن أسطورة فاطمة بنت بري ــــــــ التى لامحل لها من الأعراب ــــــ قد حيكت للتعمية على التعليم السري الذى يتلقاه البدوي فى أم عبيدة، التى كانت وقتها تحاول أن تبدو تصوفاً بحتاً لا شائبة فيه من تشيع أو دعوة سرية . وكان أنسب الأساليب هو التلهية بقصة فاطمة بنت بري التى تحاول إغراء البدوى (وسلب حاله )،ومع ما فى قصة البدوي وبنت بري من شكوك حول علاقة ما بينهما ،فإن هذه الشكوك مقصودة ليستغرق فيها الخصوم وينسوا الطابع السياسى للرحلة. وقد مر بنا أن الرفاعي والملثم تطوعا بقبول الاتهام الخلقى لستر الدافع السياسى .
                5 ـ وإلى ما قبل رحلة البدوى للعراق كان يبدو أبعد الناس عن أن يكون صوفياً، فقد بز أقرانه بفروسيته واشتهر بدهائه فرأى أولو الأمر أن يذهب إلى العراق ليكتسب مسحة تصوف يتخفى تحتها حين يكلف بأمر من أمور الدعوة.وفى العراق اكتمل إعداد البدوى على يدى الصوفى الشيعى ابن عرب تلميذ الرفاعي وشقيق أبى الفتح الواسطيآ [9]،
                وعاد البدوى لمكه شخصا مختلفا.وتصور الكتابة الصوفية ذلك بقولها : (ولما حدث له حادث الوله “ الجذب:الجَذْبُ : ( في اصطلاح الصُّوفِيَّة ) : حالٌ من أحوال النفس يغيب فيها القلبُ عن عِلْمِ ما يجري من أَحوال الخلق ، ويتصل فيها بالعالم العُلْوي . “ تغيرت سائر أحواله واعتزل الناس وكان لا يتكلم إلا بالإشارة لمن يحبه ، فامسكنا معه الأدب) [10].وبهذه الصورة الجديدة التى عاد بها من العراق توجه البدوي لمصر وقد اتخذ مظهر المجذوب .
                6 ـ وبموت أبى الفتح الواسطي سنة 635 وقع الاختيار على البدوي ليخلفه فى مصر ،ورتب عز الدين الصياد الامور للداعية الجديد ،فاختار له المكان ،ووزع الأدوار المساندة للبدوي على بقية الدعاة من مصر والعراق والمغرب .

                الاعداد لدعوة البدوي فى مصر :
                وصلها سنة 637[11]. وقبل وصوله بعام كان عز الدين الصياد قد دخل القاهرة . يقول البكري عنه:( ثم أنه- أى عز الدين- دخل مصر سنة ست وثلاثين وستمائة وأقام بالمسجد الحسينى وأقبل عليه الناس وتلمذ له العلماء والشيوخ مثل جمال الدين بن الحاجب وغيره وأقام بمصر سنتين )[12]، وفى المدة التى قضاها عز الدين بمصر( 636-638) كان قد وصل للبدوى فوجد الأمور معدة له على النحو التالى :
                إختيار طنطا كمكان للدعوة السرية
                1 ـ كان إختيار طنطا مركزا للبدوي فى هذه الفترة عملاً صائباً دل على معرفة بأهميتها وظروفها المواتية للهدف الذى اختيرت من أجله.وواضح إن عز الدين الصياد قد إستشار أولى الأمر من مدرسته التى كونها بالقاهرة ، وهم أدرى ببلادهم والأعرف بأصلح مكان للدعوة ، فطنطا تتوسط الطريق بين العاصمة (القاهرة ) و(الإسكندرية ) مركز اتباع الواسطي ، ويمكن بتوسطها للدلتا أن تكون مركزاً هاماً للدعوة فى مصر يسهل اتصالهم بها ، ثم إن بعدها عن القاهرة مناسب يتيح لمن بها أن يكون يقظاً لما يحدث فى العاصمة من تطورات يأتيه بها أعوانه فيها . ومحاولة الابتعاد عن السلطة وأعوانها كان عاملاً هاماً فى اختيار طنطا فإن (سخا ) شاركت طنطا موقعها الاستراتيجي وكمركز للمواصلات والطرق البرية ، إلا أن سخا فى عهد البدوى كانت أكبر مدن الغربية وبها دار الوالي كما ذكر ياقوت الحموي[13]فابتعد عنها مخططو الدعوة وآثروا طنطا التى وصفها ياقوت بأنها (من كورة الغربية وبينها وبين المحلة ثمانية أميال[14]) أى كانت طنطا فى ذلك العهد مجرد قرية صغيرة تعرف بالمسافة بينها وبين المحلة التى كانت أكثر شهرة فكانت عاصمة للغربية ، ويكفى ذلك للابتعاد عنها .
                وهناك عامل تاريخى خاص بالشيعة ، فقد اتخذ الفاطميون من (طنطا ) عاصمة لأحد أقاليم مصر السفلى فى عهد الخلفية المستنصر (427-487) وعرف إقاليمها باسم الطندتاوية ، وقد انحسرت أهميتها بانحسار الحكم الفاطمى عنآ مصر ومجئ أعدائه ..إلا أن الشيعه كانوا لا يزالون يحتفظون لطنطا بالذكريات وعرفوا أهميه موقعها فأعادوها مكاناً لدعوتهم السرية. وحرص البدوي وهو فى طنطا على الخلوة بمسجد البوصه المعروف الأن بأسم مسجد البهي: ( وتدل حالته على أنه أقدم المساجد بطنطا لأنه بنى بربوة عالية ولأن مئذنته ذات أضلاع وعليها برج مغلق على نظام مئذنة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي )[15]، فالبدوي اختار مسجداً فاطمياً للعزلة فيه ، وربما كان يفكر فى أسلافه الشيعة الفاطمية وهو يرتب لدعوته السرية لإعادة ملكهم الضائع .
                2 ـ وفى داخل طنطا تم ترتيب آخر لإستقبال البدوي؛ فتعيّن المنزل الذى سيقيم فيه والرجل الذى سيساعده ،بحيث أن البدوي قدم من مكة على طنطا مباشرة فدخل المكان مباشرة ووجد صاحبه على استعداد وترقب وانتظار ،ـوذلك ما نلمحه من خلال السطور فيما يقوله عبد الصمد ( كان بطندتا رجل من أولياء الله تعالى يسمى الشيخ سالم ، وهو المبشر بقدوم سيدى أحمد البدوي ، وذكر أنه استدعى الشيخ ركين وقال له :اعلم أنه يقدم عليك رجل يسمى أحمد البدوي وينزل بطندتا فى بيتك يا ركين .وبعد مدة قدم سيدي أحمد البدوي ضارب اللثامين - وكان من عادة الشيخ ركين أنه يصنع طعاماً فى بيته فى كل أسبوع ويجتمع فيه أقاربهآ من النساء والرجال فيطعمهم ويكرمهم ، فبينما هم مجتمعون فى مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم سيدي أحمد البدوي ، فلما تأملوه فإذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين ، فصاحت النساء فى وجهه ، فلما علت أصواتهن دخل عليهن الشيخ ركين ، فإذا هو رجل مجذوب وإمارة الولاية لائحة فاقعة على وجهه ، ووقع فى قلبه أنه البدوي الذى بشّره به الشيخ سالم .فأقبل عليه بكليته وقبل يديه و رجليه وجثا على ركبته..الخ )[16]
                ولم يكن عسيراً أن يستقطب الشيعة أعواناً لهم داخل قرية طنطا بحكم أنها كانت مركزاً هاما فى الدولة الفاطمية قبل قرنين من الزمان .ومن المعقول أن يحتفظ بعض الأثرياء فيها بذكريات عن ثراء أسلافهم وبلدهم فى ظل الفاطميين الشيعه ويأملون أن تستعيد هذا المجد بالتعاون مع الدعوة الشيعية الجديدة ،والمنتظر أن تظل فى طنطا جذوة من التشيع تحت الرماد .
                ونتوقف مع الشيخ سالم ذلك الذى بشر بقدوم البدوي .ويبدو من حديث عبد الصمد عنه أنه كان ذا مكانة فى البلدة بحيث أنه استدعى ثريا كالشيخ ركين وأخبره بمجئ البدوي وألزمه بضيافته . ويتبادر للذهن أن ذلك المبشر بقدوم البدوي كان ضالعا فى التخطيط الشيعي ، وهذا ما حدث فعلا فسالم ينتمى للمغرب موطن المدرسة المغربية المساندة لمدرسة العراق ،يقول عبد الصمد عن موقف البدوي من أولياء طنطا حين استقر بها (وأما سيدي سالم المغربي فأنه أقام بطنتدا ودخل تحت حكم الأستاذ وسلم الأمر إليه إلى أن مات[17]). وبسبب الدور السياسي الذى قام به سالم المغربي فى تأييد البدوي ضد خصومه من الصوفية الآخرين ،وما سبق ذلك فى تمهيد الأمور له قبل قدومه ، بسبب هذا الدور فإن هناك اضطراباً أظنه مقصوداً فى سيرة ذلك الرجل وتاريخه ،فبينما يقول عبد الصمد أنه (دخل تحت حكم الأستاذ وسلم الأمر إليه إلى أن مات ) يقول فى موضع آخر أنه مات قبل دخول البدوى طنطا[18].
                وسالم المغربى يذكرنا بصوفى آخر أكثر شهرة أتى من المغرب ليساند الدعوة السرية ،إنه أبو الحسن الشاذلى ت 656.
                (ب) أبو الحسن الشاذلي يحتل مكانة الواسطي فى الاسكندرية :
                بعد موت الواسطي فى الاسكندرية بادرت مدرسة المغرب بزعامة ابن بشيش بإيفاد الشاذلي ليحل محل الواسطي ويرث دعوته. وتم ذلك بتخطيط وتنسيق مع المدرسة العراقية وشيخها الذى أقام بالقاهرة عامين يرتب فيها أمور الدعوة للبدوي الوافد الجديد الذى سيحتل مكاناً آخر سرياً بعيداً عن الأنظار هو طنطا بينما ينفردآ الشاذلى بالإسكندرية .
                ويقول المناوى فى ترجمة أبى الفتح الواسطى مبعوث الرفاعى فى الإسكندرية (ولم يزل مقيماً بالإسكندرية والناس يقبلون عليه حتى مات ، وأذن للشاذلى بالدخول قبل موته فصلى عليه )[19]والمناوى يوحى بأن الشاذلى لم يدخل الإسكندرية بلد الواسطي إلا بإذن ورضى من أولى الأمر ، وقد قام بالصلاة عليه حين دفن ، فمعنى ذلك أنه خليفته القائم بالأمر من بعده . وظهر أن مهام أبى الفتح الواسطى قد توزعت بعد موته بين الشاذلي فى الإسكندرية والبدوى فى طنطا ، فتلاميذ الواسطي عملوا فى خدمة البدوي وحلقات اتصال بينه وبين أعوان الدعوة فى الدلتا والقاهرة ، أما الشاذلي فى الإسكندرية فقد كان واجهة صوفية تطمئن اولي الأمر على خلو المدرسة الواسطية فى الإسكندرية من طموحها السياسي ولتشغلهم بالتصوف عن البدوي القابع فى طنطا .ثم إن الإسكندرية نقطة الاتصال البحري بين الشام والعراق والحجاز من جهة و( شمال )أفريقيا والمغرب من جهة ..وفى نفس الوقت فاتصالها ميسر بطنطا والقاهرة ،ووجود طريقة صوفية بالإسكندرية يجعل منها حلقة اتصال أساسية بين المدرستين العراقية والمغربية وتكون غطاء مناسباً للبدوى فى طنطا . ثم إن الفراغ الذى حل بالإسكندرية بوفاة الواسطي لابد أن يتداركه أساطين الدعوة بملئه بتصوف شيعي من داخل الدعوة حتى لا يحتل الإسكندرية من لا تؤمن بوائقه من المتصوفة المتعاونين مع السلطة وما أكثرهم .
                وانتماء الشاذلي للمدرسة المغربية وشيخها وشيخه ابن بشيش أمر معروف غير منكور ، ولكن الذى نحققه هنا هو انتماؤه للمدرسة العراقية الذى يربطه بالدعوة السرية وأصحابها ويجعله من ضمن العاملين فى إطارها مهما تضاءل الدور المسنود إليه. والواقع أن الشاذلي كغيره من أساطين المدرسة المغربية لهم انتماء سري بالمدرسة العراقية اتخذ صورة العهد والخرقة وهو نفس الطريق الذى اتخذه الشيعة المتسترون بالتصوف غطاء للتقابل وجمع الأنصار ووضع الخطط . وهناك أكثر من حلقة تربط الشاذلي المغربي بالمدرسة العراقية ، فالشاذلي ينتمى لشيخه ابن بشيش ت 626 ،وابن بشيش أخذ الخرقة عن الشيخ بري العراقي تلميذ الرفاعي وداعيته السري ،وهو نفسه أى الشيخ بري هو الأستاذ الذى أخذ عنه البدوي ،وليس غريبا أن يتطامن شيخ كبير فى موطنه كإبن بشيش ليأخذ العهد على تلميذ سري للرفاعي ،وذلك أن أخذ العهد كان طريقة سرية للتلاقى وترتيب الخطط. فالشاذلي ينتمي للمدرسة العراقية بطريقة غير مباشرة بالتبع لشيخه ابن بشيش الآخذ عن المدرسة العراقية . يقول صاحب الطبقات الرفاعيه أن الشاذلي أخذ الخرقة عن ابن بشيش عن الشيخ بري العراقي عن الشيخ أحمد الرفاعيآ [20].
                وبعد ابن بشيش كان اتصال الشاذلي المباشر بالمدرسة العراقية ,واتخذ نفس الصورة ، صورة إعطاء العهد ،مع أن الشاذلي بعد موت ابن بشيش لم يعد مريداً صغيراً فى بداية الطريق ،ولكنه الأسلوب الذى يتستر به أساطين الدعوة السرية ،وبه اتخذ الشاذلي لنفسه خرقة رفاعية بالطريق المباشر ، فأخذ العهد على تلميذ لابن سيدبونه الخزاعى هو عبد الرحمن العطار ،وقد مر بنا أن ابن سيدبونه الخزاعي كان داعية سرياً للمدرسة العراقية ومع أنه مجهول منكور إلا أن علماً كبيراً من المدرسة المغربية هو ابن عربى - أخذ على يديه العهد ،ثم جاء عبد الرحمن العطار يجدد مسيرة شيخه ابن سيدبونه كما جاء الشاذلى يأخذ العهد على العطار أسوة بابن عربي مع ابن سيدبونه . والشاذلي على هذا أخذ الخرقة الرفاعية عن عبدالرحمن العطار عن ابن سيدبونه عن الرفاعي ..
                ولم تنقطع صلة الشاذلي بالمدرسة العراقية فاتخذ لنفسه صاحباً منهم هو نجم الدين الأصفهاني [21]مستشاره فى الدعوة ،وقد كان الاصفهاني فيما بعد شيخاً للدسوقي الذى تابع مسيرة الشاذلي بعد موته .
                وقد تجلت وحدة التخطيط بين المدرستين العراقية و المغربيةآ فى ارتحال الشاذلي للأسكندرية ليخلف أبا الفتح الواسطي العراقي فيها . وصدر الأمر للشاذلي من شيخه ابن بشيش بالسفر للأسكندريهآ [22]فى نفس الوقت الذى يمرض فيه أبو الفتح الواسطى ويموت ، وابن بشيش ومدرسته المغربية أقرب للإسكندرية وأدرى بظروفها وأكثر اطلاعا على مجريات الأمور والدعوة فيها .
                وقد كان ابن بشيش يعانى من عنت السلطات المحلية فى دولة الموحدين التى تتعقب مدرسة ابن مدين وتلميذه ابن بشيش ، ودفع ابن بشيش حياته ثمنا لهذا الا ضطهاد .
                وبعد مقتله كان على الشاذلي تلميذه الأول أن يتحمل نصيبه من العنت والاضطهاد قبيل رحيله الإسكندرية ،وقد أوردت الكتابات الصوفية فى ترجمة الشاذلي بعض الأخبار عن الاضطهاد الذى قاساه الشاذلي قبيل سفره للإسكندرية ، وإن أضفت عليه كالعادة أساطير الكرامات لتستر السبب السياسي فى الاضطهاد والمحاكمات ، ومع ذلك فإن رائحة السياسة تظهر من خلال الحوار وبين السطور، كأن يقال أن خصم الشاذلي وشى به عند السلطان فى تونس وقال عن الشاذلي (أن هاهنا رجل من أهل شاذلة سواق الحمير يدعي الشرف وقد اجتمع عليه خلق كثير ويدعى أنه الفاطمي ويشوش عليك فى بلادك[23]) ويلاحظ أن دعوة الفاطمي المنتظر قد روجتها مدرسة أبى مدين وتلميذه ابن عربي فى كتبه وابن بشيش فى دعوته ،وقد استمرت هذه الدعوة إلى القرن الثامن حتى أن ابن خلدون فيما بعد هاجم هذه الفكرة فى مقدمته ،وابن خلدون كما نعرف فقيه مغربي خدم سلاطين الموحدين وهو أعرف بجذور النشاط الشيعي وقد أرجع هذه الفكرة إلى ابن عربي ومدرسته كما أوضحنا سابقاً .
                والمهم أن الشاذلي اتهم عند السلطان المغربي بأنه (يدعى الشرف ) و(يدعي أنه الفاطمي ) أى الفاطمي المنتظر ، وإن كثيرين أجمعوا عليه (وقد اجتمع عليه خلق كثير ) وأنه أحدث هزة سياسية أخافت أولي الأمر ، أو أنه (يشوش ) على السلطان فى بلاده ، وكان منتظرا أن يهرب الشاذلى من صميم الاضطهاد وخصوصا وأن أبا الفتح الواسطي فى الإسكندرية يعيش أيامه الأخيرة.
                وتحاول أساطير الكرامات أن تموه على الدوافع السياسية وأن ترفع من شأن الشاذلي وهو يقاسي الاضطهاد من السلطان فتروي أن السلطان عقد مجلسا لمحاكمة الشاذلي ( وتحدثوا فى العلوم المكتسبة والعلوم الوهبية )أى اللدنية ، ولا بد أن ينتصر الشاذلى فى الأسطورة على خصومه أمام السلطان كنوع من التعويض عما يلاقيه من اضطهاد ،ثم تقول الرواية
                أن ابن عبد البر قاضى القضاة للسلطان والخصم الأكبر للشاذلي يقول عنه للسلطان (والله لئن خرج فى هذه الساعة ليدخلن عليك أهل تونس ويخرج من بين أظهرهم فإنهم مجتمعون على بابك ..وكان ابن عبد البر ما أراد بذلك إلا حبس الشاذلي )[24]. فالرواية تفصح هنا على أن شيعة الشاذلي قوية إلى درجة أن خصمه اتخذ منها دليلا أمام السلطان على خطورة الشاذلي وحاول أن يخيف السلطان إذا تهاون معه ..وكان الشاذلي حسبما تذكر الأسطورة قد انتصر على خصومه فى العلوم المكتسبة واللدنية أمام السلطان فكان يميل لإطلاق سراحه. ثم تلجأ الأسطورة إلى إسناد الكرامات للشاذلي وأنه استعرض أمام السلطان بعضا منها فأخافه وأرعبه فاضطر لإطلاق سراحه .ولا ندرى لماذا حرم الصوفية أستاذ الشاذلي ومعلمه وشيخه ابن بشيش من هذه الكرامات حين اغتاله أعوان السلطان ، ولو كان للشيخ الشاذلي بعض منها لكان محفوظا من كيد الأعداء .وربما يكون الشاذلي قد أفلت من قبضة السلطان فى مجلس محاكمته بالتقية وهى الأسلوب الشيعى المعروف حين الأزمة ،ثم أحس الشاذلي بأنه إذا أفلت مرة فلن يفلت الأخرى ،فكان هربه للإسكندرية .
                وقد أحس السلطان وأتباعه بخطورة الشاذلي حين هرب للإسكندرية ،ولأنه أفلت من قبضتهم فلم يسعهم إلا الكيد له عند أولي الأمر فى الإسكندرية ليشفوا غليلهم .تقول كتابات المناقب إن ابن عبدالبر أرسل خلف الشاذلي رسالة لوالى الإسكندرية الأيوبي على صورة(عقد فيه شهادة ) بأن (الواصل إليكم شوّش علينا بلادنا وكذلك يفعل فى بلادكم )[25].
                إلا أن تحذير المغاربة لم تؤثر على الشاذلي فى الإسكندرية ، فوظيفة الشاذلي أن يبدو أمام أولي الأمر تصوفاً محضاً لطمأنة الأيوبيين وحتى لا تتكرر قصة اضطهاده المغربية أو يكون لدسائس المغاربة أثر فى موضعه الجديد ،وساعده على نجاحه فى سياستهآ الجديدة المختلفة انتقال الثقل السياسي للدعوة إلى طنطا وانشغال الأيوبيين بمنازعاتهم الأسرية بين مصر والشام عما يجرى تحت ذقونهم فى الأسكندرية وطنطا وغيرهما.
                ويتضح فى الروايات الصوفية عن اضطهاد الشاذلي فى المغرب اتجاه لتبرئة السلطان الموحدي وتحميل السخط كله على قاضى القضاة ابن عبد البر كزعيم للحاقدين على الشاذلي وأن السلطان كان سرعان ما يقتنع بولاية الشاذلي وأنه برئ من الاتهامات السياسية التى يكيلها له ابن عبد البر . ثم تمضي الأساطير فتصور ما حاق بابن عبد البر من نكبات كجزاء على تطاوله على الشاذلى ،وذلك جميعه خطاب غير مباشر لأولى الأمر بالإسكندرية والقاهرة لتغطية السبب الحقيقى فى هروب الشاذلي للإسكندرية وأن الأمر لا يتعدى تنافساً حاقداً من قاضي القضاة ابن عبدالبر موجها للشاذلي الذى يفوقه فى (العلوم الوهبية والمكتسبة ).
                وقد آتت هذه السياسة أكلها فاطمأن أولو الأمر من ناحية الشاذلي فلم يرد فى المصادر التاريخية أى نبأ عن اضطهاده وقد كان علماً معروفاً فى القرن السابع ،ولا يتصور مثلاً أن تعقد له محاكمة بالأسكندرية دون أن يدونها المؤرخون المعاصرون للشاذلي وهو معروف لديهم .
                إلا أن بعض الكتاب الصوفية استمرأ الكذب ومارس هوايته فى إسناد الكرامات للشاذلي فى الأسكندرية والقاهرة ضد السلطان الأيوبي استمرار لما نسجوه عن بطولات الشاذلي ضد السلطان المغربى فى تونس . وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا حين يظهرون شيخهم طويل الباع فى ميدان الكرامات والتصريف ، فقد قالو إن السلطان المصري ولم يعينوا له اسماً أو وصفاً حين جاءته رسالة ابن عبدالبر التى تحذر من الشاذلي قد بادر باعتقال الشاذلي فما كان منه إلا أن مارس مع السلطان المسكين بعض كراماته ( فحركوه فلم يتحرك ولم ينطق ) على حد تعبيرهم إلا حين عفا عنه الشاذلي وحينئذ اعتذر للشاذلي وأقر له بالولاية [26].
                ونقطة الضعف لدى كتاب المناقب الصوفية تتمثل فى غرامهم بتأليف الأساطير وتأليف الكرامات وإسنادها لأشياخهم حتى لو ناقضت الواقع التاريخي أو الديني أو سببت ضرراً للشيخ الذى تؤلف فيه كما هو الحال فى صاحبنا الشاذلي .فكراماته المزعومة تنافى كتابات المؤرخين المعاصرين له والتى لم يرد فيها إشارة اضطهاد فى تاريخه ، كما أنها أى الكرامات ـ عموما تناقص الواقع الإسلامي . ولكن المهم أن كاتب المناقب نفسه يناقض أساطيره حين يقول عن الشاذلي (لما قدم من المغرب الأقصى إلى مصر صار يدعو الخلق إلى الله فتصاغروا وخضع لدعوته أهل المشرق والمغرب )[27]فأين كان ذلك المضطهد المعتقل فى الرواية السابقة ؟ وهو هنا بمجرد قدومه يدعو الخلق فيتصاغرون أمامه على حد قوله . ثم إن الشاذلي يعبر عن وضعه الجديد حين استقر بالإسكندرية وأمن فيها بعد خوف وعز فيها بعد ذل واستراح فيها بعد اضطهاد ...فيقول عن نفسه (لما قدمت إلى مصر قيل لى : يا على ذهبت أيام المحن وأقبلت أياما المنن[28]) ، ومن الأسكندرية كتب لبعض أتباعه فى المغرب يقول (الكتاب إليك من الثغر حرسه الله ونحن فى سوابغ نعم الله نتقلب)[29]ولو حدث اضطهاد للشاذلي فى مصر لما وصف قدومه لها بهذه الصورة الوردية .
                وبعد .. فلقد كان للشاذلي الفضل فى اجتذاب عز الدين بن عبد السلام إلى طريقته الصوفية ، وفى هذا نصر كبير للدعوة .وقّدر لعز الدين بن عبد السلام أن يدفع ثمنه غاليا فيما بعد ، وسنعرض لذلك فى أوانه ،إلا أن الشاذلي توفى سنة 656 ، فكان لابد لمخططي الدعوة السرية أن يبحثوا له عن خليفة يقوم بوظيفته .
                (جـ)مشاركة الدسوقي :
                عاش عز الدين الصياد طويلا (574-670 ) ولا ريب أنه علم بأن فاطمة بنت الشيخ أبى الفتح الواسطي قد أنجبت شابا يافعا هو إبراهيم الدسوقي (633-676) فكان لابد لإبراهيم أن يأخذ دورا فى الدعوة الجديدة .وقد سبق أن وضحنا أن الشيعة استخدموا (النسب السياسي ) وسيلة لتدعيم الروابط بين الأطراف المشتركين فى الدعوة السرية ، وقد كان والد الدسوقي وهو (عبد العزيز ) من الصوفية المشهورين فى دسوق ممن ينتحلون النسب العلوي ، وإصهاره إلى أبى الفتح الواسطي صاحب الدعوة السرية الشيعية يعنى أنه كان ذا شأن خفى فى الدعوة وإلا ما استحق أن ينال شرف المصاهرة من زعيمها فى الأسكندرية .
                ومع غموض سيرة عبد العزيز الدسوقي والد إبراهيم - إلا أن الشاذلي كان يزوره فى نواحي دسوق ،وكان الصلة بينها صوفي شهير يقال له ابن هارون وثيق الصلة بعبد العزيز الدسوقي [30].والشاذلي كان خليفة الواسطي فى الإسكندرية ،والواسطي صهر عبد العزيز الدسوقي. وقد توفى الشاذلي سنة 656 فتأهب الدسوقى ليحل محله . وغدت بذلك دسوق التى لا يعلم بها أحد حينئذ مركزا آ للاتصالات داخل وخارج مصر مشاركة للبدوي فى طنطا ..ودسوق قريبة من طنطا .
                وكان الدسوقي طفلا صغيراً حين مات جده أبو الفتح الواسطى ،وما كان للمدرسة الرفاعية أن تتركآ حفيد الواسطي دون رعاية فكان أن تعلم أصول الدعوة على يد شيخين كبيرين من الرفاعيه هما (نجم الدين الأصفهاني الرفاعي) وكان وثيق الصلة بالشاذلي ،(وعز الدين الفاروئي[31]) ،ومن الطبيعى أن تناله رعاية أبيه صهر الواسطى وتلميذه ، يقول عبد القادر الطبري عن الدسوقي (وكان أبوه السيد أبو المجد من أعيان خلفاء الشيخ أبى الفتح الواسطي الأحمدى وقد ألبس خرقته الأحمدية الرفاعية لولديه الجليلين : السيد موسى والسيد إبراهيم) [32].

                ثم كانت للدسوقي صلات بالمدرسة المغربية تمثلت فى علاقته بالشاذلية ، ولأن الدسوقي احتل مكانة الشاذلي فى الدعوة بعد موته فإن البعض اعتبره امتداد للشاذلي أو شاذلياً ، يقول مرتضى الزبيدي عن الطريقة البرهانية الدسوقية ( البرهانية شعبة كبيرة من الشاذليه )[33].ويقول الكوهن عن الدسوقي وقد جعله ضمن أعيان الشاذلية فى كتابه ( طبقات الشاذلية الكبرى )(سيدى إبراهيم الدسوقي القرشي الحسيني الهاشمي الشاذليآ [34]) ويقول النشابي (..فالشاذلي بشيشي أى نسبة لإبن بشيش والدسوقي شاذلي) [35].
                بل إن بعضهم وصل بين الدسوقى وابن بشيش رغم أن الأخير قتل قبل مولد الدسوقي بأكثر من عشر سنوات ، يقول عن ابن بشيش (ويكفيك فى فضله وجلالة قدره أنه أستاذ الأقطاب الثلاثة سيدى إبراهيم الدسوقي وسيدى أحمد البدوي وسيدي أبي الحسن الشاذلي )[36]وبعضهم بالغ فاعتبر الدسوقي تلميذا للشيخ عبد الرزاق مبعوث أبى مدين فى الإسكندرية والذى أخذ عليه أبو الحجاج الأقصري [37].
                والرابط بين الدسوقي وأساطين الدعوة المغربية يعنى أن الدسوقي احتل مكانة الشاذلي فى الدعوة بينما احتل أبو العباس المرسي حلقة الشاذلي فى التصوف فى الإسكندرية.
                وقد كانت بين الدسوقي والبدوي مراسلات ولقاءات يقول البدوى فى بعضها للدسوقى (أما سمعت وعلمت أننا أخذنا العهود والمواثيق على بعضنا[38])؟.
                وأبرز ما ينم عن التلاقي بينهما هو التشابه فى الأحزاب لدى الشيخين ، فحزب البدوي يقول (لووا عما نووا فعملوا وصموا عما طووا ،ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ..السورة ..اللهم اكفنيهم مما شئت ..)وحزب الدسوقي الكبير يقول (نووا فلووا عما نووا ثم لوواعما نووا فعموا وصموا فوقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ..) . وواضح أن كلاهما يواجه غريما عاتيا . وهذه نبرة غريبة فى الأحزاب الصوفية ..فالأوراد والأحزاب عند الصوفية العاديين تفيض رقة وضعفا . أما أولئك فأصحاب دعوة سرية تواجه خصما حاربوه حتى بالأحزاب ..
                ثم إن الطموح السياسي يتنفس شعراً لدى البدوي والدسوقي :فالبدوي يقول : سائر الأرض كلها تحت حكمي وهى عندى خردل فى فلاء
                آ ويقول : أنا أحمد البدوي غوث لا خفا أنا كل شبان البلاد رعيتى[39]) والدسوقى يقول :
                وحكمتي فى سائر الأرض كلها وفى الجن والأشباح والمـــــــــرديه
                أنا الحرف لا أٌقــــــــرأ لكل مناظــر وكل الورى من أمر ربي رعيتي[40]

                واللثام الذى اشتهر به الرفاعية والبدوي بحكم نزوحهم من أفريقيا نسب أيضا للدسوقي مع أنه مصري المولد والنشأة .وما كان ذلك إلا متابعة للدعوة وأصحابها . فيقال أن أحد الأمراء دخل على الدسوقى (فوجده ملثما على عادته )[41]،واللثام كان يرمز به للأسرار التى يحتفظ بها صاحب الدعوة كما سنرى فى قصة البدوي ولثامه مع عبد المجيد ..
                والدسوقي كانت له أسراره التى يعرف كيف يحافظ عليها ويوصى مريديه بذلك يقول (يا ولد قلبي كن على حذر من الدخلاء والدخيل السوء ، وما للمرأ يا ولدى إلا أن يكون على حذر من جميع البشر )آ [42]والشيعة أصحاب التقية والدعوات السرية على حذر دائم من جميع البشر ..والدسوقي أحدهم ولقد وصف بأنه(القطب الكبير المرشد للصواب المنقطع عن الخلق فى السرداب)[43]والانقطاع فى السرادب من صفات الفاطمي المنتظر وصاحبنا (ابن فاطمة بنت أبى الفتح الواسطى[44]وأساس الدعوة للفاطمي المنتظر .
                و(أسرار ) الدسوقى هى أسرار الدعوة ..وقد وقع عليه عبء التراسل بالشفرة مع الأعوان السريين الموزعين داخل وخارج مصر ،وبعض هذه الرسائل كانت تذهب إلى مكة المركز العصبي للدعوة ، ولقد تسترت هذه الرسائل الشفرية تحت ادعاء الدسوقي بأنه يعلم السريانية ، ويتكلم بسائر اللغات ، يقول الشعرانى عنه (وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الوحوش والطير ،وكتب رضى الله عنه إلى بعض مريديه بعد السلام :وإننى أحب الولد وباطني خلى من الحقد والحسد ولا بباطنى شظا ولا حريق لظا ولا جوى من مضى ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا قطب غطا ولا عطل عظا ولا شنب سرى ولا سلب سبا ولا عتب فجا ولا سمد إذ صدا ولا بدع رضا ولا شطب جدا ولا حتف حرا ولا حمش خيش ولا حفص عفص ولا خفص خنت ولا كولد كنس ولا عنس كنس ) ..إلخ .إلى أن يقول (ولا قمداد إنكاد ولا بهداد ولا شهداء ولابد من العيون وما لنا فعل إلا فى الخير والنوال )وغريب أن ينتهى هذا الخطاب الرمزي بقوله (ولا بد من العيون وما لنا فعل إلا فى الخير والنوال )،ويقول الشعراني (وكتب إلى بعض مريديه أيضا :سلام على العرائس المحشورة فى ظل وابل الرحمة وبعد فإن شجرة القلوب إذا هزت فاح منها شذا يغذى الروح فيستنشق من لا عنده زكم فتبدو له أنوار وعلوم مختلفة مانعة محجوبة معلومة لا معلومة معروفة لا معروفة غريبة سهلة شطة فائقة طعم ورائحة وشم ميم محل جميل جهد راب علوب نغط نبوط هوبط سهيط حرموا غميطا غلب عمن عسب غلب عرماد علمود على عروس علماس مسرود قدقد فرسم صباع صبع صبوغ بنوب جهمل جمايد حربوعس ..إلخ ) إلى أن يقول ( تزيط ولا تتكوكع زند حدام هدام سكهول وقد سطرنا لك يا ولدي تحفة سنية ودرة مضية ربانية وإنما تصفح المبهم المغلق المغرب الذى سره مغطى بالرموز ).
                ويقول الشعرانى(وكتب رضى الله عنه إلى بعض مريديه أيضا : سلام إن هب الجنوب المفتق أو الصبا المعتق أو الضحى المرونق أو الشمس المتحفة أو الأضحية المعترفة فى الأبرجة المعومقة والمحبرة المحومقة ) ثم يستمر فى هذا المنحى إلى أن يقول (والمربايور والشوشان والشريو ساسع والبرقواشاند تفهم يا ولدى فإن كلام المغرب لا يشاكل المعرب وما ليس من لغة العرب لا يفهمه إلا من له قلب ) ..ويقول الشعرانى (وكتب رضى الله عنه سلاماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسله مع الحجاج : سلام على أمير حى المحيا جميل المعنى سخى المراشف أرخى المعاطف كريم الخلق سنى الصدق عرفوط الوقت وردساني الفهم ثاقب المرحب محبول الرحب قطابه النقل قيدوح النماطة ليدوح البناطة سر سامع الواجب بهديان الوعب بهيسانى الحداقة سهيرى اللساقة موزالرموز عموز الهوز ..إلخ)[45]
                ويبدو هناك نوع من الترتيب الحرفى بين الألفاظ المترادفة كقوله:(ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا شطب غطا ) فقد ترادفت الصاد والضاد والطاء .. وأمثال ذلك كثير ،ومن المستحيل أن يفهم المراد من هذه التركيبات فسرها عند المرسل إليه وهو يعلم كيف يفك طلاسمها ويفهم التعليمات والأخبار الواردة فيها تحت هذه المعميات.وقد احتار الكثيرون فى تفسير هذه الرسائل يقول حسن شمه فى العصر العثمانى (وكنت قد توقفت كثيراً فى هذه الأسماء وطالعت من أجلها كتبا كثيرة من كتب الحرف فلم أعثر عليها [46]). وابن تيمية اعتبرها من كلام الجن[47]..وإذا أدركنا أنها مراسلات سياسية سرية لأرحنا أنفسنا من محاولة فك طلاسمها ، وكم للشيعة من أسرار وألغاز ..
                (د) الاستفادة بأتباع الواسطي :
                ترك أتباع الواسطي مدينة الإسكندرية للشاذلي بعد موت أستاذهم ، وتوزعوا فى الريف فى المنطقة ما بين الإسكندرية وطنطا ، وتم ذلك بتخطيط محكم وإن أثار بعض الشك للسلطات الأيوبية .
                يقول الشعراني فى ترجمة على المليجي (أحد أصحاب سيدى أبى الفتح المذكور آنفا ، كان رضى الله عنه معاصراً لسيدى أحمد البدوى وكان سيدى أحمد رضى الله عنه إذا أرسل سيدى عبد العال له فى حاجة يقول له :إذا وصلت إلى جمروز فاخلع نعلك فإن هناك خيام المليجي[48])، وواضح فى الترجمة أن هناك تراسلاً مستمراً بين البدوي وعلى المليجي ، وأن البدوي كان يعول كثيرا على هذه الاتصالات بدليل أنه كان يرسل قائد أتباعه (عبد العال ) إليه ، ويوصيه بتعظيم المليجي وخلع نعاله عند خيامه .
                وفى نفس الوقت تحرك البلتاجي تلميذ الواسطي من الإسكندرية إلى (بلتاج )وقد كان البلتاجي تلميذ سابقاً للرفاعى وفد إلى مصر وانضم إلى أبى الفتح الواسطى وبعد موته تحرك إلى بلتاج ثم صار شرطياً عند والى المحلة عاصمة الغربية [49]ليكون عينا للبدوى على أقرب ممثل للسلطة المحلية.
                ويذكر عبد الصمد إن البلتاجى قدم للبدوى حين استقر بطنطا ومعه الشيخ القيلبى زميله فى مدرسة أبى الفتح الواسطى وقد أكرمهم فى نفس الوقت الذى عادى فيه الصوفية الآخرين من طنطا[50].
                أماعبد العزيز الدرينى فقد كان مصرياً تتلمذ لأبى الفتح الواسطى , وبعد موت الواسطى انتقل إلى بلدته درين وتجول لصالح الدعوة فى القرى ،يقول عنه الشعراني (وكان مقامه ببلاد الريف من أرض مصر )[51]وكان الدريني على صلة مستمرة بالبلتاجي سالف الذكر فيقول المناوي )[52]إن (الدريني ) دخل المحلة وفيها (البلتاجي ) ، كما يقول الشعراني فى ترجمة ( الدريني ) (وكان يزور سيدي علياً المليجي كثيرا ) [53]. وهذه الاتصالات كان الدريني يبذلها عن رضى خاطر فى سبيل البدوي وهو يقول فيهآ [54]:
                يقولون يا عبد العزيز بن أحمد بمن فى طريق القوم مادمت تقتدي
                فقلت بأستاذي وشيخ مشايــخيآ وشيــــــــــــــخ الطــــــــــــريق والحقيقة أحــــمد

                وهذه الصلات المستمرة بين أتباع الواسطى أثارت بعض الشكوك، فيروي المناوي أن بعضهم شك فى البلتاجي فى بداية وجوده فى بلتاج فعرض أمره على السلطات ، وأن الدريني مع استحواذه على بعض الشهرة قد اعتقل فى المحلة أثناء سيره إلى البلتاجي ، وطبيعى أن تنتهي هذه الأخبار بكرامات للتمويه[55]....
                وهكذا تتجلى لنا بعض ملامح التخطيط السري للدعوة ، فتلامذة أبى الفتح الواسطي تركوا الإسكندرية للشاذلي ، وتوزعوا على مقربة من البدوي وعلى صلة مستمرة فيما بينهم وبينه ، والشاذلي احتل الإسكندرية زعيماً للصوفية فيها وحارساً للدعوة فى الثغر ونقطة اتصال بين مدرستي المغرب والعراق ..حتى إذا دنت منيته اختير الدسوقي ليحل محله فقام بالاتصالات الشفرية داخل وخارج مصر بين الأتباع والأنصار .
                ثم يكون اختيار البدوى بعد تدريب عسكرى فى الحجاز وإعداد شيعي صوفي فى أم عبيدة ، وتختار له طنطا مركزا جديدا بل ويختار له بيت الإقامة بحيث إذا قدم طنطا يجد الأمور ممهدة له . وتم ذلك كله بتخطيطآ شارك فيه عز الدين الصياد الرفاعي الذى أقام بمصر سنتين وتركها وترك بها وليداً ، وربما كان يأمل أن يحصل ذلك الوليد على ثمار الدعوة فى المستقبل .
                بقى بعد ذلك أن نتابع جهود البدوي فى طنطا وسنقسمها إلى مرحلتين : المرحلة الأولى منذ وصوله طنطا عام 637 إلى تولي الظاهر بيبرس عام 658 والمرحلة الثانية منذ تولى بيبرس إلى موت البدوي عام 675 ولكل من المرحلتين ظروفها الخاصة
                ..

                1]عبد الصمد :الجواهر السنية7
                [2]الطبقات الكبرى1-159
                [3]عبد الصمد : الجواهر19
                [4]عبدالصمد نفس المرجع123
                [5]عبدالصمد نفس المرجع123
                [6]طبقات الرفاعية،47
                [7]نفس المرجعآ 47 : 48
                [8]نفس المرجع 49: 60
                آ
                [9]وأسمه في طبقات الرفاعية :الشيخ برى، يقال عنه(وللشيخ برى خرقة من سيدنا أحمد بلا واسطة – طبقات الرفاعية 26)وهي إشارة لتميزة بشئ معين عن أقرانه من الرفاعية ،أنظر أيضا النصيحة العلوية للحلبي 25 مخطوط بمكتبة الآزهر
                آ
                [10]نفس المرجع 19 و الطبقات الكبرى للشعرانى 1/159
                [11]محلة السياسة ص 11 : عبد الصمد الجواهر 6
                [12]تراجم صوفية مخطوط ورقة 32
                ،[13]معجم البلدان 1906ط 61/6
                [14]معجم البلدان 6/ 61 ط 1906 .
                [15]آ نور الدين .البدوى 1369آ 57 ط
                [16]عبد الصمد 40
                [17]نفس المرجع 23
                [18]نفس المرجع 33،40
                [19]الطبقات الصغر%u
                التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:29 PM.

                تعليق


                • #9
                  رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

                  خامسا : جهود البدوي فى المرحلة الأولى


                  خامسا : جهود البدوي فى المرحلة الأولى ( 637- 658 هجرية)
                  الظروف السياسية فى هذه المرحلة :
                  1 ـ كانت هذه الفترة صالحة للدعوة حيث كان الحكم الأيوبي يترنح فى مصر والشام بسبب التنافس بين صغار الأيوبيين علاوة على الخطر الصليبي الذى مثلته حملة لويس التاسع سنة 647، والزحف المغولي وما نتج عنه من دخول جنود الدولة الخوارزمية المنهارة للمنطقة ليزيدوا فى اضطرابها. ولأن الظروف السياسية هى المسرح الحقيقي المؤثر فى الدعوة الشيعية والذى تلعب دورها عليه كان علينا أن نفصل القول فى التيارات السياسية الداخلية والخارجية التى واجهت مصر فى تلك الفترة ( 637-658) لنرى كيف استثمرها البدوي فأحسن الاستغلال .

                  2-فقبل مجىء البدوي لمصر وأبان وجود أبى الفتح فى الأسكندرية ، كان السلطان (الكامل) الأيوبي حاكم مصر غارقا فى نزاعه مع أخيه (المعظم)عيسى صاحب دمشق ، وقد حدث أن أخاهم الثالث (الاشرف بن العادل ) واجه ضغطاً من الشرق حيث كان جلال الدين الخوارزمى يهدده فى حران، فاستجار( الأشرف) بأخيه (المعظم) صاحب دمشق فما كان من (المعظم )إلا أن اعتقل أخاه المستجير به وأرغمه على أن يتعهد له بمساعدته فى مجابهة أخيهما (الكامل) صاحب مصر، إلا أن ( الأشرف) ما كاد يفلت من يد (المعظم) حتى أكد تحالفه مع أخيه ( الكامل ) ضد ( المعظم ) فاضطر ( المعظم ) للخضوع لجلال الدين منكبرتي ليساعده ضد أخويه (الكامل) و (الأشرف) ، وفى المقابل تحالف (الكامل) مع الامبراطور فريديرك الثاني واتفق على إعطائه بيت المقدس سلما- وبيت المقدس تابع ( للمعظم ) .
                  وفى الوقت الذى كان فيه جلال الدين منكبرتي ( سلطان ما يعرف الآن بأفغانستان وما حولها فى آسيا الوسطى) يخيف الأيوبيين فى الشام والعراق ومصر كان يواجه من ناحية الشرق ضغط المغول أعدائه وأعداء أبيه ، وقد استطاعوا القضاء النهائي عليه وعلى دولته ، فتفرق الخوارزمية أتباع جلال الدين وجنوده فى الشام فزادوها اضطراباً وأسهموا فى حدة الخلاف بين صغار الأيوبيين المتحكمين فى المنطقة ، واشتهروا بالشدة والبأس .
                  ولقد آل ملك دمشق إلى ( الأشرف ) بعد موت (المعظم) وعجز ابنه عن الاحتفاظ بدمشق أمام تحالف عميه (الأشرف والكامل ) ، إلا أن العداء ما لبث أن استحكم بين (الأشرف) فى دمشق و(الكامل) فى مصر .ومنع موت (الأشرف) من نشوب الحرب بينهما ، ثم تولى (الصالح) إسماعيل دمشق سنة 635 فكون حلفا آخر ضد (الكامل) فأسرع (الكامل) وحاصر دمشق وعزل(الصالح) إسماعيل . ثم توفى (الكامل) سنة 635 وقد ترك ولدين (الصالح ) أيوب، وقد كان حاكماً بالفرات ، ومع أنه الأكبر إلا أنه لم يخلف أباه بسبب نفوذ أرملة (الكامل) أم ابنه (العادل الثانى) ، وقد تمكن (الصالح أيوب) بمساعدة الخوارزمية من الاستيلاء على دمشق، فوقع فى نزاع مع أخيه الأصغر (العادل الثاني) سلطان مصر ، واستعان كلاهما بالخوارزمية وأنصار من البيت الأيوبي . وبسبب سوء العلاقة بين (العادل الثاني) ومماليك أبيها فقد انضموا (للصالح أيوب) واعتقلوا (العادل الثاني ) واستدعوا (الصالح أيوب) فتسلطن فى مصر، ومنع الخوارزمية من الدخول لمصر، واستكثر من شراء المماليك واسكنهم فى مساكن خاصة على النيل فعرفوا بالمماليك البحرية الصالحية.
                  ويبقى علينا ان نتذكر هذا التسلسل التاريخى الذى أدى الى ظهور المماليك فى سياق التنازع بين صغار( بفتح الصاد ) السلاطين الآيوبيين .
                  3 ـ وقد وفد البدوي لمصر عام 637 وهى نفس السنة التى اعتقل فيها (العادل الثانى ) وتولى (الصالح أيوب) ، وفى هذا العام 637 استرد (الصالح إسماعيل ) دمشق، وكان (الصالح أيوب) قد طرده عنها قبلاً ، وقد استاء (الصالح إسماعيل ) من تولى غريمه (الصالح أيوب) سلطنة مصر فتحالف (الصالح إسماعيل) مع الصليبيين ضد (الصالح أيوب) فى نظير أن يعطيهم بيت المقدس ، وأن يرجع مملكة الصليبيين إلى ما كانت عليه قديما ، ولكى يبرهن على صدق نواياه بادر بالتنازل لهم عن بعض القلاع وطبرية وعسقلان وبيت المقدس..أما (الصالح أيوب) فقد تحالف مع (الناصر داود) الأيوبى فى الكرك وتمت المواجهة بين الجانبين ، (الصالح إسماعيل ) والصليبيون فى ناحية و (الصالح أيوب) و( الناصر داود) فى ناحية أخرى تؤيدهم الخوارزمية وهم الذين استطاعوا هزيمة ( الصالح إسماعيل ) وحلفائه الصليبيين ..
                  ثم إنشق (الناصر داود) عن (الصالح أيوب) وانضم (للصالح إسماعيل) وتكون حلف جديد بينهما يهدف للإطاحة (بالصالح أيوب) فى مصر فما كان من ( الصالح أيوب) إلا أن طلب التحالف مع الصليبيين ليواجه مؤامرات أقاربه. وكان لدى الصليبيين عرض آخر للتحالف مقدم من ( الصالح إسماعيل ) و(الناصر داود) ، وقد عرض الجانبان على الصليبيين السيطرة التامة على بيت المقدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة ، وكان ذلك عام 641 . وقد اختار الصليبيون بعد تردد التحالف مع ملكى دمشق والأردن ( الصالح إسماعيل والناصر دواد) .
                  ولم يجد الصالح أيوب أمامه إلا الاستعانة بالخوارزمية وقد استطاعوا تدمير الصليبيين وأعوانهم فى معركة غزة عام 642 ، وتم طرد الصالح إسماعيل من دمشق واقتطعت الجليل والأغوار من (الناصر داود )..
                  وكان الخوارزمية يطمعون فى أن يسمح لهم ( الصالح أيوب ) بالاستقرار فى مصر كمكافأة على صنيعهم معه إلا أنه رفض خوفاً على ملكه منهم ، فكان أن انقلب الخوارزمية على (الصالح أيوب) وانضم إليهم الصالح اسماعيل طريد دمشق و(الناصر داود ) وحاصروا دمشق إلا أن ( الصالح أيوب) تمكن بالحيلة من تشتيت الخوارزمية وهزيمتهم عام 645 ، وأعاد للدولة الأيوبية وحدتها ( القاهرة-القدس-دمشق).
                  إلا أنه ما كاد يستقر فى مصر حتى واجه حملة لويس التاسع 647وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وحين مات ( الصالح أيوب) أخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته فأرسلت تستدعى ابنه ( توران شاه ) ، وتكاتف معها المماليك الصالحية البحرية إلى أن حضر ( توران شاه) وتم القضاء على حملة لويس التاسع .
                  ولكن (توران شاه) كان على شيمة أسلافه محبي التآمر ، وكان من عادة السلطان الأيوبي الجديد أن يفتتح عهده باضطهاد مماليك أبيه وتنشئة مماليك جدد يحملون إسمه ويدافعون عن حكمه ..وجاء " توران شاه " بنفس العقلية ، ولكن هذا الصنف من المماليك "الصالحية البحرية " قد أحسوا بما صنعوه من بطولات فى المنصورة وما قدموه لتوران شاه من جمائل أثناء غيابه فلم يخنعوا وقتلوه قبل أن يتم مؤامرته ضدهم ..
                  4ـ وقع المماليك فى حيرة ، فقد تسلطنت شجرة الدر أرملة الصالح أيوب وأم ولده إلا أن الخيلفة العباسى والرأى العام رفض أن تتولى إمرأة حكم مصر، فاتفق على أن تتزوج شجرة الدر بأحد الكبار من المماليك. وفى هذه الأثناء تركزت زعامة المماليك بين " أيبك " زعيم مماليك القصر و" أقطاي "زعيم البحرية المقاتلة ، وكان " قطز" من أعوان " أيبك" بينما كان "بيبرس" من أعوان " أقطاي ". واحتدم النزاع بين "أقطاى " و"أيبك" وتقرب كلاهما إلى شجرة الدر لتختاره زوجا ، ووقع اختيارها أخيراً على "أيبك" خوفا من عنف "أقطاي" وشراسته . وتسلطن "أيبك " واستمرت "شجرة الدر" تحكم من وراء الستار . ولم يكن "لأقطاي" أن يسكت فأخذ أتباعه يعيثون فى الأرض فساداً ، بينما يخطب إلى نفسه أميرة أيوبية ويهدد العروسين " أيبك وشجرة الدر" بقوته وأطماعه ، وأتفق "أيبك " مع " شجرة الدر" على ضرورة اغتياله ..وتم التنفيذ بسيف "قطز" ، وهرب أعوان "أقطاي" إلى الشام والعراق وكان فى مقدمتهم "بيبرس" .
                  وما لبث أن دب الجفاء بين (أيبك ) و(شجرة الدر ) وعاد (أيبك ) إلى (أم على ) زوجته القديمة ، واستحكم الخلاف بينهما إلى درجة أن (ايبك ) بعث يخطب لنفسه نفس الأميرة الأيوبية التى خطبها (أقطاي ) قبلا ..وخدعت (شجرة الدر ) (أيبك ) وقتله أتباعها سنة 655.ولكن تولى الأمر أعداء (شجرة الدر ) فولوا (عليا بن أيبك ) برعاية(قطز ) وقتلت (أم على ) غريمتها (شجرة الدر ) .
                  ثم روع الجميع بالزحف المغولي وتدمير الخلافة العباسية وبغداد سنة 656 وتمهدت الأمور لسلطنة (قطز) 657 . وعمل (قطز ) على توحيد الجبهة المملوكية ضد المغول . فأصدر عفواً عاماً عن جميع المماليك البحرية الهاربين من اتباع ( أقطاى ) وكانوا يسهمون فى المؤامرات الأيوبية ضد السلطنة المملوكية فى مصر ، واستجاب كبارالمماليك البحرية فعادوا لمصر وشاركوا فى حرب المغول ،وكان فى مقدمتهم (بيبرس )الذى تولى قيادة المقدمة واسرع بالهجوم على المغول فى غزة ..وبعد انتصار (قطز ) فى عين جالوت لم يتركه (بيبرس ) ينعم بثمار انتصاره فقتله فى الطريق انتقاما لدوره فى اغتيال (أقطاي ) أستاذه ، وتولى (بيبرس ) السلطنة سنة 658 . 5 ـ وبدأ عهد جديد هو توطيد الدولة المملوكية ،
                  وكان لذلك تاثيره على دعوة البدوي ، فبقدر ما استفاد البدوى وأعوانه من الفتن الأيوبية والمملوكية وحروب الصلبيين والمغول بقدر ما تقلصت حركتهم فى الفترة الثانية فترة التوطيد والاستقرار للحكم المملوكى الجديد.. وهكذا فإن الفترة الأولى التى نحن بصددها شهدت إنهيار الدولة الأيوبية وبداية قيام الدولة المملوكية ، وعادة ما يهتز الاستقرار فى انهيار الدولة الضعيفة وبداية القيام لدولة وليدة على أشلائها . فالظروف متشابهة على نحو ما ألمحنا إليه سريعا فى الظروف السياسية لمصر إبان هذه الفترة .. ومن الطبيعي أن ينجح البدوي فى إستغلال هذا (القلق) السياسى لصالح الدعوة.
                  سياسة البدوي فى طنطا فى هذه المرحلة:
                  1ـ هناك إجماع على أن البدوي وصل طنطا سنة 637 بعد عودته من العراق إلى مكة . يروى عبد الصمد عن البدوي قوله ( فلما دخلت مكة جاءني الناس وسلموا على وهنئوني بالسلامة فأقمت عند الحسن وأخواتي .. فى ألذ عيش ..فلما كانت ليلة من الليالي إذ بهاتف يقول لى فى المنام استيقظ من منامك يا نائم وسبح فى محبة الملك الدائم وسر إلى طندتا فأنك تقيم بها وتعطي وتربي بها أطفالاً يجىء منهم رجال وأى رجال ، فلما أصبحت أخبرت أخي الحسن بما رأيت تلك الليلة فقال لي : يا أحمد إمسك نفسك واكتم سرك حتى يكمل وعدك ويحل أوانك فأنا أخبر منك حتى يعاودك الهاتف ثانيا وثالثا .. فكتمت سرى ، قال الشريف حسن .. بينما كنت نائما ذات ليلة فى شهر رمضان المعظم ، وإذ بأختي فاطمة تنبهني من منامي وتقول: يا ابن والدي اعلم أن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء،وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاماً ولا شراباً ، فقلت لها يا فاطمة والله قرب فراق أخي ، قال سيدي أحمد وإذا بالهاتف عاودني فى المنام وقال : يا أحمد مثل أول مرة ثم عاودني ثلاث مرات وقال: قم يا همام وسر إلى طندتا ولا تشك فى المنام . فلما أصبحت أخبرت أخي حسنا بما رأيت قال لى أخي : قد انتهى الوعد فسر فى هذه الليلة ولا تخف [1])
                  لقد عاد البدوي من العراق وقد تعلم كيف يبدو مجذوباً ويتستر بالجذب ليخفى شأنه كداعية ، ولقد كان العصر المملوكى يتسامح مع المجاذيب ، وكانت للمجذوب حريته المطلقة فى فعل ما يريد ويتمتع مع ذلك باعتقاد الناس فيه وحدبهم عليه. وعلى ذلك فإن سياسة البدوي لها وجهان : وجه قابل به الناس وهو الجذب والجنون ، ووجه آخر عامل به المريدين وهو الحزم والدهاء ، وهى نفس سياسة الرفاعي التى تعلمها فى أم عبيدة .
                  سياسة البدوي مع الأجانب:
                  مرّ بنا أن فاطمة أخت البدوي وصفته بمظاهر الجذب حين تهيأ للسفر لمصر فقالت عنه( قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء ، وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر، وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاماً ولا شراباً ) وقد حافظ البدوي على مظهر المجذوب فدخل به طنطا وأرعب بمنظره النساء فى بيت ركين الدين حين اقتحم البيت فجأة ( .. فبينما هم مجتمعون فى مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم سيدي أحمد البدوي ، فلما دخل عليهم تأملوه فإذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين فصاحت النساء فى وجهه ) [2].
                  وانتقل البدوي للإقامة على سطح الدار (دار ركين الدي ابن شحيط) وحرص منذ بدايته على السطح على أن يعلن جنونه على الملأ بأن يصرخ من فوق السطح ليعلم الجميع بجذبته.ويبدو أن صوته كان جهوريا أو مارس هذه العادة بإخلاص زائد فأقلق راحة الناس فى طنطا ، وهم ما تعودوا مجذوبا يدمن الصياح باستمرار وبتوقيت معين ، يبدو ذلك من قول ( الشريف حسن) وهو يتسمع أخبار أخيه البدوي من الحجاج المصريين فى مكة ( قال الشريف حسن: ثم جعلنا نسأل عنه من المسافرين والحجاج والتجار فأعطونا وصفه، فبينما نحن نتحدث بالحرم الشريف وإذا بأقوام قد أقبلوا علينا وسلموا علينا وقالوا يا أشراف عندنا رجل قرشى أقلقنا وأتعبنا من الصياح فى الليل والنهار وما عرفنا هل هو مجنون أو مفتون وما نعرف له مخبراً وهو يقول أنه شريف من أهل مكةآ [3]).وصار (الصياح) من مستلزمات الجذب عند البدوي ، فيقال فى ترجمته ( وأقام على سطح دار لا يفارقه ليلاً ولا نهار، وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً وكان يكثر من الصياح[4]) .
                  وإلى جانب ( الصياح) تزين البدوى بزى المجاذيب ، وقد سبق أنه دخل دار ركين الدين وهو " أشعث أغبر ضارب اللثامين"، وحافظ على هذا المظهر فكان ( إذا لبس ثوبا أو عمامة لا يخلعها لغسل ولا غيره حتى تذوب فيبدلونها له بغيرها )[5]. فهم الذين (يبدلونها له) لا هو الذى (يبدلها) .
                  ثم أصبح لقب المجذوب ضمن ألقاب البدوي الكثيرة فيقال فيه ( هو الشيخ الصالح العارف المجذوبآ [6]) .
                  ويفتخر البدوى بتلك الصفة التى لا يفخر بها عاقل إلا لهدف فى نفسه يقول البدوى عن نفسه [7].
                  وقد وصفوني بالجنون جماعة فقلت لهم بيتا لســـــــــــــــــــــــامعه يحـلو مجانـين إلا أن سر جنـونـــــــــــــهم عجيب على أعتابهم يسجد العقل وقد صدق ، فإن العاقل إذا تستر بالجنون لهدف كبير فقد خدع بجنونه المصطنع أكثر العقلاء ، ويلاحظ أن (جذبة) البدوي لم تكن دائمة . أى يبدو مجذوبا إذا شاء وفى الوقت الذى يراه ملائماً وحينئذ يعلو صوته بالصياح أو حسب تعبيرهم ( وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً) . بهذه (الجذبة) التى هى طوع لإرادة صاحبها تمكن البدوي من العبث بخصومه كيف شاء، وهو يعلم إن للمجذوب حرية كاملة فى التصرف يقرّها له المجتمع المملوكي ، من ذلك ما يروى ( إن الشيخ النحوي كان كثير الإنكار عليه، فراح إلى طندتا هو وجماعة من اصحابه الطلبة فجلسوا تحت حائط السطح الذى هو عليه ، فطلّ عليهم الشيخ أحمد البدوي وبال عليهم ، فقالوا : ما هذا البول على طلبة العلم ؟ فقال : ما يؤكل لحمه فبوله طاهر . رضى الله تعالى عنه ونفعنا به ) [8]اى انهم يعدون تبول البدوي على طلبة العلم مكرمة تعد له ومنقبة تشكر فتحمد لصاحبها.
                  ويبدو ان البدوي استمرأ هذا الأسلوب وتوسع فيه حتى وصل ببوله إلى المسجد وقت صلاة الجمعة والناس قيام للصلاة حين الأذان ، وذلك ليقنع بعض الأغراب القادمين لطنطا بأنه مجذوب حقاً وصدقاً.. فقد ذكر ابو المحاسن رواية مثبتة معنعنة تصف هذا الحال يقول( قال أحدهم بسنده ، ألزمنى الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي بن البابا بالمسير معه لزيارة الشيخ أحمد البدوي بناحية طندتا ، فوافيناه يوم الجمعة، فإذا به رجل طوال عليه ثوب جوخ غال وعمامته صوف رفيع والناس تأتيه أفواجاً منهم من يقول : يا سيدي خاطرك مع بقري ، ومنهم من يقول زرعي ، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة فنزلنا معه إلى الجامع بطندتا ، وجلسنا فى إنتظار الصلاة فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة وأقيمت الصلاة وضع الشيخ أحمد رأسه فى طوقه بعد ما قام قائماً وكشف عن عورته بحضرة الناس وبال على ثيابه وعلى حصير المسجد واستمر ورأسه فى طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يصل [9]).
                  فقد سافر لزيارة البدوي أمير مملوكى وتابع له هو الرواى - ورأيا أفواج الناس تأتي للبدوي متوسلة به من دون الله ، ثم حان وقت الصلاة للجمعة فنزلا معه للجامع ، وكانت فرصة للبدوي ليقنع زائريه بأن ( جذبته) لا تعرف الحدود أو القيود فانتظر وقت القيام للصلاة وقد تجهز ببوله ففاض به على نفسه والمصلين ..! وحسابه عند ربه .
                  لقد أفلح البدوي فى استغلال ( الجذب) سياسياً فخدع به الجميع فسلموا له بحاله، وهو فى نفس الوقت ينظم أمور مملكته السرية خطوة خطوة بترتيب وتنظيم ينم عن دهاء عظيم.
                  ومن ذلك موقفه من صوفية (طنطا) وسياسته لاتباعه.
                  سياسة البدوي مع الصوفية الآخرين فى طنطا :
                  كان أول خطوة قام بها البدوي هى تطهير (طنطا) من أى نشاط صوفي وجعلها مملكة خالصة له ليأمن على نفسه ما درج عليه الصوفية العاديون من تنافس وتناحر ووقيعة ، وهو يريد تفرغاً لمهمته وهدوءاً لا يبدده إلا صياحه المؤذن بجذبته حين يريد ذلك ..
                  ثم إن الشيعة على حذر تام من التسلل إلى صفوفهم عبر التصوف فهم أحرص على أن يكون التصوف فى طنطا من صنع أيديهم حتى يظل بمنأى عن محاولات التسلل والكيد .
                  ومع الأسف فإن جهود البدوي فى تطهير طنطا من الصوفية الآخرين يشوبها الكثير من التشويش المتعمد ، فالروايات لم تطلعنا إلا على نتيجة هذه الجهود وكيف أنها آتت أكلها فانصاع فريق من الصوفية للقادم الجديد وفريق آخر رحل وفريق قاوم فانهزم فى مكانه.
                  يقول الشعراني ( كان فى طندتا سيدي الحسن الصائغ الأخنائي وسيدي سالم المغربي ، فلما قرب سيدي أحمد من مصر أول مجيئه من العراق قال سيدي حسن : ما بقى لنا إقامة صاحب البلاد قد جاء، فخرج إلى ناحية أخنا وضريحه بها مشهور إلى الآن ، ومكث سيدي سالم فسلم لسيدي احمد ولم يتعرض له ، فأقامه سيدي أحمد وقبره فى طندتا مشهور . وأنكر عليه بعضهم فسلب وانطفى إسمه وذكره ، ومنهم صاحب الايوان العظيم بطندتا المسمى بوجه القمر ، كان والياً عظيما فثار عنده الحسد ، ولم يسلم الأمر لقدرة الله تعالى فسلب ، وموضعه الآن بطندتا مأوى الكلاب ، ليس فيه رائحة صلاح ولا مدد. وكان الخطباء بطندتا انتصروا له وعملوا له وقتاً أى مولداً- وأنفقوا عليه أموالاً وبنوا لزاويته مأذنة عظيمة فرفسها سيدى عبد العال برجله فغارت إلى وقتنا هذا[10]) .
                  وبالتمعن فى النص يظهر لنا أن الصوفية كانوا على ثلاثة أقسام ، قسم يمثله سالم المغربى وهو المبشر بمجىء البدوي والذى جهز إقامته فى دار ركين الدين ومن الطبيعى أن يصير تابعا للبدوي فهم شركاء فى الدعوة .. وقسم آخر يمثله حسن الصائغ الأخنائي وهو من الصوفية ( الكلاسيكين ) سرعان ما سلم بالهزيمة فرحل عن طنطا وعد ذلك من مناقبه بالمقارنة إلى من قاوم فى طنطا وتعب وأتعب ، وأصابته الأساطير فى مقتل حين أنكر على البدوي كالشيخ وجه القمر.
                  ويبدو ذلك من حديث الشعراني عن " وجه القمر" أنه كان صوفيا عالى الشأن يتمتع بالخطوة عند الجماهيرآ والفقهاء فأقاموا له ( إيواناً عظيماً ) وعمل له الفقهاء فى طنطا مولداً وزاوية بمئذنة ، ويتمتع أيضا برضى السلطات حتى ليوصف بأنه ( كان والياً عظيماً) . ويكفى ذلك لنتبين النفور بين الجانبين ، وما كان ( لوجه القمر) أن يصمد فى وجه البدوي صاحب الدعوة السرية والاتباع المنتشرين ، ومهما كان (لوجه القمر) من أتباع وإيوان وزاوية ومئذنة فإن ذلك جميعه لن يغني عنه شيئا أمام داهية يصطنع الجذب والجنون وهو يجمع الأتباع ويحكم الخطط، ولو كان البدوي مجرد مجذوب مجنون لما انهزم أمامه صوفية طنطا أحياءاً وأمواتاً.
                  ويذكر عبد الصمد ( أن سيدي أحمد البدوي لما دخل طندتا أتت المشايخ إليه ونظروا أحواله وسألوا منه الدعاء ، فأتاه الشيخ عبد الحليم المدفون فى ناحية كوم النجار وقال له : شىء لله تعالى ؟ فقال : إن الله تعالى قد جعل فى ذريتك الخير والبركة ، ثم أتاه الشيخ عبد السلام القليبي فقال له : شىء لله ؟ فقال السيد : قد جعل الله تعالى لك الشهرة بالولاية والفلاح إلى يوم القيامة عند الأمراء والملوك وغيرهم . ثم جاء سيدى عبد الله البلتاجي فقال: شىء لله تعالى ؟ فقال : قد جعل الله تعالى لك كل يوم حاجة تقضى إلى يوم القيامة ثم جاء جماعة من مشايخ الغربية فقالوا : شىء لله تعالى ؟ فقال: عليكم الطمس والخفاء إلى يوم القيامة فلم يشتهر واحد منهم[11].).
                  وفى هذا النص موقفان متناقضان للبدوي ، فهو مع رفاق الدعوة كريم معطاء كما فعل مع عبد الحليم والقليبي والبلتاجي ، وهم من مدرسة أبى الفتح الواسطي ، ثم نجد البدوي عنيفا مع الصوفية الغرباء مع أن الجميع أتوا إليه من خارج طنطا يطلبون بزعمهم المدد . والشأن فى الصوفي العادي أن يرحب بالجميع من الأشياخ طالما أتوا إليه مذعنين منقادين ، أما صاحبنا صاحب الدعوة السرية فلا يأمن إلا لمن يثق فيه أو يربيه على يديه وينشئه على طريقته وسياسته .
                  سياسة البدوي لأتباعه:
                  فى الدعوات الصوفية الشيعية السرية يتدرج المريد إلى درجات وتختلف السياسة معه فى كل درجة يعلوها ، وقد مر بنا أن ابن مرزوق القرشي فى العصر الفاطمي رفض أن يبوح بأسراره كلها للأربعة الكبار من أتباعه[12]، فكلما حظى المريد بدرجة حظى معها بأسرار ومسئولية ثم هو فى نهاية الأمر لن يصل إلى جميع الأسرار التى يضمها الشيخ الأكبر فى جوانح صدره . وقد كان الرفاعي يتحرز فى حديثه مع مريديه الأقربين ( فما مزح ولا مازحه احد وما كان يتكلم بغير سبب [13]).
                  وعلى هذا النسق جرت سياسة البدوي مع أخلص مريديه ، وقد استخلصهم من اتباعه الكثيرين الذين اعتقدوا فيه كمجرد شيخ صوفي مجذوب ، يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق عن البدوي( كان من دهائه لا يقابل رجلين معا بل كان يقابل كل رجل على حده حتى اكتمل عدد تلاميذه أربعين ، وهم السطوحية أى الذين تلقوا العهد على يده على سطح دار ابن شحيط . وانتشر هؤلاء الأربعون فى انحاء الديار المصرية يبشرون بتعاليم شيخهم احمد البدوي . وهنا اختصر المقال فأؤكد انه لم تكن ثمة دعاية لغير السياسة تحت ستار الدين ، ولم يكن اصحاب البدوى من الغفلة بحيث لا يعلمون حقيقة نياته [14]).
                  وأقول إن دهاء البدوي فى مقابلته لكل واحد منهم على حدة جعله يحكم على كل منهم بالحكم الصائب ويعطيه رتبته بين أقرانه وبالتالي درجته فى معرفة بعض الأسرار وتحمل المسئولية فى المكان الذى يتحدد له سلفاً.
                  ويتضح من بعض الإشارات أن البدوي كان عظيم التأثير على أتباعه لا يمكنهم مخالفته ، يقول فيه المناوي ( كان إذا أمر أحداً من أصحابه بالإقامة فى مكان لا يمكنه مخالفته) [15]ويقول الخفاجي
                  ( كان عبد العال يأتى للبدوي بالذى يبول فى ثيايه فينظر إلى ذلك الشخص نظرة واحدة فيملؤه مدداً ، ثم يقول لعبد العال إرسله إلى البلاد الفلانية فيكون بها مقامه إلى أن يموتآ [16]) ويقول الحلبى ( كان عبد العال يأتيه بالرجل يبول فى ثيابه فينظر إليه فيملؤه مددا ويبعثه إلى إحدى النواحي[17]) ويقول الشعرانيآ (وكان سيدى عبدالعال يأتى إليه الرجل أو الطفل فيطاطي من السطوح فينظر إليه نظرة واحدة فيملؤه مدداً ويقول لعبدالعال إذهب به إلى بلد كذا أو موضع كذا فكانوا يسمونه أصحاب السطح )[18].
                  ومن الطبيعيي أن تصور كتب المناقب قوة الشخصية لدى البدوي وتأثيره فى أتباعه بأن نظرة واحدة منه للمريد تكفي لقلب حياته رأساً على عقب فيصير أطوع للبدوي من بنانه .. وقبلا قالوا عن الرفاعى [/color] ( وإذا استدعى أحدا يمشي إليه الأمر فكان يتقيد ذلك الواحد بالشيخ من ساعته[19]).
                  وكان البدوي إذا شك فى بعض أتباعه يسارع بالتخلص منه بسهولة لتصبح كرامة يتناقلها الأتباع فيما بعد كما حدث فى كائنة عبدالمجيد .
                  واقعة عبدالمجيد:
                  وعبدالمجيد هذا كان من أوائل السطوحية وشقيقاً لعبد العال زعيم السطوحية ، يقول فيه عبدالصمد ( نشأ هو وأخوه فى ناحية فيشا المنارة.. وأما الشيخ عبدالمجيد فكان يتردد على سيدى أحمد البدوي مدة طويلة وتأدب بآدابه وعرف إشارته ، وكان لا ينام الليل تبعا لسيدي أحمد البدوي ، فاشتاق يوماً إلى رؤية وجه سيدى البدوي ، وكان سيدى أحمد دائما متلثما بلثامين، لا ترى الناس منه سوى عينيه. فقال له عبدالمجيد : يا سيدي أرنى وجهك انظر إليه، فقال له : يا عبدالمجيد كل نظرة برجل .! فقال: رضيت .! فكشف له سيدي أحمد اللثامين ، فرآه فخر ميتا..! ) [20].
                  واللثام ينبىء عن الأسرار التى يحتفظ بها البدوي كداعية سرّى ، له أسراره الخاصة التى لا يعلمها غيره من أتباعه.وقد تميز البدوى بلثامين عن غيره ممن تلثم بلثام واحد كأبي العباس الملثم ومنصور البطائحي الملثم وغيرهما. وتلثم البدوي بلثامين دليل على عظم الأسرار التى يسترها ، وقد صاغ أتباع البدوي المتأخرون فى القرن العاشر سيرته فى صورة رمزية أقرب للخيال منها للحقيقة ، ثم جعلوا من اللثام رمزا لأسراره التى دفنت معه ، وقالوا إن اللثام كان يخفي عن الناس وجهه مع أن وجه البدوى كان معروفاً وصفه الشعراني بقوله
                  ( كان كبير الوجه أكحل العينين قمحي اللون، وكان فى وجهه ثلاث نقط من أثر جدري فى خده الأيمن واحدة وفى الأيسر ثنتان ، أقنى الأنف ، على أنفه شامتان ، من كل ناحية شامة .. إلخ )[21].
                  وصاغوا مقتل عبد المجيد الغامض بأنه صعق حين كشف البدوي له اللثامين فرأى وجهه الحقيقى ، وإذا عرفنا أن وجه البدوى كان معروفاً مألوفاً موصوفاً تيقنا أن المقصود باللثام هو السر الذى يخيفه البدوي وقد اطلع عبدالمجيد على بعضه ورأى البدوي فى تصرفاته مالا يطمئن إليه ، وإذا أدركنا أن الاطلاع على السر مسئولية عظيمة يتحملها المريد عرفنا أن الموت جزاء عادى للمريد إذا قصر فى حمل المسئولية أو ظهر منه ما ينبىء عن الشك فيه .
                  وقد تميز عبدالمجيد عن غيره من أوائل السطوحين بالتردد على البدوي كثيراً أثناء وقوفه على السطح وبأنه:
                  ( صحب سيدي أحمد البدوي مدة طويلة وتأدب بآدابه وعرف إشاراته وكان لا ينام الليل تبعاً لسيدي أحمد البدوي ) ، فهذا التلازم على السطح ليل نهار ، وتلك الصحبة الطويلة والمعرفة بآدابه وإشاراته ورموزه كل ذلك ينبىء عن أن عبدالمجيد عرف شيئا لا يسمح البدوي لأحد أن يعرفه أو خشى البدوي من طموحه لمعرفة المزيد أو شك فى نياته أو طموحه ، وكان أن تخلص منه بالقتل ، وتحولت المؤامرة إلى أسطورة حبكت على مثال قصة موسى عليه السلام حين طلب من الله تعالى أن ينظر إليه[/color] (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً.. الأعراف143.
                  ويلاحظ أن عبدالعال شقيق عبدالمجيد كان شديد الصرامة مع الأتباع ومع ذلك فلم يظهر منه ما يفيد احتجاجاً على نهاية أخيه الغامضة، مما ينبىء عن قوة الأدلة فى إتهام عبدالمجيد ..
                  ويعزز ذلك أن عبد العال كان يتولى عن البدوي وبإشاراته تسيير البعوث إلى الأقاليم والبلاد . وقد ذكر أن عبدالمجيد كان مبعوثاً إلى فيشا مع محمد بطالة فى رواية الخفاجى[22]، بينما ذكر عبدالصمد[23]إن المبعوث إلى فيشا كان محمد بطاله وحده ، ومعنى ذلك أن عبدالمجيد قد لقى حتفه فى بعثته فى فيشا مع محمد بطاله ، الذى يعتقد على هذا أن له أى بطاله يدا فى الدس على عبدالمجيد عند عبد العال والبدوي مما أدى إلى مقتله بموافقة عبد العال أخيه ، وانفرد بطاله بعد عبدالمجيد بالنيابة فى فيشا واستمر منفردا فى نيابته حتى ذكره عبدالصمد كالمبعوث الوحيد فى فيشا.
                  ولأن فيشا موطن عبدالمجيد وعبدالعال فلابد أن تكثر الأقاويل عن عبدالمجيد فى نهايته الغامضة ، لذا ذكرت بعض الروايات [24]التى تؤخر موت عبدالمجيد إلى ما بعد موت البدوى لعلها تنفى الأولى وترفع الشك ، ومع ذلك تبقى نهاية عبدالمجيد الغامضة دليلاً على دهاء البدوي فى دعوته السرية.
                  بعوث البدوي :
                  سار على طريقة الرفاعي فى إرسال البعوث إلى القاهرة والمدن الرئيسية داخل مصر وخارجها ، وقد أوردت كتب المناقب ثبتا ببعوث البدوي ، فقد أرسل البدوي الشيخ قمر الدين إلى نفيا ، والشيخ وهيب إلى برشوم ، والشيخ يوسف الإنبابي إلى إنبابه والمعلوف إلى القليوبية ورمضان الأشعث إلى منف وعمر الشناوى إلى شنوى ، وابو جنينه أرسل إلى بركة القرع بمصر والشيخ خلف إلى عموم القاهرة ومصر والشيخ يوسف البرلسي إلى البرلس ، والشيخ على البعلبكي إلى بعلبك والشيخ سعدون إلى بلبيس وخليل الشامي إلى الشام ، وخلف الحبشى إلى منية حبيش ناحية نفيا وعلى الكيرواني إلى اليمن وابن علوان إلى تعز والشيخ عوسج إلى زبيد وسعد التكروري إلى حوران والشيخ نعمة إلى صفد وعبدالله اليوناني إلى بعلبك وعز الدين الموصلي إلى الموصل ومحمد بطاله إلى فيشه المنارة واحمد الأباريقي إلى روضة المقياس والشيخ بشير إلى مكة والشيخ بشير المدفون بدرب السد إلى مصر..إلخ ( وهؤلاء جميعهم أصحاب السطحآ [25]) وهم أربعون ..
                  ونضع بعض الملاحظات على بعوث البدوي لنتبين منها سياسته:
                  إن أولئك المبعوثين كانوا دائمين، يظل أحدهم فى البلد الذى أرسل إليها حتى يموت ، فكان يقول لعبدالعال ( إرسله إلى البلد الفلانية فيكون بها مقامه إلى أن يموت[26]) وهى نفس السياسة التى سارت عليها الدعوة الشيعية ، والرفاعي أبرز من طبق ذلك على نفسه وأتباعه ، والبدوي أيضا طبقها على نفسه فأقام بطنطا إلى أن مات ، وأقام أتباعه بالبلاد التى أرسلوا إليها حتى اكتسبوا لقب البلد التى يعيشون فيها ونسبوا إليها مثل يوسف الإنبابي فى إنبابة وعمر الشناوى فى شنوى ويوسف البرلسى فى البرلس وعلى البعلبكى فى بعلبك ، وهكذا .
                  ومعنى هذا أن المبعوث الصوفى كان يهب حياته كلها فى سبيل الهدف الذى يعمل الشيعة له على مهل، ثم إن وجود المبعوث الصوفي فىآ بلد معين طول حياته يزيد فى أتباعه ونفوذه وذلك كسب للدعوة.
                  لم يقتصر الدعاة على تغطية مصر وحدها بل وجه بعضهم للشام مثل سعد التكرورى فى حوران والشيخ نعمة فى صفد وعبد الله اليوناني فى بعلبك وعز الدين الموصلي فى الموصل والكيرواني وابن علوان وعوسج فى اليمن وبشير فى مكة.
                  وفى هذا دليل على تشعب الدعوة ودقة الاتصال فيما بين فروعها فى نطاق مصر والشام والحجاز واليمن ، وفيها دليل على دهاء البدوي ذلك الذى يتستر بالجنون وفى نفس الوقت يحدد المكان مسبقاً للداعية من لدنه ويرسله إليها فلا يستطيع مخالفته، ثم يزرع مصر وخارجها بدعاته.
                  ثم هناك دقة فى التنظيم ونوع من توزيع المهام نلمحه فى إيفاد أكثر من مبعوث لقطر بعينه، ففى الشام أرسل علياً البعلبكى وخليلاً الشامى ونعمه الصفدي وعبد الله اليوناني البعلبكي وعز الدين الموصلي ، وقد توزع أولئك فى المدن الرئيسية فى الشام .. ولا ريب أن أحدهم تزعم الباقين ، وأظنه خليل الشامى لما يبدو من صلته بنائب الشام فى عهده كما تشير إلى ذلك كتب المناقب[27].
                  وفى اليمن أرسل ابن علوان إلى تعز وعوسج إلى زبيد ، ويبدو أن رأسهم فيها كان علياً الكيرواني وقد أرسل لليمن كلها دون تعيين ببلد بعينه .
                  وفى القاهرة ومصر ( أى القاهرة الكبرى الآن بضواحيها ) توزع أتباع البدوى من السطوحية داخلها وحولها ، فالشيخ شعيب بالقرب من باب البحر خارج السور وبشير الحبشي بدرب البيدي وعماد الدين قرب بركة الناصرية والأباريقي فى الروضة – المقياس- وأبو جنينه بالقرب من بركة القرعآ ويوسف الإنبابي فى إنبابه ، ورأسهم جميعا كان الشيخ خلف ، قال فيه عبد الصمد ( كان سيدي أحمد يقول له يا خلف أنت خليفتنا فى مصر ، وكان لا يضع جنبه الأرض ليلاًولا نهاراً[28]).
                  وواضح أنه أمر قد أعد قبل مجىء البدوي بذكاء وحذر . وإلا فبما نفسر توافد الدعاة للبدوي فى قرية مجهولة هى( طنتدا) وقد أتوا إليه من الشام ومكة واليمن وأصبحوا من أوائل دعاته من أصحاب السطح وفى بداية عهده؟؟ العقل يؤكد وجود اتفاق مسبق وتنسيق على مستوى عال من الدقة ، والمصادر الصوفية تلمح إلى ذلك فتقول عن عوسج اليمني ( هو من أصحاب السطح ، وكان ورد على مصر فزار سيدي أحمد بطنتدا وهو على السطح فأشارعليه بالرجوع إلى زبيد وقال: أقم هناك تذكر من يزور ليلي وما بقى بيننا اجتماعآ [29]) .
                  ويقول عن عز الدين الموصليآ (وكان أصله نائبا فى طرابلس فهاجر إلى سيدي أحمد لما كان بالعراق فصحبه وخرج عن الدنيا وكان من أوائل أصحاب سيدى أحمد ، مات بالموصلآ [30])آ ومعنى ذلك أن البدوي فى رحلته للعراق لم ينشغل بفاطمة بنت بري كما تدعي كتب المناقب وإنما كان على اتصال بالدعاة استمر بعد عودته من العراق إلى مكة ثم بعد وصوله إلى طنطا فوفد إليه بعضهم وصار من أهل السطح ثم عاد لبلاده مبعوثا ..
                  ومن أولئك كان أحمد بن علوان اليمني ، ويقول عنه عبد الصمد ( من أصحاب سيدي أحمد بمكة أوائل جذبه قبل خروجه إلى بلاد العراق[31]) ويقول عنه صاحب طبقات الرفاعية ( أحمد ابن علوان أخذ عن السيد البدوي وعن السيد أحمد الصياد ، ولكل صلةآ [32]) أى أن ابن علوان كان من مدرسة عز الدين الصياد بمكة مع البدوي ، وحين هاجر البدوي إلى طنطا لحق به ابن علوان تنفيذاً لأوامر عز الدين الصياد الذى كان يمسك بالخيوط كلها فى يده فأرسله البدوي مبعوثاً للدعوة فى تعز.
                  5ـ وكان البدوي على اتصال مستمر بأولئك الدعاة المقيمين طول حياتهم فى تلك الجهات .. وإلى جانب مناسبة الحج حيث يتم اللقاء بدون رقيب كانت للبدوي وسائله فى الاتصال المستمر بأتباعه الموزعين فى مصر.. من ذلك أنه كلف الشيخ علياً ( البريدى) بمهمة الاتصال كما يدل على ذلكآ لقبه ، ولم يرد فى ترجمته إلا ما يؤكد أنه ظل إلى جانب البدوي فى طنطا طوع أمره حتى دفن فى مقابلهآ [33].
                  ثم كان للبدوي عيونه على أصحابه المبعوثين يأتونه بأخبارهم ويتعرف على خباياهم وإذا نمى إليه شك فى أحدهم بادر بعزله كما فعل مع يوسف الإنبابى بوشاية الشيخ أبى طرطور .. يقول الشعراني فى ترجمة أبى طرطور أن البدوي أقامه(تجاه إنبابه فى البرية ) أى فى مقابل إنبابه فيما يلى الصحراء ، ويقول عن يوسف الإنبابي فى نفس الصفحة ( فأما سيدي يوسف فاقبلت عليه الأمراء والأكابر من أهل مصر وصار سماطه فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء فقال الشيخ أبو طرطور يوما لأصحابه اذهبوا بنا إلى أخينا يوسف ننظر حاله ، فمضوا إليه فقال لهم : كلوا من هذه الماوردية واغسلوا الغش الذى فى بطونكم من العدس والبسلة لسيدى أحمد، فغضب الشيخ أبو طرطور من ذلك الكلام وقال ما هو إلا كذا يا يوسف فقال: هذه مباسطة فقال أبو طرطور : ما هو إلا محاربة بالسهام ، فمضى أبو طرطور إلى سيدي عبد العال وأخبره بالخبر فقال لا تتشوش يا أبو طرطور نزعنا ما كان معه وأطفأنا اسمه وجعلنا الاسم لولده اسماعيل ، فمن ذلك اليوم انطفأ اسم سيدى يوسف إلى يومنا هذا وأجرى الله على يدى سيدى اسماعيل الكرامات وكلمته البهائم . وأنكر عليه شخص من علماء المالكية وأفتى بتعزيزهآ [34]).
                  وتحاول رواية الشعراني أن تموه وتوحي بأن عزل يوسف الإنبابي كان لمجرد كلمة قالها مباسطة حول الطعام ، ولكن ما يرد فى ثناياها يثبت أن الأمر أخطر بكثير من مجرد كلمة قيلت ، أنه أمر يختص بالولاء ، الولاء للبدوي ، ويلاحظ أن يوسف الإنبابى كما يقول الشعراني ( اقبلت عليه الأمراء والأكابر من أهل مصر وصار سماطه فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء ) وهذا الوضع الجديد أثار انتباه أبى طرطور القائم فى اتجاهه من الناحية الأخرى فقال لأصحابه ( اذهبوا بنا إلى أخينا يوسف ننظر حاله) ونظر أبو طرطور على الطبيعة فلم يجد إلا ولاء مفقوداً فسعى لعبدالعال- القائد العام لقوات البدوى فأصدر أمره بعزل يوسف الإنبابي وتولية ابنه مكانه ، ولم تغن عن يوسف جموعه وأتباعه من الأمراء والأكابر ، وما كان له أن يحتج فإبنه مخلص للبدوي ولا يستطيع أن يفعل ما يضر به، وليس غريبا بعد ذلك أن يختلف الحال مع اسماعيل الإنبابي بالمقارنة بأبيه فبينما توافد الأمراء والأكابر على أبيه يوسف فأن حظه وهو المخلص للبدوي أن أنكر عليه عالم مالكي وأفتى بتعزيره وتقوم الكرامات كالعهد بها بمعاقبة الفقيه المالكي والتشويش على اتهام إسماعيل الإنبابي ، ثم أن اختيار اسماعيل بعد عزل أبيه يدل على سابق صلة وطيدة بين اسماعيل وأساطين الدعوة فى طنطا جعلتهم يتأكدون من ولائه الزائد ويعينونه مكان أبيه ، ورضى الابن بهذا الوضع دليل على عمق تلك الصلة برغم أنف أبيه.
                  6ـ وكما لوحظ فى ترجمة اسماعيل الإنبابي المخلص للبدوي فإن اضطهاد السلطات الحاكمة لمبعوثى البدوي كان السمة الظاهرة فى تراجمهم – وتقوم الكرامات بالانتقام منهم على صفحات كتب المناقب ، وتفعل كتابة ما كان أتباع البدوي يتمنونه فى أحلام اليقظة ولا يستطيعون ، وغالبا ما يوصف الحكام بصفات الظلم ويقوم أصحابنا بمعاقبتهم إذا ما تعرضوا لصاحب الترجمة أو لأتباعه.
                  من ذلك ما ورد فى ترجمة الشيخ وهيب المبعوث إلى برشوم قليوبية يقال فيه (وله كرامات كثيرة وإذ وقع أن أحداً من الظلمة أو الأعداء أراد أن يكبس البلد تأتى الناس بأمتعتهم وحلى النساء والأموال فيضعونها فى قبته فلا يقدر أحد أن يدخلها من الظلمة وإن أراد أن يدخلها يبست أعضاؤه )آ [35].
                  وكان رمضان الأشعث المدفون فى منف يرسل عكازه إلى الكاشف مع المظلوم فيقضى حاجته، فردّ الكاشف شفاعته مرة فطلعت له غدة فى رقبته فمات فى الحال[36]آ ، ومثله الشيخ الشيشيني الذى نفخ فى الكاشف فقلبه فى الهواءآ [37]، وكان كاشف بلبيس يرتعد فرقاً من الشيخ سعدون مبعوث البدوي فيهاآ [38]وكانت للشيخ خليل الشامي كرامات كثيرة مع نائب الشام جعلته ينجذب ويتبعه تاركا الإمارةآ [39]، وغير ذلكآ [40]
                  7ـ وكان من أصحاب البدوي السطوحيين يدققون فى اختيار المريدين متابعة منهم لشيخهم ، وتلمح إلى ذلك أقوال الشعراني فى الشيخ عبدالوهاب الجوهري المدفون بناحية الجوهرية ،"وكان من أجل أصحاب البدوي" ، (وكان يأخذ العهد على المريدين .. وكان كل من أراد أن يأخذ العهد يقول له : خذ هذا الوتد ودقه فى الحائط داخل الخلوة فان ثبت فى الحائط أخذ العهد وإن خار ولم يثبت قال له : اذهب إلى حال سبيلكآ [41]. هذا وإلى جانب المبعوثين ابقى البدوي الى جانبه طائفة من الأتباع اختص كل منهم بوظيفة معينة اكتسب لقبها مثل الشيخ على البريدي رسول البدوي إلى بعوثه واصحابه ، والشيخ عبدالعظيم الراعي (كان يرعى بهائم سيدى احمد وغنمه[42]) و(الشيخ محمد الفران الذى كان يخبز لسيدى احمدآ [43])و(محمد الكناس شيخ الكناسية الذين يكنسون المقام كل سنة فى المولد وكان سيدى احمد يحبه محبة شديدة[44]) ومعنى ذلك ان البدوي الذى جاء طنطا منذ قليل لا يملك شيئا أصبح يتحكم فى مملكة ثرية بقطعان الماشية والأغنام وتحوز كثيرا من الدور والزوايا للواردين من الضيفان ويقوم على رعاية هذه المملكة ثلاثة من السطوحية هم عبدالعظيم الراعي ومحمد الكناس ومحمد الفران . ثم هى مملكة غنية بقطيع من الأتباع الواردين لطنطا كل منهم يتوسل بالبدوي ليرعى ولده أو ماشيته أويبارك زرعه .. ثم مملكة سرية بأتباع منتشرين فى المنطقة داخل وخارج مصر موزعين بانتظام دقيق والاتصال بينهم مستمر بمركز الدعوة السرى فى طنطا .. ويقوم على إدارة هذه المملكة السرية والعلنية عبدالعال اليد اليمنى للبدوي وخليفته الحازم الصارم ويعاونه (وزراء) اختص كل منهم بوظيفة محددة كالبريدى والراعى والكناس والفران ...
                  آ تلكم هى مملكة البدوي ، ذلك المتستر بالجنون والجذب والصياح والتبول على الناس جهاراً ..
                  بقى ان نقول ان مملكة البدوي كانت على اتصال مستمر بأعوانه وشركائه من المدرسة الواسطية ، ومرّ بنا أن البدوى كان يرسل زعيم أتباعه عبدالعال إلى المليجي، وكان القليبي والبلتاجي يزوران البدوي فى طنطا ، كما كان الدريني على اتصال مستمر بهم وبالبدوي بحكم مقامه بالريف وتنقله فى البلاد .
                  آ ثم كانت للبدوي اتصلاته بأخيه الحسن فى مكة ، وقد ذكرنا أن الشيخ بشير كان مبعوث البدوى الدائم فى مكة ، وقد ورد فى الجواهر السنية لعبدالصمد أن الحسن كان يتسمع اخبار البدوي فى العام الأول لرحيله إلى طنطا وأن بعض الحجاج من طنطا قد أتوا إليه وعرفوه بأخيه وصياحه المزعج ،آ وفى الجواهر السنية اتصالات غامضة بين الحسن وأخيه البدوي ثم بين البدوى وابن أخيه الحسنآ بعد موت الحسن وتتخلل تلك الاتصالات دعاوى الكرامات وطي الأرض فى خطواتآ [45].. والمهم إن الإتصال بين البدوي ومكة المركز الرئيسى للدعوة لم ينقطع وإنما تجدد بتجدد الحج كل عام ، وكان أولو الأمر فى مكة على علم بكل تحركات البدوى وخططه .
                  البدوي وانهيار الأيوبيينآ :
                  ظل البدوى مقيما على السطح اثنتى عشرة سنة يقوم خلالها بعملين متناقضين الأول :يوجه إذاعة مستمرةآ من الصياح والصراخ والموسيقى المزعجة ليقنع الناس بجذبته وجنونه ، وفى نفس الوقت يسير البعوث الدائمة ويحكم الخطط للدعوة ويعاونه عبدالعال فى التنفيذ .. يقول الشعرانى ( فلم يزل آ سيدي أحمد على السطوح مدة اثنتى عشرة سنة وكان سيدى عبدالعال يأتى اليه بالرجل أو الطفل فيطاطي رأسه من السطوح فينظر اليه نظرة واحدة فيملأه مددا ويقول لعبدالعال : اذهب به الى بلد كذا أو موضع كذا فكانوا يسمونه اصحاب السطحآ [46]).
                  وبعد اثنتى عشرة سنة نزل البدوى من على السطح وسكتت الأذاعة المحلية فى طنطا عن الصراخ والصياح..فما الذى حدا بالبدوى لقطع مرحلة السطح ؟؟..
                  تسكت المصادر الصوفية عن رصد تحركات البدوى بعد فترة السطح ..
                  ولا يجد المؤرخ أمامه من سبيل إلا تلمس وقائع التاريخ ليربط بين الحوادث ويكمل النقص ليعلل انتهاء فترة السطح وبداية مرحلة جديدة فى الدعوة لا ندرى مع الأسف الشديد حقيقة الجهد المبذول فيها ..
                  نقول : ربما أنهى البدوى خطته كاملة فأتم زرع الدعاة فى مصر وخارجها وأتم سيطرته على طنطا وأصبح أعوانه متحكمين فيها يرصدون كل غريب ويتشممون كل خبر .. وإذن فلا داعى للادعاء بالجنون جذبا وصياحا ليقتنع من فى طنطا ، وصار عليه أن يتجول فى مملكته بحرية ينتظر الأخبار ويرسل الرسل ويحكم الخطط ويقابل الأتباع فى نفس الوقت الذى حافظ فيه على مظهر التصوف والجذب فى مقابلته لقطيع البشر الذى يفد الى طنطا متبركا متوسلا..
                  ويؤيد ذلك أن طنطا أصبحت مأوى لمريدى البدوى من جميع الأنحاء حتى من القاهرة كما ورد فى النص الذى اوردناه عن الأمير جنكلي بن البابا الذى زار البدوي وفوجئ به يتبول فى المسجد حين الصلاة للجمعة ، ويؤيد ذلك أن مملكة البدوي أصبحت تضم متخصصين من بين السطوحية فى التراسل ورعى البهائم وإعداد الطعام والكنس والتنظيف .
                  ولكن انتهاء فترة السطح فجأة بعد اثنتى عشرة سنة بالتمام لا يكفى فى تعليلها أن الدعوة انتشرت فى طنطا وخارجها , فالشأن فى الدعوة ان تبدأ فى الازدهار التدريجي بعد سنوات قلائل وإذا بدأت فى النمو فنموها مضطرد طالما تسير وفق مخطط متكامل ناجح وحينئذ يصبح من الجائز أن يستمر البدوي على السطح أو ينزل إلى السفح دون تعيين بمدة . فالمنطق يرجح أن يكون هناك حدث ما شجع البدوي على النزول من على سطحه ومباشرة الأمر بنفسه ، ولأن المصادر الصوفية لا تسعفنا بجهود البدوي بعيد فترة السطح فإننا نلجأ لمصادر التاريخ لتشفى الغليل .
                  لقد دخل البدوي طنطا سنة 637 فاعتلى السطح وظل يصرخ ويخطط اثنتى عشرة سنة ثم انقطع الصراخ فجأة سنة 649 وبدأ عهد جديد من التخطيط فى هدوء ودون ضجيج أو صريخ . والتاريخ يقول أن المدة ما بين 648 :649 شهدت أحداثاً هائلة من تاريخ مصر والمنطقة .. فقد شهدت هذه الفترة بدأ الحملة الصليبية التى قادها القديس لويس التاسع واستولى فيها على دمياط ثم زحف جنوباً حتى وصل الى البحر الصغير وزحف السلطان الأيوبي الصالح أيوب من القاهرة الى موقع مدينة المنصورة وأشرف على مواجهة الحملة الصليبية .
                  وفى خضم المناوشات بين الجانبين مات الصالح ايوب وكان يعانى من مرض الصدر فتولت محظيته شجرة الدر تدبير الأمور وبعثت فى طلب ولي العهد توران شاه واستمر القتال ونجح المماليك السلطانية فى الإجهاز على هجوم الفرنجة على المنصورة وتابعوا الانتصار وأغرقوا الأعداء فى الوحل والفيضان وتم أسر الجيش الصليبي وقائده لويس ، وكان توران شاه قد جاء فتولى الإجهاز على بقية الحملة الصليبية وشارك فى انتزاع النصر مع المماليك البحرية ، إلا انه تآمر على زوجة أبيه فأسرع المماليك بقتله وتم ذلك سنة 647 وتولت الحكم شجرة الدر كأول سلطانة فى التاريخ الإسلامي ، وآخر سلطانة أيضاً واحتج الخليفة العباسى على أن تتولى الأمر فى مصر امرأة وبعث يتندر بأولي الأمر يقول إذا خلت مصر من الرجال فإنه على استعداد أن يبعث برجل ليحكم.
                  ولم يكن البدوى ببعيد عن مجريات الأحداث فالمنصورة جد قريبة من طنطا .. وجواسيس البدوي فى كل صقع .. والبدوى (ابو الفتيان )آ و(أبو الرجال ) وجد الفرصة سانحة ، ولعله نزل من السطحآ وقد أحس بالعار من سخرية الخليفة العباسي وبقولته بأن مصر خلت من الرجال طالما تحكمت فيهم إمرأة ، وقد رأى أن الفرصة سانحة فأتباعه منتشرون والسلطة فى اضطراب بعد سقوط الدولة الأيوبية وتحكم المماليك فى الأمر بزعامة شجرة الدر... وفى هذه الحال فالصراخ على السطح مضيعة للوقت وصياح فى الهواء لا يأتى بفائدة اللهم إلا وجع الدماغ .آ آ
                  ثم جد عامل آخر شجع البدوى هو تذمر المصريين من أن يحكمهم المماليك وهم رقيق سابقون فكيف للرقيق أن يحكم الأحرار.. يقول ابو المحاسن ( إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك – الذى تزوج شجرة الدر وحكم معها وهم يسمعونه ما يكره حتى فى وجهه إذا ركب ومر فى الطرقاتآ [47]) والبدوي بنسبه الشريف الذى يدعيه أولى من الرقيق بحكم مصر .
                  آ وزاد من خطورة الأمر أن الأيوبيين فى الشام لم يرضوا بما حدث فى مصر فتحتمت الحرب بين المماليك والأيوبيين ، وواجهت الدولة المملوكية الناشئة خطر الأيوبيين فى الشام مع تذمر المصريين فى الداخل ، واستغل هذه الظروف بعض الشيعة فأعلن الثورة وهو حصن الدين ثعلب الذى ادعى النسب العلوى وأعلن أن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للأرقاء ، وأقام دولة عربية مستقلة فى مصر الوسطى ومنطقة الشرقية ،وحاول حصن الدين أن يتصل بالناصر الأيوبي صاحب الكرك وعدو المماليك إلا أن عقد الصلح بين الأيوبيين والمماليك خيب أمله فأضطر للإعتماد على جهوده الذاتيةآ [48].
                  والمهم أن مبادرة حصن الدين ثعلب بالثورة اضافت عنصراً جديدا أقنع البدوى بإنهاء مرحلة السطح وتطوير دعوته ودفعها على طريق جديدآ ..
                  ومع الأسف فإننا لا نعرف المدى الجديد الذى وصلت اليه الدعوة بعد انتهاء فترة السطح ، ولكن يعنينا أن انشغال المماليك بفتنهم الداخلية وحروبهم مع الأيوبيين ثم مع المغول مكن للبدوي من التحرك الجديد مستغلا فترة القلق التى تصاحب إنهيار دولة وقيام دولة على أنقاضها ووجود عامل خارجى تمثل فى الهجوم الصليبىآ بحملة لويس التاسع..
                  ومهما يكن من أمر فإن التحرك الذى قام به البدوي بعد نزوله منآ على السطح والذى لا نعرف حقيقته لم يقدر له الاستمرار والنجاح .. فالاضطراب الذى واجهته الدولة المملوكية الوليدة من التنازع الداخلى بين المماليك وبينهم وبين الأيوبيين وبينهم وبين الغزو المغولي ذلك الاضطراب انتهى بعد الانتصار المملوكي على المغول فى عين جالوت التى رفعت شأن الحكم الجديد وزادته قوة فى الداخل والخارج، ثم تمكن بيبرس من القبض على السلطة بيد من حديد فتفرغ لمواجهة أعداء الدولة فى الخارج ونجح فى الميدانين معا .. وأفشل حركات الشيعة الصوفية السرية والعلنية .. ولم يفلح معه التطورالجديد الذى بدأه البدوي بالنزول من على السطح ، بل وربما كانت يد الظاهر بيبرس الحديدية سبباً فى عدم معرفتنا بجهود البدوى حين نزل من على السطح .. فقد تحولت المبادرة إلى جانب السلطة المملوكية التى يمثلها بيبرس واقتصر البدوي وكل أعداء الدولة على مجرد رد الفعل.





                  [1]الجواهر السنية 60
                  [2]نفس المرجع 40
                  [3]عبد الصمد . نفس المرجع 61
                  آ
                  [4]نفس المرجع 8، 39
                  [5]نفس المرجع 12، الطبقات الكبرى للشعرانى 1160
                  [6]نفس المرجع 6
                  [7]نفس المرجع 123
                  [8]) عبد الصمد نفس المرجع 38
                  [9]المنهل الصافى مخطوط 5191
                  [10]) الطبقات الكبرى 1160
                  [11]) عبد الصمد . نفس المرجع 35- 36 الخفاجى النفحات الأحمدية 166
                  [12]) الشعرانى . الطبقات الكبرى 1130
                  [13]) النجم الساعى 27
                  [14]مجلة السياسة 11
                  [15]) الطبقات الكبرى : مخطوط 274
                  [16]النفحات الأحمدية 153
                  [17]) النصيحة العلويه . مخطوط 25
                  [18]) الطبقات الكبرى 1159 ، عبد الصمد الجواهر 11
                  [19]) النجم الساعى 46
                  [20]عبد الصمد : نفس المرجع 26، النفحات الأحمدية للخفاجى 157، الطبقات الكبرى للشعرانى 1160
                  [21]الطبقات الكبرى 1160
                  [22]النفحات الأحمدية 276
                  [23]الجواهرالسنية 33
                  [24]) النصيحة العلوية 31، 32 مخطوط
                  [25]عبد الصمد 27: 35 ،النفحات الأحمدية 276:277
                  [26]النفحات الأحمدية 153
                  [27]) عبد الصمد : 32.
                  [28]الجواهر السنية :30
                  [29]) نفس المرجع 33
                  [30]) نفس المرجع 33
                  [31]) نفس المرجع 33
                  [32]) طبقات الرفاعية 27
                  [33]) عبد الصمد 29
                  [34]الطبقات الكبرى 1/ 161 .
                  [35]آ آ عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
                  [36]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
                  [37]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
                  [38]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
                  [39]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
                  [40]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
                  [41]) الطبقات الكبرى 1 161، عبد الصمد 27
                  [42]) عبد الصمد 29، 30
                  [43]) عبد الصمد 29، 30
                  [44]) عبد الصمد 29، 30
                  [45]عبد الصمد : الجواهر 63، 65
                  [46]الطبقات الكبرى 1159 ، وفى رواية أخرى أنه ظل عشر سنين فقط أى ( 637- 647 ) راجع الجواهر السنية 37
                  [47]) النجوم الزهراء 713 ، أنظر المقريزى . السلوك 1380
                  [48]السلوك 1/ 386: 387
                  التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:35 PM.

                  تعليق


                  • #10
                    رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع


                    سادسا:جهود البدوي فى المرحلة الثانية

                    سادسا : جهود البدوي فى المرحلة الثانية ( 658-675هـ )
                    السلطان بيبرس كخبير فى التآمر :
                    1ـ انتهت المرحلة الأولى وقد انتشر دعاة البدوي فى المنطقة ، والجو السياسي فى صالحهم من ضعف للسلاطين وانهماك فى الفتن والمؤامرات وقلق سياسي أسفر عن انهيار الدولة الأيوبية وقيام الدولة المملوكية التى انشغلت فى تأسيس بنيانها ومواجهة الطامعين من بنى أيوب والصليبيين والمغول . ثم كان توطيد الحكم المملوكي واستقراره على يد الظاهر بيبرس ،ذلك التوطيد الذى استقر بعده الحكم المملوكى طيلة الدولة البحرية ثم البرجية على أثره ، حيث ظلت الدولة المملوكية تتربع على عرش الصدارة فى المنطقة حتى انهارت على يد الدولة العثمانية سنة 921هـ .
                    وإذا كان البدوي قد استفاد من فترة الخلل السياسى فإن عليه أن يواجه المأزق حين أخذ بيبرس على عاتقه أن يوطد الدولة المملوكية فى الداخل والخارج ، ولن يكون توطيد الدولة المملوكية فى الداخل إلا على حساب البدوي ودعوته السرية وسائر المستفيدين من الضعف الداخلى للدولة الوليدة .
                    والواقع أن زمام المبادرة فى هذه المرحلة انتقل إلى يد الظاهر بيبرس الذى كان شعلة من النشاط لا تهدأ فى الداخل والخارج ، بحيث أنه من الأنسب أن نجعل العنوان (جهود بيبرس ) لا(جهود البدوي ) لأن البدوي فى هذه المرحلة اقتصر عمله على رد الفعل دون البدء به .
                    وقد احتل الظاهر بيبرس المكان اللائق به فى التاريخ المصرى الوسيط وفى الوجدان الشعبى فحيكت سيره (الظاهر بيبرس ) التى تتناول بطولاته ضد الصلبيين ومهاراته فى المؤامرات.
                    وإذا وضعنا البدوي بإزاء بيبرس لرأينا خصمين لا يقل أحدهما عن الآخر فى فن المؤامرات والدهاء الأمر الذى يجعل المباراة بينهما شيقة مثيرة لو اتحفتنا المصادر التاريخية بما يشفى الغليل ، لولا أن تميزهما معاً بالدهاء والتستر والتآمر جعل المصادر التاريخية لاتذكر من أعمالهما إلا ما ظهر وبان للعيان فقط .أما ما بطن وخفى فقد وقع علينا عبئه، وعلى الله جل وعلا التوفيق .
                    2 ـ ونبدأ بالتعرف على جانب من شخصية الظاهر بيبرس ، ذلك الذى أرهق الوجود الصليبي فى الشام والدولة المغولية فى العراق والمملكة النوبية فى الجنوب والأرمنية فى الشمال وأكد نفوذه فى الشام ومصر والحجاز ، وقد عانى أعداؤه جميعا من دهائه الخارق وحيويته الدافقة ونشاطه المستمر فى الحروب مع المؤامرات .
                    ونشاط الظاهر بيبرس فى فن المؤامرات هو الجانب الذى يهمنا فى بحثنا للبدوي كزعيم لآخر مؤامرة شيعية ضد الدولة المملوكية فى عهد الظاهر بيبرس ،ولقد تعرفنا على البدوي ودهائه فى المرحلة الأولى لدعوته وبقى أن -نتعرف فى المرحلة الثانية على خصمه الجديد ومدى دهائه فى التآمر هو الآخر .
                    والواقع أن سجل بيبرس فى التآمر لا يحسدعليه ،فالمماليك عموما- أساتذة فى فن المؤامرات تعلموها فى المدرسة الأيوبية حيث كانوا عنصراً فى حلقات التآمر التى كانت لا تنتهى بين أبناء الأسرة الأيوبية . ثم مارسوها على نطاق شخصى حين آل الأمر إليهم دون الأيوبيين ، وأقاموا دولتهم المملوكية فبدأ التآمر فيما بينهم يأخذ الطابع المحلى ، وعلى أساس مقدرة أحدهم فى التآمر كان وصوله إلى السلطة أو إلى الدار الآخرة قتيلاً ليرثه القاتل المنتصر والذى هو بالطبع أكثر دهاء وتآمراً . وقد مارس بيبرس هذه اللعبة منذ بدايته، ويكفى أنه بالتآمر وصل إلى أن يكون أحد أعمدة المماليك البحرية وأحد كبار الأتباع لأقطاى زعيم البحرية .وحين قتل أقطاى بسيف قطز وتشرد بيبرس مع أتباعه فإنه لم ينس هزيمته أمام (خشداشيه )أو( زميله )قطز وأقسم أن يكون قطز من قتلاه ..وفعلا.. تآمر على قتل السلطان قطز بعد أن راسله قطز واستقدمه وأعطاه الأمان وولاه قصبة قليوب وبّر بيبرس بقسمه فقتل السلطان قطز صديقه القديم قاتل استاذه أقطاى عند الصالحية بعد أن هزم قطز المغول فى عين جالوت. وتولى بيبرس السلطنة نتيجة مؤامرة نفذها بسيفه الملوث بدماء السلطان قطز .
                    ولم يقلع بيبرس بعد توليه السلطنة عن ممارسة التآمر ضد خصومه وما أكثرهم ، وحتى يتيح لنفسه أكبر قدر من الحرية كان يفضل التخفى والتستر حين يباشر التآمر بنفسه ،وهكذا كان ( التنكر ) سمة أساسية فى النشاط السرى للظاهر بيبرس وسياسته .
                    يقول المقريزى فى حوادث سنة 663 (وفيها نزل السلطان من قلعة الجبل متنكرا وطاف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس [1]) وفى حوادث سنة 665 يقول أنه بلغه أن جماعة من الفرنج بعكا تخرج منها غدوة وتبقى فى ظاهرها فسرى أى سار ليلا ببعض عسكره ( وأمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنجة فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا ووضع السيف فى الفرنج ) [2]واشتهر عنه أنه بعد سقوط أنطاكية طلبت إمارة طربلس الصليبية الصلح فأوفد بيبرس وفداً للمفاوضة ودخل المدينة بنفسه ضمن وفد المفاوضات متنكراً فى زى خادم ليتعرف خبايا المدينة ويدرسها تمهيداً لحصارها فيما بعد .
                    وقد عقد الظاهر بيبرس لابنه السعيد بركه بولاية العهد .. ولكى يطمئن على سير الأمور فى مصر أثناء غيابه فى الشام (خطر للسلطان أن يتوجه إلى ديار مصر خفية فكتم ذلك وكتب للنواب بمكانه ) وادعى المرض حتى لا يدخل عليه أحد ثم تسلل(ولبس السلطان خوجة مقطعة ،وقصد أن يخرج ولا يعلم به الحراس ) وسار من الشام حتى وصل قلعة الجبل (وعندما خرج الملك السعيد ليركب ما أحس إلا والسلطان قد خرج إليه فرعب منه وقبل الأرض ) ثم عاد للشام إلى حيث معسكره ،يقول المقريزى (ومشى كل ما وقع على العسكر ولم يعلم به سوى الأتابك والاستادار والداودار وخواص الجامدارية ..وقصد بما فعله أن يكشف حال مملكته وتعرف أحوال ابنه الملك السعيد فى مصر فتم له ما أراد )[3].
                    وقد أعان بيبرس على تنفيذ سياسته تلك أن (رتب البريد فى سائر الطرقات فكان الخبر يصله من قلعة الجبل إلى دمشق فى أربعة أيام ويعود فى مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه فى كل جمعة مرتين ويتحكم فى سائر الممالك من العزل والتولية وهو مقيم فى قلعة الجبل[4]) .
                    ومع ذلك فلم يمكث بمكان واحد بل كان على حد قول المقريزى نفسه(مقداماً خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجين وخيول البريد لكشف القلاع والنظر فى الممالك فركب للعب الكرة فى الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق ، وفى ذلك يقول سيف الدولة المهندار من أبيات يمدحه فيها :
                    يوما بمصر ويوما بالحجاز وبالشام يوما ويوما فى قرى حلبآ [5]


                    وحين يكون بمكان ويصله خبر بالبريد عن تحرك أعدائه يبادر بالتحرك إليهم ، فكانت أيامه حركة مستمرة ،من ذلك ما يقوله المقريزى فى حوادث سنة 668(صلى الجمعة فى الكرك ( الأردن ) ، وساق إلى دمشق والناس فى مصر لا يعرفون شيئاً من خبر السلطان هل هو فى الشام أو الحجاز أو غيره ولا يستطيع من مهابته والخوف منه أحد أن يتكلم ، ثم وصل إلى قلعة الجبل ودخل إلى الأسكندرية ، وتوجه إلى الحمامات ونزل بالليونة فبلغه هناك حركة التتار وأنهم واعدوا فرنج الساحل فعاد إلى قلعة الجبل وسار السلطان من قلعة الجبل ومعه نفر يسير فوصل إلى غزة ثم دخل دمشق [6]).
                    وبيبرس كخبير فى المؤامرات كان يدرك أن أسهل الطرق لمواجهة مؤامرات الخصوم أن يحتاط لها ولا ينتظر حدوثها بل يبادر بالقضاء على من يخشاه مقدماً قبل أن تنشب الفتنة ، وذلك خط أساسى فى جهد بيبرس السياسى من ذلك ما فعله مع المغيث الأيوبى صاحب الكرك الذى تحايل عليه واستحضره فاعتقله ثم قتله بعدها [7]وكان لبيبرس صديق من أمراء المماليك الطموحين ( وقد ولاه الملك الظاهر شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك السلطان فقال : هذا ما نيتة خير ..وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا أن عزله [8])
                    وبذلك نتعرف على بعض الملامح الـتآمرية لدى الظاهر بيبرس بعد توليه السلطنة ،فهو فى وضعه الجديد الذى وصل إليه بالتآمر“ يواجة مؤامرات خصومه بأدوات الحكم فهو يرتب البريد وينظمة ، والبريد أهم وسائل التجسس وبه أصبحت أخبار البلاد تصله فى مدة قياسية حيثما كان ،وعن طريق جواسيسه المنتشرين وبريده السريع المنتظم كان يبادر بالتحرك السريع لمواجهة الموقف بل أنه كان لا ينتظر وقوع الفتنة ، وبمجرد أن يشم احتمال حدوثها كان يبادر بالقضاء عليها قبل أن تكتمل ملامحها ، وساعده على ذلك كله خبرة سابقة بآلتامر وحيوية دافقة لا تعرف الكلل .
                    وهذه الملامح نتبينها فى موقف الظاهر بيبرس من الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف ، ولأن مؤرخي عصره كانوا يرصدون تحرك السلطان الظاهرى دون فهم لنواياه الخفية فأننا نربط الحوادث على ضوء فهمنا لسياسة السلطان الظاهر بيبرس ذلك الذى وصل بالتآمر ولن يسمح لمتآمر أن يغلبه وهو (سلطان المتآمرين ).
                    حركة الكوراني وذيولها :
                    ومن سوء حظ البدوي أن الظاهر بيبرس واجه فى أولى سنوات حكمه مؤامرة الكوراني الشيعية الصوفية ،ففى أثناء اشتغال المماليك بمواجهة الخطر المغولي سنة 657 بدأت دعوة الكوراني السرية فقبض عليه(وضرب ضرباً مبرحاً [9])وأطلق من اعتقاله فأقام بالجبل الأحمر . وفى العام التالي قتل بيبرس قطز وتولى السلطنة وكانت العامة تتخوف من تسلط المماليك البحرية فى عهد الظاهر بيبرس واستغل الكوراني الشعور العدائي للسلطة الجديدة فقام بحركته الصوفية الشيعية العسكرية ..يقول المقريزي فى حوادث سنة 658 (وفيها ثار جماعة من السودان والركبادارية وشقوا القاهرة وهم ينادون (يا آل علي ) وفتحوا دكاكين السيوفيين من العصر وأخذوا ما فيها من السلاح واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيل ، وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوراني أظهر الزهد وحمل بيده مسبحة وسكن قبة بالجبل وتردد إليه الغلمان فحدثهم فى القيام على أهل الدولة وأقطعهم الإقطاعات وكتب لهم بها رقاعاً ، فلما ثاروا فى الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم فأصبحوا مصلوبين خارج باب زويلة وسكنت الثائرة [10]).
                    فالشيخ الكوراني خطط جيداً لحركته العسكرية ، فقد اختار الوقت المناسب واصطنع التصوف والزهد والمسبحة وسكن قبة بالجبل ، وكون خلايا عسكرية من بين الغلمان الخدم المنوطين بخدمة الفرسان المماليك ،ورسم لهم خطط الهجوم بانتزاع السلاح وسرقة الخيل والهجوم على ثكنات المماليك على أن يسبق الهجوم مظاهرة مسلحة تنادى (يا آل على ) لينضم إليها العامة أو (الزعر) وهم كارهون للبحرية وزعيمهم بيبرس السلطان الجديد .
                    وقضى على المؤامرة الوليدة ..
                    وما كان لبيبرس أن تمر عليه هذه الحادثة دون دراسة وانتباه. من ذلك أنه فى العام التالى سنة 659 (رتب البريد فى سائر الطرقات ) ليكون على أهبه التحرك عند أى طارئ ،واستمال العامة فأزاح عن كاهلهم الضرائب التى فرضها سلفه قطز حين تجهز للقاء المغولآ ...
                    ولأنه أدرك أن هدف الكوراني يتمثل فى الخلافة الشيعية التى تحل محل الخلافة العباسية المنهارة
                    فقد عمل بيبرس على بعث الخلافة العباسية السنية فى مصر لتكون واجهة لحكمه وسنداً لسلطته ضد أى تحرك يقوم به الشيعة على الخصوص ، وهكذا ففى العام التالى لحركة الكوراني استقدم أحد العباسيين وتمت البيعة له باسم الخليفة المستنصر ، وكان المستنصر طموحاً فتخوف منه بيبرس وعزم على التخلص منه فأوفده بجيش قليل لاسترداد بغداد فهزمه المغول وقتلوة سنة 660 هـ ، فعين بيبرس خليفة آخر هو الحاكم سنة 661 وحتى يضمن الأمان لسلطانه من طموح الخليفة الجديد جعل من القاهرة ملجأ للأمراء العباسيين الفارين ليهدد الخليفة الجديد بالعزل وتولية أحدهم مكانه إذا حدثته نفسه بالتدخل فى شئون الدولة.
                    وهكذا كان بيبرس يبادر بعلاج أسباب الفتنة قبل أن تحدث حتى إنه حين بلغه من جواسيسه أن الخليفة الجديد يقوم ببعض الاتصالات حجبه عن الناس لأن (أصحابه كانوا يخرجون إلى الناس ويتكلمون فى أمر الدولة [11]) أى السياسة .
                    وربط بيبرس فى دراسته لمؤامرة الكوراني بين حركة الكوراني وحركة الشريف حصن الدين ثعلب الشيعية التى ساندها الأعراب وأقامت دولة فى الشرقية ومصر الوسطى ثم قضى عليها أيبك واعتقل الشريف حصن الدين فى الأسكندرية .
                    وقد جاء بيبرس للحكم وحصن الدين لم يزل معتقلاً ،وبعد حركة الكوراني بث العيون حول أصحاب حصن الدين ..وحينما نمى إلى علمه أن الشريف السرسناوي يتردد إلى حصن الدين فى حبسه أمر بشنقهما معا[12].
                    وشك بيبرس فى طموح صديقة الأمير المملوكى الذى أشرنا إليه سلفاً والذى (ولاه شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك للسلطان فقال : هذا ما نيته خير ،وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا إنه عزله )، والجديد أن ذلك المملوك (كان يدعى أن أصله شريف علوى من العجم[13]) .
                    ودرس بيبرس نشاط الكوراني السابق فعلم أن الكورانى قد اعتقل فى العام السابق لحركته (بسبب بدع ظهرت منه وجدد اسلامه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر )[14].أى لولا توبة الكوراني على يد الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما أخرج من المعتقل وما قام بحركته أصلا ..
                    وكان عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء فى عصره ومعٌلماً بارزا فى تاريخ القرن السابع جاء لمصر غاضباً من الصالح إسماعيل الأيوبي المتعاون مع الصليبيين ضد الصالح أيوب سلطان مصر ، وأحرز مكانة عالية بين المصريين حكاماً ومحكومين ،إلا أنه اتصل بالشاذلي وتصوف فصار وهو الفقيه الواعظ“ ( يحضر السماع ويرقص )[15]أى يرقص فى حفلات الصوفية شأن المريدين ،وقد سبق القول بأن الشاذلي كان واجهة صوفية فى الاسكندرية للدعوة السرية بعد موت رائدها أبى الفتح الواسطي ، ومن الطبيعى أن تستغل الدعوة فقيهاً شهيراً كإبن عبدالسلام بعد أن أحدثت هذا التحول الخطير فى حياته وحولته من فقيه ثائر إلى مريد راقص. إلا أن أمر عز الدين ابن عبد السلام لم يتأثر بانخراطه فى التصوف ،فالتصوف مرعي الجانب من السلطات طالما لا تشوبه شائبه من طموح سياسي ..ولم تستطع السلطة المملوكية فى عهد قطز أن تشك فيه من هذه الناحية ، بل على العكس لجأ إليه قطز ليستعين به فى فرض الضرائب لمواجهة المغول فرفض ابن عبد السلام أن تؤخذ أموال العامة وقال (إذ لم يبق فى بيت المال شئ وأنفقتم الحوائص من الذهب ونحوها من الزينة وساويتم العامة فى الملابس سوى آلات الحرب ولم يبق للجندى إلا فرسه التى يركبها ساغ أخذ شئ من أموال الناسآ [16]). ولم يأخذ قطز بفتوى عز الدين بن عبد السلام ففرض ضرائب باهظة على الناس ،ومع ذلك فلم تتأثر مكانة ابن عبد السلام بموقفه المشرف هذا ،وبعدها كان اطلاقه للكوراني حين اعتقل اشتباهاً فى نشاطه السياسي بحجة أنه ( ظهرت منه بدع ) استوجبت اعتقاله وضربه ضربا مبرحا وليس ذلك مألوفا فى التعامل مع صوفى معتقد يقصده الناس معتقدين فى كراماته وولايته كالكورانى . وبعد حركة الكورانى أحاطت شكوك الظاهر بيبرس بسلطان العلماء (عز الدين بن عبد السلام)، وليس غريبا حينئذ أن تعقد له جلسات لمحاكمته لأسباب غامضة ،يقول الشعرانى عنه ( وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلسا فى كلمة قالها فى العقائد) [17]، ومفهوم أن تعقد للصوفى العادى محاكمات بسبب الشطح ، أما من غير المفهوم أن يتهم بذلك فقيه شهير كان سلطاناً للعلماء فى عصره متمتعاً بالحظوة لدى الحكام والمماليك على وجه الخصوص بحيث يتجرأ على القول أمامهم بكلمة حق دون خوف أو دجل ،ومن غير المفهوم أيضا أن تعقد لهذا الفقيه الخطير الشأن جلسة للمحاكمة حول كلمة يقولها فى العقيدة ،وهو أدرى بخطورة هذا الاتهام المسلط دائما على رقاب الصوفية ذوى الشطحات . ومن غير المفهوم أيضا أن تجرى هذه المحاكمات فى جو من السرية بحيث لا ترصدها المصادر التاريخية وهى مغرمة بتقصى اخبار المشاهير ومنهم ابن عبد السلام .
                    والتفسير الوحيد لهذه الألغاز هو فى الربط بين عزالدين بن عبد السلام والدعوة السرية الشيعية ونشاط الشيعة المستتر بالتصوف فى عهد حاكم داهية كالظاهر بيبرس يعالج أموره بالكتمان ويقابل التآمر بتآمر أعتى وأشد ويتبع خيوط المؤامرة بنفسه ويبادر بالقضاء على أعوانها مهما سمت مراكزهم إذا توفر له دليل أى دليل .
                    لقد انحسرت الأضواء عن ابن عبد السلام منذ حركة الكوراني إلى أن مات سنة 660 هـ ، ونحن لا نجزم بوجود علاقة ما بين الكوراني وابن عبد السلام ولكننا نرجح أن يكون موقف ابن عبد السلام من الكورانى فى محنته سنة 657 نابعاً من تأثره وتشبعه بالدعوة الشيعية الصوفية التى أشربها عن طريق الشاذلي صديقه .. ولم يجد الظاهر بيبرس فى موقف ابن عبد السلام إلا ما يستوجب الاتهام فإتهمة ..ولعله كانت لديه أدلة أكثر حسماً من مجرد الشكوك برر بها التطور الجديد الذى قام به الكوراني ، ففى أقل من عام بعد خروجه من المعتقل كانت جماعاته المسلحة تطوف القاهرة وتبغى الاستيلاء على السلطة وتهتف (يا آل على ).
                    انعكاسات حركة الكورانى على دعوة البدوى :
                    ومن الواضح أنه لا صلة مباشرة بين حركة الكوراني ودعوة البدوي مع اتفاقهما فى (الهدف) وهو إقامة الحكم الشيعي و(التخطيط الأساسي ) وهو استغلال التصوف وتكوين الأتباع ، إلا أن هناك نوعاً من الاختلاف بين الحركتين نلمسه فى التمهل الذى تسير عليه الدعوة الشيعية الصوفية بدءاً من الرفاعي وانتهاءاً بالبدوي ، بالإضافة إلى ميل هذه الدعوة للابتعاد عن العواصم ومراكز التحكم السياسي مع شموليتها للمنطقة داخل وخارج مصر ،أما حركة الكوراني فالأغلب أنها حركة محلية من الأتباع المتبقين من أنصار الدولة الفاطمية الآفلة بدليل اعتماد صاحبها الكوراني على جماعات السودان ، وقد كان السودان يمثلون الحرس الفاطمي الذى أرهق صلاح الدين فى بدايته بالمؤامرات ، وإذا كان قد قضى عليهم عسكرياً فإن بقاياهم وذرياتهم كانت لا تزال موجودة تطوى القلوب على الجمر تتحين الفرصة ، وقد واتتها فى حركة الكوراني الفاشلة .
                    ومع ذلك فإن التسرع الذى اتسمت به حركة الكوراني وأدى إلى فشلها كان عاملاً هاماً فى لفت نظر بيبرس للتآمر الشيعي المستتر بالتصوف مما دفعه لبث العيون وتنظيم البريد حتى لا يؤخذ على حين غرة ،وإقامة الخلافة العباسية ليقطع الطريق على هدف الشيعة فى الخلافة الفاطمية ، ثم اجتث جذور التآمر أو ما يشك فيه كتآمر فقتل الشريفين حصن الدين والسرسناوى وعزل صديقه المملوكي مدعى النسب العلوى وحاكم عز الدين بن عبد السلام .
                    ثم بدأت عيونه ترصد تجمعات المتصوفة وفوجئ بيبرس بداعية مجهول غامض يحتل مكانا هاما فى وسط الدلتا هو أحمد البدوى ،ودعاته أو أتباعه منتشرون ،وكان كشف البدوي أمام أعين الظاهر بيبرس هو الهدية الغير منتظرة من الكوراني لرفيقة الشيعي الصوفي البدوي
                    . يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (ولكن سرعان ما أدرك السيد البدوي أنه محاط بالجواسيس من كل مكان وأن صاحب مصر قد وقف على نيته فانقلب يعلم الناس النحو والصرف وقرأ دروساً فى الفقه على المذهب الشافعي ولبث سنين لا يجتمع بأحد من السطوحية فى مجلس ظاهر )[18]. ولم يكن البدوي بالشخص الذى يؤخذ على غرة ،فأتباعه منتشرون والاتصلات بينهم وبينه مستمرة ومستقرة ، وقد علم بشنق حصن الدين والسرسناوى فى الاسكندرية ،وبلغته أخبار فشل الكوراني ونهايته مع أتباعه فى القاهرة ، وقبل كل ذلك كانت لديه عين على الظاهر بيبرس نفسه ينبئه بما ينبغي عليه فعله ،إنه الشيخ خضر العدوي المهراني الكردي تلميذ أبى السعود بن أبى العشائر الواسطى[19]مبعوث الرفاعى للقاهرة ،والذى أصبح شيخاً للظاهر بيبرس ومتمتعا بالنفوذ فى عهده .
                    خضر العدوي بين الظاهر بيبرس والبدوي :
                    ففى فترة (التيه ) التى قضاها الأمير بيبرس البندقداري فى الشام الأيوبي بعد هروبه من مصر التقى بخضر العدوي ،وكان خضر العدوي الكردي تلميذاً نشطاً لأبى السعود بن أبى العشائر فى مصر .وفد إليه وكون مع داوود (المغربي )وشرف الدين (الكردي )وحسين (الجاكي ) خلية صوفية متحركة بين الشام والعراق ومصر .
                    وفى فترة الاضطراب هذه والتى تنبئ بعلو شأن البحرية وضع الشيعة أعينهم على بعض الطموحين من المماليك البحرية يبشرونهم بتولى السلطنة ، حيث شاع فى العصر الإيمان بكرامات الأولياء وعلمهم بالغيب ،وكان من نصيب خضر العدوي أن التقى بالظاهر بيبرس وقت أن كان أميراً هارباً فى الشام فبشره بالسلطنة ، وفى هذا الوقت حيث كان بيبرس يعيش بحد سيفة خادماً لهذا الأمير الأيوبي أو ذاك فإن تبشيره بالسلطنة من صوفى معتقد كالشيخ خضر لابد أن يترك فى نفسه أثراً ، ويحفزه لتحقيق أطماعه التى أضاعها قطز حين قتل أقطاى أستاذ بيبرس . وبينما يسير بيبرس فى الشام شريدا بين صغار الأيوبيين المتنازعين فإن غريمه قطز يتولى السلطنة بعد أن مهد لعز الدين أيبك أستاذه من قبل وعلى حساب أقطاى وبيبرس .و هكذا فمن بين سياسة (التبشير ) بالسلطنة بين الأمراء البحرية فى هذا العصر المضطرب أفلح خضر العدوي فى حفز الأمير بيبرس البندقداري ليرجع إلى غريمه قطز فى مصر رافعاً راية الاستسلام وفى نفسه عزم على الانتقام والوصول للسلطنة .
                    يقول أبو الفدا (سار بيبرس إلى غزة وراسل قطز وأرسل إليه علاء الدين طيبرس يطلب منه الأمان فكتب إليه قطز بالأمان ووعده بالوعود الجميلة )[20]. وسارت الأمور على نحو ما نعرف .عاد بيبرس فشارك فى حرب المغول ثم انتهز الفرصة حين الأوبة من الانتصار فقتل السلطان قطز وتولى مكانه.
                    وتحقق أمل الشيعة
                    وبغض النظر عن تلك (الجمرة )التى ألصقها الشعراني- دون غيره بالظاهر بيبرس ظلما وعدوانا وإثباتا لنفوذ مزعوم للأولياء الصوفية فإن الترجمة التى أوردها لخضر العدوي لم تخل من بعض الصدق كقوله عن علاقة الظاهر بخضر (وكان السلطان ينزل كثيرا لزيارته وحادثه بأسراره ويستصحبه فى اسفاره ) فقد أشار الكثيرون إلى نفوذ خضر الواسع فى دولة الظاهر الذى كان يعتقد بعلمه بالغيب ويستشيره ويسمع له ويطيع . وحين وصل الشعرانى إلى نكبة خضر أسندها إلى (أولاد الحلال ) وتدخلهم بين السلطان وخضر .والواقع أنه مهما قال (أولاد الحلال ) فى شأن الشيخ خضر فلن يكون ذلك سببا فى إصرار السلطان على قتله إلا إذا كان خضر متآمرا على السلطان ، فتلك هى الجريمة الكبرى فى نظر بيبرس والتى لا يعدلها إلا اعتقاده فى خضر ومعرفته بالغيب إلى درجة أنه أوسع لنفوذه فى الظهور فى دولته ،وهكذا عدل الظاهر بيبرس عن تصميمه على قتل خضر حين هدده الأخير بعلم الكشف أو الغيب أنهما متقاربان فى وقت الوفاة ..فكان أن اعتقله مكرماً إلى أن مات ،وتخلص خضر بهذه الحيلة وكان لابد أن ينجو بها . وجدير بالذكر أن النويري [23]أسهب فى الحديث عن انحرافات الشيخ خضر الخلقية مع النساء والصبيان وجعل منها سببا سياسيا فى نكبته ،وأشار إلى ذلك ابن كثير بايجاز[24]،ولعل الشيخ خضر وقد بلغ حينئذ من الكبر عتيا كان يموه بعلاقاته تلك عن حقيقته كداعية سرى فى مركز خطير بدليل أنه لم يدفع عن نفسه هذا الاتهام الذى جاء فى أخريات حياته ،وتلك عادة الشيعة المتصوفة كما رأينا مع الرفاعي ونسج القصة المنسوبة للبدوي مع فاطمة بنت بري ومع أبى العباس الملثم . وما كان للظاهر بيبرس أن يعول على هذا الاتهام ويجعل منه سببا لقتل شيخه العجوز الذى يعتقد ولايته واطلاعه على غيب الله فالسبب الحقيقى هام وخطير يتعلق بالسياسة والتآمر ، خاصة وأن المؤرخين اللاحقين للنويرى تجاهلوا هذا الاتهام بل أن النويرى نفسه ذكر أن من اتهم خضر العدوى بتلك التهم كانوا الأمراء القريبين من الظاهر بيبرس ولم يخل اتهامهم من محاولات التلفيق وقد استند إلى ماضى خضر أكثر من حاضره . والواقع أن ماضى خضر الخلقى لم يكن نظيفا ، إلا أن بعثه من مرقده فجأة ومحاسبته به حين اشتعل رأسه شيبا ليعد دليلا على محاولة متعمدة للتغطية على شئ أخطر ،ولما كان خضر لا يمانع فى هذه التغطية أيضا فقد شارك فيها بعدم الدفاع عن حاضره حرصا على بقاء الدعوة الشيعية وخوفا أن تمتد أصابع بيبرس لتصل إلى عنق البدوي فى طنطا وأتباعه فى الشام والحجاز.
                    لقد كان الظاهر بيبرس يعتقد فى التصوف اعتقاداً زائدا ولم تؤثر نكبة خضر فى هذا الاعتقاد بشئ ..وإذا عرفنا أن الظاهر بيبرس ظل من سنة659 إلى 671 يسمع لخضر العدوي ويطيع ، ويستشيره ويستصحبه فى أسفاره لأدركنا أن محاولات بيبرس الخفية لكشف غموض البدوى ودعوته ذهب هباءاً .. حتى إذا حدثت نكبة خضر وانحصرت فيه وحده كان بيبرس قد تيقن تماماً كما أرادوا له من أن البدوي مجرد صوفي مجذوب ..وكان البدوي من ناحيته قد أيقن ان آماله مستحيلة فى وجود حاكم شديد التحرز والدهاء كالظاهر بيبرس كثير الشكوك والارتياب ، ميال للعنف والانتقام وبعد ذلك كله فهو شديد الاعتقاد فى التصوف ،إذن فتظل راية التصوف مرفوعة ولتتجمد الحركة السرية إلى حين .
                    وهذا ما حدث وموعدنا الان مع تفصيل لذلك

                    الظاهر بيبرس والبدوي :
                    فى أعقاب حركة الكوراني الفاشلة جاءت الأنباء للظاهر بيبرس باكتشاف شيخ صوفي مجهول فى طنطا تحيطه الأساطير والألغاز ومع تستره وغموضه فأتباعه منتشرون فيما بين القاهرة والاسكندرية والدلتا ، ولا شك أن ذلك الاكتشاف لم يأت دفعة واحدة فجائية ، ولم يتعرف أعوان الظاهر بيبرس على أتباع البدوي الموزعين فى الأمصار من أول نظرة ..وإنما تم ذلك على دفعات ومراحل يمكن أن نرصدها من محاولات بيبرس المتصاعدة لكشف هذا اللغز . وقد بدأت الأخبار ترد عن البدوي كداعية صوفى مجهول فى طنطا ..ولتخوف بيبرس من هذا الصنف فإنه أولا كلف القاضي تقى الدين بن دقيق العيد بأن يتحرى أمر البدوي ، ولما كانت السلطات لا تعرف الصلة بين البدوي والدريني فقد عهد ابن دقيق العيد للدريني بالذهاب للبدوي والكشف عن حاله ....ومن الطبيعي أن يرتب عبد العزيز الدريني الأمر مع البدوي ليقتنع ابن دقيق العيد ببراءة موقف البدوي ..
                    وقد رددت المصادر الصوفية تكليف الدريني من لدن ابن دقيق العيد بتحرى أمر البدوي فقالت (أن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد أرسل إلى سيدى عبد العزيز الدريني وقال له امتحن هذا الرجل الذى اشتغل الناس بأمره ).أو ( أن الشيخ تقى الدين قاضي القضاة لما سمع بسيدي أحمد البدوي واشتهر أمره أرسل اليه سيدي عبد العزيز الدريني ليخبره عن حاله ) ،أو أن قاضى القضاة ابن دقيق العيد ( كان ينكر على الشيخ أحمد البدوي فأرسل كتابا إلى الشيخ عبد العزيز الدريني يقول له .توجه إلى الشيخ أحمد البدوي واسأله عن العلم فإن أجابك فأساله الدعاء وعرفني بجميع أحواله فتوجه الشيخ عبد العزيز إلى ناحية طندتا وكان المتولي بها القاضي علاء الدين ،فلما وصلآ الشيخ إلى طندتا قصد القاضى علاء الدين وأعلمه بأن قاضى القضاة أرسل كتابا يسمى كتاب الشجرة وفيه أحاديث وفقه وأضمر فى نفسه أن الشيخ احمد البدوي إن قرأ هذا الكتاب وأخبر بما فيه فأنا أعتقده وأرد الجواب عنه إلى قاضي القضاة فقيل له : هو فى بيت الشيخ ركين مقيم على سطح البيت فتمشى الشيخ عبد العزيز حتى وصل إلى بيت الشيخ ركين واستأذن الشيخ عبد العال فأذن له فسلم على الشيخ فرد عليه السلام وقال يا عبد العزيز من وصل إلى مقام التسليم فاز برياض النعيم جئت تسأل عن العلم وفى كمك كتاب الشجرة ..إلخ[25])
                    ومع أن المصادر الصوفية تتجاهل الصلة المعروفة بين الدريني تلميذ أبى الفتح الواسطي والبدوي خليفة أبى الفتح الواسطى ومع أنها حوّلت الموضوع إلى اختبار لعلم البدوي بالغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وأنهم جعلوا من البدوي فائزا فى هذا الاختبار .. مع ذلك كله فإن رائحة الأتفاق المسبق بين البدوي والدريني تبدو من خلال السطور وتنبئ عن أن ذلك اللقاء الذى تم بحضور القاضي المحلى كان مرتبا معدا له من قبل ليخدع قاضى القضاة ابن دقيق العيد وممثله علاء الدين فى الناحية ،واقتنع ابن دقيق العيد مؤقتا . ولكن الظاهر بيبرس كثير الشكوك لم يقتنع فقد جاءته أخبار عن أتباع آخرين للبدوي فكلف ابن دقيق العيد بأن يذهب بنفسه لاختبار البدوي ..وكان البدوي مستعدا للقائه ، وتم اللقاء وخرج منه ابن دقيق العيد وقد سلم للبدوي بحاله .
                    وتختلف المصادر فى إظهار الصورة التى قابل بها البدوي ابن دقيق العيد ، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (نزح ابن دقيق العيد إلى طندتا ،واجتمع بالسيد البدوي فوجده رجلاً عالماً فاضلاً ولم يجد لما نقل إليهم عنه من الضلالات أثراً ولم يشم رائحة الدعوة السياسية لأن البدوى وصحبه كانوا أهل حذق ومهارة وحيطة فعاد ابن دقيق العيد إلى الملك مثنيا على الرجل وكانت هذه الزيارة من أكبر أسباب ترويج الدعوة الأحمدية البدوية[26]) أى أن البدوي ظهر له بمظهر العالم الورع .
                    ولكن كتب المناقب تظهر صورة أخرى للبدوي ، صورة المجذوب تارك الصلاة ، يقول عبد الصمد عن كرامات البدوي (ومما وقع لسيدي أحمد البدوي من الكرامات أن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وكان قاضي القضاة بالديار المصرية سمع بالشيخ وأحواله فنزل إليه واجتمع به بناحية طندتا وقال له : يا أحمد هذا الحال الذى أنت فيه ما هو مشكور فإنه مخالف للشرع الشريف فإنك لا تصلي ولا تحضر الجماعة وما هذه طريقة الصالحين [27]) .
                    وقد يبدو هناك تناقض بين الصورتين ،صورة العالم وصورة المجذوب . وقد يدفع هذا التناقض البعض لتصديق رواية دون أخرى، ولكننا نرى أن الصورتين معا تعبران عن شخص واحد بالغ الدهاء ، فهو مجذوب حين يريد وعالم صوفي حين يرغب فى ذلك ، وقد ظهر بالصورتين معا للفقيه المسكين ابن دقيق العيد فسلّم له بحاله حين يكون عالماً وحين تأخذه الجذبة فينقلب إلى النقيض تماما ، وترك البدوى ابن دقيق العيد وقد انشغل عن القضية الأساسية وهى الشكوك فى الدعوة السرية إلى محاولة الحكم على البدوي وشخصيته المتناقضة بين العلم والجذب ، وبينما أثنى على علمه وحديثه عاتبه برفق على جذبته وتركه الصلاة .وعلى الرغم من أن تقى الدين كان قاضيا للقضاة ومنتظرا منه كفقيه ألا يسامح فى ترك الصلاة فإنه ترفق بحال البدوي وجذبته المزعومة فلم يشتد فى الإنكار عليه فى هذه التهمة الخطيرة التى كان شاهدها الأول.ومعنى ذلك أن البدوي قد نجح تماماً مع ابن دقيق العيد فقد جذب انتباهه إلى قضية جديدة لم تكن تدور فى خلده وترك البدوي وقد اقتنع تماماً بسلامة موقفه من الناحية السياسية السرية .
                    والواقع أن اختيار تقى الدين ابن دقيق العيد بالذات لفحص حالة البدوى كان بمشورة خضر العدوى مستشار الظاهر بيبرس وأمينه على أسراره ، وقد كان اختياراً موفقاً من جميع النواحى ، فلابن دقيق العيد جهد سابق فى حرب الشيعة بالصعيد ومن هذه الناحيه فترشيحه للظاهر بيبرس لاغبار عليه إطلاقاً ..ومن الناحية الأخرى كان ابن دقيق العيد من الفقهاء الميالين للتصوف المؤمنين برجاله ومن هنا يمكن خداعه والتمويه عليه وخداع الظاهر بيبرس من خلاله، وكانت لإبن دقيق العيد صلات بالصوفية المتورطين فى الدعوة الشيعية بدليل أنه لجأ أولا للدريني جاهلاً بالصلة بينه وبين البدوى.
                    وقد أوسع له الصوفية اللاحقون مكانا فى التراجم الصوفية وعدوه من ضمن الصوفية لارتباطه بقصة البدوي وعلاقته بالدريني .
                    والجدير بالذكر أنه فى ذلك الوقت كان المقدم من بين القضاة هو تاج الدين ابن بنت الأعز ، وكان منتظرا أن يقوم بالمهمة دون ابن دقيق العيد الذى انحسرت عنه الأضواء لولا أن خضر العدوى كان فى عداء مستمر مع ابن بنت الأعز كما تدل على ذلك المراسلات بينهما [28].
                    ومع ذلك فإن بعثة ابن دقيق لم تفلح فى إزالة الشكوك عند بيبرس ،تلك الشكوك التى أكدتها اكتشافات متتالية عن أتباع للبدوي منتشرين فى الأسكندرية وطنطا والقاهرة وما حولها ، ولكى يقطع بيبرس الشك باليقين عزم على التحقق من الأمر بنفسه وبطريقة التخفى أو التنكر التى اشتهر بها .وبدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على الأسكندرية مهبط أبى الفتح الواسطى ومدرسته والشاذلى وصديقه عز الدين بن عبد السلام ،وحيث أعدم حصن الدين والسرسناوى ،وفى 661 زار الأسكندرية (فأصلح من شأنها وعامل أهلها بلطف ) وهى نفس السياسة التى سار عليها مع القاهرة فى أعقاب حركة الكوراني ..ولم يكن إصلاح الحال فى الاسكندرية هو الهدف الوحيد للظاهر بيبرس فقد قابل الصوفي أبا القاسم القباري ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي وعين لدنه قاضياً للثغر وصف بالتصوف والزهد [29]. والملاحظ أن الشاطبي والقباري لم ينتميا إلى مدرسة التشيع الصوفي المستتر ، والمنتظر أن بيبرس فى لقائه الغامض بهما قد حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفى فى الأسكندرية وما حولها وسمع الشئ الكثير عن البدوى فعزم على التوجه إليه بنفسه سرا.
                    ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 662(وفيه سار السلطان إلى أوسيم ومضى إلى الغربية فصار يسير منفردا فى خفية ويسأل عن والى الغربية الأمير ابن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه فذكرت عنه سيرة سيئة فقبض عليه وأدبه وأقام غيره ...)[30]. أى أن بيبرس خص منطقة الغربية حيث البدوى وطنطا بزيارته متخفيا وتصرف بحزم مع واليها وعزله وأقام واليا جديدا ينفذ السياسة الجديدة التى ارتآها فى رحلته السرية ..
                    ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 663 أن السلطان طاف بالقاهرة متنكرا ليعرف أحوال الناس[31]. ثم يذكر المقريزى ما يفيد أن الظاهر بيبرس مر على البدوى فى السنة التالية سنة 664 عند ما خرج إلى الإسكندرية لمباشرة حفر خليجها[32]. فمن المحتمل ألا يكون حفر الخليج هو السبب الأهم فى حضور بيبرس بنفسه مع كثرة مشاغله وأسفاره وأن يكون مجرد ساتر لغرض أهم ، خاصة وأنه عاد للقاهرة عن طريق أبيار (وطنطا تقع على الطريق بين أبيار والقاهرة )[33].
                    وإذا كان المؤرخون المعاصرون لم يذكروا عن رحلات بيبرس السابقة إلا للغرض المعلن فقط فلم يكن منتظرا منهم أكثر من ذلك وهم يؤرخون لسلطان داهية بارع فى التخفى والتنكر والتعمية ،ثم إن طنطا فى ذلك العهد ورجلها القائم فيها لم يستحوذا بعد على أى انتباه للمؤرخين المشغوفين بالمدن الكبرى والرجال الظاهرين من الأمراء والقضاه ومشاهير الصوفية والعلماء. ولذلك اكتفوا بتعليل سفره إلى طنطا بأنه لمعاقبة أمير الغربية ،وعودته إلى الأسكندرية بأنه لمباشرة حفر خليجها وهو ما يعلنه السلطان الداهية..
                    ويذكر الشعراني أن الظاهر بيبرس اجتمع بالبدوي يقول(وكان الملك الظاهر بيبرس أبو الفتوحات يعتقد فى سيدي أحمد اعتقاداً عظيما وكان ينزل إلى زيارته [34])، ومن المرجح أن يكون ذلك قد تم أثناء مروره على طنطا متخفياً وانتشر ذلك وردده المريدون الأحمدية حتى وجد طريقه لكتاب الشعراني .
                    ومع الأسف فان كتب المناقب وطبقات الشعراني إحداها لم تسعفنا بأخبار تلك المقابلة على الرغم من أنها المصدر الوحيد وكنا نأمل أن نعرف بأي صورة تبدى البدوي بها للظاهر بيبرس.
                    ولكننا نكتفي بالقول بأن الظاهر بيبرس لم يقتنع تماما ولم تهدأ شكوكه إذ يبدو أن مصادره السرية أوضحت له أن مكة هي النقطة الأساسية للدعوة ومنها أتى البدوي مبعوثا ، وربما أتت للظاهر بعض المعلومات عن التحركات الشيعية الصوفية في الشام حيث كان يقيم عز الدين الصياد، والظاهر بيبرس كان كما نعرف طوافا بين الشام وحلب والحجاز ومصر، ومع أن رحلاته للحجاز كانت شيئا عاديا لا يثير الريبة لأنها تابعة له ، إلا أنه في سنه 667 قام بزيارة سرية مفاجئة لمكة أعد لها إعداد خاصا، ونصطحب المقريزي ليحدثنا عن هذه الرحلة فيقول عن بيبرس وكان في الشام وقتها: ( وصل للسلطان عيسى بن مهنا فأوهمه السلطان أنه يريد الحركة للعراق ،وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز ثم تحرك بهم للكرك كأنه يتصيد ولم يخبر أحد أن يتحدث بأنه متوجه للحجاز وذلك لأن الأمير جمال الدين بن الداية الحاجب كتب للسلطان (إني أشتهي أن أتوجه في صحبة السلطان الى الحجاز) فأمر بقطع لسانه فما تفوه أحد بعدها بذلك، ووصل إلى الكرك (ألأردن ) وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره ووصل إلى المدينة المنورة ورحل منها فدخل مكة وأعطى خواصه من المال ليفرقوها سرا وفرق كساوى على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس لايحجبه أحد،وهو منفرد ،وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين وأحسن إلى أميري مكة وينبع وقضى مناسك الحج ثم عاد للكرك ولم يعلم أحد بوصوله)[35].
                    ومن الحمق أن يقال أن الحج كان السبب الوحيد الذى حمل بيبرس على كل هذا التخفى والتحرز إلى درجة أنه يقطع لسان حاجبه حين صرح برغبته فى أن يصحب السلطان فى تلك الرحلة السرية ،والمعقول أن تخفيه فى هذه الرحلة لسبب يتصل بقضية تشغل باله حين زار الأسكندرية ثم الغربية متخفيا. فأسلوبه واحد فى تلك الرحلات .الإحسان للعامة ومقابلة الصالحين والأهتمام بأمر الحكام المحليين ، ثم الغموض الزائد والتعمية عن كل تلك المقابلات بالحج أو حفر الخليح أو تتبع حاكم ظالم وعزله .
                    وقد ورد فى كتاب المناقب أن الظاهر بيبرس ورد مكة متخفيا فقابل شقيق البدوى ، يروى عنه عبد الصمد (فبينما نتحدث وإذا برجل راكب على هجين وهو متنكر فى زى بدوى وهو ملثم فقلت للعبيد : على بهذا الرجل الراكب على الهجين فجاءوا به فسلمت عليه وقلت له فى أذنه .أهلا وسهلآومرحبا بالملك الظاهر بيبرس فكاشفته بأمارات مخفية بينى وبينه فتبسم ضاحكا وقال : نعم أنا الملك الظاهر بيبرس[36]) وقد أورد عبد الصمد هذا النص بعد حديثه عن الحسن وهو يتتبع أخبار شقيقه البدوي فى مصر . ويبدو أن الظاهر بيبرس تحقق فى هذه الرحلة السرية من صدق تصوف البدوي وتيقن من أنه لا يخفي هدفاً سياسياً سرياً فكتب المناقب تفيض بما ينم عن اعتقاد الظاهر بيبرس فى البدوي وأخيه الحسن إلى درجة الحفاوة والكرم المتبادل بينهما.
                    آ آ لقد استغل الشيعة المتصوفة نقطة الضعف عند الظاهر بيبرس ألا وهى اعتقاده فى التصوف ورجاله فظهروا له بالوجه الصوفي وتوقفوا عن دعوتهم السرية خوفا من جواسيسه ودهائه وعقابه.آ آ وقد سبقت لهم الأمثلة فى الكوراني وحصن الدين والسرسناوي ،ثم زاد الأمر حين اكتشف بيبرس أن شيخه خضر ليس بالمخلص له وكانت نكبته سنة 671 وكانت أيضا النهاية لأحلام البدوي وشركائه .


                    [1]السلوك 1/540 ، 565
                    [2]السلوك 1/540 ، 565
                    [3])نفس المرجع السابق 1 / 567 : 574
                    [4] السلوك 1/ 583 ، 584
                    [5]السلوك 1/ 583 ، 584
                    [6]نفس المرجع السابق 637/1
                    [7]السلوك 1/442 ،452
                    [8]الكتبى :عيون التواريخ : مخطوط مصور 2/256 :257آ
                    [9]السلوك 1/440،420
                    [10]السلوك 1/440
                    [11]ابن حجر الهيثمى .تاريخ الخلفاء مخطوطورقه126ب
                    [12]النويرى .نهاية الأرب .مخطوط 38/28
                    [13]الكتبى.عيون من التاريخ 256/2 مخطوط
                    [14]السلوك 1/420
                    [15]) ابن حجر .رفع الاصر 351 ،352 ،اليافعى مرآه الجنان 1/153 :154
                    [16]السلوك 1/416
                    [17]) الطبقات الكبرى 1/15.
                    [18])مجلة السياسة 11
                    [19]الطبقات الكبرى للشعرانى1/140،2/3
                    [20])المختصر فى أخبار البشر 3/200
                    [21]حسن المحاضرة 1/521. تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم
                    [22]الطبقات الكبرى 2/2
                    [23]نهاية الأرب مخطوط 28/42:41 119 :120
                    [24]تاريخ ابن كثير 13/2">[30]نفس المرجع 1/505
                    [31]نفس المرجع 1540
                    [32]نفس المرجع 1543
                    [33]نور الدين .البدوى100
                    [34]) الطبقات الكبرى 1160
                    [35]السلوك 1580: 582
                    [36]الجواهر السنية 61
                    التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:18 PM.

                    تعليق


                    • #11
                      رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع


                      سادسا:جهود البدوي فى المرحلة الثانية

                      سادسا : جهود البدوي فى المرحلة الثانية ( 658-675هـ )
                      السلطان بيبرس كخبير فى التآمر :
                      1ـ انتهت المرحلة الأولى وقد انتشر دعاة البدوي فى المنطقة ، والجو السياسي فى صالحهم من ضعف للسلاطين وانهماك فى الفتن والمؤامرات وقلق سياسي أسفر عن انهيار الدولة الأيوبية وقيام الدولة المملوكية التى انشغلت فى تأسيس بنيانها ومواجهة الطامعين من بنى أيوب والصليبيين والمغول . ثم كان توطيد الحكم المملوكي واستقراره على يد الظاهر بيبرس ،ذلك التوطيد الذى استقر بعده الحكم المملوكى طيلة الدولة البحرية ثم البرجية على أثره ، حيث ظلت الدولة المملوكية تتربع على عرش الصدارة فى المنطقة حتى انهارت على يد الدولة العثمانية سنة 921هـ .
                      وإذا كان البدوي قد استفاد من فترة الخلل السياسى فإن عليه أن يواجه المأزق حين أخذ بيبرس على عاتقه أن يوطد الدولة المملوكية فى الداخل والخارج ، ولن يكون توطيد الدولة المملوكية فى الداخل إلا على حساب البدوي ودعوته السرية وسائر المستفيدين من الضعف الداخلى للدولة الوليدة .
                      والواقع أن زمام المبادرة فى هذه المرحلة انتقل إلى يد الظاهر بيبرس الذى كان شعلة من النشاط لا تهدأ فى الداخل والخارج ، بحيث أنه من الأنسب أن نجعل العنوان (جهود بيبرس ) لا(جهود البدوي ) لأن البدوي فى هذه المرحلة اقتصر عمله على رد الفعل دون البدء به .
                      وقد احتل الظاهر بيبرس المكان اللائق به فى التاريخ المصرى الوسيط وفى الوجدان الشعبى فحيكت سيره (الظاهر بيبرس ) التى تتناول بطولاته ضد الصلبيين ومهاراته فى المؤامرات.
                      وإذا وضعنا البدوي بإزاء بيبرس لرأينا خصمين لا يقل أحدهما عن الآخر فى فن المؤامرات والدهاء الأمر الذى يجعل المباراة بينهما شيقة مثيرة لو اتحفتنا المصادر التاريخية بما يشفى الغليل ، لولا أن تميزهما معاً بالدهاء والتستر والتآمر جعل المصادر التاريخية لاتذكر من أعمالهما إلا ما ظهر وبان للعيان فقط .أما ما بطن وخفى فقد وقع علينا عبئه، وعلى الله جل وعلا التوفيق .
                      2 ـ ونبدأ بالتعرف على جانب من شخصية الظاهر بيبرس ، ذلك الذى أرهق الوجود الصليبي فى الشام والدولة المغولية فى العراق والمملكة النوبية فى الجنوب والأرمنية فى الشمال وأكد نفوذه فى الشام ومصر والحجاز ، وقد عانى أعداؤه جميعا من دهائه الخارق وحيويته الدافقة ونشاطه المستمر فى الحروب مع المؤامرات .
                      ونشاط الظاهر بيبرس فى فن المؤامرات هو الجانب الذى يهمنا فى بحثنا للبدوي كزعيم لآخر مؤامرة شيعية ضد الدولة المملوكية فى عهد الظاهر بيبرس ،ولقد تعرفنا على البدوي ودهائه فى المرحلة الأولى لدعوته وبقى أن -نتعرف فى المرحلة الثانية على خصمه الجديد ومدى دهائه فى التآمر هو الآخر .
                      والواقع أن سجل بيبرس فى التآمر لا يحسدعليه ،فالمماليك عموما- أساتذة فى فن المؤامرات تعلموها فى المدرسة الأيوبية حيث كانوا عنصراً فى حلقات التآمر التى كانت لا تنتهى بين أبناء الأسرة الأيوبية . ثم مارسوها على نطاق شخصى حين آل الأمر إليهم دون الأيوبيين ، وأقاموا دولتهم المملوكية فبدأ التآمر فيما بينهم يأخذ الطابع المحلى ، وعلى أساس مقدرة أحدهم فى التآمر كان وصوله إلى السلطة أو إلى الدار الآخرة قتيلاً ليرثه القاتل المنتصر والذى هو بالطبع أكثر دهاء وتآمراً . وقد مارس بيبرس هذه اللعبة منذ بدايته، ويكفى أنه بالتآمر وصل إلى أن يكون أحد أعمدة المماليك البحرية وأحد كبار الأتباع لأقطاى زعيم البحرية .وحين قتل أقطاى بسيف قطز وتشرد بيبرس مع أتباعه فإنه لم ينس هزيمته أمام (خشداشيه )أو( زميله )قطز وأقسم أن يكون قطز من قتلاه ..وفعلا.. تآمر على قتل السلطان قطز بعد أن راسله قطز واستقدمه وأعطاه الأمان وولاه قصبة قليوب وبّر بيبرس بقسمه فقتل السلطان قطز صديقه القديم قاتل استاذه أقطاى عند الصالحية بعد أن هزم قطز المغول فى عين جالوت. وتولى بيبرس السلطنة نتيجة مؤامرة نفذها بسيفه الملوث بدماء السلطان قطز .
                      ولم يقلع بيبرس بعد توليه السلطنة عن ممارسة التآمر ضد خصومه وما أكثرهم ، وحتى يتيح لنفسه أكبر قدر من الحرية كان يفضل التخفى والتستر حين يباشر التآمر بنفسه ،وهكذا كان ( التنكر ) سمة أساسية فى النشاط السرى للظاهر بيبرس وسياسته .
                      يقول المقريزى فى حوادث سنة 663 (وفيها نزل السلطان من قلعة الجبل متنكرا وطاف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس [1]) وفى حوادث سنة 665 يقول أنه بلغه أن جماعة من الفرنج بعكا تخرج منها غدوة وتبقى فى ظاهرها فسرى أى سار ليلا ببعض عسكره ( وأمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنجة فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا ووضع السيف فى الفرنج ) [2]واشتهر عنه أنه بعد سقوط أنطاكية طلبت إمارة طربلس الصليبية الصلح فأوفد بيبرس وفداً للمفاوضة ودخل المدينة بنفسه ضمن وفد المفاوضات متنكراً فى زى خادم ليتعرف خبايا المدينة ويدرسها تمهيداً لحصارها فيما بعد .
                      وقد عقد الظاهر بيبرس لابنه السعيد بركه بولاية العهد .. ولكى يطمئن على سير الأمور فى مصر أثناء غيابه فى الشام (خطر للسلطان أن يتوجه إلى ديار مصر خفية فكتم ذلك وكتب للنواب بمكانه ) وادعى المرض حتى لا يدخل عليه أحد ثم تسلل(ولبس السلطان خوجة مقطعة ،وقصد أن يخرج ولا يعلم به الحراس ) وسار من الشام حتى وصل قلعة الجبل (وعندما خرج الملك السعيد ليركب ما أحس إلا والسلطان قد خرج إليه فرعب منه وقبل الأرض ) ثم عاد للشام إلى حيث معسكره ،يقول المقريزى (ومشى كل ما وقع على العسكر ولم يعلم به سوى الأتابك والاستادار والداودار وخواص الجامدارية ..وقصد بما فعله أن يكشف حال مملكته وتعرف أحوال ابنه الملك السعيد فى مصر فتم له ما أراد )[3].
                      وقد أعان بيبرس على تنفيذ سياسته تلك أن (رتب البريد فى سائر الطرقات فكان الخبر يصله من قلعة الجبل إلى دمشق فى أربعة أيام ويعود فى مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه فى كل جمعة مرتين ويتحكم فى سائر الممالك من العزل والتولية وهو مقيم فى قلعة الجبل[4]) .
                      ومع ذلك فلم يمكث بمكان واحد بل كان على حد قول المقريزى نفسه(مقداماً خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجين وخيول البريد لكشف القلاع والنظر فى الممالك فركب للعب الكرة فى الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق ، وفى ذلك يقول سيف الدولة المهندار من أبيات يمدحه فيها :
                      يوما بمصر ويوما بالحجاز وبالشام يوما ويوما فى قرى حلبآ [5]


                      وحين يكون بمكان ويصله خبر بالبريد عن تحرك أعدائه يبادر بالتحرك إليهم ، فكانت أيامه حركة مستمرة ،من ذلك ما يقوله المقريزى فى حوادث سنة 668(صلى الجمعة فى الكرك ( الأردن ) ، وساق إلى دمشق والناس فى مصر لا يعرفون شيئاً من خبر السلطان هل هو فى الشام أو الحجاز أو غيره ولا يستطيع من مهابته والخوف منه أحد أن يتكلم ، ثم وصل إلى قلعة الجبل ودخل إلى الأسكندرية ، وتوجه إلى الحمامات ونزل بالليونة فبلغه هناك حركة التتار وأنهم واعدوا فرنج الساحل فعاد إلى قلعة الجبل وسار السلطان من قلعة الجبل ومعه نفر يسير فوصل إلى غزة ثم دخل دمشق [6]).
                      وبيبرس كخبير فى المؤامرات كان يدرك أن أسهل الطرق لمواجهة مؤامرات الخصوم أن يحتاط لها ولا ينتظر حدوثها بل يبادر بالقضاء على من يخشاه مقدماً قبل أن تنشب الفتنة ، وذلك خط أساسى فى جهد بيبرس السياسى من ذلك ما فعله مع المغيث الأيوبى صاحب الكرك الذى تحايل عليه واستحضره فاعتقله ثم قتله بعدها [7]وكان لبيبرس صديق من أمراء المماليك الطموحين ( وقد ولاه الملك الظاهر شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك السلطان فقال : هذا ما نيتة خير ..وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا أن عزله [8])
                      وبذلك نتعرف على بعض الملامح الـتآمرية لدى الظاهر بيبرس بعد توليه السلطنة ،فهو فى وضعه الجديد الذى وصل إليه بالتآمر“ يواجة مؤامرات خصومه بأدوات الحكم فهو يرتب البريد وينظمة ، والبريد أهم وسائل التجسس وبه أصبحت أخبار البلاد تصله فى مدة قياسية حيثما كان ،وعن طريق جواسيسه المنتشرين وبريده السريع المنتظم كان يبادر بالتحرك السريع لمواجهة الموقف بل أنه كان لا ينتظر وقوع الفتنة ، وبمجرد أن يشم احتمال حدوثها كان يبادر بالقضاء عليها قبل أن تكتمل ملامحها ، وساعده على ذلك كله خبرة سابقة بآلتامر وحيوية دافقة لا تعرف الكلل .
                      وهذه الملامح نتبينها فى موقف الظاهر بيبرس من الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف ، ولأن مؤرخي عصره كانوا يرصدون تحرك السلطان الظاهرى دون فهم لنواياه الخفية فأننا نربط الحوادث على ضوء فهمنا لسياسة السلطان الظاهر بيبرس ذلك الذى وصل بالتآمر ولن يسمح لمتآمر أن يغلبه وهو (سلطان المتآمرين ).
                      حركة الكوراني وذيولها :
                      ومن سوء حظ البدوي أن الظاهر بيبرس واجه فى أولى سنوات حكمه مؤامرة الكوراني الشيعية الصوفية ،ففى أثناء اشتغال المماليك بمواجهة الخطر المغولي سنة 657 بدأت دعوة الكوراني السرية فقبض عليه(وضرب ضرباً مبرحاً [9])وأطلق من اعتقاله فأقام بالجبل الأحمر . وفى العام التالي قتل بيبرس قطز وتولى السلطنة وكانت العامة تتخوف من تسلط المماليك البحرية فى عهد الظاهر بيبرس واستغل الكوراني الشعور العدائي للسلطة الجديدة فقام بحركته الصوفية الشيعية العسكرية ..يقول المقريزي فى حوادث سنة 658 (وفيها ثار جماعة من السودان والركبادارية وشقوا القاهرة وهم ينادون (يا آل علي ) وفتحوا دكاكين السيوفيين من العصر وأخذوا ما فيها من السلاح واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيل ، وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوراني أظهر الزهد وحمل بيده مسبحة وسكن قبة بالجبل وتردد إليه الغلمان فحدثهم فى القيام على أهل الدولة وأقطعهم الإقطاعات وكتب لهم بها رقاعاً ، فلما ثاروا فى الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم فأصبحوا مصلوبين خارج باب زويلة وسكنت الثائرة [10]).
                      فالشيخ الكوراني خطط جيداً لحركته العسكرية ، فقد اختار الوقت المناسب واصطنع التصوف والزهد والمسبحة وسكن قبة بالجبل ، وكون خلايا عسكرية من بين الغلمان الخدم المنوطين بخدمة الفرسان المماليك ،ورسم لهم خطط الهجوم بانتزاع السلاح وسرقة الخيل والهجوم على ثكنات المماليك على أن يسبق الهجوم مظاهرة مسلحة تنادى (يا آل على ) لينضم إليها العامة أو (الزعر) وهم كارهون للبحرية وزعيمهم بيبرس السلطان الجديد .
                      وقضى على المؤامرة الوليدة ..
                      وما كان لبيبرس أن تمر عليه هذه الحادثة دون دراسة وانتباه. من ذلك أنه فى العام التالى سنة 659 (رتب البريد فى سائر الطرقات ) ليكون على أهبه التحرك عند أى طارئ ،واستمال العامة فأزاح عن كاهلهم الضرائب التى فرضها سلفه قطز حين تجهز للقاء المغولآ ...
                      ولأنه أدرك أن هدف الكوراني يتمثل فى الخلافة الشيعية التى تحل محل الخلافة العباسية المنهارة
                      فقد عمل بيبرس على بعث الخلافة العباسية السنية فى مصر لتكون واجهة لحكمه وسنداً لسلطته ضد أى تحرك يقوم به الشيعة على الخصوص ، وهكذا ففى العام التالى لحركة الكوراني استقدم أحد العباسيين وتمت البيعة له باسم الخليفة المستنصر ، وكان المستنصر طموحاً فتخوف منه بيبرس وعزم على التخلص منه فأوفده بجيش قليل لاسترداد بغداد فهزمه المغول وقتلوة سنة 660 هـ ، فعين بيبرس خليفة آخر هو الحاكم سنة 661 وحتى يضمن الأمان لسلطانه من طموح الخليفة الجديد جعل من القاهرة ملجأ للأمراء العباسيين الفارين ليهدد الخليفة الجديد بالعزل وتولية أحدهم مكانه إذا حدثته نفسه بالتدخل فى شئون الدولة.
                      وهكذا كان بيبرس يبادر بعلاج أسباب الفتنة قبل أن تحدث حتى إنه حين بلغه من جواسيسه أن الخليفة الجديد يقوم ببعض الاتصالات حجبه عن الناس لأن (أصحابه كانوا يخرجون إلى الناس ويتكلمون فى أمر الدولة [11]) أى السياسة .
                      وربط بيبرس فى دراسته لمؤامرة الكوراني بين حركة الكوراني وحركة الشريف حصن الدين ثعلب الشيعية التى ساندها الأعراب وأقامت دولة فى الشرقية ومصر الوسطى ثم قضى عليها أيبك واعتقل الشريف حصن الدين فى الأسكندرية .
                      وقد جاء بيبرس للحكم وحصن الدين لم يزل معتقلاً ،وبعد حركة الكوراني بث العيون حول أصحاب حصن الدين ..وحينما نمى إلى علمه أن الشريف السرسناوي يتردد إلى حصن الدين فى حبسه أمر بشنقهما معا[12].
                      وشك بيبرس فى طموح صديقة الأمير المملوكى الذى أشرنا إليه سلفاً والذى (ولاه شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك للسلطان فقال : هذا ما نيته خير ،وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا إنه عزله )، والجديد أن ذلك المملوك (كان يدعى أن أصله شريف علوى من العجم[13]) .
                      ودرس بيبرس نشاط الكوراني السابق فعلم أن الكورانى قد اعتقل فى العام السابق لحركته (بسبب بدع ظهرت منه وجدد اسلامه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر )[14].أى لولا توبة الكوراني على يد الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما أخرج من المعتقل وما قام بحركته أصلا ..
                      وكان عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء فى عصره ومعٌلماً بارزا فى تاريخ القرن السابع جاء لمصر غاضباً من الصالح إسماعيل الأيوبي المتعاون مع الصليبيين ضد الصالح أيوب سلطان مصر ، وأحرز مكانة عالية بين المصريين حكاماً ومحكومين ،إلا أنه اتصل بالشاذلي وتصوف فصار وهو الفقيه الواعظ“ ( يحضر السماع ويرقص )[15]أى يرقص فى حفلات الصوفية شأن المريدين ،وقد سبق القول بأن الشاذلي كان واجهة صوفية فى الاسكندرية للدعوة السرية بعد موت رائدها أبى الفتح الواسطي ، ومن الطبيعى أن تستغل الدعوة فقيهاً شهيراً كإبن عبدالسلام بعد أن أحدثت هذا التحول الخطير فى حياته وحولته من فقيه ثائر إلى مريد راقص. إلا أن أمر عز الدين ابن عبد السلام لم يتأثر بانخراطه فى التصوف ،فالتصوف مرعي الجانب من السلطات طالما لا تشوبه شائبه من طموح سياسي ..ولم تستطع السلطة المملوكية فى عهد قطز أن تشك فيه من هذه الناحية ، بل على العكس لجأ إليه قطز ليستعين به فى فرض الضرائب لمواجهة المغول فرفض ابن عبد السلام أن تؤخذ أموال العامة وقال (إذ لم يبق فى بيت المال شئ وأنفقتم الحوائص من الذهب ونحوها من الزينة وساويتم العامة فى الملابس سوى آلات الحرب ولم يبق للجندى إلا فرسه التى يركبها ساغ أخذ شئ من أموال الناسآ [16]). ولم يأخذ قطز بفتوى عز الدين بن عبد السلام ففرض ضرائب باهظة على الناس ،ومع ذلك فلم تتأثر مكانة ابن عبد السلام بموقفه المشرف هذا ،وبعدها كان اطلاقه للكوراني حين اعتقل اشتباهاً فى نشاطه السياسي بحجة أنه ( ظهرت منه بدع ) استوجبت اعتقاله وضربه ضربا مبرحا وليس ذلك مألوفا فى التعامل مع صوفى معتقد يقصده الناس معتقدين فى كراماته وولايته كالكورانى . وبعد حركة الكورانى أحاطت شكوك الظاهر بيبرس بسلطان العلماء (عز الدين بن عبد السلام)، وليس غريبا حينئذ أن تعقد له جلسات لمحاكمته لأسباب غامضة ،يقول الشعرانى عنه ( وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلسا فى كلمة قالها فى العقائد) [17]، ومفهوم أن تعقد للصوفى العادى محاكمات بسبب الشطح ، أما من غير المفهوم أن يتهم بذلك فقيه شهير كان سلطاناً للعلماء فى عصره متمتعاً بالحظوة لدى الحكام والمماليك على وجه الخصوص بحيث يتجرأ على القول أمامهم بكلمة حق دون خوف أو دجل ،ومن غير المفهوم أيضا أن تعقد لهذا الفقيه الخطير الشأن جلسة للمحاكمة حول كلمة يقولها فى العقيدة ،وهو أدرى بخطورة هذا الاتهام المسلط دائما على رقاب الصوفية ذوى الشطحات . ومن غير المفهوم أيضا أن تجرى هذه المحاكمات فى جو من السرية بحيث لا ترصدها المصادر التاريخية وهى مغرمة بتقصى اخبار المشاهير ومنهم ابن عبد السلام .
                      والتفسير الوحيد لهذه الألغاز هو فى الربط بين عزالدين بن عبد السلام والدعوة السرية الشيعية ونشاط الشيعة المستتر بالتصوف فى عهد حاكم داهية كالظاهر بيبرس يعالج أموره بالكتمان ويقابل التآمر بتآمر أعتى وأشد ويتبع خيوط المؤامرة بنفسه ويبادر بالقضاء على أعوانها مهما سمت مراكزهم إذا توفر له دليل أى دليل .
                      لقد انحسرت الأضواء عن ابن عبد السلام منذ حركة الكوراني إلى أن مات سنة 660 هـ ، ونحن لا نجزم بوجود علاقة ما بين الكوراني وابن عبد السلام ولكننا نرجح أن يكون موقف ابن عبد السلام من الكورانى فى محنته سنة 657 نابعاً من تأثره وتشبعه بالدعوة الشيعية الصوفية التى أشربها عن طريق الشاذلي صديقه .. ولم يجد الظاهر بيبرس فى موقف ابن عبد السلام إلا ما يستوجب الاتهام فإتهمة ..ولعله كانت لديه أدلة أكثر حسماً من مجرد الشكوك برر بها التطور الجديد الذى قام به الكوراني ، ففى أقل من عام بعد خروجه من المعتقل كانت جماعاته المسلحة تطوف القاهرة وتبغى الاستيلاء على السلطة وتهتف (يا آل على ).
                      انعكاسات حركة الكورانى على دعوة البدوى :
                      ومن الواضح أنه لا صلة مباشرة بين حركة الكوراني ودعوة البدوي مع اتفاقهما فى (الهدف) وهو إقامة الحكم الشيعي و(التخطيط الأساسي ) وهو استغلال التصوف وتكوين الأتباع ، إلا أن هناك نوعاً من الاختلاف بين الحركتين نلمسه فى التمهل الذى تسير عليه الدعوة الشيعية الصوفية بدءاً من الرفاعي وانتهاءاً بالبدوي ، بالإضافة إلى ميل هذه الدعوة للابتعاد عن العواصم ومراكز التحكم السياسي مع شموليتها للمنطقة داخل وخارج مصر ،أما حركة الكوراني فالأغلب أنها حركة محلية من الأتباع المتبقين من أنصار الدولة الفاطمية الآفلة بدليل اعتماد صاحبها الكوراني على جماعات السودان ، وقد كان السودان يمثلون الحرس الفاطمي الذى أرهق صلاح الدين فى بدايته بالمؤامرات ، وإذا كان قد قضى عليهم عسكرياً فإن بقاياهم وذرياتهم كانت لا تزال موجودة تطوى القلوب على الجمر تتحين الفرصة ، وقد واتتها فى حركة الكوراني الفاشلة .
                      ومع ذلك فإن التسرع الذى اتسمت به حركة الكوراني وأدى إلى فشلها كان عاملاً هاماً فى لفت نظر بيبرس للتآمر الشيعي المستتر بالتصوف مما دفعه لبث العيون وتنظيم البريد حتى لا يؤخذ على حين غرة ،وإقامة الخلافة العباسية ليقطع الطريق على هدف الشيعة فى الخلافة الفاطمية ، ثم اجتث جذور التآمر أو ما يشك فيه كتآمر فقتل الشريفين حصن الدين والسرسناوى وعزل صديقه المملوكي مدعى النسب العلوى وحاكم عز الدين بن عبد السلام .
                      ثم بدأت عيونه ترصد تجمعات المتصوفة وفوجئ بيبرس بداعية مجهول غامض يحتل مكانا هاما فى وسط الدلتا هو أحمد البدوى ،ودعاته أو أتباعه منتشرون ،وكان كشف البدوي أمام أعين الظاهر بيبرس هو الهدية الغير منتظرة من الكوراني لرفيقة الشيعي الصوفي البدوي
                      . يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (ولكن سرعان ما أدرك السيد البدوي أنه محاط بالجواسيس من كل مكان وأن صاحب مصر قد وقف على نيته فانقلب يعلم الناس النحو والصرف وقرأ دروساً فى الفقه على المذهب الشافعي ولبث سنين لا يجتمع بأحد من السطوحية فى مجلس ظاهر )[18]. ولم يكن البدوي بالشخص الذى يؤخذ على غرة ،فأتباعه منتشرون والاتصلات بينهم وبينه مستمرة ومستقرة ، وقد علم بشنق حصن الدين والسرسناوى فى الاسكندرية ،وبلغته أخبار فشل الكوراني ونهايته مع أتباعه فى القاهرة ، وقبل كل ذلك كانت لديه عين على الظاهر بيبرس نفسه ينبئه بما ينبغي عليه فعله ،إنه الشيخ خضر العدوي المهراني الكردي تلميذ أبى السعود بن أبى العشائر الواسطى[19]مبعوث الرفاعى للقاهرة ،والذى أصبح شيخاً للظاهر بيبرس ومتمتعا بالنفوذ فى عهده .
                      خضر العدوي بين الظاهر بيبرس والبدوي :
                      ففى فترة (التيه ) التى قضاها الأمير بيبرس البندقداري فى الشام الأيوبي بعد هروبه من مصر التقى بخضر العدوي ،وكان خضر العدوي الكردي تلميذاً نشطاً لأبى السعود بن أبى العشائر فى مصر .وفد إليه وكون مع داوود (المغربي )وشرف الدين (الكردي )وحسين (الجاكي ) خلية صوفية متحركة بين الشام والعراق ومصر .
                      وفى فترة الاضطراب هذه والتى تنبئ بعلو شأن البحرية وضع الشيعة أعينهم على بعض الطموحين من المماليك البحرية يبشرونهم بتولى السلطنة ، حيث شاع فى العصر الإيمان بكرامات الأولياء وعلمهم بالغيب ،وكان من نصيب خضر العدوي أن التقى بالظاهر بيبرس وقت أن كان أميراً هارباً فى الشام فبشره بالسلطنة ، وفى هذا الوقت حيث كان بيبرس يعيش بحد سيفة خادماً لهذا الأمير الأيوبي أو ذاك فإن تبشيره بالسلطنة من صوفى معتقد كالشيخ خضر لابد أن يترك فى نفسه أثراً ، ويحفزه لتحقيق أطماعه التى أضاعها قطز حين قتل أقطاى أستاذ بيبرس . وبينما يسير بيبرس فى الشام شريدا بين صغار الأيوبيين المتنازعين فإن غريمه قطز يتولى السلطنة بعد أن مهد لعز الدين أيبك أستاذه من قبل وعلى حساب أقطاى وبيبرس .و هكذا فمن بين سياسة (التبشير ) بالسلطنة بين الأمراء البحرية فى هذا العصر المضطرب أفلح خضر العدوي فى حفز الأمير بيبرس البندقداري ليرجع إلى غريمه قطز فى مصر رافعاً راية الاستسلام وفى نفسه عزم على الانتقام والوصول للسلطنة .
                      يقول أبو الفدا (سار بيبرس إلى غزة وراسل قطز وأرسل إليه علاء الدين طيبرس يطلب منه الأمان فكتب إليه قطز بالأمان ووعده بالوعود الجميلة )[20]. وسارت الأمور على نحو ما نعرف .عاد بيبرس فشارك فى حرب المغول ثم انتهز الفرصة حين الأوبة من الانتصار فقتل السلطان قطز وتولى مكانه.
                      وتحقق أمل الشيعة
                      وبغض النظر عن تلك (الجمرة )التى ألصقها الشعراني- دون غيره بالظاهر بيبرس ظلما وعدوانا وإثباتا لنفوذ مزعوم للأولياء الصوفية فإن الترجمة التى أوردها لخضر العدوي لم تخل من بعض الصدق كقوله عن علاقة الظاهر بخضر (وكان السلطان ينزل كثيرا لزيارته وحادثه بأسراره ويستصحبه فى اسفاره ) فقد أشار الكثيرون إلى نفوذ خضر الواسع فى دولة الظاهر الذى كان يعتقد بعلمه بالغيب ويستشيره ويسمع له ويطيع . وحين وصل الشعرانى إلى نكبة خضر أسندها إلى (أولاد الحلال ) وتدخلهم بين السلطان وخضر .والواقع أنه مهما قال (أولاد الحلال ) فى شأن الشيخ خضر فلن يكون ذلك سببا فى إصرار السلطان على قتله إلا إذا كان خضر متآمرا على السلطان ، فتلك هى الجريمة الكبرى فى نظر بيبرس والتى لا يعدلها إلا اعتقاده فى خضر ومعرفته بالغيب إلى درجة أنه أوسع لنفوذه فى الظهور فى دولته ،وهكذا عدل الظاهر بيبرس عن تصميمه على قتل خضر حين هدده الأخير بعلم الكشف أو الغيب أنهما متقاربان فى وقت الوفاة ..فكان أن اعتقله مكرماً إلى أن مات ،وتخلص خضر بهذه الحيلة وكان لابد أن ينجو بها . وجدير بالذكر أن النويري [23]أسهب فى الحديث عن انحرافات الشيخ خضر الخلقية مع النساء والصبيان وجعل منها سببا سياسيا فى نكبته ،وأشار إلى ذلك ابن كثير بايجاز[24]،ولعل الشيخ خضر وقد بلغ حينئذ من الكبر عتيا كان يموه بعلاقاته تلك عن حقيقته كداعية سرى فى مركز خطير بدليل أنه لم يدفع عن نفسه هذا الاتهام الذى جاء فى أخريات حياته ،وتلك عادة الشيعة المتصوفة كما رأينا مع الرفاعي ونسج القصة المنسوبة للبدوي مع فاطمة بنت بري ومع أبى العباس الملثم . وما كان للظاهر بيبرس أن يعول على هذا الاتهام ويجعل منه سببا لقتل شيخه العجوز الذى يعتقد ولايته واطلاعه على غيب الله فالسبب الحقيقى هام وخطير يتعلق بالسياسة والتآمر ، خاصة وأن المؤرخين اللاحقين للنويرى تجاهلوا هذا الاتهام بل أن النويرى نفسه ذكر أن من اتهم خضر العدوى بتلك التهم كانوا الأمراء القريبين من الظاهر بيبرس ولم يخل اتهامهم من محاولات التلفيق وقد استند إلى ماضى خضر أكثر من حاضره . والواقع أن ماضى خضر الخلقى لم يكن نظيفا ، إلا أن بعثه من مرقده فجأة ومحاسبته به حين اشتعل رأسه شيبا ليعد دليلا على محاولة متعمدة للتغطية على شئ أخطر ،ولما كان خضر لا يمانع فى هذه التغطية أيضا فقد شارك فيها بعدم الدفاع عن حاضره حرصا على بقاء الدعوة الشيعية وخوفا أن تمتد أصابع بيبرس لتصل إلى عنق البدوي فى طنطا وأتباعه فى الشام والحجاز.
                      لقد كان الظاهر بيبرس يعتقد فى التصوف اعتقاداً زائدا ولم تؤثر نكبة خضر فى هذا الاعتقاد بشئ ..وإذا عرفنا أن الظاهر بيبرس ظل من سنة659 إلى 671 يسمع لخضر العدوي ويطيع ، ويستشيره ويستصحبه فى أسفاره لأدركنا أن محاولات بيبرس الخفية لكشف غموض البدوى ودعوته ذهب هباءاً .. حتى إذا حدثت نكبة خضر وانحصرت فيه وحده كان بيبرس قد تيقن تماماً كما أرادوا له من أن البدوي مجرد صوفي مجذوب ..وكان البدوي من ناحيته قد أيقن ان آماله مستحيلة فى وجود حاكم شديد التحرز والدهاء كالظاهر بيبرس كثير الشكوك والارتياب ، ميال للعنف والانتقام وبعد ذلك كله فهو شديد الاعتقاد فى التصوف ،إذن فتظل راية التصوف مرفوعة ولتتجمد الحركة السرية إلى حين .
                      وهذا ما حدث وموعدنا الان مع تفصيل لذلك

                      الظاهر بيبرس والبدوي :
                      فى أعقاب حركة الكوراني الفاشلة جاءت الأنباء للظاهر بيبرس باكتشاف شيخ صوفي مجهول فى طنطا تحيطه الأساطير والألغاز ومع تستره وغموضه فأتباعه منتشرون فيما بين القاهرة والاسكندرية والدلتا ، ولا شك أن ذلك الاكتشاف لم يأت دفعة واحدة فجائية ، ولم يتعرف أعوان الظاهر بيبرس على أتباع البدوي الموزعين فى الأمصار من أول نظرة ..وإنما تم ذلك على دفعات ومراحل يمكن أن نرصدها من محاولات بيبرس المتصاعدة لكشف هذا اللغز . وقد بدأت الأخبار ترد عن البدوي كداعية صوفى مجهول فى طنطا ..ولتخوف بيبرس من هذا الصنف فإنه أولا كلف القاضي تقى الدين بن دقيق العيد بأن يتحرى أمر البدوي ، ولما كانت السلطات لا تعرف الصلة بين البدوي والدريني فقد عهد ابن دقيق العيد للدريني بالذهاب للبدوي والكشف عن حاله ....ومن الطبيعي أن يرتب عبد العزيز الدريني الأمر مع البدوي ليقتنع ابن دقيق العيد ببراءة موقف البدوي ..
                      وقد رددت المصادر الصوفية تكليف الدريني من لدن ابن دقيق العيد بتحرى أمر البدوي فقالت (أن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد أرسل إلى سيدى عبد العزيز الدريني وقال له امتحن هذا الرجل الذى اشتغل الناس بأمره ).أو ( أن الشيخ تقى الدين قاضي القضاة لما سمع بسيدي أحمد البدوي واشتهر أمره أرسل اليه سيدي عبد العزيز الدريني ليخبره عن حاله ) ،أو أن قاضى القضاة ابن دقيق العيد ( كان ينكر على الشيخ أحمد البدوي فأرسل كتابا إلى الشيخ عبد العزيز الدريني يقول له .توجه إلى الشيخ أحمد البدوي واسأله عن العلم فإن أجابك فأساله الدعاء وعرفني بجميع أحواله فتوجه الشيخ عبد العزيز إلى ناحية طندتا وكان المتولي بها القاضي علاء الدين ،فلما وصلآ الشيخ إلى طندتا قصد القاضى علاء الدين وأعلمه بأن قاضى القضاة أرسل كتابا يسمى كتاب الشجرة وفيه أحاديث وفقه وأضمر فى نفسه أن الشيخ احمد البدوي إن قرأ هذا الكتاب وأخبر بما فيه فأنا أعتقده وأرد الجواب عنه إلى قاضي القضاة فقيل له : هو فى بيت الشيخ ركين مقيم على سطح البيت فتمشى الشيخ عبد العزيز حتى وصل إلى بيت الشيخ ركين واستأذن الشيخ عبد العال فأذن له فسلم على الشيخ فرد عليه السلام وقال يا عبد العزيز من وصل إلى مقام التسليم فاز برياض النعيم جئت تسأل عن العلم وفى كمك كتاب الشجرة ..إلخ[25])
                      ومع أن المصادر الصوفية تتجاهل الصلة المعروفة بين الدريني تلميذ أبى الفتح الواسطي والبدوي خليفة أبى الفتح الواسطى ومع أنها حوّلت الموضوع إلى اختبار لعلم البدوي بالغيب ولا يعلم الغيب إلا الله وأنهم جعلوا من البدوي فائزا فى هذا الاختبار .. مع ذلك كله فإن رائحة الأتفاق المسبق بين البدوي والدريني تبدو من خلال السطور وتنبئ عن أن ذلك اللقاء الذى تم بحضور القاضي المحلى كان مرتبا معدا له من قبل ليخدع قاضى القضاة ابن دقيق العيد وممثله علاء الدين فى الناحية ،واقتنع ابن دقيق العيد مؤقتا . ولكن الظاهر بيبرس كثير الشكوك لم يقتنع فقد جاءته أخبار عن أتباع آخرين للبدوي فكلف ابن دقيق العيد بأن يذهب بنفسه لاختبار البدوي ..وكان البدوي مستعدا للقائه ، وتم اللقاء وخرج منه ابن دقيق العيد وقد سلم للبدوي بحاله .
                      وتختلف المصادر فى إظهار الصورة التى قابل بها البدوي ابن دقيق العيد ، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (نزح ابن دقيق العيد إلى طندتا ،واجتمع بالسيد البدوي فوجده رجلاً عالماً فاضلاً ولم يجد لما نقل إليهم عنه من الضلالات أثراً ولم يشم رائحة الدعوة السياسية لأن البدوى وصحبه كانوا أهل حذق ومهارة وحيطة فعاد ابن دقيق العيد إلى الملك مثنيا على الرجل وكانت هذه الزيارة من أكبر أسباب ترويج الدعوة الأحمدية البدوية[26]) أى أن البدوي ظهر له بمظهر العالم الورع .
                      ولكن كتب المناقب تظهر صورة أخرى للبدوي ، صورة المجذوب تارك الصلاة ، يقول عبد الصمد عن كرامات البدوي (ومما وقع لسيدي أحمد البدوي من الكرامات أن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وكان قاضي القضاة بالديار المصرية سمع بالشيخ وأحواله فنزل إليه واجتمع به بناحية طندتا وقال له : يا أحمد هذا الحال الذى أنت فيه ما هو مشكور فإنه مخالف للشرع الشريف فإنك لا تصلي ولا تحضر الجماعة وما هذه طريقة الصالحين [27]) .
                      وقد يبدو هناك تناقض بين الصورتين ،صورة العالم وصورة المجذوب . وقد يدفع هذا التناقض البعض لتصديق رواية دون أخرى، ولكننا نرى أن الصورتين معا تعبران عن شخص واحد بالغ الدهاء ، فهو مجذوب حين يريد وعالم صوفي حين يرغب فى ذلك ، وقد ظهر بالصورتين معا للفقيه المسكين ابن دقيق العيد فسلّم له بحاله حين يكون عالماً وحين تأخذه الجذبة فينقلب إلى النقيض تماما ، وترك البدوى ابن دقيق العيد وقد انشغل عن القضية الأساسية وهى الشكوك فى الدعوة السرية إلى محاولة الحكم على البدوي وشخصيته المتناقضة بين العلم والجذب ، وبينما أثنى على علمه وحديثه عاتبه برفق على جذبته وتركه الصلاة .وعلى الرغم من أن تقى الدين كان قاضيا للقضاة ومنتظرا منه كفقيه ألا يسامح فى ترك الصلاة فإنه ترفق بحال البدوي وجذبته المزعومة فلم يشتد فى الإنكار عليه فى هذه التهمة الخطيرة التى كان شاهدها الأول.ومعنى ذلك أن البدوي قد نجح تماماً مع ابن دقيق العيد فقد جذب انتباهه إلى قضية جديدة لم تكن تدور فى خلده وترك البدوي وقد اقتنع تماماً بسلامة موقفه من الناحية السياسية السرية .
                      والواقع أن اختيار تقى الدين ابن دقيق العيد بالذات لفحص حالة البدوى كان بمشورة خضر العدوى مستشار الظاهر بيبرس وأمينه على أسراره ، وقد كان اختياراً موفقاً من جميع النواحى ، فلابن دقيق العيد جهد سابق فى حرب الشيعة بالصعيد ومن هذه الناحيه فترشيحه للظاهر بيبرس لاغبار عليه إطلاقاً ..ومن الناحية الأخرى كان ابن دقيق العيد من الفقهاء الميالين للتصوف المؤمنين برجاله ومن هنا يمكن خداعه والتمويه عليه وخداع الظاهر بيبرس من خلاله، وكانت لإبن دقيق العيد صلات بالصوفية المتورطين فى الدعوة الشيعية بدليل أنه لجأ أولا للدريني جاهلاً بالصلة بينه وبين البدوى.
                      وقد أوسع له الصوفية اللاحقون مكانا فى التراجم الصوفية وعدوه من ضمن الصوفية لارتباطه بقصة البدوي وعلاقته بالدريني .
                      والجدير بالذكر أنه فى ذلك الوقت كان المقدم من بين القضاة هو تاج الدين ابن بنت الأعز ، وكان منتظرا أن يقوم بالمهمة دون ابن دقيق العيد الذى انحسرت عنه الأضواء لولا أن خضر العدوى كان فى عداء مستمر مع ابن بنت الأعز كما تدل على ذلك المراسلات بينهما [28].
                      ومع ذلك فإن بعثة ابن دقيق لم تفلح فى إزالة الشكوك عند بيبرس ،تلك الشكوك التى أكدتها اكتشافات متتالية عن أتباع للبدوي منتشرين فى الأسكندرية وطنطا والقاهرة وما حولها ، ولكى يقطع بيبرس الشك باليقين عزم على التحقق من الأمر بنفسه وبطريقة التخفى أو التنكر التى اشتهر بها .وبدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على الأسكندرية مهبط أبى الفتح الواسطى ومدرسته والشاذلى وصديقه عز الدين بن عبد السلام ،وحيث أعدم حصن الدين والسرسناوى ،وفى 661 زار الأسكندرية (فأصلح من شأنها وعامل أهلها بلطف ) وهى نفس السياسة التى سار عليها مع القاهرة فى أعقاب حركة الكوراني ..ولم يكن إصلاح الحال فى الاسكندرية هو الهدف الوحيد للظاهر بيبرس فقد قابل الصوفي أبا القاسم القباري ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي وعين لدنه قاضياً للثغر وصف بالتصوف والزهد [29]. والملاحظ أن الشاطبي والقباري لم ينتميا إلى مدرسة التشيع الصوفي المستتر ، والمنتظر أن بيبرس فى لقائه الغامض بهما قد حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفى فى الأسكندرية وما حولها وسمع الشئ الكثير عن البدوى فعزم على التوجه إليه بنفسه سرا.
                      ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 662(وفيه سار السلطان إلى أوسيم ومضى إلى الغربية فصار يسير منفردا فى خفية ويسأل عن والى الغربية الأمير ابن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه فذكرت عنه سيرة سيئة فقبض عليه وأدبه وأقام غيره ...)[30]. أى أن بيبرس خص منطقة الغربية حيث البدوى وطنطا بزيارته متخفيا وتصرف بحزم مع واليها وعزله وأقام واليا جديدا ينفذ السياسة الجديدة التى ارتآها فى رحلته السرية ..
                      ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 663 أن السلطان طاف بالقاهرة متنكرا ليعرف أحوال الناس[31]. ثم يذكر المقريزى ما يفيد أن الظاهر بيبرس مر على البدوى فى السنة التالية سنة 664 عند ما خرج إلى الإسكندرية لمباشرة حفر خليجها[32]. فمن المحتمل ألا يكون حفر الخليج هو السبب الأهم فى حضور بيبرس بنفسه مع كثرة مشاغله وأسفاره وأن يكون مجرد ساتر لغرض أهم ، خاصة وأنه عاد للقاهرة عن طريق أبيار (وطنطا تقع على الطريق بين أبيار والقاهرة )[33].
                      وإذا كان المؤرخون المعاصرون لم يذكروا عن رحلات بيبرس السابقة إلا للغرض المعلن فقط فلم يكن منتظرا منهم أكثر من ذلك وهم يؤرخون لسلطان داهية بارع فى التخفى والتنكر والتعمية ،ثم إن طنطا فى ذلك العهد ورجلها القائم فيها لم يستحوذا بعد على أى انتباه للمؤرخين المشغوفين بالمدن الكبرى والرجال الظاهرين من الأمراء والقضاه ومشاهير الصوفية والعلماء. ولذلك اكتفوا بتعليل سفره إلى طنطا بأنه لمعاقبة أمير الغربية ،وعودته إلى الأسكندرية بأنه لمباشرة حفر خليجها وهو ما يعلنه السلطان الداهية..
                      ويذكر الشعراني أن الظاهر بيبرس اجتمع بالبدوي يقول(وكان الملك الظاهر بيبرس أبو الفتوحات يعتقد فى سيدي أحمد اعتقاداً عظيما وكان ينزل إلى زيارته [34])، ومن المرجح أن يكون ذلك قد تم أثناء مروره على طنطا متخفياً وانتشر ذلك وردده المريدون الأحمدية حتى وجد طريقه لكتاب الشعراني .
                      ومع الأسف فان كتب المناقب وطبقات الشعراني إحداها لم تسعفنا بأخبار تلك المقابلة على الرغم من أنها المصدر الوحيد وكنا نأمل أن نعرف بأي صورة تبدى البدوي بها للظاهر بيبرس.
                      ولكننا نكتفي بالقول بأن الظاهر بيبرس لم يقتنع تماما ولم تهدأ شكوكه إذ يبدو أن مصادره السرية أوضحت له أن مكة هي النقطة الأساسية للدعوة ومنها أتى البدوي مبعوثا ، وربما أتت للظاهر بعض المعلومات عن التحركات الشيعية الصوفية في الشام حيث كان يقيم عز الدين الصياد، والظاهر بيبرس كان كما نعرف طوافا بين الشام وحلب والحجاز ومصر، ومع أن رحلاته للحجاز كانت شيئا عاديا لا يثير الريبة لأنها تابعة له ، إلا أنه في سنه 667 قام بزيارة سرية مفاجئة لمكة أعد لها إعداد خاصا، ونصطحب المقريزي ليحدثنا عن هذه الرحلة فيقول عن بيبرس وكان في الشام وقتها: ( وصل للسلطان عيسى بن مهنا فأوهمه السلطان أنه يريد الحركة للعراق ،وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز ثم تحرك بهم للكرك كأنه يتصيد ولم يخبر أحد أن يتحدث بأنه متوجه للحجاز وذلك لأن الأمير جمال الدين بن الداية الحاجب كتب للسلطان (إني أشتهي أن أتوجه في صحبة السلطان الى الحجاز) فأمر بقطع لسانه فما تفوه أحد بعدها بذلك، ووصل إلى الكرك (ألأردن ) وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره ووصل إلى المدينة المنورة ورحل منها فدخل مكة وأعطى خواصه من المال ليفرقوها سرا وفرق كساوى على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس لايحجبه أحد،وهو منفرد ،وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين وأحسن إلى أميري مكة وينبع وقضى مناسك الحج ثم عاد للكرك ولم يعلم أحد بوصوله)[35].
                      ومن الحمق أن يقال أن الحج كان السبب الوحيد الذى حمل بيبرس على كل هذا التخفى والتحرز إلى درجة أنه يقطع لسان حاجبه حين صرح برغبته فى أن يصحب السلطان فى تلك الرحلة السرية ،والمعقول أن تخفيه فى هذه الرحلة لسبب يتصل بقضية تشغل باله حين زار الأسكندرية ثم الغربية متخفيا. فأسلوبه واحد فى تلك الرحلات .الإحسان للعامة ومقابلة الصالحين والأهتمام بأمر الحكام المحليين ، ثم الغموض الزائد والتعمية عن كل تلك المقابلات بالحج أو حفر الخليح أو تتبع حاكم ظالم وعزله .
                      وقد ورد فى كتاب المناقب أن الظاهر بيبرس ورد مكة متخفيا فقابل شقيق البدوى ، يروى عنه عبد الصمد (فبينما نتحدث وإذا برجل راكب على هجين وهو متنكر فى زى بدوى وهو ملثم فقلت للعبيد : على بهذا الرجل الراكب على الهجين فجاءوا به فسلمت عليه وقلت له فى أذنه .أهلا وسهلآومرحبا بالملك الظاهر بيبرس فكاشفته بأمارات مخفية بينى وبينه فتبسم ضاحكا وقال : نعم أنا الملك الظاهر بيبرس[36]) وقد أورد عبد الصمد هذا النص بعد حديثه عن الحسن وهو يتتبع أخبار شقيقه البدوي فى مصر . ويبدو أن الظاهر بيبرس تحقق فى هذه الرحلة السرية من صدق تصوف البدوي وتيقن من أنه لا يخفي هدفاً سياسياً سرياً فكتب المناقب تفيض بما ينم عن اعتقاد الظاهر بيبرس فى البدوي وأخيه الحسن إلى درجة الحفاوة والكرم المتبادل بينهما.
                      لقد استغل الشيعة المتصوفة نقطة الضعف عند الظاهر بيبرس ألا وهى اعتقاده فى التصوف ورجاله فظهروا له بالوجه الصوفي وتوقفوا عن دعوتهم السرية خوفا من جواسيسه ودهائه وعقابه. وقد سبقت لهم الأمثلة فى الكوراني وحصن الدين والسرسناوي ،ثم زاد الأمر حين اكتشف بيبرس أن شيخه خضر ليس بالمخلص له وكانت نكبته سنة 671 وكانت أيضا النهاية لأحلام البدوي وشركائه .

                      [1]آ السلوك 1/540 ، 565
                      [2]السلوك 1/540 ، 565
                      آ
                      [3])نفس المرجع السابق 1 / 567 : 574
                      [4] السلوك 1/ 583 ، 584
                      [5]السلوك 1/ 583 ، 584
                      [6]نفس المرجع السابق 637/1
                      [7]السلوك 1/442 ،452
                      [8]الكتبى :عيون التواريخ : مخطوط مصور 2/256 :257آ
                      [9]السلوك 1/440،420
                      [10]السلوك 1/440
                      [11]ابن حجر الهيثمى .تاريخ الخلفاء مخطوطورقه126ب
                      [12]النويرى .نهاية الأرب .مخطوط 38/28
                      [13]الكتبى.عيون من التاريخ 256/2 مخطوط
                      [14]السلوك 1/420
                      [15]) ابن حجر .رفع الاصر 351 ،352 ،اليافعى مرآه الجنان 1/153 :154
                      [16]السلوك 1/416
                      [17]) الطبقات الكبرى 1/15.
                      [18])مجلة السياسة 11
                      [19]الطبقات الكبرى للشعرانى1/140،2/3
                      [20])المختصر فى أخبار البشر 3/200
                      آ
                      [21]حسن المحاضرة 1/521. تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم
                      [22]الطبقات الكبرى ’2/2
                      آ
                      [23]نهاية الأرب مخطوط 28/42:41 119 :120
                      [24]تاريخ ابن كثير 13/2">[30]نفس المرجع 1/505
                      [31]نفس المرجع 1540
                      [32]نفس المرجع 1543آ
                      [33]نور الدين .البدوى100
                      [34]) الطبقات الكبرى 1160
                      [35]السلوك 1580: 582
                      [36]الجواهر السنية 61
                      التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:13 PM.

                      تعليق


                      • #12
                        رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع


                        سابعا : حركة البدوى بعد الفشل

                        (1) لماذا فشل البدوي سياسياً:

                        1 ـ أدت سياسية الظاهر بيبرس وتحرزه ودهاؤه إلى نهاية خضر العدوي معتقلاً وإلى نهاية البدوى معتقلاً أيضاً داخل إطار التصوف الذى رفع رايته ليستتر تحته فاضطر فى نهاية الأمر أن يحتمى به من خصمه الجبار العنيد الداهية. لقد استرسل البدوي فى دعواه الصوفية إلى نهايتها وترك هدفه السياسى الذى قصر حياته عليه ،وهو الآن فى شيخوخته أصبح لا يطمع إلا فى النجاة من مخالب بيبرس وجواسيسه الذين يحصون عليه أنفاسه ،وظل كذلك من سنة 671 إلى أن مات سنة 675 فى زمن قريب من وفاة خضرآ سنة 676 وبيبرس (محرم سنة 676).
                        لقد أرعب بيبرس أعداءه وأصدقاءه على السواء، وحين كان يتنكر أو يسير خفية لا يستطيع أحد أن يتحدث بخبره خوفاً منه ومن جواسيسه ، ودفع حياته ثمنا لمؤامرة قتل بالسم حاكها لأحد أصدقائه (القاهر الأيوبي) الذين يتخوف منهم ، ولكنه أخطأ فشرب الكوب المسمم المقدم للضحية، ومات بدمشق فأشيع أنه مريض وحمل للقاهرة ،ولم يجسر أحد أن يتفوه بموته حتى وصلوا به للقاهرة ،وظل مخيفا للأمراء المماليك حتى وهو مريض مرض الموت حتى أن أحدهم (لم يجسر أن يدخل عليه فى مرضه إلا بإذنه [1]) . ذلكم هو بيبرس الذى قدر على البدوى أن يواجهه فى شيخوخته حين بلغ من الكبر عتياً (وقد توفى البدوى فى حدود الثمانين ).

                        2ـ وربما أدرك البدوي فى هذه السن استحالة تحقيق أحلامه لأن الظروف السياسية التى انتشرت بها دعوته فى عصر الاضطراب (637- 658 )قد تغيرت إلى توطيدآ للدولة المملوكية على يد حاكم جبار كالظاهر بيبرس .
                        وربما أدرك البدوي متأخراً خطأ الاعتماد على المصريين الذين جعلهم أساس دعوته وعصبيته ، فالمصريون على استعداد عميق لحب آل البيت بل وتقديسهم إلا أنهم مع ذلك آخر المتحمسين للقيام بعمل عسكرى لنصرتهم. وما تاريخ الفاطميين ببعيد ،فالدعوة الإسماعيلية تمت فى شمال أفريقيا وتحركت إلى مصر بعد أن أصبحت دولة فاتحة ،فانتقلت إلى مصر دولة كاملة بجيش ونظم واتخذت منها مركزاً جديد للدعوة تساندها قوة الدولة الوافدة. ولقد تنبه لهذه الحقيقة باحث مصرى قرر(أن التشيع فى مصر يكاد ينحصر فى حب آل البيت ولم يذكر المؤرخون شيئا عن تحرك المصريين لتأييد حملات الفاطميين )[2].
                        بل على العكس انصرف المصريون عن الدعوة الإسماعيلية الشيعية وانضم بعضهم إلى دعوة الكيزانى الصوفية السنية.ثم إن المتصوفة المصريين بالذات هم أبعد الناس عن الجهاد فى سبيل عقيدة دينية ولو كانت صوفية ، فغايتهم فى التصوف أن يستفيدوا به فى سمو المكانة لدى الحاكم والمحكوم ،وهم أسرع الناس نفاقا للحاكم طالما ظل فى سلطته ،وأسرع الناس انفضاضاً عنه إذا حاقت به المحنآ [3].
                        وهذا ما تمخضت عنه دعوى البدوي بعد موته، فقد تحولت إلى طريقة صوفية مصرية صميمة واسعة الانتشار ، وبها ازدادت شهرة البدوي ذلك الدعية المجهول فى عصره ، وظلت شهرته تزداد بازدياد التصوف والفروع المتشعبة للطرق الأحمدية السطوحية بحيث يمكن القول بأنه إذا كانت دولة الظاهر بيبرس والمماليك قد انتقلت إلى متحف التاريخ فإن دولة البدوي لا تزال قائمة فى نفوس المصريين حتى الآن ،ويستشعرها القارئ لهذا الكتاب فى نفسه، فلقد نشأنا جميعاً على تقديس البدوي والاعتقاد فى ضريحه ، وتلك هى دولته التى فشل فى إقامتها على أرض مصر فأقامها مع أتباعه فى عقيدة المصريين وقلوبهم .

                        3ـ والبدوي فارس قديم قيل فيه (اتفق وقوع حرب بمكه فخرج وضرب فيها بالسيفين وطعن فيها بالرمحين فتعجب الناس من شجاعته[4]) ، وكفارس قديم داهية أدرك البدوي اختلاف طبيعة الشعب المصرى عن الشعوب الصحراوية فى أفريقيا والجزيرة العربية ،إن المصريين كشعب زراعي أميل للاستقرار والهدوء ومعايشة الأمر الواقع والصبر عليه ، أما البدو فى الصحراء الكبرى وصحراء الجزيرة العربية فالدماء تخط تاريخهم اليومى بين نزاع وثأر وصراع مستمر لأى سبب وبدون سبب، ومن السهل أن تقوم هناك الدول سريعاً ومن السهل أن تسقط سريعاً أيضاً..وشاهد على ذلك الصراع المستمر بين أمراء مكة والذى شارك فيه البدوي (بسيفين ..ورمحين) والقلاقل المستمرة فى أفريقيا وقيام الدول وسقوطها ،والجند فيها من بين أبناء المنطقة أنفسهم.أما فى مصر فالحاكم- وقتها كان دائماً وافداً ، وبجيش وافد ، وغالبا ما يتشكل من طوائف شتى ليس من بينها بالقطع فلاح مصري زراعي ، وقد ظل الأمر كذلك إلى أن فرض محمد علي فى نهضته الحديثة التجنيد على المصريين فكان الشاب يودع أهله بالصرخات والدموع كأنه ذاهب للمقصلة .

                        4 ـ ولعل البدوي أدرك متأخراً أن مركز القوة فى المنطقة انتقل من العصبيات القبلية المحلية الشعبية إلى الطوائف العسكرية ،فلم تعد القوة لعصبيات النسب وصلات الدم والقرابة وتجمعات القبائل.لقد اضمحلت القبائل العربية كقوة سياسية بعد أن أقامت دولا كالدولة الإسلامية العربية فى عهد الراشدين ودولة الأموبين ،ثم بدأ الضعف يستشرى فيها بقيام الدولة العباسية وانتهت كقوة حربية رسمية بعد أن قطع المتوكل العباسى العرب من ديوان الجند ، وبدأت صولة الغلمان الأتراك فى التحكم فى الخليفة وجيش الخلافة ثم انتهت سطوتهم ليرثهم البويهيون من الديالمة الوافدين من الشرق وبعد أن سقطوا ورثتهم قبائل السلاجقة الأتراك ، وسرعان ما سقطت تلك العصبيات الوافدة فاضطر الخليفة الناصر العباسى وهو يحكم منفرداً للاستعانة بالعامة المدربين عسكرياً ممن انخرطوا فى سلك الفتوة وعرفوا بالعيارين والشطار.. وكان الحل الحاسم النهائي هو شراء المماليك صغاراً وتنشئتهم على الفروسية والطاعه العمياء للسلطان ، وقد اشتهر بذلك بنو أيوب منذ صلاح الدين ..وأصبح شراء المماليك ليكونوا عسكرا نظاماً عاماً منذ ذلك الوقت طبقه المماليك أنفسهم فكان السلطان المملوكي يستكثر من شراء المماليك ليواجه بهم خصومه وليضمن لذريته الحكم من بعده ، ولكن يخيب ظنه دائما ، فالمماليك الذين اشتراهم لحماية ولده هم الأسرع فى تنحيته عن السلطة ..ولقد تابع العثمانيون تلك السياسة (شراء الرقيق وتنشئتهم حربيا وسياسيا )فكان عماد القوة العثمانية يتركز فى الانكشارية .وإذا كان ذلك واضحا فى مناطق جبلية كالعراق وآسيا الصغرى فهو فى مصر البلد الزراعي أوضح وأظهر ..فالأغلبية العظمى الساحقة من المصريين زراعيون يدينون بالطاعة والولاء للسلطان القائم ..والأقلية الضئيلة هم من العرب أو البدو الذين وفدوا لمصر مع الفتوح وبعدها ..وبعد أن قطعهم المتوكل عن الجندية اضطر بعضهم للاستقرار والعمل بالتجارة وظل الآخرون على بداوتهم وحياتهم العسكرية ، يعيشون على أطراف التجمعات الزراعية فى الحوف الشرقى (الشرقية )والبحيرة والصعيد ، يمارسون قطع الطريق والتسلط على الفلاحين ويعلو سلطانهم مع ضعف السلطة المركزية، ولا تخلو قلاقل محلية من مشاركتهم فيها ، وكان لابد أن تحدث المواجهة بين المماليك كقوة حاكمة جديدة والعربان ، ومن المنتظر أن يُهزم الأعراب فالوقت لم يعد وقتهم فهم الماضى الذى أفل نجمه وانطوت صفحته ، وهكذا كانت حركة حصن الدين ثعلب النهاية لطموح الأعراب أبان قوة الدولة المملوكية وعنفوانها ..
                        يقول المقريزي فى حوادث 651 . (ثارت العربان ببلاد الصعيد وأرض بحرى وقطعوا الطريق براً وبحراً وقام الشريف حصن الدين ثعلب وقال : (نحن أصحاب البلاد )ومنع الجند من تناول الخراج وقال: ( أنا أحق بالملك من المماليك وقد كفى أنا خدمنا بنى أيوب وهم خوارج خرجوا على البلاد ) وأنفوا من خدمة الترك (أى المماليك ) وقال (أنهم عبيد للخوارج )..واجتمع العرب وهم يومئذ كثرة فى المال والخيل والرجال إلى حصن الدين ثعلب وهو بناحية دهروط وأتوه من أقصى الصعيد وأطراف البحيرة والجيزة والفيوم وحلفوا له كلهم فبلغ عدة الفرسان اثنى عشر ألف فارس وتجاوز عدة الرجالة الاحصاء لكثرتهم)[5]
                        ولم تغن هذه الكثرة شيئا أمام قوة المماليك المنظمة المدربة التى تعيش حياتها للقتال ، وانهزم حصن الدين بجموعه من الأعراب أمام أقطاى كبير البحرية ، وبعث يطلب الأمان من السلطان أيبك فأمنه ووعده بالأقطاعات له ولأصحابه فقدم حصن الدين ومعه نحو ألف فارس من العربان وستمائة راجل فغدر به أيبك وشنق أتباعه وبعث به معتقلا إلى الأسكندرية .وخمدت بذلك قوة الأعراب من يومها إلى عصر المقريزي فى القرن التاسع ، يقول معقبا (وتبدد شمل عرب مصر وخمدت جمرتهم من حينئذ..وأمر المعز أيبك بزيادة الضرائب على العرب ومعاملتهم بالعسف والقهر فذلوا وقلوا حتى صار أمرهم على ما هو عليه الحال إلى وقتنا هذا [6]) .
                        أى أن المماليك فى بداية دولتهم وقت دعوة البدوي كانوا قد أجهزوا على القوة الحربية الوحيدة بين المصريين التى يمكن أن تقف فى وجههم ثم التفتوا للشعب المصرى فى القاهرة الذى كان يكره تولية المماليك الحكم فساقوه بالعسف والنكال حتى استكان لهم .. ويعلق المقريزى وأبو المحاسن على ما فعله أيبك بالمصريين بأن الفرنج لو ملكوا مصر ما فعلوا بأهلها مثلما فعل بهم المماليك فى ذلك الوقت [7].
                        ثم جاء الظاهر بيبرس فحصر الشدة والعنف فيمن يتآمر عليه ولو كان أقرب الناس إليه بينما اكتسب محبة الخاضعين لسلطانه فأقفل الباب نهائيا أمام طموح البدوى .. فلم تعد أمام البدوى قوة حربية يواجه بها العسكرية المملوكية .. فى الوقت الذى تحول فيه الشعور الشعبى لناحية الظاهر بيبرس قاهر المغول والتتار والمحسن للمساكين والرعية .
                        والطريف أن الأعراب عادت إليهم قوتهم حين ضعفت السلطة المملوكية البرجية فى أوائل القرن العاشر . ولم يترك الصوفية مشايخ الأعراب فى حالهم فتكالبوا عليهم تسولا واستجداء حتى أضجروهم فيقول أحدهم ( قد عجزنا فى رضا هؤلاء المشايخ " الصوفية " من كثرة ما يشحذون منا .. وكيف تطيب نفوسهم أن يأكلون من طعامنا ويقبلوا صدقاتنا مع علمهم بأن أموالنا لا تسلم من الحرام[8]) .

                        5 ـ ونعود للبدوى وفشله فى دعوته السرية فقد تحول ميزان القوة إلى الدولة المملوكية بعد توطيدها على يد الظاهر بيبرس الداهية .. ولم يجد البدوي عنصرا حربيا يستطيع أن يواجه به العسكرية المملوكية التى تفوقت على الصليبيين والأرمن والمغول والنوبيين .. وخاب أمله فى المصريين وكلهم فلاحون سلاحهم الفأس وأملهم الاستقرار وراحة البال وطريقتهم فى مقاومة الظالم الصبر عليه أو التندر والسخرية منه . وكانت الخيبة أكبر فى الصوفية المصريين وهم عماد دعوته ، فهم أصدقاء كل حاكم حالى وأعداء كل حاكم سابق ، ينافقون القائم فى السلطة وما أسرع ما يلعنونه إذا دارت به الأيام ..
                        وأعوان البدوي من السطوحية الأربعين ماذا يفعلون؟؟ وقد تحول ميزان القوة الحربية للعصبيات العسكرية التى تنشأ وتربى على القتال كالمماليك .. وقد صار نظام المماليك الحربية سائدا فى المنطقة بعد انهيار قوة القبائل المتحكمة كالعرب والبربر والترك والبهويين والسلاجقة .. أى أنه حتى لو كان الفلاحون المصريون شعباً مقاتلا كالعرب والبربر فما كانوا ليغنوا شيئاً أمام نظام المماليك الذى استقر وحكم فى مصر وانتصر على الصليبيين والمغول والأرمن والنوبيين .. لقد كانت هناك طائفة عسكرية وحيدة من بين المصريين هم البدو الذين تسلطوا على المصريين نهباً وسرقة حين تضعف السلطة الحاكمة ، وقد بدأت العسكرية المملوكية بالإجهاز على قوة البدو الأعراب حين ساندوا حصن الدين ثعلب ولم يسمحوا لهم بالاستمرار أى لم يسمحوا ـ لأى قوة تحمل السلاح أو تجيد استخدامه ـ بالوجود فخدعوا حصن الدين واعتقلوه بعد الأمان وقتلوا كل أتباعه من الأعراب فلم تقم لهم قائمة كما يقول المقريزي .. وظلوا هكذا إلى أن ضعفت الدولة فى عصر الشعراني فصار لهم بعض النفوذ . لقد خاب أمل البدوي فى المصريين والصوفية المصريين ووقفت ضده ظروف لا طاقة له بها ولا يد له فيها فاسترسل فى دعواه الصوفية إلى نهايتها خوفاً على حياته من خصم لا يرحم .
                        وبالتصوف استفاد وأتباعه من بعده إذ تعود المصريون الحج إلى طنطا فى (مولد) البدوي ، وبالتصوف ازدادت شهرة طنطا فى عهد الأشرف شعبان المملوكي فأصبحت قصبة محافظة الغربية ، أى عادت لمكانتها القديمة التى كانت عليها فى الدولة الفاطمية .. وما لم يستطعه البدوي لطنطا بالسياسة وصلت إليه طنطا بضريحه وبالتصوف . وتقديس البدوى وشهرة مولده وانتشار طريقته فى مصر وخارجها آثار لدعوته السياسية المستترة بالتصوف . ولكنها ليست الآثار الوحيدة ، فالمنتظر من دعوة سياسية سرية كدعوة البدوي أن تكون لها ذيول سياسية أيضاً .
                        التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:13 PM.

                        تعليق


                        • #13
                          رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

                          (ب) الآثار السياسية لدعوة البدوي :
                          أبو العباس الملثم
                          لم يكن لدعوة سرية منتظمة منتشرة كدعوة البدوي أن تنتهى إلى لا شىء، وإذا كان الصوفية المصريون قد قنعوا بالتصوف وهو الهدف المعلن فإن بعض الأتباع ظلوا على ولائهم للهدف السياسى وكان أبرزهم أبو العباس الملثم مبعوث المدرسة العراقية ، ذلك الرجل ( الملثم ) الغامض المختلف فى عمره وفى مكان موته ( هل فى قوص أو فى القاهرة ) ووقت وفاته ( هل سنة 672 أو سنة 740 )، ولقد كان ذلك الغموض مقصودا فالراوى عن أبى العباس الملثم هو تلميذه المخلص عبد الغفار بن نوح ، يقول الأدفوي عنه ( قال : صحبته وانتفعت به ، ويحكى عنه عجائب ويذكر عنه غرائب [9]).
                          يذكر ابن حجر فى ترجمة أبى العباس الملثم أنه ادعى المهدية وأن الله شافهه بالوحى وأمره بانذار الناس ودعوتهم إلى الله ( فاشتهر أمره فأخذ وحبس ) ثم ( قيل للسلطان فأفرج عنه ) ثم ثار سنة 699 فأمسكوه وحبسوه واتفقوا على شنقه فأرسل إليه القاضى تقى الدين ابن دقيق العيد فأوعز إليه ( أن يظهر التجانن ففعل فأثبت القاضى أنه مجنون وحكم بذلك [10]) ونجا بفضل ابن دقيق العيد ، ومعلوم موقف ابن دقيق العيد السابق من البدوي حين أرسل إليه ليختبره فاقتنع بسلامة موقفه، أو أظهر أنه مقتنع وإن لم يقتنع الظاهر بيبرس ، ثم كان موقفه من أبى العباس الملثم تصعيداً فى تأييده للدعوة الشيعية المستترة .
                          وما كان لابن دقيق أن يخدع بسهولة فله جولات سابقة فى حرب الشيعة بالصعيد ، ولكنه مال للتصوف فى أخريات عمره ووقع فى براثن أصحابه من المتصوفة الشيعة ، وإلا فبما نفسر موقفه من ادعاء الملثم للمهدية والمهدية مرتبطة بالتشيع والثورة الشيعية فى كل عصر . وأبو العباس الملثم كان مصراً على دعواه فثار من أجلها مرتين ، وأنقذ فى المرتين بتدخل ذوى الشأن .
                          ومع أن أبا العباس الملثم صعد إلى قمة الأحداث والشهرة فى حركته تلك فإن الغموض وجد سبيلاً إلى تاريخه حين بان وظهر كقول ابن حجر عنه ( ثم قيل للسلطان فأخرج منه ) فنحن لم نعرف من تدخل ليطلق سراحه فى المرة الأولى .
                          والمؤرخون الآخرون سجلوا حركة الملثم فى حوادث سنة 701 وإن لم يذكروه بالاسم ، يقول المقريزي ( ظهر بالقاهرة رجل ادعى أنه المهدى فعزر ثم خلى عنه [11]) ويقول العيني ( ظهر بالقاهرة إنسان سمى نفسه المهدي ، وادعى أنه من ذرية الحسين بن على بن أبى طالب ، وأنه ينذر بوقائع يعلم بوقوعها فاعتقل امتحاناً فلم يصح شىء من قوله ، وظهر أن به فساداً فى عقله فعزر تأديبا له ثم خلى سبيله [12]) ، والعينى والمقريزى من مؤرخى القرن التاسع ويبدو أنهما أخذا هذه الرواية عن بيبرس الداودار (ت 725) المعاصر لأبى العباس الملثم فى القرن الثامن، يقول الداودار فى تاريخه ( ظهر بالقاهرة إنسان سمى نفسه المهدي وادعى أنه من ذرية الحسين بن على وأنه ينذر بوقائع يعلم وقوعها فاعتقل امتحانا لنقله فلم يصح شىء من قوله وظهر أن به فسادا فى عقله فعزر تأديبا له ثم خلى سبيله [13]) ، أى هى نفس رواية العينى ونقلها العينى عن المؤرخ بيبرس الداودار المعاصر للملثم.
                          ولقد كان أبو العباس ( الملثم ) رفيقا للبدوى (الملثم ) فى الدعوة ، وإذا حظى أبو العباس ببعض الذكر فى المصادر التاريخية مشوبا بكثير من الغموض والخلط فإن رفيقه البدوى الملثم حرم من التاريخ له جملة وتفصيلا فى القرنين السابع والثامن.
                          وهناك أكثر من صلة تربطهما غير اللثام والقدوم من المغرب والتتلمذ للمدرسة الرفاعية والغموض ...إلخ .
                          من هذه الصلة ادعاء المهدية .. فالظاهر أن البدوي كان يدعى المهدية أيضا وكان يعامل أتباعه السريين على هذا الأساس ، وليس لدينا من دليل فى الواقع إلا ما ألمحت إليه كتب المناقب فيما بعد بعدة قرون ، فيقال أن البدوي حين قدم به أبوه من المغرب إلى الحجاز تلقاه سلطان مكة- وكان البدوى صغيرا فقال لأبيه ( اين الشريف أحمد الملثم فقال له والدى على ابن ابراهيم لم يكن عندنا أحد إسمه أحمد غير ولدي أحمد فقال لنا: اجمعوا بينى وبينه فإن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفه لى وأراني صفته وحليته فى المنام وقال لى يخرج من المغرب وهو ابن سبع سنين ويدخل مكة وهو ابن أحدى عشرة سنة وأشار إلى أن أسير إليكم وأجتمع بكم وأسلم عليكم وعلى الشريف أحمد الملثم وأسلم عليه وأتبرك به وقال لى : أنه سيظهر له حال وأى حال ويربى المريدين ويجىء منهم رجال وأى رجالآ [14]).
                          وادعاء المهدية هو نفس مقولة ( الفاطمى المنتظر) للمدرسة المغربية. وعلى ذلك فإذا فشلت دعوة البدوي السرية فى المهدية فأن رفيقه أبا العباس الملثم جاهر بها بعد موت البدوي وأصر عليها ثم أذعن لمصيره ورضى بإعلان الجنون . والجنون كان سترا للبدوى حين كان يصيح فوق السطح .. وابن دقيق العيد شاهد على جنون ( الملثم أبا العباس ) وشاهد أيضا على جذبة ( البدوي الملثم ) تارك الصلاة. إلا أن أبا العباس يتميز بطابع الثورية والمبادرة أكثر من البدوي فقد جاهر بدعوته فى ظل دولة قوية وطيدة الأركان ولم يجرؤ البدوي إلا على التستر بالتصوف والاسترسال فيه حرصا على حياته، بل إن أبا العباس قد أعذر من نفسه فأعاد مقالته ، وهنا لم ينجه من الموت شنقاً إلا ابن دقيق العيد وادعاء الجنون .
                          عبد الغفار بن نوح
                          وهذه الثورية المشتعلة فى نفس أبى العباس والتى جعلته يتنقل بين الصعيد والقاهرة فى حركة مستمرة انتقلت منه إلى تلميذه وصفيّه وحوارييه عبد الغفار ابن نوح فأثرت فى مجرى حياته وجعلته نسيج وحده ومختلفاً عن رفاقه من المتصوفة المصريين محبى السلبية والسكون والموائد والولائم وملء البطون .
                          وهو عبد الغفار ابن نوح ( الأقصرائي ثم القوصي ) أى ( الأقصري المولد القوصي الدار صحب أبا العباس الملثم وسمع الحديث بالقاهرة وحدث بقوص وسمع بمكة ) و( كانآ مستقره فى قوص مع شيخه أبى العباس الملثم[15].).
                          أى ولد عبد الغفار فى الأقصر حيث مدرسة أبى الحجاج الأقصري ومنها انتقل إلى قوص فاستقر بها مع أبى العباس الملثم ومن قوص تنقل بين القاهرة ومكة ولهما مكانة فى الدعوة الشيعية السرية .
                          وتأثر عبد الغفار بشيخه الملثم وتشرب مبادئه وثوريته ، وقد شهد شيخه فى أرذل العمر يجهر بدعوته ويتعرض للنكال فى عهد سلطنة الصبي محمد الناصر بن قلاوون الثانية ، ومرت الأيام وتتقلب الأمور بالسلطان الصغير ابن قلاوون بسبب تحكم أمراء أبيه فيه حتى عاد فى نهاية الأمر ليتولى بنفسه الحكم منفرداً أو مستبداً فى السلطنة الثالثة (709- 741).
                          وقد شهدت هذه الفترة علو شأن الصوفية فقد أقام لهم الناصر محمد خانقاه سرياقوس سنة 725 وضحى فى سبيلهم بصديقه السابق ابن تيمية فاعتقله سنة 726 بعد أن وقف ابن تيمية إلى جانب محمد بن قلاوون فى محنته حين كان مقهوراً يتحكم فيه بيبرس الجاشنكير مغتصب السلطنة منه ، ورفض ابن تيمية وهو فى سجن بيبرس الجاشنكير ـ مغتصب الحكم من الناصر محمد بن قلاوون ـ أن يعترف بصحة تولى الجاشنكير السلطنة ، وفضل الوقوف مع الحق الضائع وصاحبه ( محمد الناصربن قلاوون) المغلوب بينما كان الصوفية يظاهرون الجاشنكير ، ثم تخلوا عنه حين تخلت عنه الدنيا وأسرعوا بتأييد ( الناصر محمد ) حين تسلطن .وجاء الناصر محمدآ ينشد الاستبداد فبدأ يتصاعد النفور بينه وبين صديقه ابن تيمية ، ووجد من الصوفية استعداداً لتأييده فكانت محنة ابن تيمية الأخيرة ، وفيها كانت وفاته معتقلاً . وتم بذلك انتقام الصوفية الأحمدية والرفاعية منه منذ بدأ حركته باضطهادهم بالشام قبلا.
                          وفى ( شهور العسل ) هذه بين الناصر محمد بن قلاوون والصوفية قام عبد الغفار بن نوح باستغلال أدوات الدعوة السرية وأتباعها الموزعين فى المدن المصرية وقام بإحراق الكنائس المصرية فى الصعيد والقاهرة والدلتا والأسكندرية فى وقت واحد سنة 721 . وقد تعرضت المصادر التاريخية لهذا الحديث الفريد وذيوله بين تفصيل وإيجاز .. فالنويري تعرض لها بتفصيل وتابعه العيني فى عقد الجمان ناقلا عن النويري الذى عاصر الحدث .. أما بيبرس الداودار وهو معاصر كالنويري فقد أشار للموضوع بايجاز وتابعه المقريزي فى السلوك .. والأدفويآ مع معاصرته إلا أنه حصر الحديث عما حدث فى الصعيد فى ترجمته لعبد الغفار باعتباره مهتما بالصعيد ورجاله فى كتابه ( الطالع السعيد فى أخبار نجباء الصعيد ) والشعراني أشار للحادث فى كتابه لطائف المنن .
                          وبدأت القصة والسلطان الناصر محمد بن قلاوون يصلى فى جامع القلعة وحين فرغ الناس من الصلاة فإذا برجل مجذوب يصيح بهدم كنيسة القلعة ، فتعجب السلطان والناس من أمره ، ثم ذهبوا للكنيسة للاستطلاع فوجدوها قد هدمت ، وحدث نفس الشىء بعد صلاة الجمعة فى الجامع الأزهر ، حين خرج الناس من الأزهر وجدوا الكنائس القريبة قد دمرت ، وفى يوم الأحد التالي ورد من والى الإسكندرية ما يفيد أنه قد هدمت أربع كنائس فى وقت الصلاة يوم الجمعة وفى نفس الوقت هدمت كنيستان فى دمنهور ، وست كنائس فى قوص بقيادة الشيخ عبد الغفار وأعوانه ( ولما وقف السلطان على ذلك انزعج وتواترت الأخبار بعد ذلك من المسافرين من الوجه البحري والوجه القبلي أنه هدمت كنائس كثيرة من البلاد التى لا يؤبه لها وكان هدم الجميع فى وقت واحد فخشى أن يفسد عليه أمر مملكته فقال له الأمراء : يا مولانا السلطان هذا ليس من العامة ولا من الناس المعتبرين وإنما هو إرادة الله تعالى وأجراه على يد بعض خلقه ، وإلا كيف يقع هذا فى وقت واحد وساعة واحدة ، وقال القاضى فخر الدين : يا خوند أنت تريد تعارض فعل الله؟ والله إذا أراد أمراً فلا معاند له فى حكمه!! وأنت مع حرمتك العظيمة لو رسمت بهدم كنيسة فى دمياط وأخرى فى الاسكندرية لما وقع ذلك فى ساعة بعينها )[16].
                          واعتقل الشيخ عبد الغفار وحمل للقاهرة ثم أفرج عنه بعد قليلآ [17].

                          وقد ذكر العيني أسماء الكنائس التى دمرت فبلغت نحو ستين كنيسة أحرقت كلها فى وقت واحد حين الانشغال بصلاة الجمعة . و(السيناريو) واحد فى كل بلد .. يقوم مجذوب يصيح مضطربا داعيا لهدم الكنائس ويختفى فيتعجب الناس وحين يخرجون من المسجد تطالعهم الكنائس المهدمة ودخان الحريق فيها .. ولغرابة الأمر فقد اعتقد السلطان ومستشاروه أن تلك إرادة الله، فالسلطان نفسه لو أراد أن يحرق كنيستين فى وقت واحد فى الاسكندرية ودمياط ما استطاع .
                          وما كان للشيخ عبد الغفار وحده أن تمتد يده بإحراق الكنائس المصرية كلها فى وقت محدد ، وما كان بطاقة مجموعة من الناس أن يفعلوا ذلك بالدقة التى نفذ بها وبالتخطيط الذى تم ، إن الأمر أبعد من ذلك ، إن هدم بناء ضخم يستلزم عصبة من الرجال تكتم الأمر وتعد له وتنفذه فى الوقت المحدد، وإذا تصورنا أننا أمام ستين مبنى قد دمروا فى نفس الوقت لوقفنا على التنظيم والدقة والتخطيط الذى صاحب هذه العملية الفريدة من نوعها فى التاريخ المصرى والذى جعل مصر كلها له مسرحاً .
                          لقد استغل عبد الغفار بن نوح الدعاة السريين للدعوة الشيعية الصوفية وهم موزعون فى كل مدينة والاتصال بينهم مستمر ومتجدد وقد بقوا بلا عمل بعد موت البدوى ، وإذ عجز أولئك عن مواجهة القوة الحربية المملوكية فى أرض المعركة فهم أقدر على إحراق مصر كلها بمؤامرة تنفذ فى الخفاء لإفساد الأمر على صاحب السلطة ، وهذا ما توجسه الناصر محمد لولا أن مستشاريه استبعدوا ذلك وأقنعوه أن الأمر قضاء وقدر ..
                          إلا أن المسيحيين لم يقتنعوا فقاموا باشعال الحريق فى القاهرة ( ولا يكاد يفرغ الناس من حريق حتى يفاجأوا بحريق آخر) وكانوا يعزون السبب إلى أنه إرادة الله إلا أنهم فوجئوا بفتيلة كبيرة ملوثة بالنفط فبحثوا عن الفاعل واعتقلوه وكانوا أربعة من الرهبان متلبسين ، وشرع الناس فى أذى النصارى وكادت تقوم فتنة فأمر الناصر محمد باعتقال المتظاهرين من الحرافيش والعامة فاعتقل جماعة كيفما اتفق وصلبوهم ، ولكن الحريق لم ينقطع وقبض على ثلاثة من النصارى واعترفوا ، فقامت مظاهرة ضخمة من العامة واجهوا السلطان دون خوف وصاحوا فيه بالانتصار للإسلام بزعمهم- فخشع لهم السلطان ( وحصل له بهته فتوجس خاطره فأنه رأى هذا العمل منهم بعد أن عمل فيهم من الصلب والقطع أى قطع الأيدى وبقى متعكراً إلى أن وصل الميدان وجلس وهو يسمع ضجيج هؤلاء .. فطلب الحاجب وأمره أن ينادي من وجد نصرانياً فيكون دمه وماله حلالاً للسلطان ، فلما نادى الحاجب فيهم بذلك طابت خواطرهم وصاحوا نصرك الله ودعوا له ).. ثم تدارك السلطان الأمر وخففه إلى تعزير النصارى وتنكيلهم دون القتل [18].
                          وانعكس ما حصل للنصارى على صعيد العلاقات الخارجية مع الحبشة وعلاقة الحبشة بالامارات الإسلامية المجاورة لها . ذلك أن ملك الحبشة كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين لأنه يتبع الكنيسة المصرية مذهباً وكانت مصر ترسل له بطريركاً مصرياً للإشراف على الكنيسة الحبشية[19]. وعندما علم ملك الحبشة (عمد صهيون ) بما حدث للكنائس المصرية والمسيحيين بعث للناصر محمد باحتجاج شديد اللهجة يهدد فيه باجراءات مماثلة ضد مسلمي الحبشة وتحويل مجرى النيل ليجيع مصر ، غير أن الناصر لم يعبأ بهذا الاحتجاج وطرد السفارة الحبشية ، فبدأ ( عمد صهيون) الحرب ضد الإمارات الإسلامية بالحبشة وتابع إبنه بعده ( سيف أرعد ) أعماله العدوانية ضد التجار المصريين واعتراض طريق القوافل بين القاهرة وشرق أفريقيا [20].
                          وهكذا كان لمؤامرة الشيخ عبد الغفار آثارها المدمرة داخلياً وخارجياً فقد كادت مصر أن تصرعها الحرب الأهلية وكاد الحريق أن يأتى على القاهرة واكتسبت السلطنة المملوكية عداء الحبشة ودفعت الإمارات الإسلامية فى زيلع وبربرة والصومال ثمن المؤامرة التى نفذها الشيعة الصوفية فى مصر ..
                          لقد أعلن عبد الغفار السبب فى حركته تلك فقال( كثر فسادهم وزاد طغيانهم فنودي بالانتقام منهم [21]). وقد يكون السبب فى كراهيته للنصارى مناصرة السلطات المملوكية فى قوص وأسيوط للنصارى ضد المسلمين ، وذلك ما اعترف به فى كتابه ( الوحيد ) ، ونقله عنه الشعرانى [22].
                          ولكننا نقول أن المقصود بهذه المؤامرة الشاملة إحداث قلاقل داخلية وخارجية للانتقام من الدولة المملوكية التى وطدت سلطانها على حساب الدعوة الشيعية ودعاتها المنتشرين فى كل مكان ، وإذ عجز أولئك عن المواجهة الصريحة فقد ارتأوا أن يصيبوا الدولة فى مقتل عن طريق التآمر بليل وهم لا يستطيعون سوى ذلك .. وقد أفلحوا فى مسعاهم فلم يلق عبد الغفار إلا قليلاً من الاعتقال ثم أفرج عنه فاعتكف فى جامع عمرو حتى مات . وأحرز شهرة بعد موته حتى يبعث ثيابه التى مات فيها للتبرك وفرقت على الزوايا الصوفية [23].
                          لقد انتقم عبد الغفار لشيخه أبى العباس الملثم ، وانتقم الجميع للبدوي الذى زرع البلاد بأعوانه حتى إذا قرب تحقيق الأمل جاء الظاهر بيبرس فحجر عليه ومنعه من جنى الثمار ، ودفعت مصر الثمن قتلاً وإحراقاً ، ولم تكن مصر فى يوم من الأيام بلدا للتعصب الديني ولكن ربما كانت البلد الوحيد الذى نفذت فيه مؤامرة شاملة بهذا الاقتدار والتخطيط ضد طائفة لا ذنب لها إلا لمجرد غرض سياسي وتصفية حسابات قديمة مع السلطة .
                          إن حركة عبد الغفار وقبله خضر العدوي أمر لا يقره الإسلام .. ولكن من قال أن عقيدة الصوفية تتفق مع الاسلام ؟؟ إن عقيدتهم المخالفة للإسلام والتى نشروها مع الأسف فى مصر “ تمثلت فى عبادة البدوي وذلك ما سنتعرض له فى الفصل الثانى .
                          هذا .. ولقد كان لسياسة الناصر محمد فى تقريب الصوفية أن تشجع الشيعة المتسترون بالتصوف وادعوا المهدية ، كما حدث من المهدي النصيرى الذى ظهر بالشام سنة 717 ، وبعده بست سنوات اعتلى أحد المماليك منبر جامع الحاكم الفاطمي وادعى أنه المهدى وسجع سجعات يسيره على طريقة الكهان ( فأنزل فى شّر خيبة[24]) . ولم تكن تلك الحركات سوى قفزات فردية لا تعبر عن تخطيط جماعى كما شهدنا فى دعوة البدوى فى القرن السابع.
                          ولم تكن دعوة البدوي هى الأخيرة ، فقد كانت للشيعة الصوفية وحلفائهم الأعراب حركة إبان ظهور تيمور لنك ولكنها لم توفّق . ثم نجح الشيعة الصوفية فى إيران فى تشييد أول دولة على أساس التصوف الشيعى هى دولة الصوفيين أو الصفويين.
                          (جـ) الحركات الشيعية الصوفية بعد البدوي:
                          أفلحت حركة البدوي فى استغلال التصوف والاستكثار من الأتباع وتنظيمهم .. إلا أنها أخطأت فى التركيز على مصر والاعتماد على المصريين كأساس للتحرك الشيعي الصوفي ، ثم إن الظروف تغيرت بسقوط دولة ضعيفة هى الدولة الأيوبية وقيام دولة فتية هى دولة المماليك البحرية .
                          وفى نهاية القرن الثامن شهدت مصر اضطراباً سياسياً حيث تحكم المماليك الجراكسة فى أبناء الناصر محمد بن قلاوون وأحفاده ، وصراع الجراكسة فيما بينهم على التحكم فى السلطان القلاووني الصغير وحكم مصر من خلاله.وقد انتهت هذه الفترة بتكوين السلطان برقوق للدولة المملوكية البرجية منذ بداية القرن التاسع .
                          وفى هذه الآونة كان تيمورلنك يؤسس مملكته فى الشرق ويتجه بأطماعه نحو الغرب والدولة المملوكية .ووجد الشيعة الصوفية فى المغول وزعيمهم الجديد تيمور الفرصة فى استعادة ملكهم الزائل والانتقام من الدولة المملوكية التى قضت على أحلامهم فى القرن السابع . وكانت لتيمور اهتمامات شيعية وحدب على الأشراف . وبدت فى المشرق تحركات غامضة بين أعوان تيمور من الشيعة فى خراسان واليمن ، مما دفع بالدولة المملوكية رغم متاعبها الداخلية إلى مراقبة الأشراف وتمييزهم بعصائب خضر على العمائم سنة 773[25].
                          ثم وقع على كاهل السلطان برقوق عبء المواجهة مع الحركة الصوفية الشيعية الجديدة ، وكان برقوق كفؤا للمواجهة فقد استغل بنفسه التصوف فى تنصيب نفسه سلطاناً وهو أدرى باستغلال التصوف ولن يسمح لأحد بأن ينتصر عليه فى هذا المجال . ولم يكد السلطان برقوق يهدأ فى مقعد السلطنة حتى واجه خطر تيمورلنك سنة 796، وبينما كان يستعد للتحرك للقائه ذلك اللقاء الذى لم يتم إذ علم بمؤامرة ضده يقوم بها الشريف العنابي المتواطىء مع تيمورلنك. وكانت خطة العنابي تتلخص فى الاستيلاء على السلطة مع أتباعه من أعراب (العائد) حين يخرج برقوق بجنده لمقابلة تيمور لنك فى الشام ويكمل تيمور لنك الإجهاز على برقوق وجنده ، وحظى الشريف العنابي بتأييد بعض المماليك ، وفشلت الخطة لأن موسى العائدي شيخ العرب العائدية أفشى بالسر إلى برقوق الذى أسرع بقتل الشريف العنابي وأعوانه[26]واشتد فى معاملة الأشراف عموما [27].
                          ومهما يكن من أمر فإن أحلام الصوفية الشيعة لم تتحقق مع تيمور إذ انهارت دولته بعد موته بأسرع مما يتوقعون ، كما أنه فى حياته لم ينشغل إلا بالفتوح والحروب والدماء ولم يكن فى وقته أو طموحه متسع لتحقيق أهداف الشيعة .
                          وبعد تيمور اقتنع الشيعة المتصوفة اللاحقون بضرورة الاعتماد على النفس وتكوين الأتباع حربياً وصوفياً فى نفس الوقت.وتم ذلك فى فارس حيث قامت دولة الصفويين فى أوائل القرن العاشر الهجري .
                          وإسماعيل الصفوي رأس هذه الدولة تسميه المراجع التاريخية باسم ( الصوفي ) ، وهو ( صفوي ) بالنسبة لبيته أى ( صفى الدين الاردبيلي ) جده الأكبر .. وهو ( صوفي ) نسبة إلى مذهبه ( التصوف الشيعي ) الذى قام به جده صدر الدين من مزج التصوف بالتشيع والانشغال بالسياسة والاصهار إلى حسن أوزون صاحب ديار بكر .. إلى أن جاء حفيده ( اسماعيل ) وقد كثر أتباعه من ( القزل باش ) وبهم استطاع أن يمد ملكه فاستولى ( على ساير ملوك العجم وخرسان واذربيجان وتبريز وبغداد وعراق العجم وقهر ملوكهم وقتل عساكرهمآ بحيث قتل ما يزيد على ألف ألف وكان عسكره يسجدون له [28]) .
                          وحين اتجه اسماعيل الصوفى ( الصفوى ) بفتوحه ناحية الغرب كان لا بد أن يصطدم بالقوتين الإسلاميتين السنيتين ( الدولة العثمانية فى آسيا الصغرى والدولة المملوكية فى الشام ومصر ) والحدود متقاربة بين الأطراف الثلاثة . وبدأ اسماعيل الصوفي تحرشاته بالمماليك والعثمانيين فى وقت واحد مما أدى بالعثمانيين والمماليك للتعاون بينهما ضده .. وخشى اسماعيل مغبة هذا التعاون فعمل على أن يستميل إحدى القوتين إليه ليضرب بها الأخرى ، ولأنه كان مستحيلاً بالنسبة إليه أن يستميل السلطان سليم العثماني الذى تولى السلطنة بعد عزل أبيه لتهاونه ضد اسماعيل الصوفي فقد ركز اسماعيل على استمالة الغوري ، وتم له ذلك عن طريق داعية صوفي شيعي تسلل إلى حاشية الغوري واصبح من أخص ندمائه وسيطر على عقله وجعله فى النهاية يخرج بجيشه بحجة الصلح بين اسماعيل الصوفي وسليم العثماني ليمنع الحرب بينهما ثم يتورط فى حرب مع سليم العثماني ويخسر الحرب وحياته وجيشه ووتنهار الدولة المملوكية أمام العثمانيين بدون قصد من العثمانيين وبدون نية حقيقية من السلطان العثماني للقضاء على الدولة المملوكية السنية .
                          والمتتبع لتاريخ ابن أباس يلاحظ الهلع الذى كان يصيب الغوري والقاهرة من تحركات الشاه اسماعيل الصوفي ضد حلب على الحدود المصرية المملوكية [29].
                          وفى هذه الأثناء كانت الشيعة تتحرك بمصر بتوقيت متناغم مع الخطر الخارجي الذى يمثله اسماعيل الصوفي . وأثار فزع الغورى تحالف العربان ضده وميل الأشراف للثورة حتى لقد ثار بالصعيد صوفي شيعي وادعى المهدية وضربت عنقه ، وعقد الغورى مجلسا للبحث فيمن انتحل النسب الشريف مخافة أن يكون بينهم جاسوس لاسماعيل الصوفي[30].
                          ثم تغير الوضع بمجىء المبعوث السري الذى لعب بالغورى وقضى عليه ، يقول ابن اياس ( حضر إلى الأبواب الشريفة " بقصد مكان السلطان" الشريف العجمي الشنقجي نديم السلطان الذى كان توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب ( للاستعانة بها فى حرب العثمانيين ) وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير ما مرة ، فظهر أن السلطان كان أرسله إلى شاه اسماعيل الصوفى فى الخفية فى خبر سر للسلطان بينه وبين الصوفي كما أشيع بين الناس ذلك .. فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخرة خرج السلطان قاصدا نحو البلاد الشامية والحلبية[31]) أى نحو حتفه فى مرج دابق ، ويقول الغزي ( قبل معركة مرج دابق قرب الغورى إليه أعجمياً كان ينسج المودة فى الباطن بينه وبين اسماعيل حتى أخرجه من مصر لقتال سليم بحجة الاصلاح بينه وبين الصوفي [32]) وبهذا تم الانتقام من الدولة المملوكية.
                          ولم يكن اسماعيل الصوفي يتوقع أن تنهار الدولة المملوكية بهذه السرعة أمام خصمه سليم العثماني لذا فسرعان ما استغل الشيعة المحليين فى الكيد للعثمانيين فى مصر والشام كما فعل ابن حنش وابن حرفوش وغيرهما من أمراء الشام ثم جرب حظه مع الأمير المملوكى جان بردى الغزالى نائب الشام من قبل العثمانيين ، وأفشل العثمانيون تلك الحركات كلها .
                          وأخيرا لجأ اسماعيل الصوفى إلى طريقته المفضلة وهى استمالة الحاكم عن طريق مبعوث صوفى شيعى سرى .. وتم ذلك عن طريق الشيخ ظهير الدين الأردبيلى وكان من الدعاة السريين للشاه إسماعيل ولكنه استطاع ان يخدع سليم العثمانى فاصطحبه معه إلى تركيا ولكن سرعان ما عمل الأردبيلى لصالح عقيدته الشيعية فرجع إلى مصر مع أحمد باشا والى مصر وهو مملوك السلطان سليم ، وما زال الاردبيلى بأحمد باشا حتى تحول إلى مذهب التشيع وقام بثورة على العثمانيين وكان نصيبه القتل[33].


                          ">[4]) الحلبى . النصيحة العلوية مخطوط 23 ب مكتبة الأزهر
                          [5]السلوك 1386
                          [6]آ السلوك 1387 ، 388
                          [7]السلوك 1- 380 ، النجوم الزهراة 7-9
                          [8]آ لطائف المنن للشعرانى 233 ، 236 ، 277 ، 278 ط 1288[8]
                          [9]الطالع السعيد 131
                          [10]الدرر الكامنة 1-197 : 198
                          [11]) السلوك 196
                          [12]عقد الجمان مخطوط مصور 266
                          [13]بدة الفكرة مخطوط مصور 408 ب
                          [14]عبد الصمد ، الجواهر 17 .
                          [15]الطالع السعيد 323 ، 324 ، وحسن المحاضرة 1521
                          [16]) النويرى : نهاية الأرب 31 3: 4 . مخطوط ، عقد الجمان للعينى حوادث 721 ورقة 273 : 277
                          [17]) بيبرس الداودار ، زبدة الفكرة مخطوط 9474 ، 475 السلوك 2 50
                          [18]نهاية الأرب نفس المرجع 31 8آ وعقد الجمانآ 278 : 296
                          [19]) ابن حجر أبناء الغمر مخطوط حوادث 841 ورقة 3008
                          [20]طرخان : المجلة التاريخية 8 52 ، 56 سنة 1959[20]

                          [21]العينى : عقد الجمعان 277: 278.
                          [22]لطائف المنن 459 ط 1288
                          [23]السلوك 250 .
                          [24]) تاريخ ابن كثير 14 83 ، 144
                          [25]النجوم 11 120 ، السلوك 3 199
                          [26]إنباء الغمر 1 470آ ، نزهة النفوس 1 387.
                          آ
                          [27]إنباء الغمر 2 366 : 367 : 502 : 503 ، الضوء اللامع 3 122 : 123
                          [28]) أخبار القرن العاشر . مخطوط 41 ، تاريخ القدس ، مخطوط 67
                          [29]) تاريخ ابن أياسآ 4 39 ، 118 : 123 ، 191 ، 205
                          آ
                          [30]) تاريخ ابن اياس 4 219 : 221 ، 257 ، 260 ، 265 ، 271 ، 87 ، وتاريخ ابن طولون 1302
                          [31]تاريخ ابن اياس 5 35 ، 38
                          [32]) الكواكب السائرة 1297
                          [33]الغزى : الكواكب السائرة 1/216 ، 159 .
                          [34]مصطفى زيادة : المجلة التاريخية 4/1/215 .
                          [35]الرسالة القشيرية 218.
                          [36]رسائل بن عربى (كتاب التراجم 31) ط حيدر أباد 1948
                          [37]عبدالصمد الجواهر 82
                          [38]يقول عن الشيخ عبدالمجيد الأحمدى والذى كان شيخا سنة 965( ولم تزل أخوته يخاصمونه ويشكونه للحكام ومع ذلك يصبر على أذاهم ) وقد أدى تنافس الأشياخ الأحمدية إلى مقتل الشيخ عبد الكريم الأحمدى سنة 682 ., راجع الجواهر لعبدالصمد 35, 36 .
                          [39]يقول الشعرانى فى ذلك ( ثم قصد طنتدا فدخل على الحال مسرعا دار شخص من مشايخ البلد اسمه ابن شحيط فصعد إلى سطح غرفته 1/ 159 )
                          [40]كان شيخا لأبى مدين الغوث زعيم المدرسة المغربية .
                          [41]سبق أن أشرنا إلى أنا الفاطميين ابتكروا الطرق الصوفية كما حدث من ابن مرزوق القرشى .
                          [42]الجواهر 4
                          التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:13 PM.

                          تعليق


                          • #14
                            رد: الحركة الشيعية السرية فى القرنين السادس والسابع

                            تلخيص

                            تلك لمحات سريعة عن الحركات الشيعية الصوفية وموقفها من الدولة المملوكية فى مصر ، ورأينا أنها أفلحت فى نهاية الأمر فى إقامة دولة شيعية صوفية فى إيران بقيادة الشاه اسماعيل الصوفي (الصفوي ) وعلى يده كان انهيار الدولة المملوكية فى مصر عن طريق مبعوثه السرى الشريف العجمى الشنقجى الذى تسلط على عقل الغوري وانتزعه من التحالف مع العثمانيين رفاقه فى المذهب السني ، وجعله يتحالف مع الشاه اسماعيل الصوفي ويخرج بنفسه لحتفه ، ووقف الشاه اسماعيل يتفرج على قوة سنية فتية تجهز على رفيقة لها هرمة دون أن يحرك ساكنا ..لقد كان سليم العثمانى فى طريقه لمحاربة اسماعيل الصوفي فوضع اسماعيل فى طريقه الغوري فقامت بينهما الحرب بحمق الغوري ودهاء الشنقجي المبعوث السري الذى عقد معه اتفاقا سريا أخرج الغوري من ومع أن المؤرخين لم يسجلوا ما يقطع بوجود هذه الحركة السرية فإن كتاباتهم تشى بكثير من التحرك السرى للشيعة يؤيده الكثير من اللمحات فى كتب المناقب والطبقات الصوفية التى تبرز الدوافع والتحركات السياسية فى إطار من الكرامات الموحية والتى تعبر عن أحلام يقظة لم يقدر لها أن تتحقق إلا فى عالم التمنى ودنيا الباطن وادعاء الكرامات الزائفة .
                            ومهمة الباحث التاريخي فى عصرنا ألا يقتصر عما كتبه المؤرخون السابقون ممن عاصروا الحدث وكتبوا عن إقامة الدول التى نجحت فعلا , فالسابقون لم يتركوا لنا إلا القليل .. إن التحدى الحقيقى يكمن فى أن يحاول باحث التاريخ اليوم تتبع الحركات السرية التى لم تتم , يجمع لها الأدلة وينفذ بفكره ألى ما تحت الظاهر من الأحداث والأخبار , ويلقى بالأنوار الكاشفة من التاريخ السياسى المعاصر للحركة السرية لكى يعلل ما خفى منها من أحداث , ولا يأخذ ما تعارف عليه الناس كقضية مسلمة طالما لا تجد لها سنداً من التاريخ أو العقل أو الدين .. وهذا ما حاولت أن أفعله فى رصد حركة البدوي وأرجو أن أكون قد وفقنى الله تعالى فيه ..
                            قد ينكر الكثيرون القضية بأكملها .. قضية أن يكون البدوي والرفاعي أصحاب طموح سياسى ودعوة سرية لقلب نظام الحكم فى المنطقة , ولكننا نؤكد أن عناصر التآمر واضحة جلية فى سيرة أولئك الصوفية إلى درجة تجعلهم مختلفين عن الصوفية العاديين ممن تخففوا من الطموح السياسى والحركة السياسية السرية .
                            (د) ونلخص عناصر التآمر لهذه الحركة السرية فيما يلى :
                            أولا:
                            كونهم يدا واحدة دون بادرة اختلاف وشقاق , والصوفية شأنهم التفرق والاختلاف إذ كانت حياتهم فى التصوف وحده .. يقول رويم الصوفى ت303 ( ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم[35] ) . واختلاف الصوفية يظهر فى اختلافاتهم المستمرة فى تعريف التصوف والزهد ومقامات التصوف واشتقاقاته وعقائده التفصيلية , وحين تحول التصوف من النظريات إلى التطبيق العملى وتكوين الطرق الصوفية انتشر الخلاف بين أرباب الطرق الصوفية وانحدر إلى تنافس حول الأتباع والموائد والولائم والرغيف والدرهم والدينار .
                            أما اصجابنا ممن تستر بالتصوف فقط فلم يعرفوا هذا الشقاق . وابن عربي مثلا وهو من أساطين الدعوة والتصوف النظري الفلسفى يقول فى صراحة ( العصى والقضبان إذا تفرقت تكسرت وإذا جمعت لم تقووا على كسرها فاجتمعوا ولا تتفرقوا )[36]. وحين بدأت الدعوة حقق أولئك تعاليم ابن عربي فكانوا يداً واحدة على من عداهم من الصوفية الآخرين , فالبدوى يكن الود لمعاصره الدسوقي ويستقبل البلقيني والبلتاجي فى نفس الوقت الذى يطرد فيه الصوفية الآخرون ويقول ( عليكم الطمس والخفاء إلى يوم القيامة ) واتباع مدرسة الواسطي يتخلون بكل بساطة عن الأسكندرية ليخلو الجو للشاذلى الذى احتل مكانة أستاذهم فيها , والدسوقى يعتبر نفسه ضمن المدرسة الشاذلية لأنه تابع طريق الشاذلي فى الدعوة , وأبو السعود بن أبى بن العشائر على صلة وثيقة بمعاصره أبى العباس البصير الوافد من المغرب فى نفس الوقت الذى نحس فيه بنفورهم من عبدالرحيم القنائي المنشق على الدعوة , والبدوى لا يستريح إلا إذا أنهى كل وجود صوفى مخالف فى طنطا وفى نفس الوقت يسمح لسالم المغربى بالبقاء لأنه زميل فى الدعوة , والدسوقى يقر بتبعيته للبدوى فيقول( وأما ولد العم سيدى أحمد البدوي فإنه الأسد الكاظم , وفى ذلك يقول :
                            قال ابن أبى المجد فضل الله علينا عم
                            كل الجماعة تبع والسيد أحمد عم)[37].
                            وبانحسار العامل السياسي وتحول الطريقة الأحمدية إلى تصوف بحت ساد التنافس والتنازع بين اشياخها وألمح إليه عبدالصمدآ [38] .

                            ثانيا
                            برغم تتابع الزمن وأختلاف المكان إلا أن التخطيط واحد بين المدرستين الرفاعية والبدوية.
                            1 ـ فالرفاعي يؤمر فى البقاء فى أم عبيدة إلى أن يموت ،والرفاعي يأمر خلفاءه بنفس الأمر، ويأمر أبا الفتح الواسطى بالاقامة فى الإسكندرية إلى أن يموت ،والبدوي يظل فى طنطا إلى أن يموت، وكلما أرسل مبعوثه إلى مكان قال له( مقامك ومماتك بها ). ثم إن السياسة واحدة لدى الرفاعي والبدوي فكلاهما ساق أتباعه بمزيد من الحزم وفى الوقت نفسه واجه المجتمع بالتصوف ( إما بالتصوف الخانع كالرفاعي أو الجنون والجذب كالبدوي )، وكلاهما أرسل بعوثا إلى الأماكن الهامة فى ناحيته وجعل من مقره مركزاً للدعوة تعلن التصوف وترسل الوفود فى الخفاء ، وكلاهما ادعى لنفسه نسباً علوياً هاشمياً وسار الأتباع على نفس الطريق ( ادعاء النسب العلوي ). وادعاء النسب العلوي عادة سيئة بدأ بها ثوار الشيعة واشتهر بها الفاطميون ثم سار على منوالهم أساطين الحركة الشيعية كالرفاعي والشاذلي والدسوقي والبدوي , وحتى لو صح هذا النسب فلن يغنى عنهم من الله شيئا .
                            2ـ ونلمح تخطيطا آخر على مستوى أعلى وأعم .. فكل الرءوس أتت من المغرب وأقامت فى مكة وتحركت منها إلى العراق ـ ثم اتجه البدوي إلى طنطا .. ومن العراق والمغرب كانت تأتى الوفود إلى مصر بشيخ ومريدين أجانب يكونون مدرسة تجمع الأتباع من بين المصريين كما فعل أبو السعود الواسطي وأبو الفتح الواسطي وأبو العباس الملثم وأبو العباس البصير وأبو الحسن الشاذلي . ثم البدوي وأتباعه خارج مصر .
                            3ـ وهناك تخطيط آخر نلمحه على نطاق ضيق فى تاريخ البدوي فى طنطا فهو سلسلة من الأحداث المرتبة المخططة لا وجود للصدفة فيها , فقد قدم لطنطا مباشرة واتجه رأساً إلى بيت ركين الدين [39] وسرعان ما أتته الوفود من العراق والحجاز واليمن والشام وكانوا من أوائل أتباعه , وبادر بالتخلص من الصوفية الآخرين فى طنطا ثم كانت بعوثه إلى داخل وخارج مصر وصلاته الغامضة بمدرسة أبى الفتح الواسطي والدسوقي , وهو مع ذلك كله مجهول فى مكان مجهول يتظاهر بالجذب والجنون , وهو حاكم بأمره فى طنطا التى أصبحت مدينة كاملة للدعوة بأتباع يتزعمهم عبدالعال وتحت أمرته مشرفون على الكنس والطبخ والبريد والماشية , وبهذ التخطيط أصبحت طنطا مركزاً للدعوة يضارع أم عبيدة فى العراق . أى أن البدوي فى رحلته لأم عبيدة لم تضع أيامه سدى أو فى صراع ووفاق مع فاطمة بنت برىآ كما تزعم كتب المناقب.
                            4ـ والأسلوب واحد بين أشياخ الدعوة فهم يغضون الطرف عن الاتهامات الخاصة بالنساء والانحراف الخلقي بل قد توحى بذلك عن عمد سيرتهم لإلهاء الخصم عن الغرض السياسى , فالرفاعي اتهم بالجمع بين الرجال والنساء وقريبا من ذلك اتهام أبى العباس الملثم ولم يحاول أحدهما الدفاع عن نفسه ,وخضر العدوي كان يتشدق علنا بفجوره ، وكتب المناقب نسجت قصة فاطمة بنت برى كغطاء على هدف البدوى من رحلته إلى العراق وأم عبيدة .
                            5 ـ والشيعة كرواد للتصوف ابتكروا الطرق الصوفية ليستطيعوا بها التغلغل فى أعماق المجتمعات . وقد بدأ عبدالقادر الجيلاني (478ـ 562 ) تكوين الطريقة القادرية , وسيرته تنضح بالطموح السياسي الشيعي
                            [40]كما يبدو من ترجمته فى الطبقات الكبرى للشعراني , ثم تابعه ابن عربي فأسس الطريقة الأكبرية , وفى القرن السابع كان إنشاء الطرق الرفاعية والأحمدية والسطوحية والبرهامية الدسوقية والشاذلية أسوة بالدولة لفاطمية[41], وفيما بعد انتشرت الطرق الصوفية حتى أصبح فى عهد الشعراني من إحدى العادات السيئة للصوفي أن يبادر بتكوين طريقة صوفية ينافس بها شيخه ويزاحم بها الآخرين .
                            والمهم أن ابتداع الطرق الصوفية لم يكن عبثا , فقد كانت الطرق ستاراً يجمع الأتباع وينشر الدعوة ويرسل الوفود وفيها تعقد الاجتماعات وتتم المراسلات .. حتى إذا خاب السعي السياسي استغلت إمكانيات الطرق الصوفية فى إعلاء مكانة الأشياخ وتقديسهم وجمع النذور ( والنقوط) ونصب الولائم .. ثم تابعهم الآخرون ، فعمت البلوى بالطرق الصوفية وفروعها العديدة فى كل شارع ، حتى كان فى عصر الشعراني بين كل طريقة صوفية وأخرى شيخ ناشئ يحاول تكوين طريقة لنفسه , وأصبح عملاً مربحاً أن تنشئ لنفسك وأبنائك طريقة صوفية تتيح لك أكبر قدر من التمتع المربح والبطالة اللذيذة ... وقد أثار أولئك حنق الشعراني فهب ساخطا عليهم فى كتبه "لطائف المنن " و" رسالة إلى مدعي الولاية فى القرن العاشر " وتنبيه المغترين " و" ردع الفقراء عن ادعاء الولاية الكبرى " ...إلخ .
                            ثالثا :
                            وبالإضافة لعناصر التآمر السابقة فهناك غموض ومعميات وتساؤلات لا توجد إجابة واضحة لها ولا تعليل مناسب إلا فى ضوء الدعوة السرية ...
                            من ذلك مثلا:ـ
                            1) لماذا ظل البدوي مجهولاً منذ وفاته فى القرن السابع إلى نهاية القرن التاسع حين بدأ التأريخ له على استحياء فيما ذكره السيوطي فى حسن المحاضرة ؟ مع أن السيوطى لم يذكره فى الوفيات فى كتابه " تاريخ الخلفاء " وحتى حين ذكر ترجمته المختصرة فى " حسن المحاضرة" كانت الترجمة الوحيدة التى لم يذكر فيها مصدراً أخذ عنه.. ثم كانت ترجمته التالية فى طبقات الشعراني فى القرن العاشر بدون مصدرً أيضاً .
                            و"البدوي" هو من أشهر الأعلام فى مصر بل ربما يكون أشهرهم على الإطلاق.. ولا تعليل للجهل به حين كان حيا يرزق فى القرن السابع إلا أنه كان داعية مستتراً , ولا تعليل لشهرته فيما بعد إلا أنه له اتباعا سريين نشروا الدعاية له فى كل أرجاء مصر وخارجها . وبهم اشتهر البدوي واشتهرت طنطا والمولد الأحمدي والطريقة الأحمدية السطوحية وبهم استمرت سيرة البدوي تراثاً شعبياً تحفظه الصدور مختلطا بالكرامات فيقول عبدالصمد (إن الناقلين لتلك الكرامات غير معلومين والمؤلفين لها غير مشهورين والحاكين للأقوال غير مذكورين)[42].
                            2 ) و...لماذا ساس الرفاعي أو البدوي أتباعهما بالحزم بينما واجه الآخرين بالتصوف والجذب ؟ إن الشأن فى الصوفي العادي أن يكون واضحاً صريحاً فهو إما " مجذوب" أمام الجميع وإما " سالك" أمام الجميع . فليس لديه شئ يخفيه , والتصوف فى ذلك العصر كان ولا يزال مرعى الجانب , والصوفى يتمتع بالحظوة لدى الناس والحكام فلا داعى حينئذ للتلون اللهم إلا إذا كانت هناك خبيئة فى النفس ودعوة سرية تخشى مواجهة الحاكم ومن لا يوثق بهم .
                            3) ويلفت النظر أن البدوي دخل طنطا فى أسوأ حال , ماشيا على قدميه متورم العينين تشيعه الصبيان لغرابة مظهره كما ورد فى ترجمته فى الطبقات الكبرى للشعراني وذلك أمر منتظر من مسافر اتى من مكان بعيد وقاسى الكثير من عناء السفر . ولكن من غير المنتظر أن يجد ذلك المسافر بيتاً يؤويه بسرعة وأتباعا يلحقون به من الشام والعراق والحجاز واليمن , ثم لا يلبث أن يصير متحكماً فى طنطا , وصاحب دور وماشية وحاشية , وذلك لا يحدث إلا فى أساطير ألف ليلة , ولسنا نجد فيها حلاً مقنعاً .. والحل المقنع يتجلى فى الدعوة السرية المخطط لها بإحكام من قبل الشيعة أساطين الدهاء والسرية .
                            4) ثم لماذ يرسل الصوفي العادى بعوثا ويلزمهم بالبقاء فى أماكنهم حتى الموت ؟ . الشأن فى الصوفي العادى أن يحاول بقدر الإمكان أن يكثر الأتباع حوله , فكلما كثر الأتباع زاد المدد وتعاظمت " النفحات" من المريدين والمحبين , أما صاحبنا الذى يصطنع التصوف ستارا فهو يزرع البلاد بأتباع دائمين ويعزز الاتصال بهم حتى إذا حانت ساعة الصفر تحركوا فى ساعة واحدة كل منهم بأتباعه فى بلدة واستولوا على السلطة .
                            5 ثم كيف نحلل إحراق الكنائس المصرية كلها ـ ما عدا واحدة هى الكنيسة المعلقة ـ فى وقت واحد فى جميع البلاد على امتداد العمران المصري من أقصى الصعيد إلى الأسكندرية ؟ ثم يلصق ذلك بأحد أتباع الدعوة ؟ ويكون واضحا أن ذلك الحدث قد خطط له بإحكام ونفذ بطريقة واحدة فى كل البلاد .. ثم يأتى الحدث بآثار مدمرة داخلياً وخارجياً لا يمكن فهمها إلا فى ضوء الانتقام من السلطات التى حالت دون تحقيق الهدف الذى كان أصحاب الدعوة المنتشرون فى كل البلاد ـ يأملون فى الوصول إليه , وقد عاشوا على أمل تحقيقه أياما طويلة .
                            6)ويلفت النظر أن أصحابنا من المتصوفة الشيعة قد عانوا الكثير من الاضطهاد إلى درجة الاغتيال ومؤامرات القتل كما حدث للشاذلي فى المغرب وأبى العباس الملثم فى مصر وأبى الحجاج الأقصري فى الصعيد وأبى الفتح الواسطي فى الأسكندرية واسماعيل الإنبابي فى إنبابه وخضر العدوي مع الظاهر بيبرس وابن عبدالسلام . ثم أبومدين فى المغرب والبدوي فى طنطا ـ حين امتحنه ابن دقيق العيد ـ والرفاعي فى أم عبيدة حين انكر عليه المعارضون , وقد أدت المؤامرات إلى قتل بعض اساطين الدعوة كابن بشيش وعز الدين الصياد الرفاعي ... والعهد بالدعاية الصوفية أن تضخم الحديث فيما يعد منقبة للأولياء وأن تثير السخط والهجوم على أعدائهم , وليس اغتيال ابن بشيش والصياد بالشئ الهين , ولكننا نفاجأ بسكوت مريب عن ظروف القتل وملابسات الاغتيال , فكل ما هناك أن يقال إن ابن أبى الطواجن هو قاتل ابن بشيش وأن يوصف عز الدين الصياد " الشهيد عز الدين الصياد " . ولا تعليل هنا إلا بالدعوة السرية والحرص على كتمان ظروفها , ولو تجسدت هذه الظروف فى مقتل أحد الكبار .. ولا تعليل لهذه السلسلة من الاغتيالات والاضطهاد والمحاكمات إلا أن أولئك أصحاب هدف سري مضاد للدولة الحاكمة , والحرب الخفية مستمرة بين الطرفين .. وبينما تقرب السلطات المتصوفة العاديين وتقيم لهم الخوانق والزوايا والربط فأنها تلاحق المتسترين بالتصوف وبالإضطهاد والمحاكمات وأولئك ينتقمون منهم بكرامات مزعومة..
                            7) ثم هذه الرسائل الشفرية التى كان يرسلها الدسوقي لأعوانه فى مصر ومكة ويدعي أنها باللغة السريانية , وما هى فى السريانية فى شئ ، وقد عرضتها على متخصصين فى السريانية فأنكروها , ولا تفسير لهذه الشفرة إلا فى الدعوة الشيعية السرية واتصالاتها الشفرية .
                            8) وفى النهاية فإن عناصر المؤامرة وظروفها ووقائعها تتمشى مع الواقع التاريخى للمنطقة , ففى التطورات التاريخية المعاصرة لهذه الدعوة الإجابة الكافية على ازدهار الدعوة ثم اضمحلالها .. فقد انتشرت الدعوة الرفاعية وتغلغلت بعوثها فى الشرق ولكن قضى عليها هناك ظهور الخطر المغولى والدولة الخوارزمية السنية , ثم تغيرت ظروف العراق إلى الأسوأ وبموت الرفاعى وانهيار الدولة الفاطمية فى مصر كان التركيز على مصر الأيوبية , وزاد التركيز على مصر الأيوبية بمجئ البدوى حين ضعف الحكام الأيوبيون وانشغلوا فى صراع عائلى مستمر مع اضطراب مبعثه الحروب الصلبية الوافدة إلى مصر وتحالف بعض الأيوبيين مع الصلبيين فى الشام وبوادر الخطر المغولى الزاحف من الشرق وضغطه على الدولة الخوارزمية التى تضغط بدورها على الحكام الأيوبيين فى العراق والشام .. وازداد الضعف الأيوبي حتى سقطت الدولة فى مصر وانشغل الحكام الجدد بمنافساتهم الداخلية ومشاكلهم الخارجية مع الأيوبيين والمغول , وفى هذه الأثناء وصل نشاط البدوي إلى الذروة , ولكن بدأ توطيد الدولة المملوكية على يد الظاهر بيبرس وهو خبير فى المؤامرات شديد الدهاء , سريع التحرك لمواجهة أى خطر أو مؤامرة ووضح أن آمال الدعوة قد خابت على يد هذا العاهل القوى , وهذا ما حدث
                            .
                            [37]عبدالصمد الجواهر 82
                            [38]يقول عن الشيخ عبدالمجيد الأحمدى والذى كان شيخا سنة 965( ولم تزل أخوته يخاصمونه ويشكونه للحكام ومع ذلك يصبر على أذاهم ) وقد أدى تنافس الأشياخ الأحمدية إلى مقتل الشيخ عبد الكريم الأحمدى سنة 682 ., راجع الجواهر لعبدالصمد 35, 36 .
                            [39]يقول الشعرانى فى ذلك ( ثم قصد طنتدا فدخل على الحال مسرعا دار شخص من مشايخ البلد اسمه ابن شحيط فصعد إلى سطح غرفته 1/ 159 )
                            [40]كان شيخا لأبى مدين الغوث زعيم المدرسة المغربية .
                            [41]سبق أن أشرنا إلى أنا الفاطميين ابتكروا الطرق الصوفية كما حدث من ابن مرزوق القرشى .
                            [42]الجواهر 4
                            التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عبد الغفور; الساعة 04-10-2013, 06:13 PM.

                            تعليق

                            يعمل...
                            X