السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
استمع للمقال بصوت الشيخ
إن الحمدَ لله، أحمدُه تعالى وأستعينه وأستغفره، وأعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
(اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. اللهم بارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}آل عمران- آية:102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}النساء-آية:1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}الأحزاب - آية: (70_71).
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي في الله،،،
تأتي هذه الوصية في وقت حرج، تضاربت فيه الأقوال، واختلط فيه الجابل بالنابل، وصدق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة سنين خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة" قيل: "وما الرويبضة؟" قال: "المرء التافه يتكلم في أمر العامة" السلسلة الصحيحة_2253.
فقد صارت خاصية زماننا الحاضر أن: "يتكلم فيه الزنديق بلسان الصّدّيق" كما قال شيخ الإسلام، ووجدنا من التافهين والخائنين من يصدق عليهم هذا الوصف.
ومن كان هذا حال زمانه، فليأخذ عني هذه النصائح الأربع:
النصيحة الأولى: الثبات والالتزام بالمنهج
لا ينبغي أن تغرنا فوضى الفوضويين، ولا حماس المتحمسين، ولا كثرة المنافقين.. فإن الذي يحكمنا هو المنهج.
وكثيرا ما أؤكد أن منهجنا "الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة" معصوم بعصمة الكتاب والسنة.
فهو ليس منهج شيخ أحبه أو ألتزم معه، إنما هو هذا الدين، لأن الله أمرنا بالتزامه، فقال سبحانه: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ}البقرة_آية:137.
النصيحة الثانية: طلب العلم
طلب العلم فريضة، ونحن نرى في هذه الأيام إهمالا لهذه الفريضة. حتى من يزعمون السلفية والمنهج مهملون في طلب العلم، بل حتى الذين يزعمون أنهم طلبة علم مقصرون أيضا. فالكل - إلا من رحم الله - إنما يطلب علم الجمهور.. علم الدعوة؛ فقط يهتم بما سيقول للناس!
أما العلم الأكاديمي الذي يبني عالما مجتهدا، فهو معنى مفقود في حياة الأمة هذه الأيام.
الذين يريدون أن يحصُـلوا على شهادات عليا من قبيل "الماجستر" والدكتوراه يذاكرون ليصلوا إليها، والذين يؤلفون الكتب يذاكرون لتأليف الكتب، والثالث الذي يعمل في الدعوة وفي إلقاء الخطب والدروس يذاكر ما يقوله للناس. أما بناء طالب علم يُعَدّ ليكون عالما مجتهدا فهذا حال مفقود في الأمة حاليا مع الأسف.
نصيحتي لك إذن أنِ اطلب العلم، وقد قلت قبل عشرين سنة بأن الأحداث لا ينبغي أن تشغلنا بعيدا عن مرمى الهدف.
إن حراسة الدين هي هدفنا الأول، ولا ينبغي أن يبقى الدماغ مشغولا بقضية فلسطين وقضية الشيشان، وقضية أفغانستان، وقضية كشمير ..الخ
اترك هذا لأناس آخرين ولا مانع، وساعدهم أنت بالدعاء لهم، وركزْ كطالب علم على ما تطلبه: عقيدة، فقه، تفسير، قرآن، أصول، مصطلح، لغة..
هذا التخصص في طلب العلم والاجتهاد فيه هو الكفيل بأن ينجب لنا عالما مجتهدا مرجعيا. ففي هذه الأيام تغيب المرجعية العلمية الثقيلة المؤهلة لحمل الأمانة.
النصيحة الثالثة: لا تنس أن من عظمة ديننا أنه دين مرن شمولي
نعم؛ إنه دين مرن يعالج الواقع بواقعية، ويتخذ من الوسائل أوسع الوسائل، ومن عظمته أنه لا يواجه هذا الواقع بنظريات متجمدة، ولا يعالج هذه النظريات بوسائل محددة، ،وهذه الفكرة هي من أصول فقه الدعوة.
وأنا دائما أقول بأن فقه الدعوة له أهله، فلا يتكلم فيه من هبّ ودبّ، فلكل حدود عليه أن يلزمها، وعلى كل واحد أن يعرف مقامه.
خذ مثلا مسألة: هل نصطدم بعواطف الجماهير أم نرشّد عواطفهم؟
هذه مسألة شرعية تحتاج إلى بحث دقيق يختص به العلماء.
الجماهير هذه الأيام هائجة؛ فهل نهيج معهم؟ أم نرشّدهم ونضبطهم على مقتضى الشرع (وإن كرهوا ذلك.. وإن كرهونا من أجل قول الحق)؟؟
إذا عدت إلى مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حيال مثل هذه الأحداث، تجده مثلا يقول للسيدة عائشة -رضي الله عنها-: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة، ثم بنيتها على أساس إبراهيم" مسلم-1333وهنا نلمس مراعاة الجماهير.
لما طلب عمر رضي الله عنه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن يقتل عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق قال له: "دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" متفق عليه.
لكنك تجد من جهة أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء، أصبح فأخبر الناس.
لما كان خارجا لصلاة الصبح من بيته شدّته السيدة أم أيمن من ثيابه، وقالت: "إياك أن تحدث الناس فإنهم سيكذبونك" قال: "وإن كذبوني". وخرج فحدثهم، وارتد بعض المسلمين لعدم إطاقة عقولهم فهم المسألة.
انظر كيف أنه في صلح الحديبية؛ كان كل المسلمين يعارضون قرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- باستثناء أبي بكر -رضي الله عنه-، ولك أن تفهم ذلك من أنه لمّا أمرهم أن يحلقوا رفضوا، ولما طلب منهم أن يتحللوا عبروا عن رغبتهم في دخول مكة، ورغم ذلك ثبت وواجههم.
وسأسوق لكم قصة فاصلة للرد على من يتعامل مع الأحداث بمنطق الربح والخسارة:
في قصة الهجرة إلى الحبشة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "والله لآتينهم غدا بما أستأصل به شأفتهم"، وذهب إلى النجاشي وقال له: "إنهم يقولون في عيسى بنِ مريم قولا عظيما، فاسألهم عنه" واجتمع المسلمون، وتشاوروا..
هنا المواجهة حاصلة، ولا بد من قرار يُخرَج به.
هل أداهن مثلا المعجبين بحسن أفندي نصر؟ أم أخبرهم بحقيقة الشيعة؟؟
إنني حين أختار الخيار الثاني يرتفع صوت بعض الناس على اختلاف مشاربهم، ويقولون: "وهل ترى الوقت الحالي مناسبا لطرح مثل هذه الأفكار؟"
وأقول: تعالوا لنطالع موقف الصحابة لنكتشف إن كان الوقت الحالي مناسبا أو لا.
ألستم سلفيين، وتعبدون الله على مقتضى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؟
حسنا؛ تعالوا معي لنطالع رد الصحابة رضي الله عنهم.
..لما قرأ سيدنا جعفر -المتحدث الرسمي باسم المهاجرين- سورة مريم بكى النجاشي، وبكى من حوله من بطارقته، وخرج المسلمون منتصرين..
لقد كان الصحابة مخيرين بين خسران الأمان والعودة إلى القتل والتعذيب وبين استعمال الدهاء السياسي والمواربة كي يحافظوا على المكاسب. ولم يختاروا في النهاية أيا من الخيارين، بل قال جعفر -رضي الله عنه-: "والله لو سألني لأصدُقنه". إذ لا مفاصلة على العقيدة والمنهج.
وإن قلت لي بأنهم تصرفوا بخلاف ذلك في بناء الكعبة مثلا، قلت إن ذلك لم يرتقِ إلى المس بالمنهج، كما أن قتل منافق أو عدمه لا يمس المنهج بدوره.
أما عندما يتعلق الأمر بالمنهج فلا بد من قول الحق وإن كره الناس.
وأكرر أن من فضل الله علينا -كما قلت في دروس الحج- بأن أناسا لا يجيدون الحج وفق السنة كي نقوم نحن بذلك.
لذلك أقول: حتى وإن ترك كل الدعاة حتى أهل الحق منهم (لتأويل صحيح أو فاسد) قول الحق للناس، فلنقله نحن، ولنتميز ولنثبت. ولسنا بحريصين على رضا الناس.
لما جمع النجاشي جعفر والصحابة رضي الله عنهم، أجابوه وقالوا: "عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" -بنص القرآن-.فقال: "والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلتهم هذا العود" ورفع عودا من الأرض، ونخره البطارقة، فقال: "وإن نخرتم".
قل الحق إذن، وسيقيّد الله لك من ينقل كلمتك، ويسعد بها، وإن كان واحدا وسط الأمة.
النصيحة الأخيرة: تحمل أذى الناس والصبر عليهم والرضا بقضاء الله
المحن تجلّي الصادق، وتفضح الكاذب، والله تعالى لم يترك الناس عند ادّعاء الإيمان، بل قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} العنكبوت_آية:2. فلابد من الامتحان إذن.
إنني أؤكد أننا على مدار السنين الطويلة في طريق الدعوة رأينا أناسا الله أعلم بعددهم، وفي كل مرحلة كانت عملية الغربلة متواصلة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} الرعد_آية:17.
الزبد هو ما يعلو الأمواج من أزبال وفضلات..
كل ما يطفو على السطح يسقط..
كل من يركب الموجة يسقط..
ولا يثبت إلا من كانت له جذور راسخة في الدين..
لذلك قال الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }المائدة_آية:41.
لا يهزنا أن يسقط كثير من الناس، ولا يؤلمنا أن يتنكر كثير من الناس، ولا يضرنا أن يتخلى كل الناس، ولكن.. اثبت أنت: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}النساء_آية:84.
(نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الثبات على الحق، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار).
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
استمع للمقال بصوت الشيخ
إن الحمدَ لله، أحمدُه تعالى وأستعينه وأستغفره، وأعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
(اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. اللهم بارك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}آل عمران- آية:102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}النساء-آية:1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}الأحزاب - آية: (70_71).
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي في الله،،،
تأتي هذه الوصية في وقت حرج، تضاربت فيه الأقوال، واختلط فيه الجابل بالنابل، وصدق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة سنين خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة" قيل: "وما الرويبضة؟" قال: "المرء التافه يتكلم في أمر العامة" السلسلة الصحيحة_2253.
فقد صارت خاصية زماننا الحاضر أن: "يتكلم فيه الزنديق بلسان الصّدّيق" كما قال شيخ الإسلام، ووجدنا من التافهين والخائنين من يصدق عليهم هذا الوصف.
ومن كان هذا حال زمانه، فليأخذ عني هذه النصائح الأربع:
النصيحة الأولى: الثبات والالتزام بالمنهج
لا ينبغي أن تغرنا فوضى الفوضويين، ولا حماس المتحمسين، ولا كثرة المنافقين.. فإن الذي يحكمنا هو المنهج.
وكثيرا ما أؤكد أن منهجنا "الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة" معصوم بعصمة الكتاب والسنة.
فهو ليس منهج شيخ أحبه أو ألتزم معه، إنما هو هذا الدين، لأن الله أمرنا بالتزامه، فقال سبحانه: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ}البقرة_آية:137.
النصيحة الثانية: طلب العلم
طلب العلم فريضة، ونحن نرى في هذه الأيام إهمالا لهذه الفريضة. حتى من يزعمون السلفية والمنهج مهملون في طلب العلم، بل حتى الذين يزعمون أنهم طلبة علم مقصرون أيضا. فالكل - إلا من رحم الله - إنما يطلب علم الجمهور.. علم الدعوة؛ فقط يهتم بما سيقول للناس!
أما العلم الأكاديمي الذي يبني عالما مجتهدا، فهو معنى مفقود في حياة الأمة هذه الأيام.
الذين يريدون أن يحصُـلوا على شهادات عليا من قبيل "الماجستر" والدكتوراه يذاكرون ليصلوا إليها، والذين يؤلفون الكتب يذاكرون لتأليف الكتب، والثالث الذي يعمل في الدعوة وفي إلقاء الخطب والدروس يذاكر ما يقوله للناس. أما بناء طالب علم يُعَدّ ليكون عالما مجتهدا فهذا حال مفقود في الأمة حاليا مع الأسف.
نصيحتي لك إذن أنِ اطلب العلم، وقد قلت قبل عشرين سنة بأن الأحداث لا ينبغي أن تشغلنا بعيدا عن مرمى الهدف.
إن حراسة الدين هي هدفنا الأول، ولا ينبغي أن يبقى الدماغ مشغولا بقضية فلسطين وقضية الشيشان، وقضية أفغانستان، وقضية كشمير ..الخ
اترك هذا لأناس آخرين ولا مانع، وساعدهم أنت بالدعاء لهم، وركزْ كطالب علم على ما تطلبه: عقيدة، فقه، تفسير، قرآن، أصول، مصطلح، لغة..
هذا التخصص في طلب العلم والاجتهاد فيه هو الكفيل بأن ينجب لنا عالما مجتهدا مرجعيا. ففي هذه الأيام تغيب المرجعية العلمية الثقيلة المؤهلة لحمل الأمانة.
النصيحة الثالثة: لا تنس أن من عظمة ديننا أنه دين مرن شمولي
نعم؛ إنه دين مرن يعالج الواقع بواقعية، ويتخذ من الوسائل أوسع الوسائل، ومن عظمته أنه لا يواجه هذا الواقع بنظريات متجمدة، ولا يعالج هذه النظريات بوسائل محددة، ،وهذه الفكرة هي من أصول فقه الدعوة.
وأنا دائما أقول بأن فقه الدعوة له أهله، فلا يتكلم فيه من هبّ ودبّ، فلكل حدود عليه أن يلزمها، وعلى كل واحد أن يعرف مقامه.
خذ مثلا مسألة: هل نصطدم بعواطف الجماهير أم نرشّد عواطفهم؟
هذه مسألة شرعية تحتاج إلى بحث دقيق يختص به العلماء.
الجماهير هذه الأيام هائجة؛ فهل نهيج معهم؟ أم نرشّدهم ونضبطهم على مقتضى الشرع (وإن كرهوا ذلك.. وإن كرهونا من أجل قول الحق)؟؟
إذا عدت إلى مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حيال مثل هذه الأحداث، تجده مثلا يقول للسيدة عائشة -رضي الله عنها-: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة، ثم بنيتها على أساس إبراهيم" مسلم-1333وهنا نلمس مراعاة الجماهير.
لما طلب عمر رضي الله عنه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن يقتل عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق قال له: "دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" متفق عليه.
لكنك تجد من جهة أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء، أصبح فأخبر الناس.
لما كان خارجا لصلاة الصبح من بيته شدّته السيدة أم أيمن من ثيابه، وقالت: "إياك أن تحدث الناس فإنهم سيكذبونك" قال: "وإن كذبوني". وخرج فحدثهم، وارتد بعض المسلمين لعدم إطاقة عقولهم فهم المسألة.
انظر كيف أنه في صلح الحديبية؛ كان كل المسلمين يعارضون قرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- باستثناء أبي بكر -رضي الله عنه-، ولك أن تفهم ذلك من أنه لمّا أمرهم أن يحلقوا رفضوا، ولما طلب منهم أن يتحللوا عبروا عن رغبتهم في دخول مكة، ورغم ذلك ثبت وواجههم.
وسأسوق لكم قصة فاصلة للرد على من يتعامل مع الأحداث بمنطق الربح والخسارة:
في قصة الهجرة إلى الحبشة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "والله لآتينهم غدا بما أستأصل به شأفتهم"، وذهب إلى النجاشي وقال له: "إنهم يقولون في عيسى بنِ مريم قولا عظيما، فاسألهم عنه" واجتمع المسلمون، وتشاوروا..
هنا المواجهة حاصلة، ولا بد من قرار يُخرَج به.
هل أداهن مثلا المعجبين بحسن أفندي نصر؟ أم أخبرهم بحقيقة الشيعة؟؟
إنني حين أختار الخيار الثاني يرتفع صوت بعض الناس على اختلاف مشاربهم، ويقولون: "وهل ترى الوقت الحالي مناسبا لطرح مثل هذه الأفكار؟"
وأقول: تعالوا لنطالع موقف الصحابة لنكتشف إن كان الوقت الحالي مناسبا أو لا.
ألستم سلفيين، وتعبدون الله على مقتضى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؟
حسنا؛ تعالوا معي لنطالع رد الصحابة رضي الله عنهم.
..لما قرأ سيدنا جعفر -المتحدث الرسمي باسم المهاجرين- سورة مريم بكى النجاشي، وبكى من حوله من بطارقته، وخرج المسلمون منتصرين..
لقد كان الصحابة مخيرين بين خسران الأمان والعودة إلى القتل والتعذيب وبين استعمال الدهاء السياسي والمواربة كي يحافظوا على المكاسب. ولم يختاروا في النهاية أيا من الخيارين، بل قال جعفر -رضي الله عنه-: "والله لو سألني لأصدُقنه". إذ لا مفاصلة على العقيدة والمنهج.
وإن قلت لي بأنهم تصرفوا بخلاف ذلك في بناء الكعبة مثلا، قلت إن ذلك لم يرتقِ إلى المس بالمنهج، كما أن قتل منافق أو عدمه لا يمس المنهج بدوره.
أما عندما يتعلق الأمر بالمنهج فلا بد من قول الحق وإن كره الناس.
وأكرر أن من فضل الله علينا -كما قلت في دروس الحج- بأن أناسا لا يجيدون الحج وفق السنة كي نقوم نحن بذلك.
لذلك أقول: حتى وإن ترك كل الدعاة حتى أهل الحق منهم (لتأويل صحيح أو فاسد) قول الحق للناس، فلنقله نحن، ولنتميز ولنثبت. ولسنا بحريصين على رضا الناس.
لما جمع النجاشي جعفر والصحابة رضي الله عنهم، أجابوه وقالوا: "عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" -بنص القرآن-.فقال: "والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلتهم هذا العود" ورفع عودا من الأرض، ونخره البطارقة، فقال: "وإن نخرتم".
قل الحق إذن، وسيقيّد الله لك من ينقل كلمتك، ويسعد بها، وإن كان واحدا وسط الأمة.
النصيحة الأخيرة: تحمل أذى الناس والصبر عليهم والرضا بقضاء الله
المحن تجلّي الصادق، وتفضح الكاذب، والله تعالى لم يترك الناس عند ادّعاء الإيمان، بل قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} العنكبوت_آية:2. فلابد من الامتحان إذن.
إنني أؤكد أننا على مدار السنين الطويلة في طريق الدعوة رأينا أناسا الله أعلم بعددهم، وفي كل مرحلة كانت عملية الغربلة متواصلة: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} الرعد_آية:17.
الزبد هو ما يعلو الأمواج من أزبال وفضلات..
كل ما يطفو على السطح يسقط..
كل من يركب الموجة يسقط..
ولا يثبت إلا من كانت له جذور راسخة في الدين..
لذلك قال الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }المائدة_آية:41.
لا يهزنا أن يسقط كثير من الناس، ولا يؤلمنا أن يتنكر كثير من الناس، ولا يضرنا أن يتخلى كل الناس، ولكن.. اثبت أنت: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}النساء_آية:84.
(نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الثبات على الحق، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار).
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليق