الكنز المهجور
فمما لا شك فيه أن الله عز وجل يحب عباده ويريد لهم الخير جميعاً ، فما من مولودٍ يولدُ وتطأ قدماه الأرض إلا ويريد له ربه الفلاح والنجاح في امتحان الدنيا ، ومن ثمَّ دخول الجنة وتنعمه فيها ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) [ البقرة: 143] .
وحين شاهد رسول الله صلي الله عليه وسلم والصحابة الكرام امرأة من السَبْي تسعي ملهوفة تبحث عن ابنها الذي ضل عنها ، فلما وجدته أخذته فألزقته بطنها ، ثم أرضعته ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم لأصحابه بعد رؤيتهم لهذا المشهد المؤثر " أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ " قالوا : لا والله فقال :" لله أرحم بعباده من هذه بولدها " ( متفق عليه ) .
نعم .. الله عز وجل أرحم بعباده من هذه بولدها ، ومن كل والدٍ بولده .
فإن كان هذا هو حب الأب لأبنائه ، فإن حب الله عز وجل لعباده أشد وأشد ، ومما يؤكد هذه الحقيقة : فرحه سبحانه وتعالي بتوبة العاصين والشاردين والكافرين .
تأمل معي قوله صلي الله عليه وسلم : " لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان علي راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتي شجرة فاضجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها ، قائمةعنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك ، خطأ من شدة الفرح " ( متفق عليه ) .
نعم يا أخي فالله عز وجل يريد الخير لجميع البشر حتي اليهود والنصاري .. حتي المنافقين وقطاع الطريق .. حتي الذين يُعذِّبون الناس .. يريد لهم جميعاً أن يستغفروه فيغفر لهم ، ويتوبوا إليه فيقبلهم .. ألم يقل سبحانه لعباده العاصين المسرفين علي أنفسهم ( قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [ الزمر : 53 ]
ألم يقل سبحانه وتعالي للنصاري بعد أن جعلوا له - حاشاه - صاحبة وولدا ( أفلا يتوبون إلي الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) [ المائدة:74] .
ألم يقل سبحانه وتعالي عن قُطَّاع الطُّرق ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) [ المائدة:34] .
ألم يخاطب الناس جميعا ويقول لهم ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم ) [ النساء:170 ] .
فماذا تقول بعد ذلك لربٍّ ودودٍ يريد لعباده جميعاً الخير والسعادة في الدنيا والآخرة " يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك علي ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً ، لأتيتك بقرابها مغفرة " ( رواه الترمزي ) .
************************************************** *********
غواية إبليس للبشر
ومما يدعو للأسف أن الكثير من البشر علي مر التاريخ قد شردوا عن طريق الله ، وساروا وراء عدوهم إبليس الذي أقسم بــعزة الله أن يعمل علي إغواء بني آدم وسَوْقِهم معه إلي النار ، ولقد نجح بالفعل في ذلك مع الغالبية العظمي من الناس ، فزين لهم الدنيا وصرفهم عن عبادة ربهم .
ومع أن البشر قد ساروا وراءه بإرادتهم ، إلا أن الله عز وجل لم يتركهم لطريق التهلكة والضلال والنــار والعياذ بـــالله ، فكانت رسائله المتتالية لهم والتي تذكرهم بحقيقة وجودهم في الدنيا وأنها دار امتحان ، وتهديهم إلي طريقه المستقيم ، وتُيسر لهم سبيل العودة ، وتطمئنهم من ناحـــيته ليفروا إليه .. وكانت آخر هذه الرسائل التاي أرسلها الله للبشر هي القرآن ، فقد جعلها سبحانه وتعالي بمثابة الرسالة الخاتمة للبشرية جمعاء ، وأرسلها مع خير رسله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام .
************************************************** *********
لماذا أنزل الله القرآن ؟
إذن فقد أنزل الله عز وجل القرآن ليكون وسيلة يهدي الناس من خلالها إلي طريقه وإلي جنته . . .
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمةٍ منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً ) [ النساء:174،175] .
فإن قلت : ولكن الناس قد يعرفون طريق الهدي والحق ولكنهم لا يستطيعون السير فيه بسبب قيود الشهوات والشبهات التي تُقيِّدُ قلوبهم كما قال سبحانه وتعالي : (أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جِنَّةٌ بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) [ المؤمنون : 68-71 ] .
نعم ، هذا صحيح فمعرفة طريق الهدي وحدها لا تكفي بل لا بد من وسيلة تعين الناس علي السير فيه .. لا بد من دواءٍ يشفي صدورهم ، ويخلص قلوبهم من سيطرة الهوي وحب الدنيا .. لا بد من وجود مادة تفجر الطاقات وتولد القوة الدافعة داخل الإنسان للسير في طريق الهداية .. وهنا تظهر قيمة المعجزة العظمي للقرآن ألا وهي قدرته الفذة علي التغيير والتقويم والشفاء لكل من يُقبل عليه ، ويدخل دائرة تأثر معجزته ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلي النور بإذنه ويهديهم إلي صراط مستقيم ) [ المائدة : 15-16 ] .
أرأيت ما وصف الله به القرآن وأنه ليس بكتاب هداية فقط بل إنه كذلك يقوم بإخراج الناس من الظلمات إلي النور بإذن الله ؟!!
ومما يؤكد هذا المعني المثال الذي ضربه الله عز وجل للناس وبين فيه قدرة القرآن علي التأثير والتغيير ( لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) [ الحشر : 21 ] .
فالقرآن هو الرحمة العظمي التي أرسلها الله للبشرية لتكون بمثابة الوسيلة السهلة والدواء النافع لشفائها من أمراضها وهدايتها إليه ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين ) [ يونس : 51 ] .
هذا هو دور القرآن العظيم ، وهذا هو سر معجزته . . .
فمصنعه وماكيناته جاهزة للعمل مع أي شخص مهما كان فجوره ، ومهما كانت علته ، فهو لا يستعصي عليه مرض من الأمراض ، وما من شبهـــة من الشبهات ، أو تصور خاطئ من التصورات إلا وهو جديرُ بإصلاحه وتقويمه - بإذن الله - ليتبدل حال كل من يدخل إلي دائرة تأثير معجزته فيصبح من خلاله شخصاً آخر عابداً لله عز وجل في كل اموره واحواله .
************************************************** *********
.................. يُتبع بإذن الله
تعليق