قبل أن ينفرط العقد..
دخلتُ الى غرفتها .. كانت تضع كمامة طبية على وجهها، ولم أرَ سوى عينيها الذابلتين..
دار حديث بيني وبينها، لا اذكر منه سوى انني كنتُ اعطيها الامل في الشفاء… وأننا بانتظار روحها الطيبة وابتسامتها المرحة لتشرقان بيننا من جديد.
سألتها عن حاجتها من العمرة.. اجابتني انها تريد السواك.. لأن العلاج الكيميائي ينخر في اسنانها والمعجون العادي يؤلمها.
ودّعتها بمرارة دون احتضان او قبلات.. فقد كان مرضها يحول بيني وبينها.. وخرجت من غرفتها اسمع دبيب خطواتي المتثاقلة في اروقة المستشفى الخاوية.
يااااه.. عالم اخر في هذه الاروقة والغرف التي تؤدي اليها.. وكأن الحياة تنتهي هنا.. أو تبدأ من جديد!!
تساءلت: كم من مريض مرّ من هنا، وكم من عليل حُمل هناك، ما الذي دار بخلده عندما ظن انها نهاية المطاف؟
عدتُ ووقفت خلف بابها.. اختلس النظر اليها وهي تتناول مصحفها مرة اخرى لتتابع تلاوتها، وانحدرت دمعة من عيني وانا اتساءل بيني وبين نفسي: لماذا فجأة؟ ولماذا في رمضان؟ اترى يصطفيها الله في العشر الاواخر؟ اتراها ليلة السابع والعشـ….؟
ونفضت الخاطر عن ذهني حتى قبل ان يكتمل، وتركت دموعي تسيل وانا ابتعد مودعة، وكان ذلك اخر عهدي بها في الحياة الدنيا.
ليلة السابع والعشرين من رمضان.. زحام شديد يملأ الشوارع.. التفت الساق بالساق.. وانا محشورة بين النساء على سجادة ذهبية مخضبة بالبخور، وتتلألأ تحت اضواء ومنارات المسجد الحرام، ونسائم الليل الباردة تداعب وجهي الذي اغرقته الدموع، اردد خلف السديس: اللهم امين، اللهم امين… ادعو لها بالشفاء العاجل، وان يردها لزوجها وولديها سليمة معافاة، وعلى بعد آلاف الاميال من مكاني.. كانت هي في النزع الاخير!
قُضيت صلاة التهجد، ولملمت سجادتي اسير مع اختي في الله نوال التي استضافتني قبل الصلاة، متجهتين الى شقتها، فحانت مني التفاتة وسط الزحام لأرى دكانا يبيع المساويك، تذكرتُ وصيتها لي، وسارعتُ في لهفة لأشتري لها علبة كاملة… وعلى بعد آلاف الاميال من مكاني.. كانت هي تلفظ روحها الى بارئها!
ثاني أيام العيد في المسجد النبوي الشريف، قُضيت صلاة الظهر وجلستُ احادث اختي عبر الهاتف انقل لها اخباري وانا سعيدة اضحك، وبعد ان اغلقت المكالمة، جال طيف وجهها أمامي.. ترددت.. ياااه كيف نسيتها كل تلك الفترة؟ في خوف وتردد، حاولت الاتصال بها، لم ترد، حاولت الاتصال بزوجها.. لم يرد. اتصلتُ بصديقة أسألها عن صحتها.. تنهدت عبر الاثير، وكانت تنهيدتها كخنجر اخترق مسامعي لتتسارع انفاسي وتتلاحق ضربات قلبي في ذهول وانا اسمع خبر وفاتها ليلة السابع والعشرين!
حملقتُ في أعمدة المسجد امامي غير مصدقة غدرات الدنيا.. وتناهت الى مسامعي اصوات النساء الرائحات والغاديات حولي كضباب كئيب .. وانتزعت نفسي انتزاعا من مكاني واندفعت للخارج متوجهة نحو الفندق.
بدأت خطواتي تترنح تحت وهج الشمس الحارقة.. نظرتُ الى السماء، لأرى حبات الثلج وهي تتساقط على وجهي وقد عادت روحي الى رمضان قبل عشرة اعوام، اشد على يد ابني الصغير في احدى يداي، واحمل رضيعتي باليد الاخرى، وانا انزل من المواصلات العامة واتخطى الثلوج المتراكمة لاصل الى منزل احدى الصديقات..
كنا جميعا هناك جلوسا.. نختتم دروس الدار الاخرة للشيخ الدكتور عمر عبد الكافي.. ام فلان درسها عن الصراط.. وأم فلان الاخرى درسها عن أهل الجنة.. وأم فلان الاخرى درسها عن اهل النار.. ثم شمرنا عن سواعدنا بعد نهاية الدروس، لنعجن سوية كعك العيد!
تساءلتُ بين دموعي: هل كانت تدري حينها بأنها ستنزل اولى منازل الدار الاخرة بعد عشرة اعوام من ذلك اليوم؟
نعم.. هل كانت تدري؟
هل كنا نحن ندري؟
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا.. وما تدري نفس بأي أرض تموت!
“رنا.. هي أول حبة انفرطت من عقدنا” … هكذا وصفتها احدى الاخوات الحبيبات..
ويالها من حبة.. ويا له من عقد..!
كانت مرحة بشوشة ما فارقت ابتسامتها محياها، تسعى في حاجات الاخرين ولم ترد لأحدانا طلبا، استضاف بيت زوجها الكثيييير من الطلبة المغتربين يتناولون اطايب الطعام من عمل يديها. ما سمعتُ منها تذمرا او سلبية قط، بل كانت تتفنن في قلب الامور لتريكِ الجانب المشرق من الحياة، فتخرجين من عندها وقد ضخت فيك دماء التفاؤل والنشاط من جديد!
بكينا عليها يومها.. وحري ان نبكِ من بكى عليها الرجال!
هل فكرتِ يوما.. من سيبكي عليكِ بعد موتك ورحيلك؟
هل جال بخاطرك يوما.. أي ارث ستتركينه في ارواح الاخرين من بعدك؟
أي الناس تجالسين وتصادقين في حياتك؟ ومن يجالسك ويصادقك في هذه الحياة؟
لربما كان حولك من الاخوات الصالحات.. من يمررن امامك مر السحاب..
اقتنصيهن والزمي ظلالهن..
فلا تدرين لعلك لا تجدين من بعدهن من يمطرن حبا وأخوة صافية على روحك ابدا!
لربما كانت لديك أم عزيزة.. اخت غالية.. او صديقة مقربة..
تأنسين بها.. وتبثينها همومك.. وتشاركينها ضحكاتك.. وتستعينين بها على صلاح دينك ودنياك!
ارجوكِ.. سارعي اليها الان واحتضنيها.. واطبعي قبلة على جبينها ويديها.. وقولي لها:
اني احبك في الله!
وكرريها على مسامعها كلما رأيتها!
اعرفي قيمة من لديكِ من اخوات صالحات.. وارتديهن حول عنقك كما العقد النفيس..
ولا تفرطي فيهن ابدا.. ولا تتأخري في حق صحبتهن والاحسان اليهن وابداء محبتك لهن ابدا..
فلا تدرين.. لعلها تكون آخر ايامك بهن..
قبل ان تلهيكن او تفرقكن الدنيا..
وينفرط العقد..!
سبحانك ربي حين تنادي: أين المتحابون في جلالي.. اليوم اظلهم بظلي يوم لا ظل الا ظلي..
اشهدك اني احببت رنا لوجهك الكريم.. واني احتسبها عندك.
فأظلني واياها تحت ظل عرشك.. يوم لا ظل الا ظلك.
اللهم امين
٢٧ رمضان ١٤٣١ هـ
بقلم الأستاذة :
تعليق