أسبابُ فشل المشروعات وأصحاب الهمم والنَّجاح في المشروعات
لكي نحكم على مشروع ما بالفشل فلابدَّ من تحقيق الأسباب التَّالية أو بعض منها، وهي:
1- اليأس والاستسلام:
فأخطر ما يهدِّد نجاح المشروع سرعة اليأس والاستسلام للعقبات.
إن اليأس يساوي الانتحار، والمؤمن الحقيقي لا ييأس من رحمه الله تعالى، ولا ينكسر أمام تجارب الفشل؛ بل يأخذ منها عدَّة وذخيرة لمواصلة المسير نحو أهدافه بخبرة أعمق، وبصيرة أعظم؛ فهذا المخترع "سينجر" قضى عمره لاختراع ماكينة الخياطة قرابة عشرين سنة يفكر في قطعة لهذه المكينة.
فإيَّاك أيُّها الشَّاب أن تتخلَّى عن الأمل، وأن تستسلم للشُّعور باليأس والهزيمة.
وها هو النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يرشد إلى المبادرة بالعمل والنَّشاط فيه ونبذ اليأس والتَّواكل حتى آخر لحظة: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة- النَّخلة الصَّغيرة- فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»([1]). وروى ابن جرير عن عمارة بن خزيمةبن ثابت قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس؟
فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً.
فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسها؟
فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي([2]).
2- التَّشَتُّت:
إنَّ من أسباب الفشل في حياة الإنسان العمليَّة وضياع مشاريعه العظيمة أو ضعف قيمتها العمليَّة وأثرها في حياة الناس، هو تشتُّتُ الإنسان في مشاريع عديدة ربَّما كان الواحدُ منها يحتاج إلى أن يتكاتف الكثيرون في جهودهم من أجل إنجازه، فكيف بالواحد لو أراد أن ينهضَ به بمفرده، فكيف لو شئت جهده الفرديّ في مشروعات عديدة.
ولذلك فمن العوائق التي قد تمنع إتمامَ المشروعات: البدء في أكثر من مشروع كبير في نفس الوقت، وقد يكون من أمثلة ذلك ما فعله الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله؛ حيث عمل في أكثر من عمل ضخم في نفس الوقت:
فشرع في تحقيق مسند الإمام أحمد، ثم شرع في تحقيق سنن الترمذي، ثم شرع في تحقيق صحيح ابن حبان، ثم شرع في اختصار وتحقيق تفسير ابن كثير، ثم شرع في تحقيق المحلى لابن حزم... فكانت النتيجة عدم إتمامه أيًّا منها.
3- العجز والكسل:
فكم من مطلب عظيم حال دونه كسلُ صاحبه وعجزُه؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بالله منهما في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»([3]).
وحذَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الاستسلام لهذا الدَّاء العضال، وأشار إلى أنَّه من أسباب الضَّعف التي تدخل على مَن عمل شيئاً أو أراده؛ فقال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان»([4]).
ويقول الرَّاغب الأصفهانيُّ: من تعطل وتبطل انسلخ منالإنسانية- بل من الحيوانية- وصار من جنس الموتى([5]).
وقيل: إيَّاك والكسل والضَّجر؛ فإنَّك إن كسلت لم تؤدِّ حقًّا، وإن ضجرت لم تصبر على الحقِّ.
قال آخر:
والمعنى: أنَّ غيرَك سعى إلى المجد بهمَّة عالية وأنت لخمولك تسعى متكاسلاً وتدبُّ دبيبَ الشَّيخ الهرم؛ فكيف تنال المجدَ؟!
4- التَّأجيل والتَّسويف:
التأجيل هو تأخير المهامّ المطلوبة إلى مواعيد أخرى، وربما نسيانها إلى الأبد.
قال بعض السلف: أنذرتكم "سوف"؛ فإنها من جند إبليس.
إذا وضعت الهدف فلا تؤجِّل الانطلاق، وابدأ فورا، ولن تصل إلى تحقيق ما تريد طالما أنَّك تستمرُّ في التَّأجيل.
إنها حجة العاجز الكسول الذي لا يريد أن يعمل شيئاً، فيعلِّل نفسه بفراغ الغد، وهو يعلم أنَّ لكل يوم شغله.
وتأجيل القيام بمشروعاتك يؤدِّي إلى أن يقوم بها غيرُك، ويأخذ زمامَ المبادَرة منك، وأقلّ ما في ذلك من الخسارة أن يظفر غيرُك بالأجر في أعمال الآخرة.
5- إساءة التَّعامل مع الأوقات:
إن أخطرَ مشكلة تواجه الأمم والأفراد هي مشكلة ضياع الأوقات؛ إذ إن ذلك يعني ضياعَ الحياة، وكلُّ فائت قد يستدرك إلا فائت الزَّمَن؛ ولذلك لابدَّ أن ندرك أنَّ الوقتَ لا يتوالد، ولا يتمدد، ولا يتوقف، ولا يرجع للوراء؛ بل للأمام دائماً، ولذا فإنَّ أولَ شروط النَّجاح في الحياة الاستفادة من الوقت، والزَّمنُ في الحقيقة لا يمكن أن يدار من قبل الإنسان؛ حتى وإن كثرت في كتاباتهم عبارة "إدارة الوقت"؛ إذ إنَّ الزمنَ يتحرَّك بقدر الله، ولكن الذي يمكن أن يدار هو استغلالنا للوقت أثناء جريانه.
وقد كثرت النُّصوص والآثارُ في التَّحذير من ضياع الأوقات؛ فضلاً عن أقوال الحكماء والعلماء وأصحاب التَّجارب في الحياة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ»([6]).
يقول ابن عقيل الحنبليّ رحمه الله: إنِّي لا يحلُّ لي أنِّي أضيِّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا منطرح([7]).
وقال ابنُ الجوزيّ- رحمه الله: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته؛ فلا يضيِّع منه لحظةً في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل([8]).
6- الفوضويَّةُ في العمل والتَّخطيط:
والمرادُ بالفوضويَّة اختلاطُ الأمور واضطراب النِّظام العامّ لحياة الإنسان وتفكيره وسلوكه وأولويَّاته؛ فالشَّخص الفوضويّ ضائع الأهداف، مهمل الأعمال، ارتجالي، لا تخطيط له، متخبِّط لا نظامَ لحياته؛ يبدأ في هذا العمل ثم يتركه، ويشرع في هذا الأمر ولا يتمّه، ويسير في هذا الطريق ثم يتجنّبه، ويأخذ في هذا المشروع ثم يملّه.
إنه مولعٌ بإفساد أمره من حيث لا يدري.
7- ضعف الحافز:
سواء كان الحافزُ داخليًّا من نفس الشَّخص أو خارجياً كأن يكون من يحفزه ويحمسه باستمرار، وإنَّ انعدامَ المحفِّز يؤدِّي إلى الفتور والانقطاع في كثير من المشروعات، وحلُّ هذه القضيَّة يكون بالتَّواصي والتَّناصح.
روي عن عليّ بن عاصم حافظ العراق أنَّه قال: دفع إليَّ أبي مائةَ ألف درهم، وقال: اذهب؛ فلا أرى لك وجهاً إلا بمائة ألف حديثاً.
ففي مثل هذه المقولة حافز قويّ له للقيام بمشروعه، وأقوى حافز ابتغاء الأجر ووجه الله والدَّار الآخرة؛ قال تعالى: }وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ{ [آل عمران: 145].
8- ضعفُ المتابعة والمراقبة:
وهذا ممَّا يؤدِّي إلى تأخير الشُّروع والتَّباطؤ فيه، أو إيقافه تماماً؛ لأنَّ الشَّخصَ يكون هو الحكم والخصم في المشروع.
9- ضعف الاستشارة:
ممَّا يؤدِّي إلى نوع من الاستقلاليَّة تؤدِّي إلى جنوح وشَطَحات فكريَّة أو سلوكيَّة.
10- ضعف الثِّقَة بالنَّفس:
أو الشعور بالعجز وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً؛ ممَّا يجعل فيه نوعاً من الاتِّكاليَّة على الغير وترك العمل؛ فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لمَّا توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلمَّ فلنسأل أصحابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّهم اليومَ كثيرٌ.
فقال: واعجباً لك يا ابن عبَّاس؛ أترى النَّاس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى.
فترك ذلك، وأقبلت على المسألة.
فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابنَ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك.
فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك. فأسأله عن الحديث.
قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: كان هذا الفتى أعقلَ منِّي([9]).
11- العجلة وعدم التَّأَنِّي:
فما تكاد تخطر في باله فكرة مشروع حتى يلاحظ بعد فترة بأنَّ مشروعه غير صحيح وكان الأولى غيره.
12- عدم توازن الشَّخصيَّة:
مما يجعله يتذبذب كثيراً في المشروعات؛ فمرَّةً يتحمَّس لطلب العلم، ومرَّةً يشعر أنَّه مقصِّرٌ في حفظ القرآن، ثم يسمع قصة في دعوة الجاليات فيشعر بنوع من الصِّراع النَّفسيّ بتقصيره بهذا الجانب، يريد أن ينجز كل شيء فلا ينجز شيئاً.
وفرق بين هذا وبين من يريد أن يضرب بسهم في كلِّ مجال، فهذه خطته.
13- عدم وجود هدف حياتيّ.
14- عدم الإحساس بالمسؤولية.
15- الإحباط الذاتي.
16- عدم الجدية في العمل والبذل لهذا المشروع.
17- التثبيط عن المشروع ممن هم حوله من إخوانه، وأهله، وبيئته.
18- الانشغال ببنيات الطريق فإنها تفسد المشروعات.
19- الاستعجال في الوصول لثمرة المشروع قبل تمامه:
وهذه علامة ضعف الصبر على المهمات، ومَن ضَعف صبرُه قَلَّ فلاحُه.
لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من طلب النصر والتمكين قبل أوانه فقال: «والله لَيُتمَّنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الرَّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذنب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون»([10]).
ولهذا كان من القواعد المقرَّرة عند الفقهاء: (أن من استعجل الشَّيءَ قبل أَوَانه، عوقب بحرمانه).
لذلك لابدَّ من الصَّبر.
أصحاب الهمم والنَّجاح في المشروعات
القيام ببعض المشروعات يحتاج إلى همَّة عالية ليتمَّ بنجاح.. وإليك بعضاً ممَّن ضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك:
* ذو القرنين ومشروعُ إعمار الأرض: }إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا{ [الكهف: 84]:
مكَّنَ اللهُ لذي القرنين وآتاه من كلِّ شيء سبباً؛ فعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إيَّاها، واستعملها على وجهها لتحقيق هدفه والوصول إلى مبتغاه؛ فبذل جهداً عظيماً وجيَّش جندَه وعدَّته وعتادَه وما يمتلك من مال وقوَّة ليواصل مسيرتَه وجهاده؛ ذلك لأنه أدرك أنَّه لابدَّ من بذل الأسباب والاجتهاد والنّصب ليصل المرء إلى مراده.
وقد سعى "ذو القرنين" لإعمار الأرض وإصلاحها وبنائها حتى بلغ حيث انتهت طاقتُه وقدرتُه، ولم يرض بمنـزلة دون منـزلة أحد من أهل زمانه حتى في مناصب الدُّنيا، ولم يقف عند حدٍّ؛ بل سعى في الأرض حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار بجيوشه حتى بلغ مشرقها ثم أتبع سبباً حتى بلغ بين السَّدَّين، وتملَّك تلك المناطق كلَّها حتى حكم فيها وأثَّر فيها وغدا ملجأً للمظلومين ومأمناً للخائفين.
قال القاسميُّ- رحمه الله: ومن فوائد نبأ ذي القرنين تنشيطُ الهمم لرفع العوائق، وأنَّه ما تيسرت الأسباب فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر عذرا في الخمول والرِّضا بالدُّون؛ بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الرَّاحة والهناء، كما قضى ذو القرنين عمرَه ولم يَذُق إلَّا حلاوة الظّفر ولذّة الانتصار؛ إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون([11]).
* الإمام النوويّ- رحمه الله- كان يقرأ في كلِّ يوم– وليس كل أسبوع أو شهر- اثنا عشر درساً؛ درسين في كتاب "الوسيط"، والثَّالث في كتاب "المهذَّب" الذي شرحه بعد ذلك في كتابه الضَّخم "المجموع"، ودرساً في كتاب الجمع بين الصَّحيحين، ودرساً في صحيح مسلم، ودرساً في كتاب "اللُّمع" لابن جنِّيّ في النَّحو، ودرساً في كتاب "إصلاح المنطق" لابن السّكّيت في اللُّغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه تارةً في "اللُّمع" لأبي إسحاق، وتارةً في المنتخب للفخر الرَّازي، ودرساً في أسماء الرِّجال، ودرساً في أصول الدِّين.
قال: وكنت أعلق جميعَ ما يتعلَّق بها من شرح مشكل، ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي.
فكان لا يضيِّع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التَّصنيف والإفادة.
* جابر بن عبد الله الأنصاري- رضي الله عنهما- رحل شهراً إلى الشام في طلب حديث واحد من عبد الله بن أنيس رضي اللهعنه.
* وأبو أيوب رضي الله عنه خرج إلى عقبة بن عامر رضي الله عنهبمصر يسأله عن حديث.
* سعيد بن المسيَّب- رحمه الله- قال: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
* سعيد بن جبير- رحمه الله- رحل في تفسير آية واحدة من الكوفة إلى المدينة.
* ابن الدَّيلميّ عبد الله بن فيروز- رحمه الله تعالى- قال: بلغني حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- فركبت إليه الطائف أسأل عنه، وكان ابن الديلمي بفلسطين.
* الطَّبريّ وتأليفه التَّفسير والتاريخ:
قال ابن جرير الطَّبريّ- رحمه الله- لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟
فذكر نحوه ثلاثين ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه!
فقال: إنا لله! ماتت الهمم.
فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.
وقال: استخرت الله وسألتُه العون على ما نويتُه من تصنيف التَّفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين، فأعانني([12]).
قال الدكتور عبد الودود شلبي: تردَّدت كثيراً جدًّا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد وفي فناء المبنى الواسع، وضعوا لوحةً كبيرةً كتبوا عليها: أيها المبشر الشاب نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير؛ إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التَّبشيري إلا التَّعب والمرض، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء.
هذه الكلمات حركت كثيراً من حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام، والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب، ودون منصب، ولو أراد أحدكم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل ذلك لأجل الباطل الذي يعتقد صحته.
فيا عجبا كل العجب، عجبا يميت القلب من تجمُّع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرُّقكم عن حقِّكم.
فإنَّ السَّيرَ بلا هدف إهدارٌ للحياة، وتضييع للعمر، والإنسان إذا لم يكن يعرف أين سيتجه فلن يصل، ويعيش في عشوائية وتخبُّط؛ لذلك لابد أن يكون لكل مسلم مشروع أو أكثر في هذه الحياة، ونسأل الله أن يكون هذا الكتيب حافزا لنا على تنظيم أهدافنا ومشاريعنا.
اللهم وفقنا للخير ودلنا عليه، وباعد بيننا وبين الشر يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الم.. 31
. 63 ([1]) رواه أحمد (12569)، وصححه الألباني.
([2]) كنـز العمال (9136).
([3]) رواه البخاري (2823)، ومسلم (2706).
([4]) رواه مسلم (2664).
([5]) فيض القدير (2/293).
([6]) رواه البخاري (6412).
([7]) شذرات الذهب (4/36).
([8]) صيد الخاطر (57).
([9]) رواه الدارمي (570).
([10]) رواه البخاري (3612).
([11]) محاسن التأويل (11/87).
([12]) سير أعلام النبلاء (14/274-275).
لكي نحكم على مشروع ما بالفشل فلابدَّ من تحقيق الأسباب التَّالية أو بعض منها، وهي:
1- اليأس والاستسلام:
فأخطر ما يهدِّد نجاح المشروع سرعة اليأس والاستسلام للعقبات.
إن اليأس يساوي الانتحار، والمؤمن الحقيقي لا ييأس من رحمه الله تعالى، ولا ينكسر أمام تجارب الفشل؛ بل يأخذ منها عدَّة وذخيرة لمواصلة المسير نحو أهدافه بخبرة أعمق، وبصيرة أعظم؛ فهذا المخترع "سينجر" قضى عمره لاختراع ماكينة الخياطة قرابة عشرين سنة يفكر في قطعة لهذه المكينة.
فإيَّاك أيُّها الشَّاب أن تتخلَّى عن الأمل، وأن تستسلم للشُّعور باليأس والهزيمة.
وها هو النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يرشد إلى المبادرة بالعمل والنَّشاط فيه ونبذ اليأس والتَّواكل حتى آخر لحظة: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة- النَّخلة الصَّغيرة- فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»([1]). وروى ابن جرير عن عمارة بن خزيمةبن ثابت قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس؟
فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غداً.
فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسها؟
فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي([2]).
2- التَّشَتُّت:
إنَّ من أسباب الفشل في حياة الإنسان العمليَّة وضياع مشاريعه العظيمة أو ضعف قيمتها العمليَّة وأثرها في حياة الناس، هو تشتُّتُ الإنسان في مشاريع عديدة ربَّما كان الواحدُ منها يحتاج إلى أن يتكاتف الكثيرون في جهودهم من أجل إنجازه، فكيف بالواحد لو أراد أن ينهضَ به بمفرده، فكيف لو شئت جهده الفرديّ في مشروعات عديدة.
ومشتَّت العزمات يقضي عمرَه
حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق
ولذلك فمن العوائق التي قد تمنع إتمامَ المشروعات: البدء في أكثر من مشروع كبير في نفس الوقت، وقد يكون من أمثلة ذلك ما فعله الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله؛ حيث عمل في أكثر من عمل ضخم في نفس الوقت:
فشرع في تحقيق مسند الإمام أحمد، ثم شرع في تحقيق سنن الترمذي، ثم شرع في تحقيق صحيح ابن حبان، ثم شرع في اختصار وتحقيق تفسير ابن كثير، ثم شرع في تحقيق المحلى لابن حزم... فكانت النتيجة عدم إتمامه أيًّا منها.
3- العجز والكسل:
فكم من مطلب عظيم حال دونه كسلُ صاحبه وعجزُه؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بالله منهما في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»([3]).
وحذَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الاستسلام لهذا الدَّاء العضال، وأشار إلى أنَّه من أسباب الضَّعف التي تدخل على مَن عمل شيئاً أو أراده؛ فقال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان»([4]).
الذل في دعة النفوس ولا أرى
عزَّ المعيشة دون أن يُشقى لها
ويقول الرَّاغب الأصفهانيُّ: من تعطل وتبطل انسلخ منالإنسانية- بل من الحيوانية- وصار من جنس الموتى([5]).
وقيل: إيَّاك والكسل والضَّجر؛ فإنَّك إن كسلت لم تؤدِّ حقًّا، وإن ضجرت لم تصبر على الحقِّ.
إنَّ التَّواني أنكح العجز بنته
وساق إليها حين أنكحها مهرا
فراشا وطيئا ثم قال لها: اتكي
فغايتكما لا شك أن تلدا الفقرا
قال آخر:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا
جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
فكابدوا المجد حتى مل أكثرهم
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
والمعنى: أنَّ غيرَك سعى إلى المجد بهمَّة عالية وأنت لخمولك تسعى متكاسلاً وتدبُّ دبيبَ الشَّيخ الهرم؛ فكيف تنال المجدَ؟!
4- التَّأجيل والتَّسويف:
التأجيل هو تأخير المهامّ المطلوبة إلى مواعيد أخرى، وربما نسيانها إلى الأبد.
قال بعض السلف: أنذرتكم "سوف"؛ فإنها من جند إبليس.
ولا أدخر شغل اليوم عن كسل
إلى غد إن يوم العاجزين غد
إذا وضعت الهدف فلا تؤجِّل الانطلاق، وابدأ فورا، ولن تصل إلى تحقيق ما تريد طالما أنَّك تستمرُّ في التَّأجيل.
واترك منى النَّفس لا تحسبه يشبعها
إنَّ المنى رأسُ أموال المفاليس
إنها حجة العاجز الكسول الذي لا يريد أن يعمل شيئاً، فيعلِّل نفسه بفراغ الغد، وهو يعلم أنَّ لكل يوم شغله.
انتبه من رقدة الغفلة، فالعمر قليل
واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
وتأجيل القيام بمشروعاتك يؤدِّي إلى أن يقوم بها غيرُك، ويأخذ زمامَ المبادَرة منك، وأقلّ ما في ذلك من الخسارة أن يظفر غيرُك بالأجر في أعمال الآخرة.
5- إساءة التَّعامل مع الأوقات:
إن أخطرَ مشكلة تواجه الأمم والأفراد هي مشكلة ضياع الأوقات؛ إذ إن ذلك يعني ضياعَ الحياة، وكلُّ فائت قد يستدرك إلا فائت الزَّمَن؛ ولذلك لابدَّ أن ندرك أنَّ الوقتَ لا يتوالد، ولا يتمدد، ولا يتوقف، ولا يرجع للوراء؛ بل للأمام دائماً، ولذا فإنَّ أولَ شروط النَّجاح في الحياة الاستفادة من الوقت، والزَّمنُ في الحقيقة لا يمكن أن يدار من قبل الإنسان؛ حتى وإن كثرت في كتاباتهم عبارة "إدارة الوقت"؛ إذ إنَّ الزمنَ يتحرَّك بقدر الله، ولكن الذي يمكن أن يدار هو استغلالنا للوقت أثناء جريانه.
وقد كثرت النُّصوص والآثارُ في التَّحذير من ضياع الأوقات؛ فضلاً عن أقوال الحكماء والعلماء وأصحاب التَّجارب في الحياة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ»([6]).
يقول ابن عقيل الحنبليّ رحمه الله: إنِّي لا يحلُّ لي أنِّي أضيِّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا منطرح([7]).
وقال ابنُ الجوزيّ- رحمه الله: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته؛ فلا يضيِّع منه لحظةً في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل([8]).
6- الفوضويَّةُ في العمل والتَّخطيط:
والمرادُ بالفوضويَّة اختلاطُ الأمور واضطراب النِّظام العامّ لحياة الإنسان وتفكيره وسلوكه وأولويَّاته؛ فالشَّخص الفوضويّ ضائع الأهداف، مهمل الأعمال، ارتجالي، لا تخطيط له، متخبِّط لا نظامَ لحياته؛ يبدأ في هذا العمل ثم يتركه، ويشرع في هذا الأمر ولا يتمّه، ويسير في هذا الطريق ثم يتجنّبه، ويأخذ في هذا المشروع ثم يملّه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
إنه مولعٌ بإفساد أمره من حيث لا يدري.
7- ضعف الحافز:
سواء كان الحافزُ داخليًّا من نفس الشَّخص أو خارجياً كأن يكون من يحفزه ويحمسه باستمرار، وإنَّ انعدامَ المحفِّز يؤدِّي إلى الفتور والانقطاع في كثير من المشروعات، وحلُّ هذه القضيَّة يكون بالتَّواصي والتَّناصح.
روي عن عليّ بن عاصم حافظ العراق أنَّه قال: دفع إليَّ أبي مائةَ ألف درهم، وقال: اذهب؛ فلا أرى لك وجهاً إلا بمائة ألف حديثاً.
ففي مثل هذه المقولة حافز قويّ له للقيام بمشروعه، وأقوى حافز ابتغاء الأجر ووجه الله والدَّار الآخرة؛ قال تعالى: }وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ{ [آل عمران: 145].
8- ضعفُ المتابعة والمراقبة:
وهذا ممَّا يؤدِّي إلى تأخير الشُّروع والتَّباطؤ فيه، أو إيقافه تماماً؛ لأنَّ الشَّخصَ يكون هو الحكم والخصم في المشروع.
9- ضعف الاستشارة:
ممَّا يؤدِّي إلى نوع من الاستقلاليَّة تؤدِّي إلى جنوح وشَطَحات فكريَّة أو سلوكيَّة.
10- ضعف الثِّقَة بالنَّفس:
أو الشعور بالعجز وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً؛ ممَّا يجعل فيه نوعاً من الاتِّكاليَّة على الغير وترك العمل؛ فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لمَّا توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلمَّ فلنسأل أصحابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّهم اليومَ كثيرٌ.
فقال: واعجباً لك يا ابن عبَّاس؛ أترى النَّاس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى.
فترك ذلك، وأقبلت على المسألة.
فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابنَ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك.
فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك. فأسأله عن الحديث.
قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: كان هذا الفتى أعقلَ منِّي([9]).
11- العجلة وعدم التَّأَنِّي:
فما تكاد تخطر في باله فكرة مشروع حتى يلاحظ بعد فترة بأنَّ مشروعه غير صحيح وكان الأولى غيره.
12- عدم توازن الشَّخصيَّة:
مما يجعله يتذبذب كثيراً في المشروعات؛ فمرَّةً يتحمَّس لطلب العلم، ومرَّةً يشعر أنَّه مقصِّرٌ في حفظ القرآن، ثم يسمع قصة في دعوة الجاليات فيشعر بنوع من الصِّراع النَّفسيّ بتقصيره بهذا الجانب، يريد أن ينجز كل شيء فلا ينجز شيئاً.
وفرق بين هذا وبين من يريد أن يضرب بسهم في كلِّ مجال، فهذه خطته.
13- عدم وجود هدف حياتيّ.
14- عدم الإحساس بالمسؤولية.
15- الإحباط الذاتي.
16- عدم الجدية في العمل والبذل لهذا المشروع.
17- التثبيط عن المشروع ممن هم حوله من إخوانه، وأهله، وبيئته.
18- الانشغال ببنيات الطريق فإنها تفسد المشروعات.
19- الاستعجال في الوصول لثمرة المشروع قبل تمامه:
وهذه علامة ضعف الصبر على المهمات، ومَن ضَعف صبرُه قَلَّ فلاحُه.
ومن قَلَّ فيما يتَّقيه اصطبارُه
فقد قلَّ مما يرتجيه نصيبه
لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من طلب النصر والتمكين قبل أوانه فقال: «والله لَيُتمَّنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الرَّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذنب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون»([10]).
ولهذا كان من القواعد المقرَّرة عند الفقهاء: (أن من استعجل الشَّيءَ قبل أَوَانه، عوقب بحرمانه).
ومستعجل الشَّيء قبل الأوا
ن يصيب الخسار ويجني النصب
لذلك لابدَّ من الصَّبر.
أصحاب الهمم والنَّجاح في المشروعات
القيام ببعض المشروعات يحتاج إلى همَّة عالية ليتمَّ بنجاح.. وإليك بعضاً ممَّن ضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك:
* ذو القرنين ومشروعُ إعمار الأرض: }إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا{ [الكهف: 84]:
مكَّنَ اللهُ لذي القرنين وآتاه من كلِّ شيء سبباً؛ فعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إيَّاها، واستعملها على وجهها لتحقيق هدفه والوصول إلى مبتغاه؛ فبذل جهداً عظيماً وجيَّش جندَه وعدَّته وعتادَه وما يمتلك من مال وقوَّة ليواصل مسيرتَه وجهاده؛ ذلك لأنه أدرك أنَّه لابدَّ من بذل الأسباب والاجتهاد والنّصب ليصل المرء إلى مراده.
وقد سعى "ذو القرنين" لإعمار الأرض وإصلاحها وبنائها حتى بلغ حيث انتهت طاقتُه وقدرتُه، ولم يرض بمنـزلة دون منـزلة أحد من أهل زمانه حتى في مناصب الدُّنيا، ولم يقف عند حدٍّ؛ بل سعى في الأرض حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار بجيوشه حتى بلغ مشرقها ثم أتبع سبباً حتى بلغ بين السَّدَّين، وتملَّك تلك المناطق كلَّها حتى حكم فيها وأثَّر فيها وغدا ملجأً للمظلومين ومأمناً للخائفين.
قال القاسميُّ- رحمه الله: ومن فوائد نبأ ذي القرنين تنشيطُ الهمم لرفع العوائق، وأنَّه ما تيسرت الأسباب فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر عذرا في الخمول والرِّضا بالدُّون؛ بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الرَّاحة والهناء، كما قضى ذو القرنين عمرَه ولم يَذُق إلَّا حلاوة الظّفر ولذّة الانتصار؛ إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون([11]).
* الإمام النوويّ- رحمه الله- كان يقرأ في كلِّ يوم– وليس كل أسبوع أو شهر- اثنا عشر درساً؛ درسين في كتاب "الوسيط"، والثَّالث في كتاب "المهذَّب" الذي شرحه بعد ذلك في كتابه الضَّخم "المجموع"، ودرساً في كتاب الجمع بين الصَّحيحين، ودرساً في صحيح مسلم، ودرساً في كتاب "اللُّمع" لابن جنِّيّ في النَّحو، ودرساً في كتاب "إصلاح المنطق" لابن السّكّيت في اللُّغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه تارةً في "اللُّمع" لأبي إسحاق، وتارةً في المنتخب للفخر الرَّازي، ودرساً في أسماء الرِّجال، ودرساً في أصول الدِّين.
قال: وكنت أعلق جميعَ ما يتعلَّق بها من شرح مشكل، ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي.
فكان لا يضيِّع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التَّصنيف والإفادة.
* جابر بن عبد الله الأنصاري- رضي الله عنهما- رحل شهراً إلى الشام في طلب حديث واحد من عبد الله بن أنيس رضي اللهعنه.
* وأبو أيوب رضي الله عنه خرج إلى عقبة بن عامر رضي الله عنهبمصر يسأله عن حديث.
* سعيد بن المسيَّب- رحمه الله- قال: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
* سعيد بن جبير- رحمه الله- رحل في تفسير آية واحدة من الكوفة إلى المدينة.
* ابن الدَّيلميّ عبد الله بن فيروز- رحمه الله تعالى- قال: بلغني حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- فركبت إليه الطائف أسأل عنه، وكان ابن الديلمي بفلسطين.
* الطَّبريّ وتأليفه التَّفسير والتاريخ:
قال ابن جرير الطَّبريّ- رحمه الله- لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟
فذكر نحوه ثلاثين ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه!
فقال: إنا لله! ماتت الهمم.
فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.
وقال: استخرت الله وسألتُه العون على ما نويتُه من تصنيف التَّفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين، فأعانني([12]).
قال الدكتور عبد الودود شلبي: تردَّدت كثيراً جدًّا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد وفي فناء المبنى الواسع، وضعوا لوحةً كبيرةً كتبوا عليها: أيها المبشر الشاب نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير؛ إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التَّبشيري إلا التَّعب والمرض، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء.
هذه الكلمات حركت كثيراً من حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام، والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب، ودون منصب، ولو أراد أحدكم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل ذلك لأجل الباطل الذي يعتقد صحته.
فيا عجبا كل العجب، عجبا يميت القلب من تجمُّع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرُّقكم عن حقِّكم.
فإنَّ السَّيرَ بلا هدف إهدارٌ للحياة، وتضييع للعمر، والإنسان إذا لم يكن يعرف أين سيتجه فلن يصل، ويعيش في عشوائية وتخبُّط؛ لذلك لابد أن يكون لكل مسلم مشروع أو أكثر في هذه الحياة، ونسأل الله أن يكون هذا الكتيب حافزا لنا على تنظيم أهدافنا ومشاريعنا.
اللهم وفقنا للخير ودلنا عليه، وباعد بيننا وبين الشر يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد صالح المنجد
الم.. 31
. 63 ([1]) رواه أحمد (12569)، وصححه الألباني.
([2]) كنـز العمال (9136).
([3]) رواه البخاري (2823)، ومسلم (2706).
([4]) رواه مسلم (2664).
([5]) فيض القدير (2/293).
([6]) رواه البخاري (6412).
([7]) شذرات الذهب (4/36).
([8]) صيد الخاطر (57).
([9]) رواه الدارمي (570).
([10]) رواه البخاري (3612).
([11]) محاسن التأويل (11/87).
([12]) سير أعلام النبلاء (14/274-275).
تعليق