وسائل تحصيل حلاوة الذكر
أولاً: معرفة المقصود من الذكر وهو إجلال مقام الله والخوف منه وخشيته ومهابته وقدرُهُ حق قدره، وبهذا المعنى يكون الذكر منسحبًا على كل زمان ومكان يوجد فيه الإنسان.
ثانيًا: أن يلحظ الذاكر نعمة الله الخليقة لنوالهم شرف ذكره وكرامة ورود كلماته على الخواطر وجريانها في الجوارح مع تلبسها بمعصيته وجحود آلائه ونعمائه.
ثالثاً: لزوم جناب الاحتشام عند ذكر الله باستحضار مراقبته وإطلاعه، وكان بعض السلف إذا ذكر الله لم يمد رجليه، وقد وصف الله المؤمنين بأنهم: {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} ووجل القلب خوفه من الله، قال أبو حيان في تفسيره، وقرأ ابن مسعود: فرقت، وقرأ أُبي: فزعت.
رابعًا: أن يستشعر ويستحضر معنى حديث: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم والبيهقي والحاكم،
ولا يحولن عطنُ الفلاسفة والمتكلمين والمعطلة والجهمية بينك وبين جمال هذا المعنى وجلاله، فما دمت بنيت في ذهنك مقام الربوبية على الإثبات والتنزيه، فأمِرَّ النصوص كما جاءت كما فعل السلف تنتفع ببركة تلك النصوص.
واعلم أن المدد من الله على قدر تقواك وصبرك، وحضور القلب على قدر استجماع الفكر في الذكر، والدليل قوله تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
خامسًا: عدم اليأس من تأخر الفتح، فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يؤذن له، وملازمة الإلحاح والوقوف بالباب مع الإطراق بانكسار واختجال علامة التوفيق والقبول، تأمل قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} تجد أن المخلّف ممتحن في حقيقة الأمر: {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}.
سادسًا: يقول ابن القيم في الفوائد: من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وإن كان على غفلة ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدئ على غفلة بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه فإذا قوي استتبع لسانه فتواطأ جميعًا، فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه بل يسكن أولاً حتى يُحسنَّ بظهور الناطق فيه، فإذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرًا، وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلبُ اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده. أهـ. ومثل هذا لا يحسنه إلا ابن القيم رحمه الله.
والمذهب عندنا هو الوسيلة الثانية أي عدم الابتداء على غفلة بل يسكن الذاكر حتى يحضر القلب، وسبيله أن يستحضر نفسه واقفًا بباب الرحمة مطرقًا ينتظر الإذن بالدخول ويجول بقلبه الكسير حول معاني الرحمة والود والقبول، فذلك قمين أن يحضر به القلب.
أما لزوم كون.. الذكر من الوارد في السُنَّة فهذا بَدَهي لا نطيل في تقريره، فمن سلك غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم أنىّ له الوصول؟
أما شهود من عاني الذكر ومقاصده فهذا من أعظم أبواب حضور القلب والانتفاع بالذكر وخاصة إذا كانت من المعاني الراقية الرفيعة التي صيغت في حنايا سيد الذاكارين .
وسنضرب مثالاً في كيفية التفكر والتدبر في الذكر ليكون كالشاهد على غيره من الأذكار، فمن أذكار الصباح والمساء التي يرددها المؤمن قوله صلى الله عليه وسلم : "أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكِبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر" رواه مسلم.
فيستحضر ما ذكرناه آنفًا ثم يتدبر الكلمات مظهرًا لفقر والاحتياج والمسكنة، ويجول بقلبه في ملك الله وملكوته، فيتحقق عنده حقائق النعم (أصبحنا)، ويبصر عظيم منة الله إذا منَّ عليه بالحياة فأصبح معافى، مع أنه كان آيسًا من إدراك الصباح، كان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" رواه البخاري، وها هي رعاية الله تتداركه فيرسل لها روحها بعد توفيها، قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} ومع غمرة الفرحة بنعمة الله يتدارك نفسه بذكر المنعم حتى لا تضمحل رؤية المنعم في خضم الفرحة بالنعمة فينسب كل النعم بل كل هذا الملك إلى المنصرف الحقيقي فيه (وأصبح الملك لله) ومع نسبة النعمة لصاحبها والبوء لمسديها لا ينبغي أن ينسى العبد شكر ربه والثناء عليه فيحمده (والحمد لله)، ثم يشهد شهادة التوحيد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) وسر ذلك: الإقرار بالألوهية بعد الإقرار بالربوبية، فالربوبية هي التصرف والتدبير والملك وهي متضمنة في قوله: (أصبحنا وأصبح الملك لله) والألوهية هي إثبات استحقاق الله عز وجل بالألوهية أي كونه إلهًا يعبد ولا يعبد أحدٌ معه، ثم يكرر بعض معاني الربوبية الأخرى ويحوم حول بعض أسمائه عز وجل وصفاته ليصُقل قلبه بتوحيد الأسماء والصفات فهو سبحانه (له الملك) أي أنه الملك، (وله الحمد) أي المحمود الحميد.
ثم يعترف بشمول قدرة الله لكل الأشياء، والشيء أعم لفظة في اللغة لشمولها الموجود والمعدوم والكبير والصغير والعظيم والحقير، ثم يبدأ بعد جولة الثناء على الله، هذه الجولة التي لا بد أن يشعر فيها بتحليق روحه بين تلك المعاني الراقية، الذي هو مخ العبادة، فيبدأ دعاءه المتناسب مع الزمان، فيسأل ربه خير هذا اليوم وخير ما بعده وكلمة (خير) مفرد مضاف، فيفيد العموم كما قال الأصوليون، فهو سؤال لكل خير ولأي خير أن يناله بفضل من الله ورحمة، ومقتضى سؤال الخير ألا يُبتلى بالشر لأن الشر ليس بخير، ولكنه يؤكد الاستعاذة من الشر بترداد ألفاظها إمعانًا في التذلل وتأكيدًا في المسألة وإلحاحًا في الرغبة.
ولما كان الذاكر يستقبل يومًا جديدًا أو ليلة جديدة فإنه يحتاج إلى كل معونة على كل عجز يُقعده عن الانتفاع بيومه وليله، وعجز الإنسان إما أن يكون قدريًا أي لا حيلة له في دفعه، أو كسبيًا، فهو يستعيذ من العجز القدري وهو (سوء الكِبَر) وذلك بأن يبارك له ربه في جوارحه وقوته ونشاطه، ومن العجز الكسبي وهو (الكسل) وذلك بأن يُلهم النشاط وكراهية الدعة والخمول.
ولما كان الذاكر في جولة قلبية مع تلك المعاني المناسبة لزمان اليوم والليلة فإنه يفيق بعد تلك الجولة على حقيقة سيره إلى الله وأن غاية مراده من الذكر والاستعاذة من الشرور أن ينجو حقيقة بدخول الجنة والزحزحة عن النار فيتدارك لسانه هذا الذاكر الذي دندن حوله الرسول r ومعاذ بن جبل فيردد صدى دندنتهما في الكون بترنيمة السالكين الأبدية (رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر).
وفي ذكر القبر في ختام الدعاء والذكر سر عجيب، فإنه بدا ذكره بالتحليق في أرجاء ملك الله الواسع (أصبحنا وأصبح الملك لله) ثم إنه استشعر سعة الكون بشموله قدرته عز وجل وتصرفه فيه، وهو خليق أن يجعله مبهورًا بهذه السعة، فيأتي ذكر القبر ليرده عن هذا التوسع والشعور بالرحابة، ويذكّرَ الضيق الذي ينتظره في القبر وكذا بأهواله وخطوبه.
فيا له من ذكر يصعد بالإنسان إلى أعلى عليين ثم ينزل به إلى اسفل سافلين، فإذا هو بعد الذكر قد تجلت له الحقائق ورأى الدنيا وملك الله من زاوية السعة ومن زاوية الضيق فتتضاءل نفسه أمام هذا الإعجاز وتصغر ذاته في عمق هذه المعاني، وهذه هي أحلى فوائد الذكر، أن يجد الذاكر في نفسه قدرة على إدراك حقائق الأمور، فيرى ضالة ذاته، وعظمة ربه، ويبصر تصرف المليك في الكون والخليقة.
سابعًا: أفضل أحوال الذكر: يفضل الذكر في الخلوات عنه في الجلوات أي على مشهد من الناس، قال صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين سيظلهم الله في ظله: "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه". رواه البخاري، والخلوة يجب أن تكون بمنأى عن أعين الناس وعن جلبتهم وضوضائهم، لذا يفضل في الخلوة الهدوء التام والظلام وعدم الإزعاج وقطع لحظات المناجاة، ولا يشرع اتخاذ الخلوات في الجبال والفيافي بما يشبه الرهبنة كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية، بل الخلوة الشرعية تكون في المسجد بالاعتكاف أو في المنازل والبيوتات، ولا يشرع الاعتزال واتخاذ الخلوة في شعب الجبال إلا زمان الفتن التي تعصف بالإيمان والمؤمنين، أما زمن الجهاد والدعوة والإصلاح فلا تشرع العزلة بحال على قول جمهور الفقهاء والمحدثين وأهل السلوك.
وثمة آداب أخرى في حق الذاكر يستحب له إتيانها منها لبس أحسن الثياب وتجديد الوضوء والتطيب واستقبال القبلة على الدوام، ودوام الإطراق، ولزوم الأدب في الجلوس، واستصحاب السواك واستعماله.
تنبيه: واعلم أيها النابه أن كل ما ذكرناه لك عن الذكر وفقهه وآدابه وأحكامه وأسراره يجري في قراءة القرآن الكريم وتدبره وتفهمه، فهو أعظم الذكر وأحلاه.
فاستحضر ما قررناه ونفذه عند تلاوة القرآن الكريم مع ضرورة الإلمام بجملة من فضائل تلاوة القرآن وتدبره في نصوص الكتاب والسنة فإنه خير معوان لك على حب القرآن والانتفاع منه وبه.
وسيأتي إن شاء الله فصل خاص حول تلاوة القرآن نلخص فيه كلام الغزالي رحمه الله.
***
أولاً: معرفة المقصود من الذكر وهو إجلال مقام الله والخوف منه وخشيته ومهابته وقدرُهُ حق قدره، وبهذا المعنى يكون الذكر منسحبًا على كل زمان ومكان يوجد فيه الإنسان.
ثانيًا: أن يلحظ الذاكر نعمة الله الخليقة لنوالهم شرف ذكره وكرامة ورود كلماته على الخواطر وجريانها في الجوارح مع تلبسها بمعصيته وجحود آلائه ونعمائه.
ثالثاً: لزوم جناب الاحتشام عند ذكر الله باستحضار مراقبته وإطلاعه، وكان بعض السلف إذا ذكر الله لم يمد رجليه، وقد وصف الله المؤمنين بأنهم: {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} ووجل القلب خوفه من الله، قال أبو حيان في تفسيره، وقرأ ابن مسعود: فرقت، وقرأ أُبي: فزعت.
رابعًا: أن يستشعر ويستحضر معنى حديث: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم والبيهقي والحاكم،
ولا يحولن عطنُ الفلاسفة والمتكلمين والمعطلة والجهمية بينك وبين جمال هذا المعنى وجلاله، فما دمت بنيت في ذهنك مقام الربوبية على الإثبات والتنزيه، فأمِرَّ النصوص كما جاءت كما فعل السلف تنتفع ببركة تلك النصوص.
واعلم أن المدد من الله على قدر تقواك وصبرك، وحضور القلب على قدر استجماع الفكر في الذكر، والدليل قوله تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
خامسًا: عدم اليأس من تأخر الفتح، فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يؤذن له، وملازمة الإلحاح والوقوف بالباب مع الإطراق بانكسار واختجال علامة التوفيق والقبول، تأمل قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} تجد أن المخلّف ممتحن في حقيقة الأمر: {ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}.
سادسًا: يقول ابن القيم في الفوائد: من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وإن كان على غفلة ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدئ على غفلة بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه فإذا قوي استتبع لسانه فتواطأ جميعًا، فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه من غير أن يخلو قلبه منه بل يسكن أولاً حتى يُحسنَّ بظهور الناطق فيه، فإذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرًا، وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلبُ اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده. أهـ. ومثل هذا لا يحسنه إلا ابن القيم رحمه الله.
والمذهب عندنا هو الوسيلة الثانية أي عدم الابتداء على غفلة بل يسكن الذاكر حتى يحضر القلب، وسبيله أن يستحضر نفسه واقفًا بباب الرحمة مطرقًا ينتظر الإذن بالدخول ويجول بقلبه الكسير حول معاني الرحمة والود والقبول، فذلك قمين أن يحضر به القلب.
أما لزوم كون.. الذكر من الوارد في السُنَّة فهذا بَدَهي لا نطيل في تقريره، فمن سلك غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم أنىّ له الوصول؟
أما شهود من عاني الذكر ومقاصده فهذا من أعظم أبواب حضور القلب والانتفاع بالذكر وخاصة إذا كانت من المعاني الراقية الرفيعة التي صيغت في حنايا سيد الذاكارين .
وسنضرب مثالاً في كيفية التفكر والتدبر في الذكر ليكون كالشاهد على غيره من الأذكار، فمن أذكار الصباح والمساء التي يرددها المؤمن قوله صلى الله عليه وسلم : "أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكِبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر" رواه مسلم.
فيستحضر ما ذكرناه آنفًا ثم يتدبر الكلمات مظهرًا لفقر والاحتياج والمسكنة، ويجول بقلبه في ملك الله وملكوته، فيتحقق عنده حقائق النعم (أصبحنا)، ويبصر عظيم منة الله إذا منَّ عليه بالحياة فأصبح معافى، مع أنه كان آيسًا من إدراك الصباح، كان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" رواه البخاري، وها هي رعاية الله تتداركه فيرسل لها روحها بعد توفيها، قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} ومع غمرة الفرحة بنعمة الله يتدارك نفسه بذكر المنعم حتى لا تضمحل رؤية المنعم في خضم الفرحة بالنعمة فينسب كل النعم بل كل هذا الملك إلى المنصرف الحقيقي فيه (وأصبح الملك لله) ومع نسبة النعمة لصاحبها والبوء لمسديها لا ينبغي أن ينسى العبد شكر ربه والثناء عليه فيحمده (والحمد لله)، ثم يشهد شهادة التوحيد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) وسر ذلك: الإقرار بالألوهية بعد الإقرار بالربوبية، فالربوبية هي التصرف والتدبير والملك وهي متضمنة في قوله: (أصبحنا وأصبح الملك لله) والألوهية هي إثبات استحقاق الله عز وجل بالألوهية أي كونه إلهًا يعبد ولا يعبد أحدٌ معه، ثم يكرر بعض معاني الربوبية الأخرى ويحوم حول بعض أسمائه عز وجل وصفاته ليصُقل قلبه بتوحيد الأسماء والصفات فهو سبحانه (له الملك) أي أنه الملك، (وله الحمد) أي المحمود الحميد.
ثم يعترف بشمول قدرة الله لكل الأشياء، والشيء أعم لفظة في اللغة لشمولها الموجود والمعدوم والكبير والصغير والعظيم والحقير، ثم يبدأ بعد جولة الثناء على الله، هذه الجولة التي لا بد أن يشعر فيها بتحليق روحه بين تلك المعاني الراقية، الذي هو مخ العبادة، فيبدأ دعاءه المتناسب مع الزمان، فيسأل ربه خير هذا اليوم وخير ما بعده وكلمة (خير) مفرد مضاف، فيفيد العموم كما قال الأصوليون، فهو سؤال لكل خير ولأي خير أن يناله بفضل من الله ورحمة، ومقتضى سؤال الخير ألا يُبتلى بالشر لأن الشر ليس بخير، ولكنه يؤكد الاستعاذة من الشر بترداد ألفاظها إمعانًا في التذلل وتأكيدًا في المسألة وإلحاحًا في الرغبة.
ولما كان الذاكر يستقبل يومًا جديدًا أو ليلة جديدة فإنه يحتاج إلى كل معونة على كل عجز يُقعده عن الانتفاع بيومه وليله، وعجز الإنسان إما أن يكون قدريًا أي لا حيلة له في دفعه، أو كسبيًا، فهو يستعيذ من العجز القدري وهو (سوء الكِبَر) وذلك بأن يبارك له ربه في جوارحه وقوته ونشاطه، ومن العجز الكسبي وهو (الكسل) وذلك بأن يُلهم النشاط وكراهية الدعة والخمول.
ولما كان الذاكر في جولة قلبية مع تلك المعاني المناسبة لزمان اليوم والليلة فإنه يفيق بعد تلك الجولة على حقيقة سيره إلى الله وأن غاية مراده من الذكر والاستعاذة من الشرور أن ينجو حقيقة بدخول الجنة والزحزحة عن النار فيتدارك لسانه هذا الذاكر الذي دندن حوله الرسول r ومعاذ بن جبل فيردد صدى دندنتهما في الكون بترنيمة السالكين الأبدية (رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر).
وفي ذكر القبر في ختام الدعاء والذكر سر عجيب، فإنه بدا ذكره بالتحليق في أرجاء ملك الله الواسع (أصبحنا وأصبح الملك لله) ثم إنه استشعر سعة الكون بشموله قدرته عز وجل وتصرفه فيه، وهو خليق أن يجعله مبهورًا بهذه السعة، فيأتي ذكر القبر ليرده عن هذا التوسع والشعور بالرحابة، ويذكّرَ الضيق الذي ينتظره في القبر وكذا بأهواله وخطوبه.
فيا له من ذكر يصعد بالإنسان إلى أعلى عليين ثم ينزل به إلى اسفل سافلين، فإذا هو بعد الذكر قد تجلت له الحقائق ورأى الدنيا وملك الله من زاوية السعة ومن زاوية الضيق فتتضاءل نفسه أمام هذا الإعجاز وتصغر ذاته في عمق هذه المعاني، وهذه هي أحلى فوائد الذكر، أن يجد الذاكر في نفسه قدرة على إدراك حقائق الأمور، فيرى ضالة ذاته، وعظمة ربه، ويبصر تصرف المليك في الكون والخليقة.
سابعًا: أفضل أحوال الذكر: يفضل الذكر في الخلوات عنه في الجلوات أي على مشهد من الناس، قال صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين سيظلهم الله في ظله: "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه". رواه البخاري، والخلوة يجب أن تكون بمنأى عن أعين الناس وعن جلبتهم وضوضائهم، لذا يفضل في الخلوة الهدوء التام والظلام وعدم الإزعاج وقطع لحظات المناجاة، ولا يشرع اتخاذ الخلوات في الجبال والفيافي بما يشبه الرهبنة كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية، بل الخلوة الشرعية تكون في المسجد بالاعتكاف أو في المنازل والبيوتات، ولا يشرع الاعتزال واتخاذ الخلوة في شعب الجبال إلا زمان الفتن التي تعصف بالإيمان والمؤمنين، أما زمن الجهاد والدعوة والإصلاح فلا تشرع العزلة بحال على قول جمهور الفقهاء والمحدثين وأهل السلوك.
وثمة آداب أخرى في حق الذاكر يستحب له إتيانها منها لبس أحسن الثياب وتجديد الوضوء والتطيب واستقبال القبلة على الدوام، ودوام الإطراق، ولزوم الأدب في الجلوس، واستصحاب السواك واستعماله.
تنبيه: واعلم أيها النابه أن كل ما ذكرناه لك عن الذكر وفقهه وآدابه وأحكامه وأسراره يجري في قراءة القرآن الكريم وتدبره وتفهمه، فهو أعظم الذكر وأحلاه.
فاستحضر ما قررناه ونفذه عند تلاوة القرآن الكريم مع ضرورة الإلمام بجملة من فضائل تلاوة القرآن وتدبره في نصوص الكتاب والسنة فإنه خير معوان لك على حب القرآن والانتفاع منه وبه.
وسيأتي إن شاء الله فصل خاص حول تلاوة القرآن نلخص فيه كلام الغزالي رحمه الله.
***
تعليق