قال تعالى:
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
سورة آل عمران: الآية (103)
أولاً : مفهوم التعصب الحزبي:
التعصب ظاهرة اجتماعية لها بواعث نفسية شتى [1]، وقد تساعد على تنميتها دوافع فكرية أو سياسية أو ثقافية أو دينية ... الخ، ولعل من أبرز صور التعصب الفكري اليوم هو التعصب ضد المسلمين، فباتوا يصفون المسلمين بالمتعصبين، وكلما ازداد المسلمين تمسكاً بتعاليم دينهم انكال أعداء الإسلام عليهم باصطلاح أشد تعصباً فوصفوهم بالمتعصبون أو المتشددون أو المتزمتون وأخيراً المتطرفون إلى غيرها من الألفاظ التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين وتسعى لإحداث الفرقة بين أبناءه.
ولكي يتضح المقصود بالتعصب الحزبي الوارد في عنوان هذه الورقة، يجدر بنا تحليل مفردات العنوان للتعرف على مضمون التعصب الحزبي، أما التعصب فيأتي في اللغة بمعنى الشدة يقال لحم عصب: صلب شديد، وأتعصب أشتد، والعصب: الطي الشديد، وعصب رأسه وعصبه تعصيباً: شده واسم ما شد به العصابة، ومنه قوله عز وجل (هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [2] أي شديد ، والتعصب من العصبية والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين[3].
واصطلاحاً فهو التشدد وأخذ الأمر بشدة وعنف وعدم قبول المخالف ورفضه والأنفة من أن يتبع غيره ولو كان على صواب، وهو نصرة المتعصب لقومه أو جماعته أو من يؤمن بمبادئه سواء كانوا محقين أم مبطلين، وسواء كانوا ظالمين أو مظلومين[4].
أما الحزب، وجمعه أحزاب : يعني كل طائفة أو جماعة جمعهم اتجاه نحو غرض واحد سياسياً كان ذلك الغرض أو غير سياسي، وغلب حالياً إطلاق مصطلح الحزب على التنظيم الذي يجمع جماعة من الأفراد تشترك في تصور واحد لبعض المسائل السياسية، وتكون رأياً انتخابياً واحداً [5]، والتحزب يعني انتظام الناس في أحزاب، ويمكن أن يشتق منه أيضاً حزبي أو حزبياً أي ينتمي لجماعة معينة.
ويرى الكاتب أنه يمكن تعريف التعصب الحزبي بأنه: المبالغة الشديدة في مناصرة طائفة أو حزب معين والدفاع عنه – بغض النظر على حق كان أم باطل- والرفض الشديد لأي من الأفكار التي تعادي دستور أو مبادئ الحزب، وتقديم الولاء المطلق لقادته.
هل التعصب الحزبي محمود أم مذموم؟
اتجه البعض[6] إلى أن التعصب في حد ذاته لا يعد سلوكاً مذموماً مادام هنالك ضوابط، بمعنى لا يعاب على صاحبه بل هو من صميم إيمانه طالما كان الموصوف به خادماً مطيعاً وراعياً أميناً لوطنه وأمته ومبادئ دينه، فالأولى بالمسلم أن يكون تعصبه في إطار الحق دون انزلاق تجاه الشهوة أو الغنيمة أو السلطة أو الجاه.
وبذلك فإن أنصار هذا الاتجاه يرون أن التعصب الحزبي لا يعد في حد ذاته سمة سيئة، طالما أن هنالك إيمان بأفكار هذا الحزب وطالما أن الهدف من وراء هذا التعصب هو هدف يحقق مصلحة وطنية كبرى، وليس مآرب شخصية، فمتى تحول هذا التعصب وسيلة لتحقيق غاية ذاتية كان التعصب ممقوتاً مذموماً.
ويرى الكاتب أن هذا التبرير ما هو إلا وسيلة لتجميل صورة التعصب لوصفة بما لم يتصف به، وهي محاولة للتزيين بغرض إقناع أعضاء الحزب الواحد بأن يؤمنون به من أفكار قد تنزهت عن الخطأ، وبالتالي تُعْصِب أعينهم عن الرؤية السليمة للحقائق، وتُعْصِب قلوبهم عن الإدراك بأنهم قد وقعوا – دون وعي - في شباك التعصب الحزبي.
كما أن ذلك يخالف ما جاءت به الشريعة الإسلامية باعتبارها – بلا شك - مرتكزة على الإيمان بمشروعية التعدد في الآراء والتوجهات، فالمجتمعات التي تعتمد مشروعية "التعددية الفكرية" هي التي تعتمد تعددية التنظيم والانتظام في الأحزاب[7] ، وهذا ما أكده الإسلام عند التحدث عن وحدة "الدين" من لدن آدم إلى محمد، وعبر كل الرسل والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، فإنه قد تحدث عن التعددية في "الشرائع" لأمم الرسالات، فقال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [8]، وأكد التعدية أيضاً قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [9]، فالدين واحد، أزلاً وأبداً، والشرائع متعددة، أزلاً وأبداً، كذلك فهنا وحدة، وتعددية في إطار الوحدة [10]، وبالتالي فإن التجربة السياسية الأولى لدولة الإسلام قد شهدت من "المؤسسات" ما "يشبه" التمايز التنظيمي – لا الحزبي – على نحو من الأنحاء.
تعليق