السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حلاوة الطاعة وشؤم المعصية
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي -رحمه الله تعالى-
منقول من كتاب : " صيد الخاطر "
حلاوة الطاعة وشؤم المعصية
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي -رحمه الله تعالى-
منقول من كتاب : " صيد الخاطر "
كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة و كل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في االآخرة . فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي الله عنهما : "ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء " .
وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم ، و خوف بعذاب من عذاب .
فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل ، و كذلك كل مذنب ذنباً ، وهو معنى قوله تعالى : {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء : 123] .
و ربما رأى العاصي سلامة بدنه و ماله فظن أن لا عقوبة ، و غفلته عما عوقب به عقوبة .
و قد قال الحكماء : المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، و الحسنة بعد الحسنه ثواب الحسنه .
و ربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل :" يا رب كم أعصيك و لا تعاقبني ؟ " فقيل له : " كم أعاقبك وأنت لا تدري أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟" .
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد ، حتى قال وهب بن الورد و قد سئل : أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ فقال : و لا من هَـمَّ .
فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته أو لسانه فحُرِم صفاء قلبه ، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره ، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة ، إلى غير ذلك .
و هذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس و على ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً ، كما في حديث أبي أمامة : عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى : "النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان ، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه" .
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها .
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس ، و من ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : "الصُبحة تمنع الرزق ، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" .
و قد روى المفسرون : أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولداً ، و جاء يوسف بأحد عشر بالهمة ، و مثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء و فهم كما قال الفضيل : " إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي ".
و عن أبي العثمان النيسابوري : أنه انقطع شسع نعله في مُضِيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة ، ثم قال : " ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غُسل الجمعة " .
و من عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف : 20] امتدت أكفهم بين يديه بالطلب ، يقولون : {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف : 88] .
و لما صبر هو يوم الهَمَة ملك المرأة حلالاً ، و لما بغت عليه بدعواها : {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف : 25] أنطقها الحق بقولها {أَنَا رَاوَدْتُهُ} [يوسف : 51] .
ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك ، وكذلك إذا فعل طاعة . و في الحديث : "إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة ، أي عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة" .
و لقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع ، طلباً للراحة العاجلة ، انقلبت أحواله إلى التنغص العاجل ، و عكست عليه المقاصد .
حكى بعض المشايخ : أنه اشترى في زمن شبابه جارية ، قال : " فلما ملكتها تاقت نفسي إليها ، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقا يرخص لي " .
فكلهم قال : " لا يجوز النظر إليها بشهوة ، و لا لمسها ، و لا جماعها إلا بعد حيضها " .
قال : "فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت و هي حائض " ، فقلت : " قرب الأمر" .
فسألت الفقهاء فقالوا : " لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في مُلكه " .
قال : فقلت لنفسي و هي شديدة التوقان لقوة الشهوة ، و تمكن القدرة و قرب المصاقبة : "ما تقولين ؟".
فقالت : "الإيمان بالصبر على الجمر ، شئت أم أبيت" .
فصبرت إلى أن حان ذلك ، فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيلي ما هو أعلى منها وأرفع . اهـ.
*****
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
والحمد لله
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل
والحمد لله
تعليق