يقول المبتدؤون والمتوسطون من الكتَّاب: بنات الأفكار. إذا أرادوا أن يملِّحوا العبارة، ويدلوا على منزلهم في علم الاستعارة، وهم لا يشعرون عند لفظ هاته الكلمة من أفواههم إلا بتلك الاستعارة المطروقة المبذولة حدوث ذلك الشيء الذي ذكروه عن ازدواج المقدمات وتمخض الفكر.
وربما كان البعض ذاهلًا أو عاجزًا عن هذا المقدار؛ فلا عجب أنهم ذهلوا عن شيء أكبر منه أفادته العبارة وما أراده قائلها: وهو تمام التشابه بين الأفكار وبين انتساب البُنُوة من جميع أطرافه، حتى تجد مُبْتَكَرَ فكرك منك بمنزلة ابنك أو بنتك، وكأنهم اختاروا الثاني؛ قصدًا للمبالغة في الحرمة والغيرة.
احترام النسب يقع على وجهين: احترامه قبل قوامه، أي أن يُتوخى كل ما يدفع اختلاطًا أو فسادًا في النسب، وهو الذي سماه علماء الشريعة حفظ الأنساب، وناطوه مع الكليات التي كانت أساس قانون الشرع التفصيلي، واحترامه من الاعتداء عليه بعد وجوده أن لا يسبَّ أو ينبذ، أو يقابل بالطعن.
فإذا كانت الأفكار أنسابًا أدبية فبغير شك يكون الاجتراء عليها بواحد من هذين الجرمين- اللذين احترما بالاحترامين- جنايةً عظيمةً في باب الأدب لو سنَّ له أهله حدودًا يُخزى بها المعتدون، ويخسأ بها المتكالبون.
وضع شيء في غير ما وضعته يد الزمان، وإن تقصى عن كلفة التصنع لا يفارق مفسدة الاجتراء على بعثرة نواميس الكون والاعتداء على نظامه، وإيهام غير الواقع فيه واقعًا.
وفي ذلك من قلب الحقيقة ما أوجب تحريم الكذب، وتكرير لعن صاحبه، فإذا كان الكذب الذي يذكرونه التمويه اللساني، فهذا التمويه الفعلي الذي يكون أشد متى كان الفعل أوقع من القول: لو عمدت إلى رجل من سوقة الناس، فأسندت إليه مسائل حققتها، أو رسائل نَمَّقتها، لكنت توحي إلى الأمة أن تسند إلى هذا الرجل منصب الرئاسة في علومها، أو أن تكل إليه قلمها الذي به تدافع عن نفسها.
وفي هذا ما يجر الفساد لنفسك ولصاحبك وللأمة، أما الثالثة فقد ضرب فيها الفساد منذ صارت بيد من لا يعرف كيف يدير، وحسبك من هاته الكلمة تشخيصًا لحالها.
وأما صاحبك فرجل ألقي إلى الأمة بذلك الوصف العظيم، فكيف تراه والمشاكل تتقاطر عليه، وعيون الحيرة تعشو إلى ضوء اهتدائه، وتنظر إليه، ثم لا يبوء لهم أمرهم إلا بضلال مبين، أو سكوت إن كان المسؤول من خُلَّص الجاهلين.
وأما نفسك فأنت إذن بها أعرف.
قضت سنة الله في الناس أن تخضع نفوسهم إلى الحق والواقع والثابت، ترى الرجل تُسند إليه الهِنةُ وهو بريء منها، فتصعد إلى دماغه دماء الغضب، ويدافع عن نفسه دفاع البريء المخلص، بلسان فصيح، وقلب صحيح، ثم تراه تسند إليه تلك السيئة إن كان قد اقترفها، فيطأطىء لها رأسًا، ولا يجد منها مناصًا، مهما سترها بأطمار الجحود والمكابرة، حتى تفتضح حاله عند الفراسة الصادقة، أو يزلق لسانه عند البحث الشديد، أليس ذلك آية على أن النفس تخضع إلى الحق وإن لم يكن مشتهاها؟ وتبرأ من الباطل وإن كان هواها؟
كذلك الرجل يبلوه الله تعالى بنبات ذرية سوء، فيستسلم إلى ما قدر عليه، فلو كان ذلك الولد دَعِيَّه لقرع السن من ندم، ورضي أن لو باء من سعيه بالعدم.
هكذا حال الأفكار ومنشئاتها متى أسندت إلى غير أصلها قارنتها ندامة واغتباط، وفضيحة تلوح على أخواتها مِنْ تخالفِ شكل، وانحلال، ورباط.
لعل في هذا المقدار مَقْنَعًا من إيصال هذا الإحساس الحكمي إلى نفوسكم أيها النقاد، وتعريفًا بوجوب دعائنا الأفكار إلى آبائها؛ لنقوم بالقسط، فلن نكون كذي ذهن عاقر يُشَوِّه فضيلته بانتحال أفكار ما كان لينال أمثالها.
قد تغتفر الأمور الضرورية والإحساسات الفطرية العامة التي تشترك فيها أفراد الأمة متى تقاربت في الشعور، فلا يجب إسنادها، وربما استحال في البعض ذلك، إن الذي قالها بالأمس لم يصدر كلامه حتى قال مثلها، أو قاربها اليوم آخر.
أما احترام الفكر بالمعنى الثاني فحق على كل صاحب فكر أن يقابل فكر غيره بالاحترام دون السخرية والهزو؛ فإن الاسترسال على ذلك يُجْبِنُ الذين تخلقت فيهم مبادئ العقل النظري عن الإعلان بما وُهِبوه؛ خشية الاستهزاء والاستسخار، ولو كانت قد وصلت إلى التمكن والرسوخ لأَمَّنا عليها حتى إن تتستر كشمس تحت السحاب، أو كإدبار المحترف للقتال، أترون ذلك يرزونا المنفعة المقصودة؟ ولكننا لا نخشى عليها إلا أن تموت تحت أقفال الأسر في صباها، وما بلغت أَشُدًّا تستطيع به مقاومةَ الزمان، ولَيَّ أيدي المضطهدين.
نحن نوقن أن أفكارًا ساقطة تنشأ في الأمة قد يجب الضغط أن لا تشيع؛ فتستهوي أقوامًا غافلين بسطاء، فتصبح وباءًا في الأفكار المهزولة.
ولكنَّا لما وازنَّا بين هاته المصلحة النادرة، وبين المفسدة الكبرى التي كانت ولا زالت تتضاءل من اضطهاد الأفكار السامية، باسم التحقيق آونة وباسم.... أخرى؛ لأنها لا توافق الرغبات، ولا تجاري الشهوات حكمنا للأفكار باحترامها، وجعلنا البحث والنقد معيارًا يُمَيِّز به خبيثها من طيبها، ولا يلبث الحق أن يهزم الباطل.
لو كنا نضطهد الأفكار لاشتبه الباطل منها بالحق، فيصرخ يستنصر لاهتضامه كما يستصرخ الحق شيعته، وربما وجد من السامعين قلوبًا ترق للمضعوف وإن جار، فيصبح فتنة أشد مِنْ أَنْ لو ترك يتمارض بالنقد الصحيح والحجة الدامغة، حتى يموت حتف أنفه، ثم لا يثأر له أحد.
ليس يحول هذا دون الواجب من تقويم المخطئ، إنا نعني باحترام الفكر أن لا يُتَعرَّض لصاحبه الشخصي بالطعن والاستخفاف.
ولكن التقويم يكون بصفة كلية، وتعريض بسيط بين سقوط الرأي بوجه برهاني، أو خطابي ينفر الغافلين.
وليس احترام الأفكار يأبى مناقشتها والحكم بضعفها، لكن تجب الأناة في الحكم على الفكر أن لا يتعرض له بالنقد، مادام فيه احتمال الصواب.
أليس في ارتياء مقاصد المتكلمين قبل التسارع إلى تغليطهم ببوادر الظنون، أو بشهوات نفس تخب خَبَبَ البازل الأمون، ما نقتصد به زمان المراجعة إلى استئناف شيء جديد، ونحفظ به كرامة الاتحاد، وسلامة الضمير، ونسلم به من افتضاح حب التشفي، والانتقام لإطفاء ثوائر الحسد والغل؟
ما كان التقرير على الخطأ إلا خطًا وتضليلًا، ولكن نظيره في التضليل، وأعظم منه فسادًا التسارعُ إلى تغليط الصائبين، لاسيما إن قارنه ما يقارن سفاهة الرأي، وضيق الصدر، وبالثاني غليل الجهل من تفويق سهامِ نقدٍ تخطئ الرمية، والأخذ بسلاح العاجزين من الغيبة والشتيمة التي تسترحم عن قصد صاحبها من غير غرض ترشقه، اللهم إلا رأي رجل اعْتَدْت منه المكابرة، والمسارعة إلى الزج بنفسه فيما لا يدبر منه مخرجًا، ولا يجد لمثله فيه مولجًا، ثم قومته المرة والمرتين، فما زاده تقويمك إلا عنادًا، ولا أكسبه اقتصادك إلَّا سرافًا وازديادًا؛ فإنك إن رأيت منه ما يقتضي أن تسلك معه مسلك الخطابة من تقبيح انتحاله، وتشخيص مشوه حاله، فلا ملام عليك إن كنت قد صادفت البلاغة في فعلك أو قاربت.
قد ترى قومًا أغرقوا في احترام أفكار الناس وما كل الناس إلى غور عميق، فغشيهم ظلام طمس على أعينهم حتى تلقوا كل قول بالتأييد، وحكموا في كلا المتناقضين بأنه سديد، واتسموا- أكرمك الله- بِسمَةِ البليد، ثم ترى رجلًا يخترق قلوبهم بنصائح تفتح لهم أعينًا عميًا، وقلوبًا غلفًا، وهم في صمم عن تلقيها؛ أفتعذره إن رأيته يسلك معهم ذلك المسلك؟ أم تعذره إن خالف ما تأصل من احترام الأفكار؟
لعلك تشعر ساعتئذٍ بأن أصول التهذيب دواليب تدور، وأنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور؟
سيظن البسطاء من الناس أن احترام الأفكار، وحريتها يخولها حق الاجتراء بنحو الشتيمة، ولكنه ظن سريع التقشع متى وجدوا لسانًا حكيمًا يبين لهم أنَّ الحرية والاحترام شيء، وأنَّ الاجتراء شيء آخر؛ لأنَّ الحرية إنما ينالها المرء بعد شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها، وإلا كانت الاستعباد الذي نفر منه، فإن طلبت أنفسهم زيادة البيان، فإنا نحيلهم على كلام طويل في معنى الحرية، لو بسطناه لفصم عنا سلك الكلام في مرادنا من هذا المقال.
فإذا كانت الأفكار محترمة- كما قلنا- فالاجتراء عليها بما ذكرنا يتساهل عقوبة على خرق سياج هذا الاحترام حقًّا؛ لأن ذلك يثير العصبيات ويجفي عن الحقيقة التي ما احترمت الأفكار إلا لأجل الوصول إليها.
من أكبر الأسباب في تقدم الأمة بعلومها وقبولها لرتبة التنوير، وأهليتها للاختراع في معلوماتها أن تشب على احترام الآراء على الوجه الذي وصفنا من قبل، وعسى أن نصف من بعد.
وقد كان للمسلمين من ذلك الحظ الذي لم يكن لغيرهم يومئذٍ من التسامح مع الأفكار، شهد بذلك التاريخ وأهله إلا المتعصبين منهم، مع ما كان بين أصناف أهل الآراء من التناظر والجدل، ولكنك لا تجد ذلك محفوظًا بتعصب ولا اضطهاد، كنت ترى الأشعري بين يدي المعتزلي لا يستنكف عن تلقي فوائده، والاعتراف له بحق التعليم، وترى السني يتعلم عن القدري وعن الفيلسوف الشاك ِّ، قد كان عمرو بن عبيد الزاهد الشهير من خاصة تلاميذ الحسن البصري رحمهما الله، وهو الذي كان مكلفًا بكتابة ما يمليه الحسن من التفسير الذي يرد به على القدرية والمعتزلة، وما كان يمنعه ذلك من المجاهرة باتباعه مذهب المعتزلة، ومن التحاقه بدروس واصل بن عطاء الغزال الذي قال له الحسن لما كثرت مناقشته: اعتزل مجلسنا. فكان عمرو بن عبيد يختلف إلى الدرسين جميعًا، وما كان ذلك يمنع الحسن من تكليفه بإملاء تفسيره، حتى استخدم اختلاف الآراء آلة للتشيع السياسي حين أذنت الدولة العربية والجامعة الإسلامية بالانحلال والافتراق اللذين تركا من الآثار ما نحن نتخبط في مصائبه ولأوائه حتى اليوم.
وكذلك الحَجْر على الرأي يكون منذرًا بسوء مصير الأمة، ودليلًا على أنها قد أوجبت نفسها خفية من خلاف المخالفين، وجدل المجادلين، وذلك يكون قرين أحد أمرين، إما ضعف في الأفكار، وقصور عن إقامة الحق، وإما قيد الاستعباد الذي إذا خالط نفوس أمة كان سقوطها أسرع من هويّ الحجر الصلد.
حكى الجاحظ: أنَّ النظَّام دخل على شيخه أبي هذيل العلَّاف، فقال: يا أبا الهذيل! لم قررتم أن يكون الله تعالى جوهرًا خشية أن يكون جسمًا؟ فهلاَّ قررتم أن لا يكون جوهرًا مخافة أن يكون عرضًا، والجوهر أضعف من العرض، فبصق أبو هذيل في وجهه فقال النظَّام: قبحك الله من شيخ ! فما أضعف حجتك!.
وكان الخليفة المأمون يقول لأهل ناديه إذا جاروه على كلام: هلاَّ سألتموني لماذا؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة.
دامت على ذلك الأمة الإسلامية متمتعة باحترام الأفكار، جرى كل واحد على أن يبوح برأيه، وجرى كل مستمع على تقويمه بالحق، وإن وقع في خلال ذلك حادثة صغيرة وقعت بالقدس بين الباطنية وأهل السنة؛ إلا أنهما لأسباب عالية، وغلط فاحش لا يسع ذكره اليوم.
لما استخدمت الآراء للسياسة، وشاعت المداهنة بين الناس، وضعفت الكبراء عن الحجة، يومئذٍ ساد اضطهاد الأفكار والضغط عليها؛ كي لا تسود على مخالفتها القاصرين الظاهرين في مظاهر العلماء المحققين.
نعني بالسياسة ما يقرن سياسة الدول في تصرفاتها وأغراضها بسياسة الأشخاص المسيطرين في هواهم، وربما كان القسم الثاني أشد على الأفكار لكثرة دواعيه، ووفرة منتحليه، وأنواع وجهتهم في هذا الغرض: منهم من يفعل ذلك إبقاءً على منصبه، واستحفاظًا على وجاهته؛ لأنه يخال أن كل مخالفة له في الرأي تنذر بثَلِّ عرشه، وزلزال أركانِه، والمريضُ كثير الأوهام.
ومنهم الذي يسخط من مخالفة المعتاد، ويرى العادة دينًا أو شبه دين، يجب أن لا يتلاعب به الشخص، ومنهم الذي يتوهم أن الدين يخالف احترام الآراء، وهذا إن شئت أن تجعله فرعًا من سابقه وجدته لك أطوع من نعلك.
ومنهم الحاسد العاجز الذي يحب أن يظهر في مظاهر الكمال بكلمات يلفقها، ويحس في ذكر ذلك لذة ما دام منفردًا بها، فإن شاع ذلك بين الناس تميز من الغيظ.
كنت أعرف رجلًا ينادي بين الناس باسم النقد للحالة والطعن في الأوضاع المعتادة، وربما ترقى إلى بعض الشتيمة زمانَ كان يقول ذلك وحده يحب الشهرة وما يلقاها، ويترصد طريقها وما يقع بمرآها، كان يومئذٍ مستأثرًا بورقات ينقل منها ما يغلط به، فلما امتدت الأيدي، وانبرت العيون إليها، واستوى مع غيره في معرفتها انصاع يُقبِّح ذلك الحال، ويرى خلفه ودعاءهم في ضلال.
مما يخص بالوصاية والاحترام أفكار المتقدمين الذين وصلوا بنا إلى حيث ابتدأنا من العلم والمدنية، عوضًا أن نكون في متحركهم الأول نبتدئ سيرًا بطيئًا، كما قالوا: إن الإنسان ابن يومه لا ابن أمسه. فهو أيضًا ليس بابنٍ لغده؛ فمقدار فضيلة الرجل ومكان شهرته لا ينظر فيه إلى غير يومه الذي كان فيه، فلا يغلط لنا كثير من الناس ينتقصون الأقدمين بمستدركات المتأخرين، فإنما تعرف مقادير الرجال بما أوجدوه، لا بما تركوه؛ ولكن طرق الشهرة لا تختلف، وهي قوة الفكر، ومرتبة العلم والعمل على تنوير آراء المتعلمين والقارئين في عقل صحيح، ونية قويمة، ونصح جهير.
قد استهوى هذا الغلط الشيخ أبا علي ابن سينا حين بالغ في ثنائه على أرسطو حتى قال: أما أفلاطون الإلهي فإن كانت غايته من الحكمة ما وصلنا من علومه، فإنَّ بضاعته إذن لمزجاة.
وكأنه نسي أنه لولا أفلاطون بكلماته القليلة خوَّل لأرسطو أن يبني عليها كثيرًا، لكان أرسطو هو أفلاطون وبضاعته الوافرة كانت مزجاة.
هذا أيها الناشؤون على النقد، الباحثون عن الحكمة نبراس مبين، أقمناه بين أيديكم؛ ليضيء لكم مستقبلًا نيِّرًا، وعسى إن اهتديتم بضيائه، واحتفظتم عليه من عواطف الأهواء والشبهات أن تحمدوا غبَّه، وتسلكوا به طريق العقلاء، فتصبحوا سمراءَهم، والله يضيء آراءَكم بالحكمة.
تعليق