همة التحصيل عند السلف
حميد بن خبيش | 19/7/1434 هـ
تشكو العديد من الأسر المسلمة اليوم ضعف التحصيل الدراسي لدى أبنائها . و رغم حرصها على تأثيث فضاء الطفل بكل اللوازم التي تيسر له الأداء الفاعل داخل حجرة الدرس , إلا أن النتائج تكون في الكثيرمن الحالات مخيبة للآمال , أو لا تحقق الثمرة المرجوة نظير الجهد المبذول .
و الحق أننا إذا قارنا عزوف الطفل عن التحصيل المدرسي إزاء إقباله الشديد على الوسائط التكنولوجية الحديثة , نخلص حتما إلى السبب الرئيسي ممثلا في افتقاد التعليم المدرسي لعنصر الجذب و الإغراء , و تردده في اعتماد مناهج تعليمية أكثر استجابة لحاجيات الطفل و اهتماماته .
إن ناشئتنا اليوم تُعوزها نماذج للاقتداء تغذي رغبتها في الإقبال على التعلم , و تضمن لها الحفز المعنوي الدائم لتحمل مشقة التحصيل و المعرفة . فاكتساب القيم و المثل و المعارف لا يمكن أن يتحقق بالشكل المطلوب سوى في ظل نموذج يُحتذى به . ولعل من أسوأ ما ابتليت به نظم التعليم الحديثة هو خلو مقرراتها الدراسية من النماذج المشرقة التي يزخر بها تاريخ الأمة في شتى المجالات . فنشأ جيل لايعرف عن ابن خلدون أو الزهراوي أو ابن البيطار سوى أنه اسم لشارع , أو يافطة مثبتة على واجهة مدرسة !
وفي المقابل , يقف المرء مندهشا أمام ما أبداه السلف من همة عالية في التحصيل , و تحمل للمكاره و المشاق في سبيل تنقيح حديث أو تحقيق سند . بل إن منهم من نقض سقف بيته لطلب العلم , ومن افتقر بعد غنى سعيا وراء المشايخ في كل قطر ! ولم تكن بغية أحدهم طلب الرئاسة و الجاه و الملذات بقدر ما كانت استجابة لداعي القرآن , و التماسا لطلب الأجر و الثواب . ولهدا يلحظ كل دارس لأخبارهم و سيرهم أن منشأ سعيهم لتحصيل العلم هو امتثالهم لوجوب طلبه كم حثت على ذلك نصوص القرآن و السنة النبوية . يقول ابن الجوزي ناصحا ولده " ما تقف همة إلا لخساستها , و إلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون . وقد عرفت بالدليل أن الهمة تولد مع الآدمي ,و إنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثت سارت . ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم , أو كسلا فالجأ إلى الموفق , فلن تنال خيرا إلا بطاعته , و لا يفوتك خير إلا بمعصيته " (1).
ومما يُؤثر عنهم في هذا الباب أن أغلبهم كان لا يقنع بما يُحصله من علم في بلده , فيبذل زهرة شبابه مرتحلا من بلد إلى آخر , يلقى الشيوخ و العلماء ليُباشر السماع و الأخذ عنهم مشافهة . وذاعت الرحلة كمسلك تعليمي حتى عدها ابن خلدون في مقدمته من كمال التعليم, و رسوخ الملكات و تفتحها ! ومن أعجب الأخبار في هذا المسلك ما أورده البخاري في "الأدب المفرد " عن رحلة جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى الشام لسماع حديث من عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما . ومن أشهرها كذلك رحلة الإمام أحمد ابن حنبل التي باشرها وهو ابن ست عشرة سنة . يقول الإمام " رحلت في طلب العلم و السنة إلى الثغور, و الشامات , و السواحل, و المغرب , و الجزائر , و مكة , والمدينة , والحجاز , واليمن , و العراقين جميعا , وفارس , وخراسان , والجبال , والأطراف ثم عدت إلى بغداد " (2) .
ومن همتهم في التحصيل أنهم كانوا لا يأنفون من التعلم والنهل من كل صنوف المعرفة , حتى مع شهرتهم وذيوع صيتهم بين الناس . ومما يُحكى في هذا الباب عن شيخ المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري أنه كان لا يرضيه الجهل بعلم تسعه الإحاطة به , فاتفق ذات يوم أن سُئل عن شيء في علم العروض .قال " جاءني يوما رجل فسألني عن شيء من العروض , ولم أكن نشطت له قبل ذلك , فقلت له : إذا كان غد فتعال إلي . وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد , فجاء به , فنظرت فيه ليلتي , فأمسيت غير عروضي و أصبحت عروضيا " (3)
ومن دلائل همتهم كذلك انشغالهم بطلب العلم عن سائر الملذات , فكانوا يتحملون مشقة الجوع و العطش والعري , ومنهم من امتهن حرفا يأنف منها اليوم حتى الجاهل! لا لشيء سوى لسد الرمق و شراء الكتب.
فقد باع أبو حاتم الرازي ثيابه لما أقام بالبصرة طلبا للعلم حتى نفد كل ما معه , فكان يقضي يومه في مجالس العلم , وليس بين يديه ما يسد جوعه غير الماء !
ومما يحكيه ابن الجوزي عن حاله زمان خروجه لطلب الحديث أنه كان يأخذ معه أرغفة يابسة , فلا يقدر على أكلها حتى يبلها بالماء .
ولم يحل ضيق ذات اليد دون إقبال الإمام الشافعي على تلقي العلم , فكان رحمه الله لا يجد ما يكتب عليه إلا عظام الشاء و أكتافها حتى امتلأت الدار بها .
وضاقت النفقة على الإمام الحافظ أبي علي الوخشي وهو بعسقلان يطلب الحديث , فبقي أياما بلا أكل حتى عجزت يده عن الكتابة ! فكان رحمه الله يقعد بجوار دكان خباز ليشم رائحة الخبز ويتقوى بها !
وقد أجاد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله و أفاد في كتابه الماتع " صفحات من صبر العلماء" , حين جمع من أخبارهم و أحوالهم ما يبعث في نفوس الناشئة فضيلة التأسي بهم . ففيه غنية لمن رام الاستزادة .
إن تخلي نظم التعليم الحديثة , بموجب التبعية , عن تضمين المناهج الدراسية ما يبعث على علو الهمة في التحصيل سواء من سيرالسلف و أخبارهم , أو مما يفرض رفع التحدي الحضاري , قد زج بناشئتنا في متاهة البحث عن نماذج الاقتداء في الحياة العامة . وبالتالي أتيحت للإعلام المنحل فرصة من ذهب لتوجيه العقول و النفوس صوب الاقتداء بنماذج سيئة, تمعن في فصل أبنائنا عن هويتهم وعقيدتهم , و تستنفد قواهم و طموحاتهم في هوامش إلهاء مقيتة.
إن من جنايات التعليم الحديث على أبناء المسلمين أنه أضعف روحهم المعنوية , وجفف منابع الرجولة في نفوسهم حين أعاد تشكيل آمالهم وتصوراتهم بشكل يقطع صلتهم بأسئلة الحاضر و تطلعات المستقبل . لذا فإن التربية على القدوة و علو الهمة تستمد ضرورتها اليوم من حراك تطمح الأمة من خلاله وصل ما انقطع, و استكمال مسيرة البناء الحضاري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو الفرج بن الجوزي : لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. مكتبة الإمام البخاري .ط1 . 1412هـ . ص 31
(2) عبد الفتاح أبوغدة : صفحات من صبر العلماء . مكتب المطبوعات الإسلامية . ط2. 1394هـ . ص 25
(3) د. أحمد الحوفي : الطبري. المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر.1963 . ص 71 ¬
حميد بن خبيش | 19/7/1434 هـ
تشكو العديد من الأسر المسلمة اليوم ضعف التحصيل الدراسي لدى أبنائها . و رغم حرصها على تأثيث فضاء الطفل بكل اللوازم التي تيسر له الأداء الفاعل داخل حجرة الدرس , إلا أن النتائج تكون في الكثيرمن الحالات مخيبة للآمال , أو لا تحقق الثمرة المرجوة نظير الجهد المبذول .
و الحق أننا إذا قارنا عزوف الطفل عن التحصيل المدرسي إزاء إقباله الشديد على الوسائط التكنولوجية الحديثة , نخلص حتما إلى السبب الرئيسي ممثلا في افتقاد التعليم المدرسي لعنصر الجذب و الإغراء , و تردده في اعتماد مناهج تعليمية أكثر استجابة لحاجيات الطفل و اهتماماته .
إن ناشئتنا اليوم تُعوزها نماذج للاقتداء تغذي رغبتها في الإقبال على التعلم , و تضمن لها الحفز المعنوي الدائم لتحمل مشقة التحصيل و المعرفة . فاكتساب القيم و المثل و المعارف لا يمكن أن يتحقق بالشكل المطلوب سوى في ظل نموذج يُحتذى به . ولعل من أسوأ ما ابتليت به نظم التعليم الحديثة هو خلو مقرراتها الدراسية من النماذج المشرقة التي يزخر بها تاريخ الأمة في شتى المجالات . فنشأ جيل لايعرف عن ابن خلدون أو الزهراوي أو ابن البيطار سوى أنه اسم لشارع , أو يافطة مثبتة على واجهة مدرسة !
وفي المقابل , يقف المرء مندهشا أمام ما أبداه السلف من همة عالية في التحصيل , و تحمل للمكاره و المشاق في سبيل تنقيح حديث أو تحقيق سند . بل إن منهم من نقض سقف بيته لطلب العلم , ومن افتقر بعد غنى سعيا وراء المشايخ في كل قطر ! ولم تكن بغية أحدهم طلب الرئاسة و الجاه و الملذات بقدر ما كانت استجابة لداعي القرآن , و التماسا لطلب الأجر و الثواب . ولهدا يلحظ كل دارس لأخبارهم و سيرهم أن منشأ سعيهم لتحصيل العلم هو امتثالهم لوجوب طلبه كم حثت على ذلك نصوص القرآن و السنة النبوية . يقول ابن الجوزي ناصحا ولده " ما تقف همة إلا لخساستها , و إلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون . وقد عرفت بالدليل أن الهمة تولد مع الآدمي ,و إنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثت سارت . ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم , أو كسلا فالجأ إلى الموفق , فلن تنال خيرا إلا بطاعته , و لا يفوتك خير إلا بمعصيته " (1).
ومما يُؤثر عنهم في هذا الباب أن أغلبهم كان لا يقنع بما يُحصله من علم في بلده , فيبذل زهرة شبابه مرتحلا من بلد إلى آخر , يلقى الشيوخ و العلماء ليُباشر السماع و الأخذ عنهم مشافهة . وذاعت الرحلة كمسلك تعليمي حتى عدها ابن خلدون في مقدمته من كمال التعليم, و رسوخ الملكات و تفتحها ! ومن أعجب الأخبار في هذا المسلك ما أورده البخاري في "الأدب المفرد " عن رحلة جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى الشام لسماع حديث من عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما . ومن أشهرها كذلك رحلة الإمام أحمد ابن حنبل التي باشرها وهو ابن ست عشرة سنة . يقول الإمام " رحلت في طلب العلم و السنة إلى الثغور, و الشامات , و السواحل, و المغرب , و الجزائر , و مكة , والمدينة , والحجاز , واليمن , و العراقين جميعا , وفارس , وخراسان , والجبال , والأطراف ثم عدت إلى بغداد " (2) .
ومن همتهم في التحصيل أنهم كانوا لا يأنفون من التعلم والنهل من كل صنوف المعرفة , حتى مع شهرتهم وذيوع صيتهم بين الناس . ومما يُحكى في هذا الباب عن شيخ المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري أنه كان لا يرضيه الجهل بعلم تسعه الإحاطة به , فاتفق ذات يوم أن سُئل عن شيء في علم العروض .قال " جاءني يوما رجل فسألني عن شيء من العروض , ولم أكن نشطت له قبل ذلك , فقلت له : إذا كان غد فتعال إلي . وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد , فجاء به , فنظرت فيه ليلتي , فأمسيت غير عروضي و أصبحت عروضيا " (3)
ومن دلائل همتهم كذلك انشغالهم بطلب العلم عن سائر الملذات , فكانوا يتحملون مشقة الجوع و العطش والعري , ومنهم من امتهن حرفا يأنف منها اليوم حتى الجاهل! لا لشيء سوى لسد الرمق و شراء الكتب.
فقد باع أبو حاتم الرازي ثيابه لما أقام بالبصرة طلبا للعلم حتى نفد كل ما معه , فكان يقضي يومه في مجالس العلم , وليس بين يديه ما يسد جوعه غير الماء !
ومما يحكيه ابن الجوزي عن حاله زمان خروجه لطلب الحديث أنه كان يأخذ معه أرغفة يابسة , فلا يقدر على أكلها حتى يبلها بالماء .
ولم يحل ضيق ذات اليد دون إقبال الإمام الشافعي على تلقي العلم , فكان رحمه الله لا يجد ما يكتب عليه إلا عظام الشاء و أكتافها حتى امتلأت الدار بها .
وضاقت النفقة على الإمام الحافظ أبي علي الوخشي وهو بعسقلان يطلب الحديث , فبقي أياما بلا أكل حتى عجزت يده عن الكتابة ! فكان رحمه الله يقعد بجوار دكان خباز ليشم رائحة الخبز ويتقوى بها !
وقد أجاد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله و أفاد في كتابه الماتع " صفحات من صبر العلماء" , حين جمع من أخبارهم و أحوالهم ما يبعث في نفوس الناشئة فضيلة التأسي بهم . ففيه غنية لمن رام الاستزادة .
إن تخلي نظم التعليم الحديثة , بموجب التبعية , عن تضمين المناهج الدراسية ما يبعث على علو الهمة في التحصيل سواء من سيرالسلف و أخبارهم , أو مما يفرض رفع التحدي الحضاري , قد زج بناشئتنا في متاهة البحث عن نماذج الاقتداء في الحياة العامة . وبالتالي أتيحت للإعلام المنحل فرصة من ذهب لتوجيه العقول و النفوس صوب الاقتداء بنماذج سيئة, تمعن في فصل أبنائنا عن هويتهم وعقيدتهم , و تستنفد قواهم و طموحاتهم في هوامش إلهاء مقيتة.
إن من جنايات التعليم الحديث على أبناء المسلمين أنه أضعف روحهم المعنوية , وجفف منابع الرجولة في نفوسهم حين أعاد تشكيل آمالهم وتصوراتهم بشكل يقطع صلتهم بأسئلة الحاضر و تطلعات المستقبل . لذا فإن التربية على القدوة و علو الهمة تستمد ضرورتها اليوم من حراك تطمح الأمة من خلاله وصل ما انقطع, و استكمال مسيرة البناء الحضاري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو الفرج بن الجوزي : لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. مكتبة الإمام البخاري .ط1 . 1412هـ . ص 31
(2) عبد الفتاح أبوغدة : صفحات من صبر العلماء . مكتب المطبوعات الإسلامية . ط2. 1394هـ . ص 25
(3) د. أحمد الحوفي : الطبري. المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر.1963 . ص 71 ¬
تعليق