التعايش مع الذنوب ينبني على مجموعة من الأُسس:
أولاً.. كن صريحاً مع ذنبك:
فالذنب ذنبك، وأنت اقترفته بملء إرادتك؛ فلا تتهرب منه، وهذه أول خطوة للتعايش الصحيح مع ذنوبك: أن تعرفها وتعترف بها، دون أن تعطيها أكثر من حجمها، ودون أن تخرجها من دائرتها؛ فهي ذنوب صدرت من عبد ضعيف يرجو رحمة مولاه، ويخاف عقابه، وينتظر عفوه ومغفرته، وليست فُسوقاً وتطاولاً، وجحوداً لنعمة الله؛ فلا تحاول التهرب من هذا الواقع بإنكاره، أو نسيانه، بل استحضره في كل مرة تذنب فيها، ولا تترك المجال لهواك أن ينكر الذنب، ولا لغفلتك أن تنسيك إياه، وانظر إليه بعينين: عين باكية لله - عز وجل - نادمة، وعين تنتظر التوبة، وتستبشر بالعفو القريب.
ثانياً.. التقدير الصحيح للذنب:
الذنوب قسمان: كبائر وصغائر، وهناك قاعدة: أن الإصرار على الصغيرة يصيِّرها كبيرة، لكني لا أوافق على هذه القاعدة، ولا أرى عليها دليلاً يمكن الاعتماد عليه، وليس المجال مجال إثبات ذلك، لكن على الإنسان أن يقدِّر الذنب ويقدِّر حجمه ووقته وظرفه؛ لأن تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر تقسيم مهمٌّ؛ من ناحية وضع كل ذنب في محله، وكثير من الناس يَخلِط بين الدرجتين، والتحصين المثالي: أن يجعل لكل من النوعين أساليب وقائية، تختلف عن النوع الآخر، ولو جعل النوعين سواء؛ لأدَّى تجرُّؤُه على الصغائر إلى تجرُّئِه على الكبائر، والله أعلم.
ثالثاً..امسح جبينك واغسل يديك:
عندما تُلطِّخ يديك بشيء ما، فإنك تبادر إلى غسلهما، وإنْ كنت تعلم أنَّهما سيلطَّخان مرة أخرى، فلا يعقل أن تترك غسل يديك؛ بحجة أنهما سيتسخان من جديد، ولو قال لك قائل: لا تغسل يديك؛ فإنك وإن غسلتهما فإنهما لن يبقيا نظيفتين، فستجيبه بأن العقل يقتضي غسلهما إلى حين أن يتسخا من جديد، فضرورة اتساخهما مرة أخرى لا تنفي ضرورة غسلهما كل مرة.
هذا هو منطق التوبة، فالتوبة بمثابة الصابون الذي نغسل به أنفسنا حين نلطِّخُها بالذنوب، وضرورة هذا الاغتسال متجددة باستمرار؛ لأنَّ الامتناع عن الذنوب مطلقاً أمر لا يمكن أن يحصل أبداً، فعن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا؛ لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم))، وبهذا نَعلم لِمَ كان نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مائة مرة!.
إن التعايش مع الذنب يقتضي الاستعداد للتوبة المتجددة في كل مرة يقع فيها الإنسان في الذنب، فالاستعداد الدائم للتوبة هو ملاذ المذنبين، وهو العلاج الأمثل الذي يقضي على أوساخ الذنوب، ويغسلها باستمرار؛ حتى لا يبقى من درنها شيء، قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا المعنى: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مراتٍ، هل يبقى من درنه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا))، وكذلك التوبة إذا تكرَّرت من الإنسان؛ فإنها لا تزال تغسل ذلك الذنب حتى تمحوه، أو يعفوَ الله عن صاحبه؛ فيقلع عن ذنبه إلى غير رجعة.
إنك في كدحك إلى ربك لفي مسيرة طويلة؛ فامسح جبينك كل ما أحسست بالتعب، واغسل يديك كل ما رأيت بهما الأوساخ.
رابعاً.. النصر قريب والحرب مستمرَّة:
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها، حتى يأتيه أجله، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية، التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)).
إنَّ معركة الذنوب معركة طويلة الأمد، فعلى العاقل أن يُطِيل النفس، ويكثر الذخيرة، ويركب عزمه ويجنب يأسه، فليست معركة الذنوب معركة تحسمها في يوم وليلة، إنها معركة متجددة، سجال: يوم لك ويوم عليك، فلا تنظر لذنوبك إلا كعدو يتربَّص بك أن تضع سلاحك؛ فيميل عليك ميلة واحدة، فابعث عليه عيون الحيطة والحذر، وتترَّس منه بحصن الدعاء، واحمل عليه بعساكر الاستغفار، واسْدُد عليه منافذ إمدادات الهوى والشهوة التي يتقوَّى بها عليك، واقطع عليه مجاريه بالصوم، واستعِدَّ للهزائم المتكررِّة التي يعقبها النصر والظفر، فلا معركة بدون قتلى، ولا نصر بدون جراحات.
واحذر كلَّ الحذر أن تُسكِن العدو أرضك، وتضع له سلاحك، فإنه لن يرضى إلا باستباحة بيضتك، وإهلاك حرثِك ونسلِك، وإفساد أمرك كله؛ حتى يَكبك في نار جهنم، ويسقيك مرارة الهزيمة في الدنيا قبل الآخرة، ويجعلك عبرة للمعتبرين، ويحقِّق وعده الأثيم: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص: 82]، (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 62].
فإياك والاستسلام؛ فإن عدوك ضعيف، وربك إلى جانبك، ينتظر دمعة صادقة منك، وسجدة خاشعة بين يديه؛ ليقلِّب عليه الموازين، ويجعلك من عباده المخلصين، الذين قال عنهم: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الإسراء: 65]، وهذه هي قوة المؤمن، فكم من شيطان رجيم قضى حياته في الإضلال والإغواء، وأسْهَر ليله وسوسةً، ونهاره تزييناً وتلبيساً، فما إن جاءت جيوش التوبة؛ حتى صَغُر كأنه الجُعْل، وولَّى وله ضراط، وخاب أيَّما خيبة، وذهبت جهوده أدراج الرياح.
الحرب سجال، فلا يُبطرك النصر، ولا تُذلَّك الهزيمة، واثبت على خيول التوبة؛ عسى أن يأتيك الظفر إن شاء الله.
خامساً..انظر إلى الجانب الآخر للذنب:
عندما تقع في الذنب؛ فإن هناك جانبان:
جانب أنك عصيت وأخطأت.
وجانب أنك استغفرت وأنبت؛ فعليك أن تنظر بعد الذنب إلى رحمة الله، وتنظر قبل الذنب إلى غضب الله، وتذكَّر دائماً أنَّ رحمته سبقت غضبه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لمَّا قضى الله - تعالى - الخلق كتب بيده في كتاب عنده: غلبت -أو قال: سبقت- رحمتي غضبي؛ فهو عنده فوق العرش)).
واعلم أنَّ الله - عز وجل - كتب عليك الذنب، وأوجب عليك الاستغفار منه؛ فاعمل ما أوجب الله عليك، عساه أن يغفر لك كما غفر لعبد قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((إنَّ عبداً أصاب ذنباً فقال: رب! أذنبت فاغفر لي، فقال ربه: عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؛ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً فقال: رب! أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي، فقال: عَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم أصاب ذنباً فقال: رب! أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي، قال: عَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)).
سادساً.. أتْبِعِ الداء الدواء (إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ):
هناك منطقُ تدافع بين الحسنات والسيئات، وفي النهاية ينجو من غلبت حسناته وإن كانت سيئاته كثيرة، ويهلك من غلبت سيئاته وإن كانت حسناته كثيرة.
وقد لا تكون إلا سيئة واحدة تغلب كل تلك الحسنات؛ كالشرك الذي يُحبِطُ العمل، وقد تغلب حسنة واحدة كل تلك السيئات؛ كبطاقة: لا إله إلا الله.
قال - تعالى -: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود: 115].
وقال - سبحانه -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون: 96]، أي: ادفع السيئة بالتي هي أحسن منها، وهي الحسنة، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((وأَتْبِعِ السيئة الحسنة تَمْحُهَا، وخالق الناس بخلق حسن)).
إنَّ هذا الحل من أنفع الحلول التي تُدفع بها السيئات، إنْ لم يتمكَّن الإنسان من دفعها بالتقوى التي تقيه من الوقوع فيها، أو التوبة التي تمنعه من الرجوع إليها؛ فيحتال في دفعها عنه بمقاومتها بالحسنات، وذلك من خلال تقدير حسنة توازي سيئته التي عملها، فينظر في عمل يراه عظيماً، ويُحِسُّ أن أجره كبير، فيجعله جزاء سيئته، ويتبعه إياها كلَّما عَمِلَهَا.
ولنضرب لذلك مثلاً: رجلاً ابتلاه الله بالكذب، فينظر في حاله ويرى أن تخلُّصَهُ من هذا الداء قد أرهقه، ويعزم على التصدق بعشر قطع نقدية كلما كذب كذبة، ويأتي في آخر النهار يَعُدُّ كذباته، ويَعُدُّ دراهمَه؛ فيتصدق على قدر تلك الكذبات، بما تحصل في نفسه أنه مواز لها؛ جزاء مثل ما قتل من النعم.
وهذا الرجل سيفوز في النهاية ولا شك؛ لأن الحسنة تدور بعداد العشر إلى السبعمائة، والسيئة تدور بعداد الواحد، وفي هذا يروي لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ربه - تعالى - أنه قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن: فمن همَّ بحسنة فلم يعملها؛ كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإنْ همَّ بها فعملها؛ كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها؛ كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإنْ همَّ بها فعملها؛ كتبها الله سيئة واحدة)) [رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما][1].
هذا الدواء لا يمحو السيئة فحسب، بل الصدقة تُطفِئ غضب الرب، وتجلب رضاه، ومتى رضي عنك؛ عصمك من الذنب، ومَنَّ عليك بالهداية.
فإن أنت عَجَزْتَ عن مقاومة الذنب، فلا تعجز عن إِتْبَاعِهِ بحسنة ماحية للذنب مُرضِيَةٍ للرب، جالبةٍ لحسنة مثلها، فالحسنة تدعو أخواتها، كما أنِّ السيئة تدعو أخواتها، فإن أنت استكثرت من السيئات؛ فاجعل كفة ميزان حسناتك ملأى، وإياك أن تأتي يوم القيامة وكفة السيئات تغلب كفة الحسنات، مع ما بيَّنَّا من المضاعفة في الحسنات، وعدم المضاعفة في السيئات؛ فتستحق بذلك الخسران المبين، وكيف لا وأنت أتيت بمقابل كل حسنة عشراً من السيئات أو أكثر!.
هذه ذنوبك عن يسارك متشبثة بك بخيط رقيق؛ فاقطعه بالتوبة، وإن لم تفعل فتعايش معها، واصبب عليها ماء الحسنات يُذهِبُ أثرها، وينظف مكانها في القلب، ولا تتركها ترعى يمنة ويسرة؛ فتأكلك أكلاً شديداً، وتَأْسِرك أسراً عتيداً، في مقابل لذة عابرة تجني بها سخط الرب، وشقاء المعيشة، وسوء المنقلب، وضيق الحفرة في المقبرة، وعرقاً يُلجِمُكَ في عرصة يوم القيامة، وناراً تشويك في جوار أراذل الناس أحقاباً.
تعليق