موسي بن نصير علم من أعلام الأمة الإسلامية.. ورمز من رموزها ، بل أن هذا الاسم ليرتبط ارتباطاً وثيقاً بتأسيس الجناح الأيسر للإسلام .. إذ هو الذي حمل علي عاتقة تأسيس بلاد المغرب العربي وضمها إلي حظيرة الإسلام الواسعة .
بل إن سيرته تمثل في كل مراحلها وأطوارها تعبر عن إصرار الأمة الإسلامية الجبار علي التغلب علي ما يعترضها من أزمات وخطوب .. وقدرتها الهائلة في الصمود أمام كيد الأعداء ، ليس هذا فحسب وإنما الانطلاق الرائع نحو المجد والسؤدد .
فقبل موسي بن نصير كانت شمال أفريقيا مسرحاً صال وجال فيه الرومان أعظم قوة في العالم آنذاك .. إذ أفرغت هذه الإمبراطورية كل ما لديها من قوة وجبروت وبطش لتحيل بين العرب وبين تحرير هذه البلاد .. بل وتكسرت الحملات الإسلامية علي أعتاب هذه البلاد ذات المساحات السحيقة المترامية الأطراف .
غير أن الأمة الإسلامية تمخض رحمها عن موسي بن نصير .. فأحال عثرات الجيوش العربية إلي انتصارات متلاحقة .. وطهر شمال أفريقيا بالكامل من أثار الإمبراطورية الرومانية .. وترك للأجيال من بعده نموذجا ً فذاً في الكفاح والنضال والإصرار، ترك لهم نموذجاً يستمدون منه الثقة بالنفس .. والقدرة علي التطلع إلي المستقبل بعين واعية وبصيرة نافذة .
ولم يقتصر بموسي بن نصير علي فتح البلاد وتركها .. وإنما أعطي نموذجاً أخر في قدرته العالية علي رعاية هذا الوليد الجديد .. وقدرته حتى شبا عن الطوق ، وبرهن عملياً أنه لا يقل تأثيراً عن البلاد التي فتحت في صدر الإسلام الأول .. بل أصبحت هذه البلاد عضواً فعالاً في الجسد الإسلامي تحمل رايته وتعز كلمته وتدافع عن مقدساته .
موسي بن نصير ... أيام الصبا والشباب .
ينتسب موسي بن نصير إلي قبيلة بكر بن وائل الربيعية .. تلك الأسرة العريقة التي ارتبط تاريخها بأمجاد الأمة العربية قبل الإسلام وبعده .
فقد ضربت هذه القبيلة بجذورها في أرض الحيرة غرب نهر الفرات .. وشاركت هذه القبيلة قريناتها من القبائل العربية في الإغارة علي بلاد الفرس .. ومقاومة استبداد أكاسرتها وطغيانهم .
وبظهور الإسلام وتحديداً في عهد الخليفة أبي بكر الصديق أخذت الخيوط تتجمع ، والأحداث تتهيأ لظهور أسرة موسي بن نصير علي مسرح الأحداث .. إذ أرسل الخليفة الصديق خالد بن الوليد لفتح الميرة والفرات .. وتحرير القبائل العربية من طغيان الفرس .
وفي سرعة خاطفة استطاع خالد أن يتم مهمته .. ويقضي علي مقاومة الفرس ، وحلفائهم في موقعة عين التمر .. وهناك وجد بيعة فيها أربعين غلاماً منهم : نصير والد موسي بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين ، وغيرهم فأخذهم أسري .. وفي غداة الأسر أسلم نصير وانتقل إلي الحجاز .. ودخل في قبيلة لخم الحيفة .. وتزوج منها امرأة .. رزق منها ابنه موسي سنة 19 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب .
ونشأ موسي بن نصير في فترة هامة من فترات الإسلام .. فقد شاهد انطلاق الفتوحات الإسلامية وتابع التطور السياسي والحضاري الذي صاحب تلك الفترة الهامة .
وكانت سيرة خالد بن الوليد الذي مات بعد ميلاد موسي بعامين كانت هامه في تكوين شخصية موسي بن نصير في سنواتها الأولي .
ولما شب موسي وجد في المدينة عدداً من العلماء الحفاظ الذين كرسوا حياتهم لعلوم الدين .. وتفسير القرآن .. وجمع الأحاديث ، فوقف موسي بن نصير علي الكثير في سيرة النبي – صلي الله عليه وسلم - وبخاصة غزواته وخططه وحروبه .
وسلك موسي بن نصير في تربيته الدينية مسلك التابعين ، فقد اشتغل في بدايات حياته بجمع الحديث حتى بلغ درجة عالية في العلم والرواية .. وكانت هذه التربية الدينية التي تلقاها موسي بن نصير منذ نعومة أظافرة سبباً في أن يشب ويكبر علي التقوى والورع ومخافة الله .. والفزع إليه في كل ما يواجهه من عظائم الأمور والخطوب .
وشب موسي بن نصير في بيئة عربية خالصة فتحت فيه ملكات العربي الأصيل من حلاوة اللسان .. والقدرة علي البيان .. ولم تفارقه هذه الملكات في يوم من أيام حياته .. وإنما زادتها الأحداث والملابسات قوة وروعة وبهاءً .. وشهدت له بذلك تلك النماذج التي حفظت عنه في مناقشاته في مجالس الخلفاء ،ومراسلاته لأقرانه ومعاصرية ، وخطبه في الجند في ساحات القتال وعلي قمم الجبال .
وهكذا استمد موسي بن نصير إمكاناته الدينية والأدبية من أرض الحجاز .. ولكن تربيته السياسية والعسكرية قد اتخذها من بلاد الشام .. فقد أصبحت دمشق منذ خلافة عثمان بن عفان قاعدة لنشاط البيت الأموي الطامح إلي السلطان .. فعمل معاوية بن أبي سفيان إلي الشام آنذاك علي تقوية أركان دولته .. فأجاد انتقاء الرجال وتأليف قلوب من يري فيهم الصلاح والتقي للاعتماد عليهم .
وكان نصير والد موسي هو أحد الرجال الأكفاء الذين اعتمد عليهم معاوية فاجتذبه إليه .. وعهد إليه برئاسة حارسة وهو منصب لا يتولاه إلا من نال الثقة الكاملة وتمتع بالولاء الكامل .
وهكذا انتقل موسي إلي البيت الأموي .. وتدرب في أكبر مدرسة سياسية شهدتها الدولة الإسلامية في بداية حياتها .
وكانت أول الدروس التي تلقاها موسي بن نصير هو موقف معاوية بن أبي سفيان من الفتنة التي أطاحت بالخليفة عثمان بن عفان .. وما تلاها من صراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن آبي سفيان .. وكان من موسي إذ ذاك قد اقترب علي العشرين وأصبح قادراً علي متابعة الأحداث والتطورات بل والمناورات السياسية والحربية التي قام بها معاوية للانفراد بالسلطان .
وكان من الخطوات الهامة التي اتخذها معاوية واستفاد منها موسي بن نصير لاحق الأيام هي تجميع أكبر قدر من الرجال المخلصين والأوفياء والاستفادة منهم في معركته .
ومن الدروس الهامة التي استنفادها موسي بن نصير في هذه المرحلة هو موقف والده من الحرب إذ كان لا يري الرأي في محاربة علي بن أبي طالب .
وهو موقف جرئ جداً من قائد الحرس الشخصي في هذه الأيام العصيبة والفاصلة في تاريخ البيت الأموي .. وعلي إثر هذه الرؤية فقد رفض نصير الخروج للحرب عند ما طالبه معاوية بذلك علي الرغم مما يفرضة عليه منصبة من تبعات والتزامات .
وكان هذا الحوار الذي دار أمام موسي بن نصير بين معاوية ووالده الأثر الأكبر في شخصية موسي بعد ذلك .. إذ دفع هذا الدرس الابن إلي التحلي بالشجاعة في القول والحرية في إبداء الرأي .
وعندما قال معاوية لوالده موسي : ما يمنعك من الخروج معي للقتال ولي عندك يد لم تكافئني عليها ولم تجزئ بها ؟
فأجاب والد موسي : لم يمكنني أن أشكر نعمتك بكفري بمن هو أولي منك بشكري .
سأل معاوية والده : ومن هو ؟؟
فقال والد موسي لمعاوية : هو الله عز وجل .
ولم يستطع معاوية أمام هذه الإجابة إلا أن يطرق برأس هنيهة يفكر فيما سمع .
ثم رفع رأسه وهو يقول استغفر الله ، استغفر الله ، ثم ترك والد موسي وانصرف .
وتعلم موسي درساً أعظم من موقف معاوية مع أبيه .. إذ تعلم سعة الصدر واتساع الأفق وتقبل الرأي الأخر حتى ولو كان مخالفاً لرأيه .. فقد ترك معاوية والد موسي في منصبة احتراماً لرأيه .. واعترافاً منه بأن ثقة البيت الأموي في هذا الرجل وإيمانه بولائه فوق الشبهات وفوق الجدل وفوق الامتحانات .
وسرعان ما تمخض الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عن قيام البيت الأموي وتولية معاوية خليفة للدولة الإسلامية عام 41هجرية .
ورأي معاوية أنه أصبح بحاجة أكثر إلي أبناء الرجال الذين يعملون معه لدعم ملكه الذي آل إليه .
ووجد موسي بن نصير في هذا العهد الجديد آفاقا ً أوسع للعمل والجهاد ، وأفسح معاوية لموسي بن نصير السيل للاشتراك في تنفيذ سياسته الحربية الجديدة ، وخاصة ما يتعلق ببناء بحرية قوية تعمل علي حماية شواطئ دولته المطلة علي البحر المتوسط من خطر الأعداء .
وكان موسي بن نصير قد بلغ الخامسة والعشرين من عمرة حينما خرج معاوية بحملته الثانية علي جزيرة قبرص .. وشاهد استعدادات معاوية البحرية .. ووقف علي أهمية هذه السياسة الجديدة .. وشارك بنفسه في تنفيذ أهدافها وتحقيق مأربها ، إذا أدت هذه السياسة الجديدة إلى تأمين ودعم الشواطئ وصد العدوان المتكرر من أساطيل الروم .. وشارك موسي بن نصير في نشاط هذه المرحلة الهامة لتأسيس أساطيل إسلامية قوية .. بل وغدا أحد أمراء البحار الذين شاركوا في الهجوم علي قواعد الروم في شرف البحر المتوسط وكان معاوية لا يقرب لهذه الحملات إلا المقربين من البيت الأموي والمشهود لهم بالجرأة وحب المغامرة .
وكان اختيار موسي بن نصير ذا دلالة قوية علي ثقة البيت الأموي في مواهب هذا القائد الشاب الذي أثبتت الأيام أنه جدير بهذه الثقة ، وكانت جزيرة قبرص من أكثر الميادين التي صال فيها موسي بن نصير وجال .. ذلك أن الروم بعد موقعة ذات الصواري قد دأبوا علي مهاجمة هذه الجزيرة وما حولها بل إنهم اتخذوا من هذه الجزر منطلقاً ينطلقون منه لمهاجمة المسلمين والعودة إليها للاحتماء ، فأوكل معاوية بن أبي سفيان مهمة تأمين تلك الجزر إلي موسي بن نصير فاستولي علي هذه الجزر وبني بها حصونا ً لصد هجمات الروم .
واستفاد موسي بن نصير من هذه الفترة أيما استفادة وتكون لدية رصيداً ضخماً من الخبرات التي أفادته من قابل الأيام حينما شحنته الأحداث ليكون الفتي الأول للجهاد وفي شمال إفريقيا .
وبموت معاوية بن أبي سفيان عاد موسي بن نصير لمعارك السياسة مره أخري حيث اتسمت خلافة يزيد بالمنازعات السياسية وظل موسي بن نصير منغمسا ًً في هذه المعارك حتى بعد موت يزيد إلي إن استقرت الأمور لمروان بن الحكم عام 65هجرية .. وكان عبد العزيز بن مروان الابن الأكبر للخليفة معجباً بموسي بن نصير أيما أعجاب .. فاحتضنه وضمه إلي الفرع المرواني .. وهيأ له كل الفرص لإبراز مواهبه واستخراج قدراته لخدمة الإسلام والمسلمين .. وعندما تولي عبد العزيز بن مروان حكم مصر اصطحب معه صديقة الصدوق موسي بن نصير وولاه مركز المستشار الأول لوالي مصر .
وأصبح موسي بن نصير هو محط أنظار البيت الأموي بكاملة حتى استعان به الخليفة لتثبيت الأوضاع في العراق .
فبعث عبد الملك بن مروان وكان هو الخليفة آنذاك إلي اخية عبد العزيز بن مروان والي مصر رسالة يطلب إليه فيها أن يبعث موسي بن نصير إلي العراق ليكون وزيراً لأخيهم بشر بن مروان الذي صار والياً علي البصرة .
وجاء في الرسالة ( أني قد وليت أخاك بشراً علي البصرة فاشخص معه موسي بن نصير وزيراً ومشيراً ... وأعلمه بأنه المأخوذ بكل خلل أو تقصير .
وظل موسي بن نصير وزيراً ومشيراً بالعراق إلي أن توفي بشر بن مروان فعاد موسي إلي دمشق .. ولكن الحليفة اتهمه بالتقصير في جمع الخراج وفرض عليه غرامة فادحة وشاء الله أن يبعث فى ذلك الوقت عبد العزيز بن مروان إلي دمشق فدافع عن موسي بن نصير دفاعاً مستميتاً وتحمل عنه شطراً من الغرامة المفروضة عليه ثم اصطحبة إلي مصر وأطلق يده مرة أخري في إدارة ولايته مصر .
وبهذه العودة الحميدة إلي مصر ننهي أيام الصبا والشباب لتبدأ في مصر فترة الإعداد والاستعداد لفتح بلاد المغرب الغربي ولتسيطر صفحة وضيئة من الجهاد ولا ينساها التاريخ علي مر العصور .
بقلم الشيخ عصمت الصاوي(بتصرف)
وضع المسلمين في شمال أفريقيا
دخل الإسلام بلاد الشمال الإفريقي قبل فتح الأندلس بسبعين سنة؛ أي سنة (22هـ=644م)، وكانت تسكن هذا الإقليم قبائل ضخمة تُسَمَّى قبائل الأمازيغ، وهذه القبائل قبائل قوية الشكيمة شديدة البأس، وقد ارتدَّت عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ فدارت الحروب بينها وبين المسلمين، وانتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر عام (85 أو 86هـ= 704 أو 705م) على يد موسى بن نصير.
كذلك كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير ليُنْجِزَ ما عجز السابقون عن إنجازه، فيُعيد الاستقرار لهذا الإقليم؛ فتوَجَّه ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وكانت البلاد في ذلك الوقت في قحطٍ شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء. وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صَلَّى وخطب في الناس ودعا، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟! فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله ، فسُقُوا حتى رَوَوا.
موسى بن نصير يُثَبِّت دعائم الإسلام في إفريقيا
شمال إفريقيا كان الهمُّ الأول لموسى بن نصير منذ أصبح واليًا على المغرب هو تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم، الذي ارتدَّ أهله عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ ولكي يتمكَّن من ذلك كان عليه أن يعلم لماذا يرتدُّ الناس في هذا الإقليم عن الإسلام؟ وكيف يعودون لقتال المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟!
أسباب الردة
وفي بحثه عن أسباب هذه الردَّة المتكرِّرة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما مَنْ سبقوه:
الخطأ الأول
هو أن عقبة بن نافع ومَن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ثم يتوغَّلُون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يُوَفِّرُوا الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها؛ ومن ثَمَّ كانت النتيجة أن الأمازيغ (البربر) انتبهوا لهذا الأمر واستغلُّوه جيدًا؛ فانقلبوا على عُقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلَّب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير بفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد ، فبدأ يتقدَّم خطوة ثم يُؤَمِّن ظهره، ثم خطوة أخرى ويُؤَمِّن ظهره، حتى أتمَّ الله عليه فتح هذا الإقليم مرَّة أخرى في سبع أو ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.
الخطأ الثاني
فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلَّموا الإسلام جيدًا، ولم يعرفوه حقَّ المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من الشام والحجاز ليُعَلِّمُوهم الإسلام ويُعَرِّفُوهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبُّوه، ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبحوا جند الإسلام وأهله بعد أن كانوا يُحاربون المسلمين [**] ، وهكذا عمل مُوسَى بن نُصَير على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيدها في الشمال الإفريقي، وأتمَّ الله عليه فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة سَبْتَة، فقد فتح ميناء طَنْجَة، ولم يفتح ميناء سبتة المماثل له في الأهمية؛ ولذلك ولَّى موسى بن نصير على ميناء طَنْجَة (القريب جدًّا من سَبْتَة والقريب في الوقت ذاته من الأندلس) أمهر قُوَّاده طارق بن زياد.
مواقف
موسى بن نصير في التاريخ
من هنا نرى أن موسى بن نصير قد تولَّى أمر بلاد المغرب وهي تضطرم نارًا، فكان أوَّل عمل له هو تأمين قواعد انطلاقه، ثم انصرف لإخماد الفتن، والقضاء على الثورات، وتصفية قواعد العدوان، وبناء المجتمع الإسلامي الجديد، ثم وجد بعد ذلك في إفريقية طاقاتٍ ضخمةً، وإمكاناتٍ جبَّارة؛ فأفاد من حرية العمل المتوفرة له، وانصرف إلى متابعة حشد القوات وتعبئتها وقيادتها من نصر إلى نصر، وإشراكها في شرف الفتوح وتحميلها أعباء نشر الإسلام.
تبيَّن لنا بعد تلك الحوادث والفتن التي قضى عليها موسى بن نصير أنه كان من أعظم رجال الحرب والإدارة المسلمين في القرن الأول الهجري، وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناصب التي تقلَّدَها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها، وقد ظهرت هذه المواهب واضحة جليَّة في حُكمِه لإفريقية؛ حيث كانت الحكومة الإسلامية تُواجه شعبًا شديد المراس، يضطرم بعوامل الانتفاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة المواقف وإخماد الفتنة كثيرًا من الحزم والشدَّة، فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفسية الشعوب، وبراعة في سياستها وقيادتها.[***]
الجيش الإسلامي البحري
[**] ابن عذاري: البيان المغرب 1/43، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/110، والمقري: نفح الطيب 1/239، والناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/152.
[***]محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/59
بل إن سيرته تمثل في كل مراحلها وأطوارها تعبر عن إصرار الأمة الإسلامية الجبار علي التغلب علي ما يعترضها من أزمات وخطوب .. وقدرتها الهائلة في الصمود أمام كيد الأعداء ، ليس هذا فحسب وإنما الانطلاق الرائع نحو المجد والسؤدد .
فقبل موسي بن نصير كانت شمال أفريقيا مسرحاً صال وجال فيه الرومان أعظم قوة في العالم آنذاك .. إذ أفرغت هذه الإمبراطورية كل ما لديها من قوة وجبروت وبطش لتحيل بين العرب وبين تحرير هذه البلاد .. بل وتكسرت الحملات الإسلامية علي أعتاب هذه البلاد ذات المساحات السحيقة المترامية الأطراف .
غير أن الأمة الإسلامية تمخض رحمها عن موسي بن نصير .. فأحال عثرات الجيوش العربية إلي انتصارات متلاحقة .. وطهر شمال أفريقيا بالكامل من أثار الإمبراطورية الرومانية .. وترك للأجيال من بعده نموذجا ً فذاً في الكفاح والنضال والإصرار، ترك لهم نموذجاً يستمدون منه الثقة بالنفس .. والقدرة علي التطلع إلي المستقبل بعين واعية وبصيرة نافذة .
ولم يقتصر بموسي بن نصير علي فتح البلاد وتركها .. وإنما أعطي نموذجاً أخر في قدرته العالية علي رعاية هذا الوليد الجديد .. وقدرته حتى شبا عن الطوق ، وبرهن عملياً أنه لا يقل تأثيراً عن البلاد التي فتحت في صدر الإسلام الأول .. بل أصبحت هذه البلاد عضواً فعالاً في الجسد الإسلامي تحمل رايته وتعز كلمته وتدافع عن مقدساته .
موسي بن نصير ... أيام الصبا والشباب .
ينتسب موسي بن نصير إلي قبيلة بكر بن وائل الربيعية .. تلك الأسرة العريقة التي ارتبط تاريخها بأمجاد الأمة العربية قبل الإسلام وبعده .
فقد ضربت هذه القبيلة بجذورها في أرض الحيرة غرب نهر الفرات .. وشاركت هذه القبيلة قريناتها من القبائل العربية في الإغارة علي بلاد الفرس .. ومقاومة استبداد أكاسرتها وطغيانهم .
وبظهور الإسلام وتحديداً في عهد الخليفة أبي بكر الصديق أخذت الخيوط تتجمع ، والأحداث تتهيأ لظهور أسرة موسي بن نصير علي مسرح الأحداث .. إذ أرسل الخليفة الصديق خالد بن الوليد لفتح الميرة والفرات .. وتحرير القبائل العربية من طغيان الفرس .
وفي سرعة خاطفة استطاع خالد أن يتم مهمته .. ويقضي علي مقاومة الفرس ، وحلفائهم في موقعة عين التمر .. وهناك وجد بيعة فيها أربعين غلاماً منهم : نصير والد موسي بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين ، وغيرهم فأخذهم أسري .. وفي غداة الأسر أسلم نصير وانتقل إلي الحجاز .. ودخل في قبيلة لخم الحيفة .. وتزوج منها امرأة .. رزق منها ابنه موسي سنة 19 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب .
ونشأ موسي بن نصير في فترة هامة من فترات الإسلام .. فقد شاهد انطلاق الفتوحات الإسلامية وتابع التطور السياسي والحضاري الذي صاحب تلك الفترة الهامة .
وكانت سيرة خالد بن الوليد الذي مات بعد ميلاد موسي بعامين كانت هامه في تكوين شخصية موسي بن نصير في سنواتها الأولي .
ولما شب موسي وجد في المدينة عدداً من العلماء الحفاظ الذين كرسوا حياتهم لعلوم الدين .. وتفسير القرآن .. وجمع الأحاديث ، فوقف موسي بن نصير علي الكثير في سيرة النبي – صلي الله عليه وسلم - وبخاصة غزواته وخططه وحروبه .
وسلك موسي بن نصير في تربيته الدينية مسلك التابعين ، فقد اشتغل في بدايات حياته بجمع الحديث حتى بلغ درجة عالية في العلم والرواية .. وكانت هذه التربية الدينية التي تلقاها موسي بن نصير منذ نعومة أظافرة سبباً في أن يشب ويكبر علي التقوى والورع ومخافة الله .. والفزع إليه في كل ما يواجهه من عظائم الأمور والخطوب .
وشب موسي بن نصير في بيئة عربية خالصة فتحت فيه ملكات العربي الأصيل من حلاوة اللسان .. والقدرة علي البيان .. ولم تفارقه هذه الملكات في يوم من أيام حياته .. وإنما زادتها الأحداث والملابسات قوة وروعة وبهاءً .. وشهدت له بذلك تلك النماذج التي حفظت عنه في مناقشاته في مجالس الخلفاء ،ومراسلاته لأقرانه ومعاصرية ، وخطبه في الجند في ساحات القتال وعلي قمم الجبال .
وهكذا استمد موسي بن نصير إمكاناته الدينية والأدبية من أرض الحجاز .. ولكن تربيته السياسية والعسكرية قد اتخذها من بلاد الشام .. فقد أصبحت دمشق منذ خلافة عثمان بن عفان قاعدة لنشاط البيت الأموي الطامح إلي السلطان .. فعمل معاوية بن أبي سفيان إلي الشام آنذاك علي تقوية أركان دولته .. فأجاد انتقاء الرجال وتأليف قلوب من يري فيهم الصلاح والتقي للاعتماد عليهم .
وكان نصير والد موسي هو أحد الرجال الأكفاء الذين اعتمد عليهم معاوية فاجتذبه إليه .. وعهد إليه برئاسة حارسة وهو منصب لا يتولاه إلا من نال الثقة الكاملة وتمتع بالولاء الكامل .
وهكذا انتقل موسي إلي البيت الأموي .. وتدرب في أكبر مدرسة سياسية شهدتها الدولة الإسلامية في بداية حياتها .
وكانت أول الدروس التي تلقاها موسي بن نصير هو موقف معاوية بن أبي سفيان من الفتنة التي أطاحت بالخليفة عثمان بن عفان .. وما تلاها من صراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن آبي سفيان .. وكان من موسي إذ ذاك قد اقترب علي العشرين وأصبح قادراً علي متابعة الأحداث والتطورات بل والمناورات السياسية والحربية التي قام بها معاوية للانفراد بالسلطان .
وكان من الخطوات الهامة التي اتخذها معاوية واستفاد منها موسي بن نصير لاحق الأيام هي تجميع أكبر قدر من الرجال المخلصين والأوفياء والاستفادة منهم في معركته .
ومن الدروس الهامة التي استنفادها موسي بن نصير في هذه المرحلة هو موقف والده من الحرب إذ كان لا يري الرأي في محاربة علي بن أبي طالب .
وهو موقف جرئ جداً من قائد الحرس الشخصي في هذه الأيام العصيبة والفاصلة في تاريخ البيت الأموي .. وعلي إثر هذه الرؤية فقد رفض نصير الخروج للحرب عند ما طالبه معاوية بذلك علي الرغم مما يفرضة عليه منصبة من تبعات والتزامات .
وكان هذا الحوار الذي دار أمام موسي بن نصير بين معاوية ووالده الأثر الأكبر في شخصية موسي بعد ذلك .. إذ دفع هذا الدرس الابن إلي التحلي بالشجاعة في القول والحرية في إبداء الرأي .
وعندما قال معاوية لوالده موسي : ما يمنعك من الخروج معي للقتال ولي عندك يد لم تكافئني عليها ولم تجزئ بها ؟
فأجاب والد موسي : لم يمكنني أن أشكر نعمتك بكفري بمن هو أولي منك بشكري .
سأل معاوية والده : ومن هو ؟؟
فقال والد موسي لمعاوية : هو الله عز وجل .
ولم يستطع معاوية أمام هذه الإجابة إلا أن يطرق برأس هنيهة يفكر فيما سمع .
ثم رفع رأسه وهو يقول استغفر الله ، استغفر الله ، ثم ترك والد موسي وانصرف .
وتعلم موسي درساً أعظم من موقف معاوية مع أبيه .. إذ تعلم سعة الصدر واتساع الأفق وتقبل الرأي الأخر حتى ولو كان مخالفاً لرأيه .. فقد ترك معاوية والد موسي في منصبة احتراماً لرأيه .. واعترافاً منه بأن ثقة البيت الأموي في هذا الرجل وإيمانه بولائه فوق الشبهات وفوق الجدل وفوق الامتحانات .
وسرعان ما تمخض الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عن قيام البيت الأموي وتولية معاوية خليفة للدولة الإسلامية عام 41هجرية .
ورأي معاوية أنه أصبح بحاجة أكثر إلي أبناء الرجال الذين يعملون معه لدعم ملكه الذي آل إليه .
ووجد موسي بن نصير في هذا العهد الجديد آفاقا ً أوسع للعمل والجهاد ، وأفسح معاوية لموسي بن نصير السيل للاشتراك في تنفيذ سياسته الحربية الجديدة ، وخاصة ما يتعلق ببناء بحرية قوية تعمل علي حماية شواطئ دولته المطلة علي البحر المتوسط من خطر الأعداء .
وكان موسي بن نصير قد بلغ الخامسة والعشرين من عمرة حينما خرج معاوية بحملته الثانية علي جزيرة قبرص .. وشاهد استعدادات معاوية البحرية .. ووقف علي أهمية هذه السياسة الجديدة .. وشارك بنفسه في تنفيذ أهدافها وتحقيق مأربها ، إذا أدت هذه السياسة الجديدة إلى تأمين ودعم الشواطئ وصد العدوان المتكرر من أساطيل الروم .. وشارك موسي بن نصير في نشاط هذه المرحلة الهامة لتأسيس أساطيل إسلامية قوية .. بل وغدا أحد أمراء البحار الذين شاركوا في الهجوم علي قواعد الروم في شرف البحر المتوسط وكان معاوية لا يقرب لهذه الحملات إلا المقربين من البيت الأموي والمشهود لهم بالجرأة وحب المغامرة .
وكان اختيار موسي بن نصير ذا دلالة قوية علي ثقة البيت الأموي في مواهب هذا القائد الشاب الذي أثبتت الأيام أنه جدير بهذه الثقة ، وكانت جزيرة قبرص من أكثر الميادين التي صال فيها موسي بن نصير وجال .. ذلك أن الروم بعد موقعة ذات الصواري قد دأبوا علي مهاجمة هذه الجزيرة وما حولها بل إنهم اتخذوا من هذه الجزر منطلقاً ينطلقون منه لمهاجمة المسلمين والعودة إليها للاحتماء ، فأوكل معاوية بن أبي سفيان مهمة تأمين تلك الجزر إلي موسي بن نصير فاستولي علي هذه الجزر وبني بها حصونا ً لصد هجمات الروم .
واستفاد موسي بن نصير من هذه الفترة أيما استفادة وتكون لدية رصيداً ضخماً من الخبرات التي أفادته من قابل الأيام حينما شحنته الأحداث ليكون الفتي الأول للجهاد وفي شمال إفريقيا .
وبموت معاوية بن أبي سفيان عاد موسي بن نصير لمعارك السياسة مره أخري حيث اتسمت خلافة يزيد بالمنازعات السياسية وظل موسي بن نصير منغمسا ًً في هذه المعارك حتى بعد موت يزيد إلي إن استقرت الأمور لمروان بن الحكم عام 65هجرية .. وكان عبد العزيز بن مروان الابن الأكبر للخليفة معجباً بموسي بن نصير أيما أعجاب .. فاحتضنه وضمه إلي الفرع المرواني .. وهيأ له كل الفرص لإبراز مواهبه واستخراج قدراته لخدمة الإسلام والمسلمين .. وعندما تولي عبد العزيز بن مروان حكم مصر اصطحب معه صديقة الصدوق موسي بن نصير وولاه مركز المستشار الأول لوالي مصر .
وأصبح موسي بن نصير هو محط أنظار البيت الأموي بكاملة حتى استعان به الخليفة لتثبيت الأوضاع في العراق .
فبعث عبد الملك بن مروان وكان هو الخليفة آنذاك إلي اخية عبد العزيز بن مروان والي مصر رسالة يطلب إليه فيها أن يبعث موسي بن نصير إلي العراق ليكون وزيراً لأخيهم بشر بن مروان الذي صار والياً علي البصرة .
وجاء في الرسالة ( أني قد وليت أخاك بشراً علي البصرة فاشخص معه موسي بن نصير وزيراً ومشيراً ... وأعلمه بأنه المأخوذ بكل خلل أو تقصير .
وظل موسي بن نصير وزيراً ومشيراً بالعراق إلي أن توفي بشر بن مروان فعاد موسي إلي دمشق .. ولكن الحليفة اتهمه بالتقصير في جمع الخراج وفرض عليه غرامة فادحة وشاء الله أن يبعث فى ذلك الوقت عبد العزيز بن مروان إلي دمشق فدافع عن موسي بن نصير دفاعاً مستميتاً وتحمل عنه شطراً من الغرامة المفروضة عليه ثم اصطحبة إلي مصر وأطلق يده مرة أخري في إدارة ولايته مصر .
وبهذه العودة الحميدة إلي مصر ننهي أيام الصبا والشباب لتبدأ في مصر فترة الإعداد والاستعداد لفتح بلاد المغرب الغربي ولتسيطر صفحة وضيئة من الجهاد ولا ينساها التاريخ علي مر العصور .
بقلم الشيخ عصمت الصاوي(بتصرف)
وضع المسلمين في شمال أفريقيا
دخل الإسلام بلاد الشمال الإفريقي قبل فتح الأندلس بسبعين سنة؛ أي سنة (22هـ=644م)، وكانت تسكن هذا الإقليم قبائل ضخمة تُسَمَّى قبائل الأمازيغ، وهذه القبائل قبائل قوية الشكيمة شديدة البأس، وقد ارتدَّت عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ فدارت الحروب بينها وبين المسلمين، وانتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر عام (85 أو 86هـ= 704 أو 705م) على يد موسى بن نصير.
كذلك كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير ليُنْجِزَ ما عجز السابقون عن إنجازه، فيُعيد الاستقرار لهذا الإقليم؛ فتوَجَّه ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وكانت البلاد في ذلك الوقت في قحطٍ شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء. وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صَلَّى وخطب في الناس ودعا، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟! فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله ، فسُقُوا حتى رَوَوا.
موسى بن نصير يُثَبِّت دعائم الإسلام في إفريقيا
شمال إفريقيا كان الهمُّ الأول لموسى بن نصير منذ أصبح واليًا على المغرب هو تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم، الذي ارتدَّ أهله عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ ولكي يتمكَّن من ذلك كان عليه أن يعلم لماذا يرتدُّ الناس في هذا الإقليم عن الإسلام؟ وكيف يعودون لقتال المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟!
أسباب الردة
وفي بحثه عن أسباب هذه الردَّة المتكرِّرة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما مَنْ سبقوه:
الخطأ الأول
هو أن عقبة بن نافع ومَن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ثم يتوغَّلُون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يُوَفِّرُوا الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها؛ ومن ثَمَّ كانت النتيجة أن الأمازيغ (البربر) انتبهوا لهذا الأمر واستغلُّوه جيدًا؛ فانقلبوا على عُقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلَّب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير بفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد ، فبدأ يتقدَّم خطوة ثم يُؤَمِّن ظهره، ثم خطوة أخرى ويُؤَمِّن ظهره، حتى أتمَّ الله عليه فتح هذا الإقليم مرَّة أخرى في سبع أو ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.
الخطأ الثاني
فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلَّموا الإسلام جيدًا، ولم يعرفوه حقَّ المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من الشام والحجاز ليُعَلِّمُوهم الإسلام ويُعَرِّفُوهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبُّوه، ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبحوا جند الإسلام وأهله بعد أن كانوا يُحاربون المسلمين [**] ، وهكذا عمل مُوسَى بن نُصَير على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيدها في الشمال الإفريقي، وأتمَّ الله عليه فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة سَبْتَة، فقد فتح ميناء طَنْجَة، ولم يفتح ميناء سبتة المماثل له في الأهمية؛ ولذلك ولَّى موسى بن نصير على ميناء طَنْجَة (القريب جدًّا من سَبْتَة والقريب في الوقت ذاته من الأندلس) أمهر قُوَّاده طارق بن زياد.
مواقف
موسى بن نصير في التاريخ
من هنا نرى أن موسى بن نصير قد تولَّى أمر بلاد المغرب وهي تضطرم نارًا، فكان أوَّل عمل له هو تأمين قواعد انطلاقه، ثم انصرف لإخماد الفتن، والقضاء على الثورات، وتصفية قواعد العدوان، وبناء المجتمع الإسلامي الجديد، ثم وجد بعد ذلك في إفريقية طاقاتٍ ضخمةً، وإمكاناتٍ جبَّارة؛ فأفاد من حرية العمل المتوفرة له، وانصرف إلى متابعة حشد القوات وتعبئتها وقيادتها من نصر إلى نصر، وإشراكها في شرف الفتوح وتحميلها أعباء نشر الإسلام.
تبيَّن لنا بعد تلك الحوادث والفتن التي قضى عليها موسى بن نصير أنه كان من أعظم رجال الحرب والإدارة المسلمين في القرن الأول الهجري، وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناصب التي تقلَّدَها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها، وقد ظهرت هذه المواهب واضحة جليَّة في حُكمِه لإفريقية؛ حيث كانت الحكومة الإسلامية تُواجه شعبًا شديد المراس، يضطرم بعوامل الانتفاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة المواقف وإخماد الفتنة كثيرًا من الحزم والشدَّة، فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفسية الشعوب، وبراعة في سياستها وقيادتها.[***]
الجيش الإسلامي البحري
[**] ابن عذاري: البيان المغرب 1/43، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/110، والمقري: نفح الطيب 1/239، والناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/152.
[***]محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/59
إذا ،،
ما الدروس المستفادة من هذه السيرة؟
وكيف استطاع هذا البطل أن يكون سببا فى تحقيق تلك الإنجازات ؟
وكيف نوظف هذه الفوائد فى واقعنا الاجتماعى والسياسى؟
تعليق