إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

لا تجعل قلبك كالإسفنجة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لا تجعل قلبك كالإسفنجة



    ليس هذا عنواناً صحفياً يرنو إلى لَفْت النظر إلى المقالة وجَلْب القارئ إليها ، ولو كان ذلك - أحياناً - على حساب المضمون ، كما هي عادة بعض الكتَّاب .
    وإنما هو عنوان منهج عقدي وفكري يحتاج إليه كل قارئ ، وتعظم الحاجة إليه في عصرنا الحاضر » ؛ حيث العولمة بنفوذها الفكري ونفاذها التقني من خلال الإعلام وشبكات المعلومات .
    العنوان نصيحة قدَّمها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى – لأشهر تلاميذه ، وهو ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - فنعم الناصح ونعم المنصوح .
    يقول ابن القيم عن هذه النصيحة : « ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك » [1].
    مع أنه قد تلقَّى عن شيخه عشرات بل مئات الوصايا ، كما هو واضح لمن تتبع ذلك في كُتُبه ، لكنَّ هذه الوصية كان لها شأن آخر في حياة ابن قيم ومنهجه ، وقد مَرَّ بتجارب متنوعة ( سطر خلاصتها في نونيته ) ، فأنقذه الله من شبهات أهل الأهواء الذين وقع في شِباكهم بتتلمذه على شيخ الإسلام وملازمته له .
    يقول ابن القيم في عرضه لهذه الوصية : « قال لي شيخ الإسلام - رضي لله عنه - وقد جَعلتُ أُورد عليه إيراداً بعد إيراد : لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة ، فيتشربها ؛ فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة ، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها ؛ فيراها بصفائه ، ويدفعها بصلابته ؛ وإلا فإذا أَشربْتَ قلبك كل شبهة تمر عليها صار مَقرّاً للشبهات ، أو كما قال » [2].
    خلاصة الوصية عند ورود الشبهات والمقالات التي لا تعرف مصدرها ، هي :
    1 - لا تجعل قلبك مثل السفنجة ؛ أي : يتشربها ولا ينضح إلا بها .
    2 - واجعله كالزجاجة المصمتة ؛ أي : يراها بصفائه ويدفعها بصلابته .
    وسنقف مع هذه الوصية بقِسْمَيها ، بعد أن نقدِّم لذلك بمقدمة مهمة ، فنقول : العلوم قسمان :
    أحدهما : علم الشريعة المنزل ، مثل : كتاب الله الكريم وسُنة النبي – صلى الله عليه وسلم - الصحيحة ، وما هو تابع لهما ، نابع عنهما ، مثل : الآثار الصحيحة ، والعلوم المؤصَّلة ، التي بيَّنها أئمة السلف الصالح في العقيدة ، والأحكام ، والآداب ، والسلوك ، وعلوم القرآن ، وعلوم الحديث ، وأصول الشريعة ، والفقه ، وأصول العقيدة الصحيحة ، وآلات ذلك : مما سَلِم من شوائب الفلسفة وعلم الكلام ومقالات أهل الأهواء ؛ فهذه علوم بها حياة القلوب وطريق العبودية وتوحيد رب العالمين .
    ولا صلاح للعباد والبلاد في الدنيا والآخرة إلا بها .
    فهذه ينبغي أن يتشربها قلب العبد المؤمن؛ لأنها طريق السعادة في الدارين ، وسُلَّم العبودية لرب العالمين .
    الثاني : ما سوى ذلك من العلوم . وهذه أيضاً قسمان :
    1 - علوم دنيوية بحتة يؤخذ منها ما يُحتاج إليه لحياة الإنسان على هذه الأرض والسعي في معاشه .
    وهذه إن قُصِد بها المعونة على طاعة الله أثيب عليها ، وإن صدت عن طاعة الله أو قُدِّمت عليها عوقب عليها .
    2 - العقائد والعلوم الفلسفية والفكرية المنحرفة ، ومقالات أهل الأهواء والبدع ( قديماً وحديثاً ) ، ويدخل في ذلك المذاهب الفكرية المعاصرة بمختلف تياراتها ومنطلقاتها ( شرقية أو غربية أو وطنية جاهلية ) .
    وهذه الأخيرة هي الداء العضال الذي إن تسلل إلى القلوب أفسدها ، وغشَّاها بالشبهات والشكوك ، وحوَّلها من يقين الإيمان وبرد التسليم والطاعة وسلامة القلب وصحته وقوَّته إلى الحيرة والتردد وتسلُّط الوساوس ، وضعف العبادة وقلة الطاعة ، وتحوُّل القلب من الأنس إلى الوحشة .
    والشبهات من أشدِّ الأشياء على القلوب وأثقلها ، حتى تكاد الشبهة أن تكون جبلاً ، وأنى للقلب الرقيق تحمُّله .
    والمؤمن المستبصر يدرك مدى خطورة الأمر ، خاصة إذا علم أنه لا أحد بمأمن من ذلك مهما علا شأنه في العلم أو العبادة والطاعة ، أو في المجاهدة والدعوة ، أو فيها جميعاً .
    والمتتبع لواقع المسلمين المعاصر ، وخاصة طلاب العلم ورجال الدعوة وشباب الصحوة منهم ، يرى كيف تسللت شُبَه كثيرة إلى القلوب ، وانتقلت إلى العمل والواقع الدعوي من خلال الوسائل المعاصرة ( وهي معروفة ) ، وتحولت إلى ما يمكن أن يسمى ب : شللية فكرية تتبنى عدداً من مسائل العقيدة والشريعة والثقافة بمنهج عقلاني عصراني منحرف .
    وأساس المشكلة تسلُّل شبهات الملاحدة والزنادقة والعلمانيين والمستشرقين والمنصِّرين وأهل البدع والأهواء وبقايا الشيوعيين والقوميين والحداثيين وأضرابهم حيث صار هؤلاء يعرضونها ؛ وهناك جزء من رجال الصحوة وشبابها يتشربون هذه الشبهات ، وبعد قليل ينوبون عن أولئك الزنادقة وأهل البدع في نَشْرها والحماس في الدفاع عنها .
    واللافت للنظر أن كافة هذه الشبهات ليست جديدة ، بل هي مما سبق أن عُرِض ودُوِّن في كتبهم وردَّها العلماء والدعاة وكشفوا زيفها ؛ فما الجديد ؟ الذي استجد إنما هي حرب مركَّزة على الإسلام وعلى منهاج السلف خاصة ، ودعمت هذه الحرب قوىً مختلفة معروفة .
    وقابل ذلك ضَعْف الإيمان وخلل في الثقة بالمنهج ، وهو ما جعل هذه الشبهات تلج القلوب،فتُغَيِّر الكثير منها .
    فصارت هذه القلوب كالإسفنجة تمتص هذه الشبهات كما تمتص الماء العَفِن .
    إن سؤال المسلم الهداية : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }( الفاتحة : 6-7 ) ، يكرره في اليوموالليلة أكثر من سبع عشرة مرة .
    ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر - كما في الحديث الصحيح المشهور - بأن سبيل الله واحد وما عداه سُبُل الشيطان .
    وأصل الهداية هداية القلوب ؛ لأن القلب سيد البدن ، كما أن أساس الضلالة - عياذاً بالله - غواية القلوب وضلالها وانحرافها .
    فجاءت هذه الوصية الغالية من شيخ الإسلام ، والتي تقول خلاصتها : لا تجعل قلبك للشبهات مثل الإسفنجة ، فيتشربها ولا ينضح إلا بها .
    فما وجه تشبيه هذا النوع من القلوب بالإسفنجة ؟
    1 - يُلاحَظ الشبه بينهما من ناحية التكوين؛ فكلٌّ منهما رقيق ليِّن، ليس في داخله صلابة من عظام ونحوها .
    2 - أن الإسفنجة معروفة بطبعها ؛ فهي تمتص كل سائل ؛ فإن أدخلتها طيِّباً : من ماء عذب أو لبن أو شراب ، فإنها تمتصه ، كما أنك إن أدختلتها في ماء عفن ، أو بول أو نجس : كخمر ونحوه ، فإنها تمتصه أيضاً .
    3 - أن الإسفنجة إذا امتصت السائل ، فلا بد أن تنضح بما فيها ؛ حيث يخرج منها القطرات ، بل أكثر من ذلك إذا ضُغط عليها ولو بقليل من القوة .
    وقلَّما تحتفظ بما فيها حتى ينشف ،ولو نشفت فما أقبح ما فيها ؛ إن كان ما امتصته من المجاري وأشباهها !
    4 - أن الإسفنجة متي ما اعتادت امتصاص العفن ، تحولت هي إلى عفن ؛فلا ينفع معها تنظيف ولا غسل .
    وكذلك القلوب ، فهي : أولاً : رقيقة ؛ لأنها موطن الإرادة والحب والبغض والمحبة والكره ، وهي موطن أعمال القلوب : من خوف ، ورجاء ، ومحبة وإنابة ، وإخلاص ، وصدق ، وتوبة ، وتوحيد ، وتوكُّل وغيرها ؛ ولذا فهي تابعة لمن خضعت له :
    أ - فإن انقادت لمولاها وسيدها ومالكها بتوحيده والتوكل عليه وحده لا شريك له وبمحبته ورجائه وخوفه وسائر أعمال القلوب ، فقد اتصفت بصفتين عظيمتين :
    إحداهما : كمال الافتقار لمولاها ؛ فهي لا تستغني عنه لحظة من ليل أو نهار ، مع كمال الانقياد والطاعة ، فهي تقود أبدانها إلى مولاها بالاستجابة التامة بفعل الأوامر واجتناب النواهي ؛ فإن أذنب العبد ، فهي لرقَّتها تُبادر إلى التوبة والاستغفار والحسنات الماحيات .
    والأخرى : كمال القوة في الحق ، والنفور من الباطل ، ( شبهات وشهوات ) .
    وسبب ذلك أن قوَّتها بالله ( عبادةً واستعانةً وتوكلاً ) ، وهذا من عجيب أحوالقلوب المومنيين الصادقين ؛ حيث تجدها أعظم ما تكون رقة ورحمة وأقوى ما تكونصلابة في الحق ونفوراً من الباطل ، وشجاعة في الدفاع عن الدين الحق وأهله ،والموالاة لهم ، وردِّ الباطل وأهله والبراءة منهم ومن أعمالهم ؛ فهي في الإيمان لاتخاف لومة لائم .
    ب - وإن انقادت القلوب - عياذاً بالله - إلى غير الله : من نَفْس أمَّارة أو هوىً أو شيطان ، وتمثَّل ذلك في معبود غير الله ، أو تعلُّق بجاه أو دنيا أو شهوة قُدِّمت على عبادة الله وطاعته ، تحولت القلوب إلى محبة وخضوع لذلك المعبود من دون الله .
    وصارت على الضد من صفات المؤمنين :
    - فهي قاسية في عبادة الله وطاعته والانقياد له ، حتى تكون كالحجارة أو أشدقسوة .
    - وهي ذليلة رقيقة خاضعة لمن مالت إليه ؛ فيها من الضعة والاستكانة والحقارة والعبودية لذلك المعبود من دون الله ما لا يكاد يصدقه الإنسان السوي .
    ثانياً : هي ( أي : القلوب ) بحسب ما تُحمَل وتربَّى عليه ؛ فإن حُمِلت على حب الحق والاستجابة له والنفور من الباطل والنكارة له حُفِظت بعون من الله وتوفيقه من فتن الشهوات والشبهات .
    أما إن تُركت مرتعاً لكل عارض مما يعرض لها ، تتقبله من غير تمييز ، فإنها تكون عرضة للخطرات والوساوس التي يلقيها شياطين الإنس والجن ؛ فتصبح مرتعاً للشبهات فتصير كالسفنجة التي حذر منها شيخ الإسلام ؛ تمتص الشبهات وبها تنضح ، وتصبح مريضة بذلك .
    ولتشخيص هذه الحالة في واقعنا المعاصر نلاحظ ما يلي :
    1 - بروز هذه الظاهرة الإسفنجية لدى بعض طلاب العلم والشباب المستقيمونحوهم ممن لهم اهتمامات بالعلم الشرعي ، أو بالقراءة بمعناها العام الشامل لمايُشاهَد أو يُسمَع أو يُقرَأ ، أو بحب سماع الحوارات التي تدور بين الأطياف المختلفةفي عقائدها ، أو في مشاربها أو في مناهجها ؛ فتجد بعض هؤلاء - هدانا الله وإياهموثبَّتنا على الحق جميعاً - يتشرب شبهات أهل الباطل ، فتستقر في نفسه .
    وإذا علمنا أن للشبهات بريقاً ولمعاناً محرقاً ، خاصة إن عُرضت بأسلوبماكر تصحبه سخرية وهزء بأهل الحق المتمسكين به ؛ عندها يتَبيَّن مدى أثر هذهالشبهات على القلوب الإسفنجية الضعيفة ؛ حيث تتحول القلوب إلى نوع من القلق ،وشيء من الحيرة والشك ؛ حيث يتصارع في قلبه ثقتُه بمنهجه وعقيدته الصافية ،وقوةُ الشبهة وشدة جَذْبها وقوة حَرْقها .



  • #2
    رد: لا تجعل قلبك كالإسفنجة

    وفي هذه الحالة المَرَضية العارضة المقلقة يكون للقلب أحد مسارين :
    أ - مسار يؤوب فيه القلب إلى سكينة الإيمان وبرد اليقين والتسليم لأمر اللهوأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ بحيث تكون له خبيئة من عبادة وطاعةيتقرب بها إلى الله ، تعالى ؛ فتُجدِّد له هذه العبادة ثوب الإيمان والتعلق بمقلِّبالقلوب - تبارك وتعالى - فيتوجَّه إليه منيباً مخبتاً متوكلاً ، أو يكون له صاحب أوأصحاب ، مثل شيخ يثق به ويباحثه أو يسائله عما عرض له من شبهات ، فيتلقىالجواب وهو على حالته السابقة من التسليم والعبادة ؛ فهذا غالباً ما يعود إليه اليقينويَسْلم من غوائل ما عرض لقلبه من الشبهات ؛ فينتبه لنفسه لاحقاً .
    ب - مسار لا يوفَّق فيه لتسليمٍ ولا لمزيد طاعة ، ولا لمعالجة صحيحة لهذاالعارض ؛ فهذا قد تشتد عنده حالة الشك والقلق ، ويبقى حبيس نفسه وهواه وهواجسهووساوسه ، فينتج عن ذلك مرضان :
    - رسوخ الشبهة أو الشبهات : لأن القلب تَشرَّبها واختلطت به ، كالإسفنجة التي امتصت الماء العفن .
    - نَقْل الشبهة إلى غيره : حيث تجده ينشرها بين أصحابه ، ويعرضها في كل مناسبة ، ويكرر عرضها ؛ وكأنه لم يبقَ معه من القول والهمِّ في دينه ودنياه إلا ما أُشرِب قلبه من ذلك ؛ فهو لا يكتفي بمرض قلبه ، وإنما ينقل عدواه إلى الآخرين السالمين الأصحاء .
    والطامة الكبرى تكون حين يخص بهذه البوائق أحبابه وأصحابه المقربين منه أو طلابه المتأثرين به ؛ فما أعظمها من مصيبة وقعت على الطرفين !وهذا معنى تشبيه القلب بالإسفنجة ؛ لأنها إذا امتصت العفن صارت تنضح وتقطر بما فيها من ذلك ، كما هو مشاهد ، وكذا القلب الشبيه بذلك .
    وقد مرَّ بي من ذلك نماذج ، خاصة في السنوات الأخيرة ؛ حيث يأتي إليَّ بعض الطلاب الذين أحسنوا الظن بأخيهم الذي اعتبروه أستاذاً لهم يسألونه عن شبهات عالقة بعقولهم وقلوبهم .
    والسؤال منهج حَسَن ممدوح ، بل هو مخرج ضروري لإزالة الشبهة وسلامة القلب منها .
    ولكنَّ الذي لفت انتباهي ، هو : حَمْل هذه الشبهات ، وانفعال بعض أصحابها ، وهو ما قد يوحي بدرجةٍ ما من علوقها في القلب ، ثم إن أكثر هذه الشبهات قد أجاب عنها العلماء قديماً ، كما أجاب عنها العلماء المعاصرون في كتبهم ودروسهم وأشرطتهم المبثوثة ؛ فهي ليست جديدة ، وهي شبهات مكررة لأهل البدع من :الجهمية والرافضة والمعتزلة والأشاعر ... وغيرهم .
    فلو أن هؤلاء أصَّلوا طلبهم للعلم وأخذوه عن العلماء الموثوقين قديماً وحديثاً وتعمَّقوا في مسائله لوجدوا في ثنايا كُتُبهم ودروسهم الأجوبة واضحة ؛ فما أحوج هؤلاء وأحوجنا جميعاً إلى وصية شيخ الإسلام هذه !
    فإن قال قائل : هل كل من سأل نتيجة إشكال أو شبهة عرضت له فهو إسفنجي ؟
    الجواب : هناك أسئلة في العلم أثناء تعلُّمه وتلقِّيه ؛ حيث ترد الأسئلة والطالب يسيح في بحر العلم الشرعي ؛ فهذا من الممدوح الذي يدل على ذكاء صاحبه وعمق فَهْمه ، لكن لا يتعدى السؤال مسائل الباب ولا وقت الدرس ؛ حيث تنغمر الشبهة في بحر العلم ، ويكون جوابها سهلاً ، وليس لها علوق في القلب يكدِّر صفاءه ، وهذا ديدن طلاب العلم ( قديماً وحديثاً ) مع شيوخهم ، وعلى رأس هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنهم كانوا يسألون عما يُشكِل عليهم من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يجيبهم .
    ونماذج ذلك في السُّنة كثيرة .
    أما الإسنفجي الذي حذر منه شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم ، فهو ذلك الذي يتشرب شبهات أهل الأهواء فَتعْلق في قلبه ، فيكررها وينشرها وينضح قلبه بها .
    إذاً : ما المخرج من هذه الحالة الإسنفنجية ؟وكيف يَسْلم طالب العلم ، بل عموم المسلمين من الوقوع في هذه الحالة التي حذر منها شيخ الإسلام ، وهو الخبير بأحوال القلوب ، وبأحوال عصره والتقلبات التي تعرض لطلاب العلم ؟ أجاب شيخ الإسلام في وصيته السابقة بقوله : « لكن اجعله ( أي : قلبك ) ، كالزجاجة المصمتة ، تَمُرُّ الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها ،فيراها بصفائه ، ويدفعها بصلابته » .
    وهذا موجَّه لابن القيم المعروف بسعة علمه ، وبقوة تألُّهه وعبادته ، وخبرته بأحوال القلوب وأمراضها وأدوائها وطرائق علاجها ؛ فكيف بنا وبأحوالنا ، والله المستعان ؟
    فخلاصة العلاج والوقاية تكون بأمور : منها :
    أولاً : العبادة والطاعة ، وهذه ضرورية لصفاء القلب وخلوصه من أكداره ،وهذا أمر قد لا ينتبه له المشغولون بالقراءة والثقافة والفكر وسعة الاطلاع ؛ حيثيظنون أن سَعة العلم كافية وأن كثرة القراءة وحدها محصِّنة للإنسان في حياته منالزيغ والانحراف ، حتى إنهم يستعيضون بها عن العبادة وأفعال القرب ؛ فقد يؤخرأحدهم الصلاة أو يتأخر عن صلاة الجماعة أو بعضها ؛ لانشغاله بالقراءة ، وقديرى التسبيح والأذكار مشغلة عما هو أهم ( وهو القراءة ) .
    وقد لا يجد في صلة رحمه من الأقربين جداً واجتهاداً كالذي يقدِّمه في ساعاتيقضيها على الشبكة المعلوماتية ( وأنا اتكلم عن الجاد منها وليس عن سخافاتها ) ،وقد لا يحرص على النوافل ؛ لأنها تأخذ منه وقتاً ، بل قد لا يجد ما يفرِّغ به نفسهلقراءة القرآن الكريم أو حفظه أو تدبُّر معانيه عُشر معشار ما يقضيه في القراءةالمبعثرة الهائمة .
    إن هذه حالة يجب أن يبادر أصحابها إلى علاج قلوبهم تجاهها ؛ وذلك بحمل النفس على تحمُّل العبادة بأنواعها مع تهيئة البال والنفس والقلب لكي يطيب بالعبادة ويأنس بها ؛ فيكون ممن يرتاح بالعبادة وليس ممن يرتاح منها .
    والنصيحة بالعبادة عند ورود الفتن ؛ حيث تضطرب القلوب وتصاب البصيرة بالغبش ، خير دليل على أهمية العبادة والطاعة والقربى إلى الله - تعالى – وعلى كونها تثير البصائر عند ورود الشبهات .
    ثانياً : الابتعاد عما يقسي القلب ويضعفه ، خاصة ما عظمت الفتنة فيه في السنوات ، مثل :
    1 - مجالس المنكر ومنتدياته التي تقوم - في غالبها - على نَشْر الإلحاد والزندقة ونَشْر البدعة والاستهزاء بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم – وشريعتهودينه وعباده المؤمنين .
    وهي تقوم على فكر منحرف وثقافة مستورَدة ، وتسعى إلى التشكيك ونَشْر الشُّبه بين أهل الإسلام .
    وكفى بذلك مرضاً للقلوب ؛ فهذه فيها السم الزعاف ، ولا يجوز لأحد دخولها إلا المتمكن يريد إنكار المنكر ، ومع هذا ؛ فهو حكيم يمر بها لغاية يريد تحقيقها ، يخدم بها دينه ويردُّ صَوَلان هذه المنكرات .
    ثم هو يمر مسرعاً لا يقيم معها ولا يطيل بحجة معرفة المنكر ، بل في قلبه من حرارة الولاء والبراء ما يصرفه عنها إلى برد الإيمان والعلم والطاعة .
    2 - مجالس ومواقع قاذورات الإعلام ، وفِتَنِها وخاصة فتنة الصور وما يتبعها من مجون يُقرأ أو يُسمع أو يُشاهد .
    وهذا يقسي القلب ، ويُضعِف العبادة ؛ فيمرض صاحبه ، ويكون عرضة للشبهات التي قد يقوده إليها ما تساهل فيه من الولوغ في الشهوات .
    ثالثاً : أن تجعل قلبك كالزجاجة الصافية المصمتة كما أوصى شيخ الإسلام ؛ فيكون لقلبك بصر نافذ عند ورود الشبهات ، فيعرف أنها شبهة وليست عِلماً فيتعامل معها على هذا الوضع .
    وتشبيه القلب بالزجاجة فيه كثير من المعاني البلاغية والعلمية والإيمانية ،منها :
    1 - أن القلب في هذه الحالة يكون مقابل القلب الرخو الشبيه بالإسفنجة ؛ فهو صلب في إيمانه وعلمه وبصيرته ، واثق من منهجه غير متردد فيه ولا شاك .
    2 - أن هذا القلب صافٍ كصفاء الزجاجة البلورية النظيفة ، يبصر الأمور والمسائل على حقيقتها ؛ فيفرِّق بين الحق والباطل ، والمعروف والمنكر ، والدليل الصحيح والاستدلال الفاسد ، والواضح من حقائق الدين والعلم والإيمان وشبهات الباطل ، والخاطر الإيماني الرباني والخواطر الشيطانية ؛ فإذا أقبلت الشبهة أو الفتنة أبصرها بوضوح تام ؛ فقد نُوِّر هذا القلب بأنوار الإيمان والعلم والطاعة ؛ فهو يعرفها ويعرف منشأها وغايتها وأثرها الفاسد ، فلا يزال يراها كذلك ويتعامل معها على هذا الوجه .
    وهذا لون من الفِراسة يهبه رب العالمين لمن صفت قلوبهم وخَلَصت لربها ، تعالى .
    3 - أن هذا القلب صلب ؛ لأن الزجاجة مع صفائها هي مصمتة مغلقة ليس فيها كسور أو شقوق ؛ فهو لصلابته يدفع الشُّبه ويردُّها وينكرها ؛ فهي من أجل هذه الصلابة لا تجد إليه مدخلاً .
    فالشبهات حول هذا القلب تدور ، وتحاول بأساليب متعددة ومحاولات متكررة أن تدخل ؛ ولو بفِناء القلب أو عند بابه ، ولكن هيهات هيهات والقلب صلب مُصمَت عن الباطل وشُبَهِه ، فترجع الشبهات مولِّيةً هاربةً مهزومةً .

    تعليق


    • #3
      رد: لا تجعل قلبك كالإسفنجة

      جزاك الله خيرا ولي عوده لأكمل الموضوع
      قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

      تعليق

      يعمل...
      X