ليس هذا عنواناً صحفياً يرنو إلى لَفْت النظر إلى المقالة وجَلْب القارئ إليها ، ولو كان ذلك - أحياناً - على حساب المضمون ، كما هي عادة بعض الكتَّاب .
وإنما هو عنوان منهج عقدي وفكري يحتاج إليه كل قارئ ، وتعظم الحاجة إليه في عصرنا الحاضر » ؛ حيث العولمة بنفوذها الفكري ونفاذها التقني من خلال الإعلام وشبكات المعلومات .
العنوان نصيحة قدَّمها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى – لأشهر تلاميذه ، وهو ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - فنعم الناصح ونعم المنصوح .
يقول ابن القيم عن هذه النصيحة : « ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك » [1].
مع أنه قد تلقَّى عن شيخه عشرات بل مئات الوصايا ، كما هو واضح لمن تتبع ذلك في كُتُبه ، لكنَّ هذه الوصية كان لها شأن آخر في حياة ابن قيم ومنهجه ، وقد مَرَّ بتجارب متنوعة ( سطر خلاصتها في نونيته ) ، فأنقذه الله من شبهات أهل الأهواء الذين وقع في شِباكهم بتتلمذه على شيخ الإسلام وملازمته له .
يقول ابن القيم في عرضه لهذه الوصية : « قال لي شيخ الإسلام - رضي لله عنه - وقد جَعلتُ أُورد عليه إيراداً بعد إيراد : لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة ، فيتشربها ؛ فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة ، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها ؛ فيراها بصفائه ، ويدفعها بصلابته ؛ وإلا فإذا أَشربْتَ قلبك كل شبهة تمر عليها صار مَقرّاً للشبهات ، أو كما قال » [2].
خلاصة الوصية عند ورود الشبهات والمقالات التي لا تعرف مصدرها ، هي :
1 - لا تجعل قلبك مثل السفنجة ؛ أي : يتشربها ولا ينضح إلا بها .
2 - واجعله كالزجاجة المصمتة ؛ أي : يراها بصفائه ويدفعها بصلابته .
وسنقف مع هذه الوصية بقِسْمَيها ، بعد أن نقدِّم لذلك بمقدمة مهمة ، فنقول : العلوم قسمان :
أحدهما : علم الشريعة المنزل ، مثل : كتاب الله الكريم وسُنة النبي – صلى الله عليه وسلم - الصحيحة ، وما هو تابع لهما ، نابع عنهما ، مثل : الآثار الصحيحة ، والعلوم المؤصَّلة ، التي بيَّنها أئمة السلف الصالح في العقيدة ، والأحكام ، والآداب ، والسلوك ، وعلوم القرآن ، وعلوم الحديث ، وأصول الشريعة ، والفقه ، وأصول العقيدة الصحيحة ، وآلات ذلك : مما سَلِم من شوائب الفلسفة وعلم الكلام ومقالات أهل الأهواء ؛ فهذه علوم بها حياة القلوب وطريق العبودية وتوحيد رب العالمين .
ولا صلاح للعباد والبلاد في الدنيا والآخرة إلا بها .
فهذه ينبغي أن يتشربها قلب العبد المؤمن؛ لأنها طريق السعادة في الدارين ، وسُلَّم العبودية لرب العالمين .
الثاني : ما سوى ذلك من العلوم . وهذه أيضاً قسمان :
1 - علوم دنيوية بحتة يؤخذ منها ما يُحتاج إليه لحياة الإنسان على هذه الأرض والسعي في معاشه .
وهذه إن قُصِد بها المعونة على طاعة الله أثيب عليها ، وإن صدت عن طاعة الله أو قُدِّمت عليها عوقب عليها .
2 - العقائد والعلوم الفلسفية والفكرية المنحرفة ، ومقالات أهل الأهواء والبدع ( قديماً وحديثاً ) ، ويدخل في ذلك المذاهب الفكرية المعاصرة بمختلف تياراتها ومنطلقاتها ( شرقية أو غربية أو وطنية جاهلية ) .
وهذه الأخيرة هي الداء العضال الذي إن تسلل إلى القلوب أفسدها ، وغشَّاها بالشبهات والشكوك ، وحوَّلها من يقين الإيمان وبرد التسليم والطاعة وسلامة القلب وصحته وقوَّته إلى الحيرة والتردد وتسلُّط الوساوس ، وضعف العبادة وقلة الطاعة ، وتحوُّل القلب من الأنس إلى الوحشة .
والشبهات من أشدِّ الأشياء على القلوب وأثقلها ، حتى تكاد الشبهة أن تكون جبلاً ، وأنى للقلب الرقيق تحمُّله .
والمؤمن المستبصر يدرك مدى خطورة الأمر ، خاصة إذا علم أنه لا أحد بمأمن من ذلك مهما علا شأنه في العلم أو العبادة والطاعة ، أو في المجاهدة والدعوة ، أو فيها جميعاً .
والمتتبع لواقع المسلمين المعاصر ، وخاصة طلاب العلم ورجال الدعوة وشباب الصحوة منهم ، يرى كيف تسللت شُبَه كثيرة إلى القلوب ، وانتقلت إلى العمل والواقع الدعوي من خلال الوسائل المعاصرة ( وهي معروفة ) ، وتحولت إلى ما يمكن أن يسمى ب : شللية فكرية تتبنى عدداً من مسائل العقيدة والشريعة والثقافة بمنهج عقلاني عصراني منحرف .
وأساس المشكلة تسلُّل شبهات الملاحدة والزنادقة والعلمانيين والمستشرقين والمنصِّرين وأهل البدع والأهواء وبقايا الشيوعيين والقوميين والحداثيين وأضرابهم حيث صار هؤلاء يعرضونها ؛ وهناك جزء من رجال الصحوة وشبابها يتشربون هذه الشبهات ، وبعد قليل ينوبون عن أولئك الزنادقة وأهل البدع في نَشْرها والحماس في الدفاع عنها .
واللافت للنظر أن كافة هذه الشبهات ليست جديدة ، بل هي مما سبق أن عُرِض ودُوِّن في كتبهم وردَّها العلماء والدعاة وكشفوا زيفها ؛ فما الجديد ؟ الذي استجد إنما هي حرب مركَّزة على الإسلام وعلى منهاج السلف خاصة ، ودعمت هذه الحرب قوىً مختلفة معروفة .
وقابل ذلك ضَعْف الإيمان وخلل في الثقة بالمنهج ، وهو ما جعل هذه الشبهات تلج القلوب،فتُغَيِّر الكثير منها .
فصارت هذه القلوب كالإسفنجة تمتص هذه الشبهات كما تمتص الماء العَفِن .
إن سؤال المسلم الهداية : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }( الفاتحة : 6-7 ) ، يكرره في اليوموالليلة أكثر من سبع عشرة مرة .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر - كما في الحديث الصحيح المشهور - بأن سبيل الله واحد وما عداه سُبُل الشيطان .
وأصل الهداية هداية القلوب ؛ لأن القلب سيد البدن ، كما أن أساس الضلالة - عياذاً بالله - غواية القلوب وضلالها وانحرافها .
فجاءت هذه الوصية الغالية من شيخ الإسلام ، والتي تقول خلاصتها : لا تجعل قلبك للشبهات مثل الإسفنجة ، فيتشربها ولا ينضح إلا بها .
فما وجه تشبيه هذا النوع من القلوب بالإسفنجة ؟
1 - يُلاحَظ الشبه بينهما من ناحية التكوين؛ فكلٌّ منهما رقيق ليِّن، ليس في داخله صلابة من عظام ونحوها .
2 - أن الإسفنجة معروفة بطبعها ؛ فهي تمتص كل سائل ؛ فإن أدخلتها طيِّباً : من ماء عذب أو لبن أو شراب ، فإنها تمتصه ، كما أنك إن أدختلتها في ماء عفن ، أو بول أو نجس : كخمر ونحوه ، فإنها تمتصه أيضاً .
3 - أن الإسفنجة إذا امتصت السائل ، فلا بد أن تنضح بما فيها ؛ حيث يخرج منها القطرات ، بل أكثر من ذلك إذا ضُغط عليها ولو بقليل من القوة .
وقلَّما تحتفظ بما فيها حتى ينشف ،ولو نشفت فما أقبح ما فيها ؛ إن كان ما امتصته من المجاري وأشباهها !
4 - أن الإسفنجة متي ما اعتادت امتصاص العفن ، تحولت هي إلى عفن ؛فلا ينفع معها تنظيف ولا غسل .
وكذلك القلوب ، فهي : أولاً : رقيقة ؛ لأنها موطن الإرادة والحب والبغض والمحبة والكره ، وهي موطن أعمال القلوب : من خوف ، ورجاء ، ومحبة وإنابة ، وإخلاص ، وصدق ، وتوبة ، وتوحيد ، وتوكُّل وغيرها ؛ ولذا فهي تابعة لمن خضعت له :
أ - فإن انقادت لمولاها وسيدها ومالكها بتوحيده والتوكل عليه وحده لا شريك له وبمحبته ورجائه وخوفه وسائر أعمال القلوب ، فقد اتصفت بصفتين عظيمتين :
إحداهما : كمال الافتقار لمولاها ؛ فهي لا تستغني عنه لحظة من ليل أو نهار ، مع كمال الانقياد والطاعة ، فهي تقود أبدانها إلى مولاها بالاستجابة التامة بفعل الأوامر واجتناب النواهي ؛ فإن أذنب العبد ، فهي لرقَّتها تُبادر إلى التوبة والاستغفار والحسنات الماحيات .
والأخرى : كمال القوة في الحق ، والنفور من الباطل ، ( شبهات وشهوات ) .
وسبب ذلك أن قوَّتها بالله ( عبادةً واستعانةً وتوكلاً ) ، وهذا من عجيب أحوالقلوب المومنيين الصادقين ؛ حيث تجدها أعظم ما تكون رقة ورحمة وأقوى ما تكونصلابة في الحق ونفوراً من الباطل ، وشجاعة في الدفاع عن الدين الحق وأهله ،والموالاة لهم ، وردِّ الباطل وأهله والبراءة منهم ومن أعمالهم ؛ فهي في الإيمان لاتخاف لومة لائم .
ب - وإن انقادت القلوب - عياذاً بالله - إلى غير الله : من نَفْس أمَّارة أو هوىً أو شيطان ، وتمثَّل ذلك في معبود غير الله ، أو تعلُّق بجاه أو دنيا أو شهوة قُدِّمت على عبادة الله وطاعته ، تحولت القلوب إلى محبة وخضوع لذلك المعبود من دون الله .
وصارت على الضد من صفات المؤمنين :
- فهي قاسية في عبادة الله وطاعته والانقياد له ، حتى تكون كالحجارة أو أشدقسوة .
- وهي ذليلة رقيقة خاضعة لمن مالت إليه ؛ فيها من الضعة والاستكانة والحقارة والعبودية لذلك المعبود من دون الله ما لا يكاد يصدقه الإنسان السوي .
ثانياً : هي ( أي : القلوب ) بحسب ما تُحمَل وتربَّى عليه ؛ فإن حُمِلت على حب الحق والاستجابة له والنفور من الباطل والنكارة له حُفِظت بعون من الله وتوفيقه من فتن الشهوات والشبهات .
أما إن تُركت مرتعاً لكل عارض مما يعرض لها ، تتقبله من غير تمييز ، فإنها تكون عرضة للخطرات والوساوس التي يلقيها شياطين الإنس والجن ؛ فتصبح مرتعاً للشبهات فتصير كالسفنجة التي حذر منها شيخ الإسلام ؛ تمتص الشبهات وبها تنضح ، وتصبح مريضة بذلك .
ولتشخيص هذه الحالة في واقعنا المعاصر نلاحظ ما يلي :
1 - بروز هذه الظاهرة الإسفنجية لدى بعض طلاب العلم والشباب المستقيمونحوهم ممن لهم اهتمامات بالعلم الشرعي ، أو بالقراءة بمعناها العام الشامل لمايُشاهَد أو يُسمَع أو يُقرَأ ، أو بحب سماع الحوارات التي تدور بين الأطياف المختلفةفي عقائدها ، أو في مشاربها أو في مناهجها ؛ فتجد بعض هؤلاء - هدانا الله وإياهموثبَّتنا على الحق جميعاً - يتشرب شبهات أهل الباطل ، فتستقر في نفسه .
وإذا علمنا أن للشبهات بريقاً ولمعاناً محرقاً ، خاصة إن عُرضت بأسلوبماكر تصحبه سخرية وهزء بأهل الحق المتمسكين به ؛ عندها يتَبيَّن مدى أثر هذهالشبهات على القلوب الإسفنجية الضعيفة ؛ حيث تتحول القلوب إلى نوع من القلق ،وشيء من الحيرة والشك ؛ حيث يتصارع في قلبه ثقتُه بمنهجه وعقيدته الصافية ،وقوةُ الشبهة وشدة جَذْبها وقوة حَرْقها .
تعليق