إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هو احنا غلطنا فى البخارى ؟؟؟؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هو احنا غلطنا فى البخارى ؟؟؟؟




    ( هُوَّ إِحْنَا غِلِطْنا في البخاري )؟!
    مقال في الإخلاص وذم الشهرة
    .
    بقلم العبد الفقير: أبي المظفر السِّنَّاري.



    تلك عبارة قد دَرَجـتْ على ألسن العامة في مصر وسَرَتْ، وانتشرتْ في أوساطهم وذاعت وجرَتْ، بل تجاوزتْ ألسنتهم إلى ألْسُن الطبقات المثقَّفة والراقية، وارتقتْ إلى أعالي الأوساط فأصبحت على شفاههم جارية، بل ربما نطق بها دهماء عوام النصارى واليهود، وتمنطق بترديدها مخْتَلَفُ الأجناس من البيض والسُّمْرِ والسُّود.
    فلم تعد تقصر على لسان المنتسبين إلى أهل الإسلام، ولا غدَتْ من مفردات ما يتشدَّق به العوام.
    ومراد لافظها، ومقصد ناطقها: هو دَفْعُ لوم اللائمين، ودَرْءُ عذل العاذلين، عند العتْب عليه في تنقيصه لأحد من الناس، أو الغمز في شمائله من الأساس، فيتذرَّع بتلك العبارة في كونه لم يتعرض بالطعن في إنسان مُقَدَّس، ولا خاض بلسانه في مَلَكٍ مُنزَل، أو نبيٍّ مُرْسَل، فيرفع عقيرته قائلا: «هُوَّ إِحْنَا غِلِطْنا في البخاري»؟! يعني إنما غلطنا في واحد من البَشَر، وإن كان شريفًا أو كريمًا أو مُطاعًا صاحب نَهْيٍ وأمْر.
    وقد سمعتُ من بعض عوام القاهرة والإسكندرية من يقول في يمينه: «والبخاري ما فعلتُ كذا »!




    وفي بعض بلاد المغرب العربي ترى العامة هناك إذا أرادو القَسَمَ قالوا: «والجاه والبخاري». وربما قالوا: «والشفاء والبخاري».
    ولا أدري ماذا يقصدون بـــ: «الجاه» في قسَمِهم؟
    أما قولهم: «والشفاء» فإنما يعنون به كتاب القاضي عياض: «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» وهو كتاب مشهور في مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم..
    وأكثر العامة: لا يعرفون البخاري أصلا! ولا يدركون من «صحيحه» بابًا ولا فصلا! إنما يعتقدونه وحسب، فهو عندهم شيء عظيم، وصاحب شأْوٍ جسيم، وربما ظنه بعضهم نبيًا من الأنبياء، والمعتدل منهم: يراه وَلِيًّا من زُمْرَة الأولياء! بل هناك من يعتقده فوق ذلك كله؟
    فأخبرني أخي الأكبر سيد بن محمد السِّنَّاري قال: ( بينما كنتُ متجوِّلا في «حَيِّ باب الشِّعْرِيَّة» من أحياء القاهرة، أبصرتُ امرأة من عامة الناس تبيع «الجُبْنَ القديم»، فدنوتُ منها فإذا بعض النساء يُماكسها، فأغْلَظَتْ لها الكلام، والمرأة تشدُّ عليها في الخصام، فما كان من بائعة الجبن إلا أن نالتْ منها، واشْتَفتْ بتوبيخها والناس يصدونها عنها، فسمعتُها تقول لها: «خلاص خلاص. هُوَّ إِحْنَا غِلِطْنا في البخاري»؟ حتى إذا انتهى الشغار، وانفضّ الغبار، أقبلتُ إلى المرأة أُخَفَّفُ من حِدَّتها، وأُسَكِّن من ثوْرَتها، فقلتُ لها مداعبًا بلسان الاستفهام: ومن يكون «البخاري» هذا الذي قَصدتِّيه في كلامك آنفًا: فقالت لي بلهجتها العامية: «يعني إِنْتَهْ مِشْ عارف هو مِين؟ دَهْ هو القرآن يا ابني»؟! قال: فجعلتُ أضحك من حديثها، وأتبسَّم من كلامها ).
    قلت: هكذا البخاري عند بعض الناس يماثل القرآن! بل هو القرآن في قداسته، والمصحف في شرفه ونزاهته، من يتكلم فيه يكفُر، ومن يغمز منه يَفْسُقْ ويَفْجُر.
    وهناك حكاية إن صحتْ - ربما تزيد في تأكيد هذا المعنى: فسمعتُ غير واحد يقول: كان هناك أحد الأئمة- من العوام- يصلي بالناس إمامًا، فكان فيقرأ: «إِلاهُكُمُ التكاثر»! بدل قوله تعالى: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ»، فجعل الناس يصلحون خطأه، لكنه كان يتمادى في غلطه، والقوم لا يزالون يردُّون عليه خطأ كل مرة، إلى أن أخَذَه الغضب، فقال لهم عقب الصلاة: «هو إحنا غلطنا في البخاري»؟!
    فكأن البخاري عنده فوق القرآن! والقرآن أصبح دون البخاري؟ وهذا من بالغ تعظيم الناس له مع جهلهم بحقيقة الحال!




    والمراد بالبخاري هنا في الأصل: ليس شخصه، وإنما هو «صحيحه» الذي انتشر خبره وذاع، وملأ البلاد والبقاع.
    فعبارة: «هو إحنا غلطنا في البخاري»؟! قائمة على حذف مضاف تقديره: «هو إحنا غلطنا في «صحيح» البخاري»؟!
    و«صحيح البخاري»: هو ذلك الكتاب الذي حكى غير واحد من العلماء إجماع المسلمين على صحة ما بين دَفَّتَيْه في الجملة، في الوقت الذي صار أعداء الإسلام وأذنابهم يُهوِّنون من شأن هذا الكتاب؛ ريثما يصفو لهم الجَوُّ لنَثْرِ فسادهم، وبعثرة الوبِيل من مُسْتَشْنَع أقوالهم!
    ولقد سرَّحتُ ناظري في تلك المنزلة العظيمة التي أَوْلاها الله البخاريَّ ذلك العبدَ الصالح، فوجدته قد قال: «ما وضعت في كتابي «الصحيح» حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين».
    وصح لنا عنه أنه قال أيضًا: « ما أدخلت فيه -يعني الجامع الصحيح-حديثا إلا بعد ما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين، وتيقنت صحته».
    ورأيتُ الرجل: قليل التدخل فيما لا يعنيه، مُؤْثِرًا التنكب عما لا ينفعه، منقطعًا إلى خدمة الإسلام والمسلمين، معرضًا عما لا يُحْسِن بالصالحين من المؤمنين.
    فعلمتُ أن ذلك من ثمرات إخلاصه، ومن عوائد إفلاته من أغراض النفس وخلاصه.
    وقد تكلم فيه جماعة وغمزوه، ونالوا من أمره وجرَّحوه، فطاشتْ كلماتهم، وذهب مع الأيام تجريحُهم، وبقِيَ الرجل علَمًا دونه سائر الأعلام، وإمامًا عَقَمَتْ عن مثله الأرحام!
    وهكذا كانت أحوال أئمة المذاهب الأربعة المشهوريين، فربما اعتقد فيهم العوام فوق ما أنزلهم الله من العلم والدين!
    وهذا من بركة إخلاصهم فيما خلَّفوه من العلم النافع، وعظيم ما تركوه مما دونه شمسُ الضحى والنجوم الطوالع.




    ومن طريف اعتقاد بعض العامة فيهم: ما أنبأنا به ابنُ أبِينا سيدُ بن محمد السناري قال: ( جمعني مجلسٌ بجماعة من الشباب كلهم منتسب إلى كُلّيَّاتٍ شتى بجامعة «عَيْن شمس» بالقاهرة، فتجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع شتى، فوجدتُ لهم اهتمامًا خاصًا بالثقافة الحديثة فيما لا يعود أكثرها عليهم بالنافع من القول والعمل، فأردتُ أن أتدرجَّ بهم إلى ما هو الأولى لهم، فقلتُ للجميع مداعبًا: هل يدري أحدكم أركان الإسلام؟ فوالله ما أجابني منهم أحد؟ بل سكتوا جميعًا عن ذهول! اللهم إلا أن واحدًا منهم قد نشط للجواب مبتسمًا وهو يقول: «طبعًا أعرفها، أركان الإسلام هي الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل»!! قال أخي: فو الله ما تعجبتُ من سكوت من سكت، بقدر ما تعجبتُ من إجابة المتكلم؟).



    قلت:
    أما إخلاص أبي حنيفة :
    فيلْمِسه العارف في تألٌّهِ وزهده وعبادته، وانقطاعه عن أهل السلطان صونًا لدينه وإبْراءً لساحته.
    وقد رُوِّينا بالإسناد الثابت عَنْ أَبِي يُوسُفَ القاضي أنه قال: « كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إِذْ سَمِعْتُ رَجُلًا، يَقُولُ لآخَرَ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لا يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاللَّهِ لا يُتَحَدَّثُ عَنِّي مَا لا أَفْعَلُ! فَكَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلاةً وَدُعَاءً وَتَضَرُّعًا ».
    كذا كان حال أبي حنيفة إذا أسدل الليل رداء ظلامه على الأنام، وغرقتْ أجفان الناس في بحور الأحلام.
    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُصَيْصِيُّ فِي «سِيرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ»: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِيحِ بْنِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ كُمَيْتٍ سَمِعْتُ رَجُلا يَقُولُ لأَبِي حَنِيفَةَ: اتَّقِ اللَّهَ! فَانْتَفَضَ وَاصْفَرَّ وَأَطْرَقَ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا أَحْوَجَ النَّاسَ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى مَنْ يَقُولُ لَهُمْ مِثْلَ هَذَا».
    قلت: وكم من رجل كفَّ عن الناس غَرْبَه، وأطاع في ملاطفتهم ربَّه، إلا وأعقبه الله بعد موته الثناء الجميل، وأرْفل له بين الدهماء الشكرَ الجزيل.
    وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِيحِ بْنِ وَكِيَعٍ أيضًا: «نَا يَزِيدُ بْنُ كُمَيْتٍ سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَشَتَمَهُ رَجُلٌ وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا كَافِرُ يَا زِنْدِيقُ! فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، هُوَ يَعْلَمُ مِنِّي خِلافَ مَا تَقُولُ».
    هكذا كانت مقابلة أبي حنيفة بمن يسبُّه وينال منه، وتلك كانت سيرته في كل من تكلم فيه أو صدَّ عنه.
    وقال المجد ابن الأثير في «جامع الأصول» وهو بصدد الذب عن أبي حنيفة من شنيع الأقوال المنسوبة إليه: «والظاهر أنه كان منزها عنها، ويدل على صحة نزاهته عنها، ما يسر اللّه تعالى له من الذِّكْر المنتشر في الآفاق، والعلم الذي طبَّق الأرض، والأَخْذَ بمذهبه وفقهه، والرجوع إلى قوله وفعله، وأن ذلك لو لم يكن لله فيه سرّ خفي، ورضَى إِلهيّ، وفَّقَه الله له؛ لَمَا اجتمع شطرُ الإسلامِ أو ما يقاربهُ على تقليده، والعمل برأيه ومذهبه، حتى قد عُبِدَ اللَّهُ ودِيْنَ بفقهه، وعُمل برأيه ومذهبه، وأُخذَ بقوله إلى يومنا هذا ما يقارب أربع مئة وخمسين سنة، وفي هذا أدل دليل على صحة مذهبه، وعقيدته».
    قلت: لا ريب أن انتشار أقوال هذا الإمام ومذهبه من آثار بركات الإخلاص التي أكرمه مولاه بها، وحلاّها بطراز بُرُودها، فرضي الله عن مثله وأرضاه، وجعل الفردوس مُتقَلَّبه ومثواه.
    وأين شريف أحواله ممن هلك في التعصب له من أهل مذهبه، وغرق في حبِّه من فرط الغرام به، فضلا عمن أطلق لسانه بتجريح أئمة الإسلام في سبيل الانتصار للنعمان، وما درى أنه وضع من قدر نفسه وإمامه فأزْرى وتعدَّى وأهان، ثم جعل يرفع لسان حال عقيرته بكونه قاضي العلوم وإمامَ الحنفية وقد علم المُنْصِفون أن هذا القاضي خان!




    ومن إخلاص الإمام مالك بن أنس.
    ما رُوِّيناه بالإسناد الصحيح عن ابْنُ وَهْبٍ قال: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: «مَا تَعلَّمْتُ العِلْمَ إِلاَّ لِنَفْسِي، وَمَا تَعلَّمتُ لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَيَّ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ».
    وبهذه النية وأضرابها سبَقَ مالكٌ مَنْ سبق، واعتلى عرش الإمامة وحاز قَصَبَ السَّبْق.
    ونقل الذهبي في «سير النبلاء» عن ابن المبارك أنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا ارْتَفَعَ مِثْلَ مَالِكٍ، لَيْسَ لَهُ كَثِيْرُ صَلاَةٍ وَلاَ صِيَامٍ، إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ لَهُ سَرِيْرَةٌ».
    ثم قال الذهبي: « قُلْتُ: مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ العِلْمِ وَنَشْرِهِ أَفضَلُ مِنْ نَوَافلِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ اللهَ».
    قلت: هذه السريرة التي أشار إليه ابن المبارك ما أراها إلا إخلاص الرجل وصدقه، واستقامة حاله فيما بينه وبين الناس وربِّه.
    وثبت عندنا بالإسناد الثابت عن عبد الله بن مسلمة القعني أنه قال: «دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت ثم جلست، فرأيته يبكي؟ فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضُرِبْتُ بكل مسألة أفتيت بها برأيي سوطا سوطا! وقد كانت لي السعة فيما قد سُبِقْتُ إليه، وليتني لم أفْتِ بالرأي».
    قلت: لو لم يكن الرجل يقصد بعلمه وجه ذي الجلال، ما كان لينطق بمثل تلك الكلمات الثِّقَال، وقد زلَّ من شنَّع بها عليه، وأخطأ الذي تقدم بتوبيخه بِحَمْلها بين يديه! بل هي من محاسنه التي هبَّ نسيمها في أفق الإسلام عليلا، وعَقَدتْ بها كل رابيةٍ من رَوَابي المجد في مَفْرَقِها تاجًا وإكليلا.




    ما روي عن الشافعي في الإخلاص.
    قد رُوِّينا بأصح إسناد عن الشافعي أنه قال: «وددتُ أن الناس تعلموا هذه الكتب ولم ينسبوها إليَّ».
    قلت: هذه كلمة في الإخلاص عظيمة، وعبارة في أُفُق الورع جليلة جسيمة، وحسبك قول ابن حبان في «صحيحه»: «للشافعي -رحمه الله- ثلاث كلمات ما تكلم بها أحد في الإسلام قبله، ولا تفوَّه بها أحد بعده إلا والمأخذ فيها كان عنه». ثم ذكر تلك الكلمة منها، وصدق فيما قال بشأنها.
    وقد بارك الله للشافعي بحسن مقصده، وشريف غايته، بحيث أنه ما نزل أرضًا إلا وساد فيها سلطان علمه، ولا هبط واديًا إلا وجَرتْ فيه أنهار فهمه، ولا وطأتْ قدماه قُطْرًا إلا ذاع خبره وشاع، ولا سمع المنصفون بأمره إلا أقبلوا عليه من مختلف الأصقاع.


    ما روي عن أحمد بن حنبل في الإخلاص:
    صح عن أبي بكر المرُّوذي أنه قال: كان أبو عبد الله – يعني أحمد بن حنبل- يقول: «لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذِكْر، أريد أن أكون في شِعْبٍ بمكة حتى لا أُعرف، قد بُلِيتُ بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحًا ومساء»!
    وصح عن أبي العباس السراج أنه قال: سمعت فتح بن نوح، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: «أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس».
    وقال أبو بكر المرُّوذي أيضًا: سمعت أبا عبد الله، يقول: «الخوف منعني أكل الطعام والشراب، فما اشتهيتُه، وما أبالي أن لا يراني أحد ولا أراه، وإني لاشتهي أن أرى عبد الوهاب. قُلْ لعبد الوهاب: أخْمِل ذكرك، فإني قد بُلِيتُ بالشهرة».
    قلت: قد عرف أحمد فلزم الطريق، وطال عليه السفر وما اشتكى فقدان الرفيق، قد سمع النداء فَلَبَّى، ودعاه الداعي فأجاب الدعْوى، فلما ذاق من حلاوة مناجاة الكريم ما ذاق، استوحش الدنيا ودفعتْه الأشواق إلى خوض بحار الاشتياق، فأتقن أن لا عدو للإنسان إلا نفسُه، ولا حية ولا عقرب إلا جنسُه.
    فأقبلتْ إليه الدنيا قد نشرت ملاءها، وسحبت رداءها، ولبست جلبابها، وتقلَّدت عليها سِخَابها، وأسفرت له الورودَ من أكمامها، وتمخَّضتْ له عن رياض الشهوات بتغريد أطيارها؛ وجاءتْه أشجارُها قد نَشَرتْ شعورها، وهزَّتْ رءوسها، وأطْلَعتْ له من ثمر أغصانها ضُرُوبا، وأبدَتْ مِن جَنَاها منظرًا عجيبًا، فتركها ومضى وهي منه على إياس، وتنكب عن النظر إليها وقال لنفسه الأمَّارة: لا كلام ولا مِساس، فتعلَّقتْ بذيل إزاره وقالت: يا أحمد أنسيتَ عهدنا؟ ورغبتَ عن وصْلنا؟ هلُمَّ إليَّ فقد هيَّأت لك مُتَّكأً وأثاثًا، فقال لها: إليكِ عني فقد طلَّقْتُكِ ثلاثًا.

    ورُُوِّينا بالإسناد الصحيح عن أبي بكر الْمَرُّوذِيُّ أنه قال: «ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ- يعني أحمد بن حنبل- عَبْدِ الْوَهَّابِ عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ اللِّقَاءَ، وَقَالَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتَزَيَّنُ لَهُ؟ وَكَفَى بِالْعُزْلَةِ عِلْمًا، وَالْفَقِيهُ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ».
    قلت: يشير أبو عبد الله إلى ما رُوِّيناه بالإسناد الثابت في «فوائد أبي طاهر المخلص» عن أحمد بن عاصم أبو عبد الله الأنطاكي أنه قال: «اجتمع فضيل بن عياض، وسفيان الثوري يتذاكرا، فرَقَّ وبكى سفيان، قال: فقال سفيان لفضيل: يا أبا علي- هي كنية الفضيل-: إني لأرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمةً وبركةً، فقال له الفضيل: لكني يا أبا عبد الله أخاف أن لا يكون هذا المجلس جلسنا مجلسا قط هو أضر علينا منه، قال : ولم يا أبا علي؟ فقال: أليس تخلَّصْتَ إلى أحسن حديثك فحدثتني به، وتخلَّصْتُ أنا إلى أحسن حديثي فحدثتك به، فتزيَّنتَ لي، وتزينتُ لك؟ فبكى سفيان بكاءً أشدَّ من البكاء الأول، ثم قال: أحييتني أحياك الله».
    قلت: ومن كان يطيق ما كان يطيقه الفضيل؟ كأن الرجل قد خُلِق ليخاف الله.
    أليس هو القائل فيما صح عنه: « لَوْ حَلَفْتُ أَنِّي مُرَاءٍ، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أحلف أن لَسَتُ بِمُرَاءٍ! وَلَو رَأَيْتُ رَجُلًا اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ لَقُلْتُ: هَذَا مَجْنُوْنٌ! مَنِ الَّذِي اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُجَوِّدَ كَلاَمَهُ لَهُم? ».
    وقال أيضًا: «لو أن الدنيا بحذافيرها عُرضت علىَّ ولا أحاسب بها لكنت أتقذَّرُها، كما يَتقّذَر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أن تصيب ثوبه».
    قد والله أزعجتَ العارفين بعدك يا أبا علي. معذور صاحبك ابن المبارك حين قال: «إذا مات الفضيل ارتفع الحزن»!
    ولقد تأملتُ قول الفضيل فيما ثبت لنا عنه: « إذا أحبَّ الله عبداً أكثر غمَّه، وإذا أبغض عبدًا وسَّع عليه دنياه» فأورثني الأسى والغم، وما برح بيَ الأسفُ والغمُّ .




  • #2
    تكمله: هو احنا غلطنا فى البخارى ؟؟؟؟

    ومن بالغ إخلاص فضيل قوله: «والله لأن أكون ترابا أحب إلي من أن أكون في مسلاخ أفضل أهل الأرض».
    وثبت عنه أنه قال: «إنْ قدرتَ أن لا تُعْرَف فافعل، وما عليك إنْ لم يُثْنَ عليك، وما عليك أن تكون مذمومًا عند الناس إذا كنت عند الله محمودًا، من أحب أن يُذْكَر لم يُذْكَر، ومن كره أن يُذْكَر ذُكِرَ
    ».



    قلت: بلى والله، قد نشر الله ذكرك رغم أنفك، وأعلى في العالمين كعبك مع علمه بعدم رضاك عن نفسك. وما كان هذا إلا بما علمه الناس من محض إخلاصك وصدْقِك
    .
    وهكذا يكون حال من أبى أن يُعْرَف بين
    الدهماء، وتنكب عن التماس الشهرة في محافل العلماء ومجالس الغوغاء، فإن الله رافعٌ له في أفق السماء أعلامًا منشورة، وجاعلٌ له من طيب الثناء ما يفوح شَذَاه في أرجاء المعمورة
    .
    وهكذا كان حال أكثر سلفنا الصالح ممن رام من دنياه
    الخلاص، وخلع ثوب الشهرة وتردَّى برداء الإخلاص، وكأني بهم متكئين على الأرائك بعد طول السفر، وكئوس الرضا عليهم دائرة والقطوف منهم دانية بأنواع الثَّمَر، تجري من تحت قُصور فرحهم فُيوضُ تَرَحهم وبعدها نَهَرٌ بعد نَهَر، فكم هناك من ساقيةٍ جاريةٍ عليها جاريةٌ ساقيةٌ يَحار في محاسنها البَصر، وعِيدانُ الأشجار دونهم تُغنِّي فَتُغْني ترانيمُها عن عِيدَان الوَتَر، حتى إذا أسكرتْهم نشْوةُ النعيم وغمرتهم لذةُ ذلك الجمال المقيم تجلَّى عليهم الرحمن للنظر، فما كفاهم ما أعطاهم وهل ثمة نعمة بعد أن يكشفَ الرحمن حجابَ وجهه لمن شاء من البَشَر؟
    قد طال والله ليل المخلصين غير أن صباح بِشارتهم كاد عليهم يُشْرِق، وامتدَّ حُزْنُ الصادقين إلا أن عناية الرحمن بهم لا تزال تُرْعِدُ وتُبْرِق
    .



    ومن منثور أقوال السلف في باب الإخلاص وذم الشهرة:
    ما رُوِّيناه بالإسناد الصالح عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ عبد الله بن بريدة بْنِ الحصيب، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : «شَهِدْتُ خَيْبَرَ، فَكُنْتُ فِيمَنْ شَهِدَ الثُّلْمَةَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى رُئِيَ مكَانِي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ أَحْمَرُ، فَمَا أَعْلَمُ أَنِّي رَكِبْتُ الْإِسْلَامَ ذَنْبًا أَعْظَمَ عَلَيَّ مِنْهُ لِلشُّهْرَةِ
    ».
    وروينا بإسناد ثابت عن داود بن المهاجر عن ابن محيريز قال: «
    صحبت فضالة بن عبيد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أوصني رحمك الله قال: احفظ عني ثلاث خلال ينفعك الله بهن: إن استطعت أن تَعرِفَ ولا تُعْرَف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تَكَلَّمَ فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يُجْلَس إليك فافعل
    ».



    قلت:
    هكذا كانت حال أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في الإخلاص، ومجانبة التصنَّع للناس.
    وروينا بأصح إسناد عن ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ قَالَ : قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ :« يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُنِي مِنْ مُجَالَسَتِكُمْ إِلاَّ مَخَافَةُ الشُّهْرَةِ، فَلَمْ يَزَلْ بِي الْبَلاَءُ حَتَّى أُخِذَ بِلِحْيَتِي، فَأُقِمْتُ عَلَى الْمَصْطَبَةِ، فَقِيلَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ
    ».
    قلت:
    كان ابن سيرين ذا مقام عظيم من الورع وترك الشبهات، ورث ذلك عن مولاه أنس بن مالك، وشيخه أبي هريرة.
    وروينا بإسناد جيد عن عَاصِمٍ بن بهدلة قَالَ: «كَانَ أَبُو وَائِلٍ- يعني شقيق بن سلمة- إِذَا صلى في بيته ينشج نشيجًا، ولو رجعت لَهُ الدُّنْيَا عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَحَدٌ يَرَاهُ ما فعله
    ».



    قلت: فكيف لو أبصر أبو وائل من أهل زماننا من ينسج البكاء في حديثه تصنُّعًا، ويأتي بالنحيب في كلامه تكلُّفًا! كأنم يرون أنهم لن ينفقون عند الناس إلا بذلك التخاشع البارد، فأنساهم محبةُ الظهور ما يقصم الظهور
    !
    وأين هم مما صح عن حماد بن زيد أنه قال: «
    كان أيوب السختياني ربما حدث الحديث فيرِقّ، فيلتفت فيمتخَّط فيقول: ما أشدَّ الزُّكامُ
    »؟
    وروينا بأصح إسناد عَنْ عَلْقَمَةَ بن قيس، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود : «
    لَوْ قَعَدْتَ في المسجد فَعَلَّمْتَ السُّنَّةَ؟ قَالَ : أَتُرِيدُونَ أَنْ يُوطَأَ عَقِبِي- يعني يكثر الناس عليه- و يقال: هذا علقمة هذا علقمة
    ».
    قلت: كان علقمة أشبه الناس بابن مسعود هديًا و دِلًّا و سَمْتًا، كما قال أبو معمر الأزدي، ولولا أنه رأى ابن مسعود يفْرق من الشهرة، لما انتهج نهجه، واتبع سبيله
    .
    وثبت عن مالك بن دينار أنه قال: «
    مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم، ولم أكره ذمهم؛ لأن حامدهم مُفْرِط، وذامهم مُفَرِّط، إذا تعلم العالم العلم للعمل كَسَره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخرًا
    ».



    قلت: مالك هذا أحد رُهْبان هذه الأمة، كانت له في الزهد والوعظ كلمات تُذيب الصخر من غُلُوائها، وتذهَبُ بالنفوس من حرارة وقْعِها. وأشهد بالله أن ذلك الرجل قد كسره العلم والخشية حتى صار ليس في كلامه لأغراض النفس مدخل، ولا في أفعاله لأهواء قلبه طريق يُرْتَقى به ويُتَوصَّل
    .
    أليس مالك هذا هو الذي شتمه إنسان وقال له: «يَا مُرَائِي»! فقَالَ له مالك: «مَتَى عَرَفْتَ اسْمِي؟ مَا عَرَفَ اسْمِي غَيْرُكَ
    »؟ صح ذلك عنه.
    ولقد بلغ الخوف بمالك مبلغًا عظيمًا، حتى جعله يقول فيما صح عنه: «وددت أن الله يجمع الخلائق، فيأذن لي أن أسجد بين يديه، فأعرف أنه قد رضي عني، فيقول لي: كن ترابا
    ».
    وروينا بإسناد ثابت عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: «
    ما صَدَقَ اللهَ عَبدٌ أَحَبَّ الشُّهرَةَ
    ».



    قلت: أما أنت فقد صدقتَه يا إبراهيم، وتبوَّأتَ بإخلاصك ذلك المقام العظيم
    .
    ونقل الذهبي في «
    سير النبلاء» عن عَوْن بن عُمَارَةَ أنه قال: سَمِعْتُ هِشَاما الدَّسْتُوَائِيَّ يَقُوْلُ: «وَاللهِ مَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَقُوْلَ: إِنِّي ذَهَبتُ يَوْماً قَطُّ أَطْلُبُ الحَدِيْثَ, أُرِيْدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ
    ».
    قال الذهبي: «
    قُلْتُ: وَاللهِ وَلاَ أَنَا, فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَطلُبُوْنَ العِلْمَ للهِ فَنَبُلُوا، وَصَارُوا أَئِمَّةً يُقتَدَى بِهِم، وطَلَبَهُ قَوْمٌ مِنْهُم أَوَّلا لاَ للهِ، وَحَصَّلُوْهُ ثُمَّ اسْتَفَاقُوا، وَحَاسَبُوا أَنْفُسَهُم، فَجَرَّهُمُ العِلْمُ إِلَى الإِخْلاَصِ فِي أَثنَاءِ الطَّرِيْقِ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ: «طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ وَمَا لَنَا فِيْهِ كَبِيْرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ النِّيَّةَ بَعْدُ» وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: «طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ فَأَبَى أَنْ يكون إلَّا للهِ». فَهَذَا أَيْضا حَسَنٌ, ثُمَّ نَشَرُوْهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ. وَقَوْمٌ طَلَبُوْهُ بِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ لأَجْلِ الدُّنْيَا، وليثْنَى عليهم، فلهم ما نووا. قال عليه السلام: «مَنْ غَزَا يَنْوِي عِقَالاً, فَلَهُ مَا نَوَى»، وَترَى هَذَا الضَّربَ لَمْ يَسْتَضِيْؤُوا بِنُوْرِ العِلْمِ، وَلاَ لَهُم وَقْعٌ فِي النُّفُوْسِ، وَلاَ لِعِلْمِهِم كَبِيْرُ نَتِيجَةٍ مِنَ العَمَلِ، وَإِنَّمَا العَالِمُ مَنْ يَخشَى اللهَ- تَعَالَى.
    وَقَوْمٌ نَالُوا العِلْمَ، وَوُلُّوا بِهِ المَنَاصِبَ, فَظَلَمُوا، وَتَرَكُوا التَّقَيُّدَ بِالعِلْمِ، وَرَكِبُوا الكَبَائِرَ، والفَوَاحِشَ, فَتَبًّا لَهُم, فَمَا هَؤُلاَءِ بِعُلَمَاءَ!
    وَبَعْضُهُم لَمْ يَتَقِّ اللهَ فِي عِلْمِهِ, بَلْ رَكِبَ الحِيَلَ، وَأَفْتَى بِالرُّخَصِ، وَرَوَى الشَّاذَّ مِنَ الأَخْبَارِ. وَبَعْضُهُم اجْتَرَأَ عَلَى اللهِ، وَوَضَعَ الأَحَادِيْثَ فَهَتَكَهُ اللهُ، وَذَهَبَ عِلْمُهُ، وَصَارَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ.
    وَهَؤُلاَءِ الأَقسَامُ كُلُّهُم رَوَوْا مِنَ العِلْمِ شَيْئا كَبِيْرا، وَتَضَلَّعُوا مِنْهُ فِي الجُمْلَةِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِم خَلْفٌ باَنَ نَقْصُهُم فِي العِلْمِ، وَالعَمَلِ، وَتَلاَهُم قَوْمٌ انْتَمَوْا إِلَى العِلْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُتْقِنُوا مِنْهُ سِوَى نَزْرٍ يَسِيْرٍ أَوْهَمُوا بِهِ أَنَّهُم عُلَمَاءُ فُضَلاَءُ، وَلَمْ يَدُرْ في أذهانهم قَطُّ أَنَّهُم يَتَقَرَّبُوْنَ بِهِ إِلَى اللهِ, لأَنَّهُم مَا رَأَوْا شَيْخا يُقْتَدَى بِهِ فِي العِلْمِ, فَصَارُوا هَمَجًا رَعَاعًا, غَايَةُ المُدَرِّسِ مِنْهُم أَنْ يُحَصِّلَ كُتُبًا مُثَمَّنَةً, يَخْزُنُهَا وَيَنْظُرُ فِيْهَا يَوْمًا مَا, فَيُصَحِّفُ مَا يُوْرِدُهُ، وَلاَ يُقَرِّرُهُ. فَنَسْأَلُ اللهَ النَّجَاةَ وَالعَفْوَ, كَمَا قَالَ بَعْضُهُم: مَا أَنَا عَالِمٌ، وَلاَ رَأَيتُ عَالِمًا
    ».



    قلت: لم يدرك الذهبي جماعة من مشيخة زماننا هذا وإلا لطار لبُّه، وطاش حلمُه
    !
    وروينا بالإسناد الصحيح عن سَهْلُ بنُ مَنْصُوْرٍ، قَالَ: «كَانَ بِشْرٌ يُصَلِّي فَيُطوِّلُ، وَرَجُلٌ وَرَاءهُ يَنْظُرُ، فَفَطِنَ لَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: لاَ يُعجِبُكَ مَا رَأَيْتَ مِنِّي، فَإِنَّ إِبْلِيْسَ قَدْ عَبْدَ اللهَ دَهْراً مَعَ المَلاَئِكَةِ
    ».
    قلت: بشر هذا هو ابن منصور العابد الزاهد الناسك، أحد الأئمة الربانيين، والعلماء العاملين، قال عنه صاحبه علي ابن المديني: « ما رأيت أحدا أخوف لله من بشر بن منصور، وكان يصلى كل يوم خمس مئة ركعة، وكان قد حفر قبره، وختم فيه القرآن
    ».
    وأسند أبو نعيم في «
    الحلية» عن الثوري أنه قال: « السلامة في أن لا تحب أن تُعرف
    ».
    وصح عن ابْن المُبَارَكِ أنه قال: قَالَ لِي سُفْيَانُ: «
    إِيَّاكَ وَالشُّهْرَةَ فَمَا أتيت أحدًا إلَّا وَقَدْ نَهَى عَنِ الشُّهرَةِ
    ».



    قلت:
    هذا الثوري كان أحد تَعاجِيب الدنيا في الزهد والدين والورع! ما أعلم أحدًا كان يبغض الشهرة كما كان هذا الإمام قط! اللهم إلا أن يكون أيوب السختياني.
    كأن النار قد خُلِقَتْ له وحده! ولقد كان ابن مهدي يرمقه – أيام كان مقيمًا في بيته - في الليلة بعد الليلة ينهض مذعورًا من نومه ينادي: «النارَ النارَ، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات
    ». صح ذلك عن ابن مهدي .
    وما كان سفيان يتكلف هذا الصراخ والضجيج،
    وإنما الرجل قد تفتَّت كبده من الحُزْن والفَرَق.
    وروينا بإسناد صحيح عن حماد بن زيد قال: «
    كنا إذا مررنا على المجلس، ومعنا أيوب فسلَّم، ردُّوا ردًّا شديدا، فكان ذلك يَغُمه
    ».
    وصح عن أيوب السختياني أنه قال: « ما صدق اللهَ عبدٌ إلا سرَّه أن لا يُشْعَرَ بمكانه
    ».
    قلت: كم شاهدنا ممن لم يصْدُقِ الله في ذلك، ولا حفظ لنفسه حق الإخلاص فيما هنالك، وإنما رأينا فَراشًا يتساقط على نيران الشهرة أفواجًا، ويتتابعون إليها زرافاتٍ وأرْسالا. قد انبسط عالمهم إلى قول الناس عنه عالم؟ وراق لجاهلهم أن يقال: فاهم
    !



    ولسان أحوالهم كما قال أبو الفرج ابن الجوزي عنهم: «يتشاغلون بالمسائل الطوال، لأنه يكثر فيها قيل وقال، ويتنافسون في الرُّتَب والمجالس، فيتعلَّمُ منهم سوءَ الأدب [كل] مُجَالِس، فتجري بينهم مجالدة لا مجادلة، وملاكمة لا مكالمة، يغضب أحدهم إذا لم يُلَقَّب، وينتظر تقبيل يده ويترقَّبُ، وبما غمصوا بجهلهم المتزهِّدين، وقالوا: بقولنا لا بفعلهم عُرِفَ الدين، وما كان السلف على هذا الطريق، ولا على هذه الجذوة من ذاك الحريق، [بل] كان القوم لا يؤثرون التصدي في للمسائل، وبودِّهم لو أجاب غيرهم السائل
    ».
    قلت: ومتى استخفَّ الناس بإصلاح سرائرهم، وتهذيب بواطنهم، تختلف عليهم الكلمة، وتظهر من جراء أفعالهم معالم الجُور، ويكثر الإدغال في الدين، وتُتْرَكَ محاجُّ السُّنَن، فَيُعْمَلَ بالهوى، وتُعَطَّلَ الأحكام، وتكثر عِلَل النفوس، فلا يستوحش أحدٌ لعظيم حقٍّ عُطِّل، ولا لكبير باطلٍ فُعِلَ، فهنالك تُذلُّ الأبرار، ويستطير شَرَر الأشرار، وتعظُم تبِعات الله عند دهماء العباد،
    وما ربك بغفل عما يعملون.
    نسأل الله الإخلاص في القول
    والعمل، والتوبة الصادقة قبل حلول الأجل،


    فإنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.



    تعليق


    • #3
      رد: هو احنا غلطنا فى البخارى ؟؟؟؟

      قلت: لم يدرك الذهبي جماعة من مشيخة زماننا هذا وإلا لطار لبُّه، وطاش حلمُه!
      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      جزاك الله كل الخير أستاذنا وحبيبنا في الله
      أبو السائب
      وجزى الله عنا الشيخ أبي مظفر السناري كل خير لما قدم
      والله يا أخي الحبيب أنني كدت أذوب بين سطور هذا الموضوع من الخجل وعرفت كم أنا ضئيل وحقير أمام هذه الجبال
      والله أن سيرهم العطرة تبعث حلاوة في النفس
      وتعطينا جرعة منشطة لعلنا نندفع للأمام ولو القليل
      إستمعت بقراءة السطور رغم طول الموضوع ولكني ما لبثت
      حتى وجدت نفسي في النهاية
      وأنا أتألم لحالي...
      بارك الله فيكم أخي الحبيب في الله

      قال الحسن البصري - رحمه الله :
      استكثروا في الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعةً يوم القيامة".
      [حصري] زاد المربين فى تربية البنات والبنين


      تعليق


      • #4
        رد: هو احنا غلطنا فى البخارى ؟؟؟؟

        ربنا يبارك فيك يا والدى العزيز
        ويجعلك ممن يرفع راية دين الاسلام
        احبك فى الله

        تعليق

        يعمل...
        X