( هُوَّ إِحْنَا غِلِطْنا في البخاري )؟!
مقال في الإخلاص وذم الشهرة.
بقلم العبد الفقير: أبي المظفر السِّنَّاري.
تلك عبارة قد دَرَجـتْ على ألسن العامة في مصر وسَرَتْ، وانتشرتْ في أوساطهم وذاعت وجرَتْ، بل تجاوزتْ ألسنتهم إلى ألْسُن الطبقات المثقَّفة والراقية، وارتقتْ إلى أعالي الأوساط فأصبحت على شفاههم جارية، بل ربما نطق بها دهماء عوام النصارى واليهود، وتمنطق بترديدها مخْتَلَفُ الأجناس من البيض والسُّمْرِ والسُّود.
فلم تعد تقصر على لسان المنتسبين إلى أهل الإسلام، ولا غدَتْ من مفردات ما يتشدَّق به العوام.
ومراد لافظها، ومقصد ناطقها: هو دَفْعُ لوم اللائمين، ودَرْءُ عذل العاذلين، عند العتْب عليه في تنقيصه لأحد من الناس، أو الغمز في شمائله من الأساس، فيتذرَّع بتلك العبارة في كونه لم يتعرض بالطعن في إنسان مُقَدَّس، ولا خاض بلسانه في مَلَكٍ مُنزَل، أو نبيٍّ مُرْسَل، فيرفع عقيرته قائلا: «هُوَّ إِحْنَا غِلِطْنا في البخاري»؟! يعني إنما غلطنا في واحد من البَشَر، وإن كان شريفًا أو كريمًا أو مُطاعًا صاحب نَهْيٍ وأمْر.
وقد سمعتُ من بعض عوام القاهرة والإسكندرية من يقول في يمينه: «والبخاري ما فعلتُ كذا »!
وفي بعض بلاد المغرب العربي ترى العامة هناك إذا أرادو القَسَمَ قالوا: «والجاه والبخاري». وربما قالوا: «والشفاء والبخاري».
ولا أدري ماذا يقصدون بـــ: «الجاه» في قسَمِهم؟
أما قولهم: «والشفاء» فإنما يعنون به كتاب القاضي عياض: «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» وهو كتاب مشهور في مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم..
وأكثر العامة: لا يعرفون البخاري أصلا! ولا يدركون من «صحيحه» بابًا ولا فصلا! إنما يعتقدونه وحسب، فهو عندهم شيء عظيم، وصاحب شأْوٍ جسيم، وربما ظنه بعضهم نبيًا من الأنبياء، والمعتدل منهم: يراه وَلِيًّا من زُمْرَة الأولياء! بل هناك من يعتقده فوق ذلك كله؟
فأخبرني أخي الأكبر سيد بن محمد السِّنَّاري قال: ( بينما كنتُ متجوِّلا في «حَيِّ باب الشِّعْرِيَّة» من أحياء القاهرة، أبصرتُ امرأة من عامة الناس تبيع «الجُبْنَ القديم»، فدنوتُ منها فإذا بعض النساء يُماكسها، فأغْلَظَتْ لها الكلام، والمرأة تشدُّ عليها في الخصام، فما كان من بائعة الجبن إلا أن نالتْ منها، واشْتَفتْ بتوبيخها والناس يصدونها عنها، فسمعتُها تقول لها: «خلاص خلاص. هُوَّ إِحْنَا غِلِطْنا في البخاري»؟ حتى إذا انتهى الشغار، وانفضّ الغبار، أقبلتُ إلى المرأة أُخَفَّفُ من حِدَّتها، وأُسَكِّن من ثوْرَتها، فقلتُ لها مداعبًا بلسان الاستفهام: ومن يكون «البخاري» هذا الذي قَصدتِّيه في كلامك آنفًا: فقالت لي بلهجتها العامية: «يعني إِنْتَهْ مِشْ عارف هو مِين؟ دَهْ هو القرآن يا ابني»؟! قال: فجعلتُ أضحك من حديثها، وأتبسَّم من كلامها ).
قلت: هكذا البخاري عند بعض الناس يماثل القرآن! بل هو القرآن في قداسته، والمصحف في شرفه ونزاهته، من يتكلم فيه يكفُر، ومن يغمز منه يَفْسُقْ ويَفْجُر.
وهناك حكاية –إن صحتْ - ربما تزيد في تأكيد هذا المعنى: فسمعتُ غير واحد يقول: كان هناك أحد الأئمة- من العوام- يصلي بالناس إمامًا، فكان فيقرأ: «إِلاهُكُمُ التكاثر»! بدل قوله تعالى: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ»، فجعل الناس يصلحون خطأه، لكنه كان يتمادى في غلطه، والقوم لا يزالون يردُّون عليه خطأ كل مرة، إلى أن أخَذَه الغضب، فقال لهم عقب الصلاة: «هو إحنا غلطنا في البخاري»؟!
فكأن البخاري عنده فوق القرآن! والقرآن أصبح دون البخاري؟ وهذا من بالغ تعظيم الناس له مع جهلهم بحقيقة الحال!
والمراد بالبخاري هنا في الأصل: ليس شخصه، وإنما هو «صحيحه» الذي انتشر خبره وذاع، وملأ البلاد والبقاع.
فعبارة: «هو إحنا غلطنا في البخاري»؟! قائمة على حذف مضاف تقديره: «هو إحنا غلطنا في «صحيح» البخاري»؟!
و«صحيح البخاري»: هو ذلك الكتاب الذي حكى غير واحد من العلماء إجماع المسلمين على صحة ما بين دَفَّتَيْه في الجملة، في الوقت الذي صار أعداء الإسلام وأذنابهم يُهوِّنون من شأن هذا الكتاب؛ ريثما يصفو لهم الجَوُّ لنَثْرِ فسادهم، وبعثرة الوبِيل من مُسْتَشْنَع أقوالهم!
ولقد سرَّحتُ ناظري في تلك المنزلة العظيمة التي أَوْلاها الله البخاريَّ ذلك العبدَ الصالح، فوجدته قد قال: «ما وضعت في كتابي «الصحيح» حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين».
وصح لنا عنه أنه قال أيضًا: « ما أدخلت فيه -يعني الجامع الصحيح-حديثا إلا بعد ما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين، وتيقنت صحته».
ورأيتُ الرجل: قليل التدخل فيما لا يعنيه، مُؤْثِرًا التنكب عما لا ينفعه، منقطعًا إلى خدمة الإسلام والمسلمين، معرضًا عما لا يُحْسِن بالصالحين من المؤمنين.
فعلمتُ أن ذلك من ثمرات إخلاصه، ومن عوائد إفلاته من أغراض النفس وخلاصه.
وقد تكلم فيه جماعة وغمزوه، ونالوا من أمره وجرَّحوه، فطاشتْ كلماتهم، وذهب مع الأيام تجريحُهم، وبقِيَ الرجل علَمًا دونه سائر الأعلام، وإمامًا عَقَمَتْ عن مثله الأرحام!
وهكذا كانت أحوال أئمة المذاهب الأربعة المشهوريين، فربما اعتقد فيهم العوام فوق ما أنزلهم الله من العلم والدين!
وهذا من بركة إخلاصهم فيما خلَّفوه من العلم النافع، وعظيم ما تركوه مما دونه شمسُ الضحى والنجوم الطوالع.
ومن طريف اعتقاد بعض العامة فيهم: ما أنبأنا به ابنُ أبِينا سيدُ بن محمد السناري قال: ( جمعني مجلسٌ بجماعة من الشباب كلهم منتسب إلى كُلّيَّاتٍ شتى بجامعة «عَيْن شمس» بالقاهرة، فتجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع شتى، فوجدتُ لهم اهتمامًا خاصًا بالثقافة الحديثة فيما لا يعود أكثرها عليهم بالنافع من القول والعمل، فأردتُ أن أتدرجَّ بهم إلى ما هو الأولى لهم، فقلتُ للجميع مداعبًا: هل يدري أحدكم أركان الإسلام؟ فوالله ما أجابني منهم أحد؟ بل سكتوا جميعًا عن ذهول! اللهم إلا أن واحدًا منهم قد نشط للجواب مبتسمًا وهو يقول: «طبعًا أعرفها، أركان الإسلام هي الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل»!! قال أخي: فو الله ما تعجبتُ من سكوت من سكت، بقدر ما تعجبتُ من إجابة المتكلم؟).
قلت:
أما إخلاص أبي حنيفة :
فيلْمِسه العارف في تألٌّهِ وزهده وعبادته، وانقطاعه عن أهل السلطان صونًا لدينه وإبْراءً لساحته.
وقد رُوِّينا بالإسناد الثابت عَنْ أَبِي يُوسُفَ القاضي أنه قال: « كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إِذْ سَمِعْتُ رَجُلًا، يَقُولُ لآخَرَ: هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لا يَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاللَّهِ لا يُتَحَدَّثُ عَنِّي مَا لا أَفْعَلُ! فَكَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلاةً وَدُعَاءً وَتَضَرُّعًا ».
كذا كان حال أبي حنيفة إذا أسدل الليل رداء ظلامه على الأنام، وغرقتْ أجفان الناس في بحور الأحلام.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُصَيْصِيُّ فِي «سِيرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ»: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِيحِ بْنِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ كُمَيْتٍ سَمِعْتُ رَجُلا يَقُولُ لأَبِي حَنِيفَةَ: اتَّقِ اللَّهَ! فَانْتَفَضَ وَاصْفَرَّ وَأَطْرَقَ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا أَحْوَجَ النَّاسَ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى مَنْ يَقُولُ لَهُمْ مِثْلَ هَذَا».
قلت: وكم من رجل كفَّ عن الناس غَرْبَه، وأطاع في ملاطفتهم ربَّه، إلا وأعقبه الله بعد موته الثناء الجميل، وأرْفل له بين الدهماء الشكرَ الجزيل.
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِيحِ بْنِ وَكِيَعٍ أيضًا: «نَا يَزِيدُ بْنُ كُمَيْتٍ سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَشَتَمَهُ رَجُلٌ وَاسْتَطَالَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا كَافِرُ يَا زِنْدِيقُ! فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، هُوَ يَعْلَمُ مِنِّي خِلافَ مَا تَقُولُ».
هكذا كانت مقابلة أبي حنيفة بمن يسبُّه وينال منه، وتلك كانت سيرته في كل من تكلم فيه أو صدَّ عنه.
وقال المجد ابن الأثير في «جامع الأصول» وهو بصدد الذب عن أبي حنيفة من شنيع الأقوال المنسوبة إليه: «والظاهر أنه كان منزها عنها، ويدل على صحة نزاهته عنها، ما يسر اللّه تعالى له من الذِّكْر المنتشر في الآفاق، والعلم الذي طبَّق الأرض، والأَخْذَ بمذهبه وفقهه، والرجوع إلى قوله وفعله، وأن ذلك لو لم يكن لله فيه سرّ خفي، ورضَى إِلهيّ، وفَّقَه الله له؛ لَمَا اجتمع شطرُ الإسلامِ أو ما يقاربهُ على تقليده، والعمل برأيه ومذهبه، حتى قد عُبِدَ اللَّهُ ودِيْنَ بفقهه، وعُمل برأيه ومذهبه، وأُخذَ بقوله إلى يومنا هذا ما يقارب أربع مئة وخمسين سنة، وفي هذا أدل دليل على صحة مذهبه، وعقيدته».
قلت: لا ريب أن انتشار أقوال هذا الإمام ومذهبه من آثار بركات الإخلاص التي أكرمه مولاه بها، وحلاّها بطراز بُرُودها، فرضي الله عن مثله وأرضاه، وجعل الفردوس مُتقَلَّبه ومثواه.
وأين شريف أحواله ممن هلك في التعصب له من أهل مذهبه، وغرق في حبِّه من فرط الغرام به، فضلا عمن أطلق لسانه بتجريح أئمة الإسلام في سبيل الانتصار للنعمان، وما درى أنه وضع من قدر نفسه وإمامه فأزْرى وتعدَّى وأهان، ثم جعل يرفع لسان حال عقيرته بكونه قاضي العلوم وإمامَ الحنفية وقد علم المُنْصِفون أن هذا القاضي خان!
ومن إخلاص الإمام مالك بن أنس.
ما رُوِّيناه بالإسناد الصحيح عن ابْنُ وَهْبٍ قال: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: «مَا تَعلَّمْتُ العِلْمَ إِلاَّ لِنَفْسِي، وَمَا تَعلَّمتُ لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَيَّ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ».
وبهذه النية وأضرابها سبَقَ مالكٌ مَنْ سبق، واعتلى عرش الإمامة وحاز قَصَبَ السَّبْق.
ونقل الذهبي في «سير النبلاء» عن ابن المبارك أنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا ارْتَفَعَ مِثْلَ مَالِكٍ، لَيْسَ لَهُ كَثِيْرُ صَلاَةٍ وَلاَ صِيَامٍ، إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ لَهُ سَرِيْرَةٌ».
ثم قال الذهبي: « قُلْتُ: مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ العِلْمِ وَنَشْرِهِ أَفضَلُ مِنْ نَوَافلِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ اللهَ».
قلت: هذه السريرة التي أشار إليه ابن المبارك ما أراها إلا إخلاص الرجل وصدقه، واستقامة حاله فيما بينه وبين الناس وربِّه.
وثبت عندنا بالإسناد الثابت عن عبد الله بن مسلمة القعني أنه قال: «دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت ثم جلست، فرأيته يبكي؟ فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضُرِبْتُ بكل مسألة أفتيت بها برأيي سوطا سوطا! وقد كانت لي السعة فيما قد سُبِقْتُ إليه، وليتني لم أفْتِ بالرأي».
قلت: لو لم يكن الرجل يقصد بعلمه وجه ذي الجلال، ما كان لينطق بمثل تلك الكلمات الثِّقَال، وقد زلَّ من شنَّع بها عليه، وأخطأ الذي تقدم بتوبيخه بِحَمْلها بين يديه! بل هي من محاسنه التي هبَّ نسيمها في أفق الإسلام عليلا، وعَقَدتْ بها كل رابيةٍ من رَوَابي المجد في مَفْرَقِها تاجًا وإكليلا.
ما روي عن الشافعي في الإخلاص.
قد رُوِّينا بأصح إسناد عن الشافعي أنه قال: «وددتُ أن الناس تعلموا هذه الكتب ولم ينسبوها إليَّ».
قلت: هذه كلمة في الإخلاص عظيمة، وعبارة في أُفُق الورع جليلة جسيمة، وحسبك قول ابن حبان في «صحيحه»: «للشافعي -رحمه الله- ثلاث كلمات ما تكلم بها أحد في الإسلام قبله، ولا تفوَّه بها أحد بعده إلا والمأخذ فيها كان عنه». ثم ذكر تلك الكلمة منها، وصدق فيما قال بشأنها.
وقد بارك الله للشافعي بحسن مقصده، وشريف غايته، بحيث أنه ما نزل أرضًا إلا وساد فيها سلطان علمه، ولا هبط واديًا إلا وجَرتْ فيه أنهار فهمه، ولا وطأتْ قدماه قُطْرًا إلا ذاع خبره وشاع، ولا سمع المنصفون بأمره إلا أقبلوا عليه من مختلف الأصقاع.
ما روي عن أحمد بن حنبل في الإخلاص:
صح عن أبي بكر المرُّوذي أنه قال: كان أبو عبد الله – يعني أحمد بن حنبل- يقول: «لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذِكْر، أريد أن أكون في شِعْبٍ بمكة حتى لا أُعرف، قد بُلِيتُ بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحًا ومساء»!
وصح عن أبي العباس السراج أنه قال: سمعت فتح بن نوح، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: «أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس».
وقال أبو بكر المرُّوذي أيضًا: سمعت أبا عبد الله، يقول: «الخوف منعني أكل الطعام والشراب، فما اشتهيتُه، وما أبالي أن لا يراني أحد ولا أراه، وإني لاشتهي أن أرى عبد الوهاب. قُلْ لعبد الوهاب: أخْمِل ذكرك، فإني قد بُلِيتُ بالشهرة».
قلت: قد عرف أحمد فلزم الطريق، وطال عليه السفر وما اشتكى فقدان الرفيق، قد سمع النداء فَلَبَّى، ودعاه الداعي فأجاب الدعْوى، فلما ذاق من حلاوة مناجاة الكريم ما ذاق، استوحش الدنيا ودفعتْه الأشواق إلى خوض بحار الاشتياق، فأتقن أن لا عدو للإنسان إلا نفسُه، ولا حية ولا عقرب إلا جنسُه.
فأقبلتْ إليه الدنيا قد نشرت ملاءها، وسحبت رداءها، ولبست جلبابها، وتقلَّدت عليها سِخَابها، وأسفرت له الورودَ من أكمامها، وتمخَّضتْ له عن رياض الشهوات بتغريد أطيارها؛ وجاءتْه أشجارُها قد نَشَرتْ شعورها، وهزَّتْ رءوسها، وأطْلَعتْ له من ثمر أغصانها ضُرُوبا، وأبدَتْ مِن جَنَاها منظرًا عجيبًا، فتركها ومضى وهي منه على إياس، وتنكب عن النظر إليها وقال لنفسه الأمَّارة: لا كلام ولا مِساس، فتعلَّقتْ بذيل إزاره وقالت: يا أحمد أنسيتَ عهدنا؟ ورغبتَ عن وصْلنا؟ هلُمَّ إليَّ فقد هيَّأت لك مُتَّكأً وأثاثًا، فقال لها: إليكِ عني فقد طلَّقْتُكِ ثلاثًا.
ورُُوِّينا بالإسناد الصحيح عن أبي بكر الْمَرُّوذِيُّ أنه قال: «ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ- يعني أحمد بن حنبل- عَبْدِ الْوَهَّابِ عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ اللِّقَاءَ، وَقَالَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتَزَيَّنُ لَهُ؟ وَكَفَى بِالْعُزْلَةِ عِلْمًا، وَالْفَقِيهُ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ».
قلت: يشير أبو عبد الله إلى ما رُوِّيناه بالإسناد الثابت في «فوائد أبي طاهر المخلص» عن أحمد بن عاصم أبو عبد الله الأنطاكي أنه قال: «اجتمع فضيل بن عياض، وسفيان الثوري يتذاكرا، فرَقَّ وبكى سفيان، قال: فقال سفيان لفضيل: يا أبا علي- هي كنية الفضيل-: إني لأرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمةً وبركةً، فقال له الفضيل: لكني يا أبا عبد الله أخاف أن لا يكون هذا المجلس جلسنا مجلسا قط هو أضر علينا منه، قال : ولم يا أبا علي؟ فقال: أليس تخلَّصْتَ إلى أحسن حديثك فحدثتني به، وتخلَّصْتُ أنا إلى أحسن حديثي فحدثتك به، فتزيَّنتَ لي، وتزينتُ لك؟ فبكى سفيان بكاءً أشدَّ من البكاء الأول، ثم قال: أحييتني أحياك الله».
قلت: ومن كان يطيق ما كان يطيقه الفضيل؟ كأن الرجل قد خُلِق ليخاف الله.
أليس هو القائل فيما صح عنه: « لَوْ حَلَفْتُ أَنِّي مُرَاءٍ، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أحلف أن لَسَتُ بِمُرَاءٍ! وَلَو رَأَيْتُ رَجُلًا اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ لَقُلْتُ: هَذَا مَجْنُوْنٌ! مَنِ الَّذِي اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُجَوِّدَ كَلاَمَهُ لَهُم? ».
وقال أيضًا: «لو أن الدنيا بحذافيرها عُرضت علىَّ ولا أحاسب بها لكنت أتقذَّرُها، كما يَتقّذَر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أن تصيب ثوبه».
قد والله أزعجتَ العارفين بعدك يا أبا علي. معذور صاحبك ابن المبارك حين قال: «إذا مات الفضيل ارتفع الحزن»!
ولقد تأملتُ قول الفضيل فيما ثبت لنا عنه: « إذا أحبَّ الله عبداً أكثر غمَّه، وإذا أبغض عبدًا وسَّع عليه دنياه» فأورثني الأسى والغم، وما برح بيَ الأسفُ والغمُّ .
تعليق