رد: أبو الإلحاد : يوميات ملحد افتراضي " متجدد باذن الله "
(7) بين الإلحاد الافتراضي والأرضي
قرأ أبو الإلحاد الإعلان بإمعان, كادت عيناه تقفزان من محجريهما, انفرجت أساريره فرحا, كاد يطير لهذه البشرى طربا و سال لعابه للثمرات التنويرية الدانية التي بدأت تشرق في مخيلته المهترئة: "إلحاد "كونغرس".. معا يدا واحدة ضد الأديان." دعوة إلى المؤتمر السنوي الأول لملاحدة الشبكة العرب". كانت صورة قبضة حديدية تكسر جدارا عليه رموز دينية تُظلل هذا الشعار القوي, وفي الخلفية أشباح بشر وحيوانات. بدأ يحدث نفسه: " قد فعلها الزملاء, العفاريت فعلوها! إنهم على وشك نقل معركة التنوير الإلحادي من العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي." تأمل الإعلان فلم ير ألوانا خلا الأبيض والأسود. تساءل: "عجبا, لماذا لم يفطنوا إلى قيمة البعد الجمالي؟ هل فاتهم أن الخصوم يدعوننا بخفافيش الظلام؟ هل نسوا أنهم يعيّروننا بالنازية والفاشية؟ لو كان لي من الأمر شيء لجعلت الإعلان روضة زاهية تتراقص فيها ألوان الطيف. لا أفهم لماذا جعلوه بألوان إخواننا من عبدة الشيطان؟" أتمنى ألا يكون المؤتمر تحت إشرافهم, فأنا لا أطيق رموزهم الغريبة وطقوسهم المريبة. أذكر آخر مرة لقيت فيها أحدهم في القطار في إحدى بلدان الشمال المتنور. كان منظره أشبه بليل الشتاء الأوربي المظلم وبدا ثوبه كجلد حمار وحشي, بل إن جلده كان مزركشا كالهر البري إذ وَشَم كل بقعة فيه إلا لسانه. ولعل ذلك أعياه فجعل فيه حلقة كالخلخال لو جعلت في قدم فتاة لناءت به. كان منظره كريها مخيفا, ويا ليته صمت, بل كانت شهوته للكلام أكبر من شهوتي للقفز من النافذة كيلا أرى طلعته الذميمة. نظر إلي وقال بلغته: "آراب.. آراب؟" فأومأت له أن نعم.. فعاد يسأل: "مسلم.. مسلم؟" فحركت رأسي أن لا. عندها قهقه بصوت عال فاهتزت الحلقات حول عينيه وفي أنفه وأذنيه.. المجنون لم يصدقني: "أوف كورس يو آر" ارتعبت لمنظره الخبيث حتى كدت أصدق خرافات الجن والشياطين, ثم بدأ يتكلم ساعة عن العرب والأجانب والموسيقى والتسامح. كانت حصة تعذيب صينية تقرع فيها كلماته أذني, ممزوجة بقرع الحلقة في لسانه لحافات أضراسه وأسنانه.. لو كان هذا المؤتمر تحت مظلة الزملاء الشياطين فوا حسرة على مستقبل التنوير!" تأمل الشعار مرة أخيرة ثم أرسل رسالة إلكترونية يطلب إلقاء كلمة أمام المؤتمرين وقع في نفسه أن يسميها: "من الإلحاد الافتراضي إلى الأرضي", وسرعان ما جاءه الرد بالإيجاب. بدأ يكتب كلمته, ثم ارتأى أن يرتجلها في حينها حسبما يراه موافقا للحال. بقي أسبوع ليهيئ أفكاره.
ثم جاء اليوم الموعود. استيقظ أبو الإلحاد من نوم متقطع راودته فيه الأحلام و الأماني بقضاء يوم مشهود يلتقي فيه برفاق "الجرب والجذام" ليخطوا معا خطوة جبارة إلى الأمام. لن يدعوهم أحد بعد اليوم بمجاهيل الشبكة. إنهم سيأتون ورؤوسهم مرفوعة في عناد وعقولهم مفعمة بيقين الإلحاد. قطع طريقه وهو يتمرن على كلمته, يقدم ويؤخر, ويحلل ويفكر, يتخير الكلمات والنبرات والحركات المناسبة, حتى وقف بباب فندق "المريخ جاردن سيتي".. تفكر في اسم المكان: "اختيار موفق يحمل رسالة عميقة. يبدو أن الزملاء درسوا أمر هذا اللقاء التاريخي من كل الوجوه. المريخ, ولِم لا؟ فلو ضيق علينا المتدينون الخناق أكثر قليلا, فلربما حجزنا مع الزملاء تذكرة ذهاب بلا إياب إلى الكوكب الأحمر حتى نستريح من خرافاتهم." وجد بعض الزملاء في الإستقبال. سأله أحدهم عن بطاقة تعريفه, فلما رأى اسمه قال: "هل معك دعوة؟" قال: "دعوة؟ لا أنا أبو الإلحاد, سألقي كلمة." رد عليه قائلا: "ليس عندنا أحد بهذا الاسم على لائحة المحاضرين". ظن أبو الإلحاد أن في الأمر خطأ فبادر بالسؤال: "كيف؟ لقد تم قبول مشاركتي, حصلت على رسالة إلكترونية." أجابه الشاب: "نعم نعم, لكن تم إخطارنا ببعض التحفظات على سيرتك الذاتية. لذا تم شطبك من لائحة المحاضرين. قل لي أما زلت ملحدا؟؟" أجابه ممتعضا: "طبعا.. طبعا.. هل هذا سؤال؟ إنني..." قاطعه في هدوء: "معذرة لكنا اطلعنا على بعض مقالاتك المنشورة أيها الزميل, فوجدنا أنها تنم عن انتكاسة فكرية خطيرة. طيب قد نسمح لك بالدخول, بشرط أن تثبت لنا أنك ملحد" كاد شعر رأسه يقف من هذا التحقيق الذي لم يعهد له مثيلا إلا في منتديات المتدينين فقال مستنكرا: "أثبت ماذا؟ وكيف؟ أنا أقول وأقر وأشهد أني ملحد. "لا إله والكون مادة, والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" هل تريدني أن أستظهر لك كتاب أصل الأنواع حتى تصدقني؟" قال الشاب وهو يحرك رأسه: "أنا آسف لكن هذا لا يكفي. هذا كلام في الهواء أيها الزميل: " البينة على من ادعى" هات بينة, أو ارجع من حيث أتيت." لم يصدق أذنيه." "إنه يحمل على كاهله عشرين سنة من النضال التنويري الإلحادي, منها عشرة كاملة قضاها وهو متعلق كالذباب بخيوط الشبكة العنكبوتية. لقد بدأ تعب السنين يدب إلى مفاصل عظامه, بل إنه أصبح يقضي بعض الوقت أمام المرآة لنتف البياض المتسلل إلى رأسه, ثم يأتي هذا الصبي المغرور ليشكك في صفاء إلحاده. قال بنبرة الواثق متحديا: "أيها الزميل, ابتعد من طريقي.. فلا بد أن أدخل" فحال الرجل بينه وبين باب القاعة وقال في حزم:" لا تتعب نفسك, عندي أوامر صارمة" حينها تملكه اليأس وتذكر طبقة المنبوذين الهنود, وتساءل هل يتجه الملحد العربي إلى نفس مصيرهم. أطرق كأنه يبصر حضيض مهانته, ثم سمع صوتا معروفا يناديه: "لحود, أنت هنا يا عزيزي؟ .. ياه مضى زمان طويل" إنه الأستاذ عرقوب مدير تحرير مجلة "زهر العلقم" أخذ بيده فدخلا إلى قاعة المؤتمر كأن شيئا لم يكن.
رأى ثمة منظرا عجيبا غريبا. رأى بضع عشرات من الشباب والكهول يجلسون متفرقين هنا وهناك تلفهم سحابة داكنة من الدخان, ورأى الصفوف الأمامية خاوية, ورأى المنصة وقد سلطت عليها الأضواء الكاشفة, ثم رأى بشرا ونسانيس وكلابا وقططا. بل رأى جحشا أبيض وبغلا أحمر. كان الجميع يلبسون الثياب, حتى الدواب! حك عينيه وظن أنه أخطأ العنوان. هل هذا مؤتمر نضال وتنوير أم سوق للبغال والحمير؟ رفع بصره فقرأ لافتة المؤتمر كما رآها في الإعلان أول مرة, جلس وحيدا, إذ انشغل عنه عرقوب باتصال هاتفي دام حوالي الساعة. بعدها التفت إليه مستفسرا عن كل ما أشكل عليه من هذه الغرائب, فأجابه عرقوب متبسما: "عزيزي هذا مؤتمر تأسيسي, يجمع كل أطياف المشهد الإلحادي. لا بد أن نقبل بعضنا بعضا مهما اختلفنا. الصفوف الأمامية محجوزة لبعض الزوار المهمين, أما ذوات الأربع فإنها في رفقة زملائنا في جمعية: "من أجل ديمقراطية كونية" وهم يدعون إلى تقريب الهوة بين الكائنات المتقاربة جينيا, فالفوارق بيننا وبين هؤلاء "الزملاء المتخلفين داروينيا" ضيئلة نسبيا. بيننا وبين "الشيمانزي مثلا كروموزومان فقط! تصور.. ربما يتشاور الزملاء حول أوجه الترجيح بين نظريتين تقودهما مدرستان رائدتان اليوم; إحداهما تهيئ مناهج "تطويرية تأطيرية" للنسانيس لتحفيز قابليتها التطورية.. والأخرى تركز على إرسال رسائل مشفرة لطلب المشورة من الكائنات الفضائية. نعم لو استطعنا أن نضيف للفئران ستة كروموزومات فحسب, فربما ضممناها إلينا في المؤتمر التالي. زملاؤنا الديمقراطيون الكونيون أو "الديموكونيون" -كما يحبون أن نسميهم- لهم رسالة واضحة: "إننا مدعوون جميعا لتسريع وتيرة البحث العلمي حتى ندفع عجلة التطور قدما." في آخر مقال لها نشر على صفحات مجلتي الغراء تذكر الدكتورة أحلام الشحرور إحصائية حديثة تقول: "لو استطعنا تطوير عشرين بالمائة فقط من شعب "الشيمبانزي" الذي يعيش في الشتات حاليا فإنهم سيكونون دعما كبيرا للحركة التنويرية الكونية; حيث سندخلهم دورات تعليمية مكثفة يتولى تأطيرها كبار المختصين في بيداغوجيا الإلحاد. رسالتنا باختصار هي إذابة الفوارق الوهمية التي اختلقتها القوى الرجعية بيننا وبين إخواننا في سلسلة التطور الذين نشترك معهم في سلف مشترك." التفت الأستاذ عرقوب إلى الصف الحيواني وقال: "انظر إلى سيد "أوران غوتان" صاحب ربطة العنق البرتقالية.. أليس وسيما؟ لكن انظر إلى الحزن يملأ عينيه. لا أشك في أن الأمل يحدوه في نجاح هذه الجهود التطويرية النبيلة. أما عن الثياب, فإن الزملاء يرون أن كسوة "زملاء التطور" خطوة في الطريق الصحيح; حيث أعطت بعد عام نتائج مهمة; منها أن شعر "الكلاب التي لبست الثياب" بدأ يتساقط. يا له من تطور ملحوظ!" حين بلغ هذا الموضع من كلامه بدأت أشغال المؤتمر بإنشاد مقطوعة غنائية ما أن بدأت حتى انخرطت الكلاب في عواء. إنه يعرف هذه الكلمات, إنها فصول من: "هكذا تكلم زرادشت" نظمها شاعر الإلحاد المبدع "أبو المجامر". استمع إلى الترانيم يرافقها النهيق والمواء والعواء, فكاد أن يغلبه البكاء -من فرط التأثر- لولا أنه تجلد.
انتهت الافتتاحية الفنية ثم دخل الضيوف المميزون. يتقدمهم عميد ملاحدة الشبكة بلحمه وشحمه الزميل شقيق بن آوى. لقد افتتح وحده مائة صفحة "فيسبوك" وعشرين قناة "يوتيوب" وخمسة منتديات. الزميل يحتفظ في جعبته بمئات المعرفات, إنه يكتب المقال, ثم يعلق عليه, ويمدح نفسه, ثم يعود بمعرف آخر فيشتمها, وهكذا دواليك... إن الزميل يتحرك في الفضاء الإلكتروني وحيدا كالفارس المغوار, فيحسبه الخصوم جيشا عرمرما. أخذ الجميع مقاعدهم, للأسف لم يتمكن أكبر المدعوين من الحضور. إنه إمام الإلحاد العالمي البروفيسور الذي لم يستطع حفظ اسمه قط. كل ما يعرفه أنه يسكن جزيرة نائية يلفها الضباب. إنه ملحد متمرس إذا سئل عن الدين صار كالذئب الشرس. ما أحوج الزملاء إلى التتلمذ عليه. بعضهم يدعوه بالقسيس لسعة إلحاده. لكم كان يود أن يلقاه هنا ليسأله عن تفاصيل نظريته عن الأصول الفضائية للحضارة الإنسانية وأوجه الجمع بينها وبين النظرية النسناسية لسلفه دارون. هذا إشكال آخر يصيبه بالصداع ولم يجد له بعد جوابا شافيا على الشبكة. حسنا سيؤجل النظر في هذه المعضلة ريثما يتشرف بلقاء ملحد موسوعي من طينة "دونكي" أظنه اسمه هكذا. لكن أليس هذا اسم حمار في لغة تلك الجزيرة؟ لا يهم إنه مجرد اشتراك لفظي آخر, ثم ما المانع من أن يستعير ملحد الأسماء الحيوانية وأن يتقلد الأوسمة البهيمية؟ لا مانع أبدا بل إن نظرة إلى أعضاء المؤتمر يلمس التمازج الأخوي الدارويني بين أبناء "الخلية الواحدة" التي نشأت يوما ما صدفة –كما هي نظرية الإلحاد- ثم ألقت الملخوقات الفضائية عليها برنامجا ذكيا أسماه العلماء بعد اكتشافه "دي إن إيه". فلماذا لا يدعى البروفيسور "دونكي" أو البروفيسور "حمار" لا أظنه يمانع أبدا. لكن ربما يمانع الحمار, لا إشكال أيضا, حين يتطور ويستطيع الاعتراض نسمع رأيه. لا بد أن نتحلى بالتسامح في هذه الظروف العصيبة ريثما تتحقق الديمقراطية الكونية التي تنصهر فيها الجراثيم والحشرات والبشر والحيات في بوتقة واحدة فتزول عن الإنسان نظرة الإستعلاء ويخلع عنه أوهام الكرامة والتفرد التي هي آخر الرواسب الدينية.
بدأ الزميل من حركة "الديمقراطية الكونية" كلمته, وأرادها أن تبدأ بشيء طريف يلطف الجو المفعم برائحة الدخان وروث الدواب, فوضع طائر ببغاء على الطاولة أمامه وأشار إليه بإشارة يعرفها فانطلق الببغاء صارخا: "النجدة ملحد.. ملحد.. النجدة النجدة.. لص لص!!" فأشار إليه يسكته فلم يسكت فانفجرت القاعة بالضحك فقال معتذرا: "إنما لقنته أن يقول: "أنا ملحد" فإذا بالأمر يختلط عليه فلفق كلمات أخرى تعلمها" كان يتكلم والببغاء لا يكف عن الصراخ, ولم يستطع أن يتم كلمته, فانصرف إلى مكانه في الصف الأول معتذرا. جاء بعده ممثل "النهضة العلمية اللاأدرية" فلما أخذ مكانه صرخ به الببغاء مرة أخرى: "ملحد ملحد النجدة..." فقام المنظمون باصطحاب الضيف المزعج خارج القاعة. حين بدأ الزميل في إلقاء كلمته: طرح عشرين سؤالا, ثم قال: من قال "لا أدري" فقد برئ وأنصف, وأنا لا أدري شيئا فأترك الأسئلة مفتوحة للتصويت العام ثم نزل من المنصة. شعر أبو الإلحاد بضآلة الزملاء وتساءل أين تلك العروض العلمية الدقيقة وتلك الخطب الإنترنيتية الرنانة؟ حينها تمنى لو أنه يعرف عنوان العلامة الحبر "جوجل" ليدعوه إلى مثل هذا المؤتمر, فإن الجعجعة اللفظية التي يهتز بها العالم الإلكتروني للملاحدة ليست إلا قبسا من علومه. إنهم ملاحدة "القص واللصق". زال عنه حزنه لمنعه من إلقاء كلمته. لأنه لو تكلم لقال: "أرى أن الإلحاد الافتراضي حلم جميل يوشك أن يتحول إلى كابوس فظيع حين يغادر به أصحابه أسوار العالم الرقمي." التفت إلى الأستاذ عرقوب فوجده يغط في نوم عميق. استسلم هو الآخر لإغفاءة لم ينبهه منها إلا نهيق مفاجئ. فتح عينيه فإذا به يبصر الحمار يتقدم جحافل التنوير وهي تغادر القاعة في موكب مهيب.
يتبع إن شاء الله
(7) بين الإلحاد الافتراضي والأرضي
قرأ أبو الإلحاد الإعلان بإمعان, كادت عيناه تقفزان من محجريهما, انفرجت أساريره فرحا, كاد يطير لهذه البشرى طربا و سال لعابه للثمرات التنويرية الدانية التي بدأت تشرق في مخيلته المهترئة: "إلحاد "كونغرس".. معا يدا واحدة ضد الأديان." دعوة إلى المؤتمر السنوي الأول لملاحدة الشبكة العرب". كانت صورة قبضة حديدية تكسر جدارا عليه رموز دينية تُظلل هذا الشعار القوي, وفي الخلفية أشباح بشر وحيوانات. بدأ يحدث نفسه: " قد فعلها الزملاء, العفاريت فعلوها! إنهم على وشك نقل معركة التنوير الإلحادي من العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي." تأمل الإعلان فلم ير ألوانا خلا الأبيض والأسود. تساءل: "عجبا, لماذا لم يفطنوا إلى قيمة البعد الجمالي؟ هل فاتهم أن الخصوم يدعوننا بخفافيش الظلام؟ هل نسوا أنهم يعيّروننا بالنازية والفاشية؟ لو كان لي من الأمر شيء لجعلت الإعلان روضة زاهية تتراقص فيها ألوان الطيف. لا أفهم لماذا جعلوه بألوان إخواننا من عبدة الشيطان؟" أتمنى ألا يكون المؤتمر تحت إشرافهم, فأنا لا أطيق رموزهم الغريبة وطقوسهم المريبة. أذكر آخر مرة لقيت فيها أحدهم في القطار في إحدى بلدان الشمال المتنور. كان منظره أشبه بليل الشتاء الأوربي المظلم وبدا ثوبه كجلد حمار وحشي, بل إن جلده كان مزركشا كالهر البري إذ وَشَم كل بقعة فيه إلا لسانه. ولعل ذلك أعياه فجعل فيه حلقة كالخلخال لو جعلت في قدم فتاة لناءت به. كان منظره كريها مخيفا, ويا ليته صمت, بل كانت شهوته للكلام أكبر من شهوتي للقفز من النافذة كيلا أرى طلعته الذميمة. نظر إلي وقال بلغته: "آراب.. آراب؟" فأومأت له أن نعم.. فعاد يسأل: "مسلم.. مسلم؟" فحركت رأسي أن لا. عندها قهقه بصوت عال فاهتزت الحلقات حول عينيه وفي أنفه وأذنيه.. المجنون لم يصدقني: "أوف كورس يو آر" ارتعبت لمنظره الخبيث حتى كدت أصدق خرافات الجن والشياطين, ثم بدأ يتكلم ساعة عن العرب والأجانب والموسيقى والتسامح. كانت حصة تعذيب صينية تقرع فيها كلماته أذني, ممزوجة بقرع الحلقة في لسانه لحافات أضراسه وأسنانه.. لو كان هذا المؤتمر تحت مظلة الزملاء الشياطين فوا حسرة على مستقبل التنوير!" تأمل الشعار مرة أخيرة ثم أرسل رسالة إلكترونية يطلب إلقاء كلمة أمام المؤتمرين وقع في نفسه أن يسميها: "من الإلحاد الافتراضي إلى الأرضي", وسرعان ما جاءه الرد بالإيجاب. بدأ يكتب كلمته, ثم ارتأى أن يرتجلها في حينها حسبما يراه موافقا للحال. بقي أسبوع ليهيئ أفكاره.
ثم جاء اليوم الموعود. استيقظ أبو الإلحاد من نوم متقطع راودته فيه الأحلام و الأماني بقضاء يوم مشهود يلتقي فيه برفاق "الجرب والجذام" ليخطوا معا خطوة جبارة إلى الأمام. لن يدعوهم أحد بعد اليوم بمجاهيل الشبكة. إنهم سيأتون ورؤوسهم مرفوعة في عناد وعقولهم مفعمة بيقين الإلحاد. قطع طريقه وهو يتمرن على كلمته, يقدم ويؤخر, ويحلل ويفكر, يتخير الكلمات والنبرات والحركات المناسبة, حتى وقف بباب فندق "المريخ جاردن سيتي".. تفكر في اسم المكان: "اختيار موفق يحمل رسالة عميقة. يبدو أن الزملاء درسوا أمر هذا اللقاء التاريخي من كل الوجوه. المريخ, ولِم لا؟ فلو ضيق علينا المتدينون الخناق أكثر قليلا, فلربما حجزنا مع الزملاء تذكرة ذهاب بلا إياب إلى الكوكب الأحمر حتى نستريح من خرافاتهم." وجد بعض الزملاء في الإستقبال. سأله أحدهم عن بطاقة تعريفه, فلما رأى اسمه قال: "هل معك دعوة؟" قال: "دعوة؟ لا أنا أبو الإلحاد, سألقي كلمة." رد عليه قائلا: "ليس عندنا أحد بهذا الاسم على لائحة المحاضرين". ظن أبو الإلحاد أن في الأمر خطأ فبادر بالسؤال: "كيف؟ لقد تم قبول مشاركتي, حصلت على رسالة إلكترونية." أجابه الشاب: "نعم نعم, لكن تم إخطارنا ببعض التحفظات على سيرتك الذاتية. لذا تم شطبك من لائحة المحاضرين. قل لي أما زلت ملحدا؟؟" أجابه ممتعضا: "طبعا.. طبعا.. هل هذا سؤال؟ إنني..." قاطعه في هدوء: "معذرة لكنا اطلعنا على بعض مقالاتك المنشورة أيها الزميل, فوجدنا أنها تنم عن انتكاسة فكرية خطيرة. طيب قد نسمح لك بالدخول, بشرط أن تثبت لنا أنك ملحد" كاد شعر رأسه يقف من هذا التحقيق الذي لم يعهد له مثيلا إلا في منتديات المتدينين فقال مستنكرا: "أثبت ماذا؟ وكيف؟ أنا أقول وأقر وأشهد أني ملحد. "لا إله والكون مادة, والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" هل تريدني أن أستظهر لك كتاب أصل الأنواع حتى تصدقني؟" قال الشاب وهو يحرك رأسه: "أنا آسف لكن هذا لا يكفي. هذا كلام في الهواء أيها الزميل: " البينة على من ادعى" هات بينة, أو ارجع من حيث أتيت." لم يصدق أذنيه." "إنه يحمل على كاهله عشرين سنة من النضال التنويري الإلحادي, منها عشرة كاملة قضاها وهو متعلق كالذباب بخيوط الشبكة العنكبوتية. لقد بدأ تعب السنين يدب إلى مفاصل عظامه, بل إنه أصبح يقضي بعض الوقت أمام المرآة لنتف البياض المتسلل إلى رأسه, ثم يأتي هذا الصبي المغرور ليشكك في صفاء إلحاده. قال بنبرة الواثق متحديا: "أيها الزميل, ابتعد من طريقي.. فلا بد أن أدخل" فحال الرجل بينه وبين باب القاعة وقال في حزم:" لا تتعب نفسك, عندي أوامر صارمة" حينها تملكه اليأس وتذكر طبقة المنبوذين الهنود, وتساءل هل يتجه الملحد العربي إلى نفس مصيرهم. أطرق كأنه يبصر حضيض مهانته, ثم سمع صوتا معروفا يناديه: "لحود, أنت هنا يا عزيزي؟ .. ياه مضى زمان طويل" إنه الأستاذ عرقوب مدير تحرير مجلة "زهر العلقم" أخذ بيده فدخلا إلى قاعة المؤتمر كأن شيئا لم يكن.
رأى ثمة منظرا عجيبا غريبا. رأى بضع عشرات من الشباب والكهول يجلسون متفرقين هنا وهناك تلفهم سحابة داكنة من الدخان, ورأى الصفوف الأمامية خاوية, ورأى المنصة وقد سلطت عليها الأضواء الكاشفة, ثم رأى بشرا ونسانيس وكلابا وقططا. بل رأى جحشا أبيض وبغلا أحمر. كان الجميع يلبسون الثياب, حتى الدواب! حك عينيه وظن أنه أخطأ العنوان. هل هذا مؤتمر نضال وتنوير أم سوق للبغال والحمير؟ رفع بصره فقرأ لافتة المؤتمر كما رآها في الإعلان أول مرة, جلس وحيدا, إذ انشغل عنه عرقوب باتصال هاتفي دام حوالي الساعة. بعدها التفت إليه مستفسرا عن كل ما أشكل عليه من هذه الغرائب, فأجابه عرقوب متبسما: "عزيزي هذا مؤتمر تأسيسي, يجمع كل أطياف المشهد الإلحادي. لا بد أن نقبل بعضنا بعضا مهما اختلفنا. الصفوف الأمامية محجوزة لبعض الزوار المهمين, أما ذوات الأربع فإنها في رفقة زملائنا في جمعية: "من أجل ديمقراطية كونية" وهم يدعون إلى تقريب الهوة بين الكائنات المتقاربة جينيا, فالفوارق بيننا وبين هؤلاء "الزملاء المتخلفين داروينيا" ضيئلة نسبيا. بيننا وبين "الشيمانزي مثلا كروموزومان فقط! تصور.. ربما يتشاور الزملاء حول أوجه الترجيح بين نظريتين تقودهما مدرستان رائدتان اليوم; إحداهما تهيئ مناهج "تطويرية تأطيرية" للنسانيس لتحفيز قابليتها التطورية.. والأخرى تركز على إرسال رسائل مشفرة لطلب المشورة من الكائنات الفضائية. نعم لو استطعنا أن نضيف للفئران ستة كروموزومات فحسب, فربما ضممناها إلينا في المؤتمر التالي. زملاؤنا الديمقراطيون الكونيون أو "الديموكونيون" -كما يحبون أن نسميهم- لهم رسالة واضحة: "إننا مدعوون جميعا لتسريع وتيرة البحث العلمي حتى ندفع عجلة التطور قدما." في آخر مقال لها نشر على صفحات مجلتي الغراء تذكر الدكتورة أحلام الشحرور إحصائية حديثة تقول: "لو استطعنا تطوير عشرين بالمائة فقط من شعب "الشيمبانزي" الذي يعيش في الشتات حاليا فإنهم سيكونون دعما كبيرا للحركة التنويرية الكونية; حيث سندخلهم دورات تعليمية مكثفة يتولى تأطيرها كبار المختصين في بيداغوجيا الإلحاد. رسالتنا باختصار هي إذابة الفوارق الوهمية التي اختلقتها القوى الرجعية بيننا وبين إخواننا في سلسلة التطور الذين نشترك معهم في سلف مشترك." التفت الأستاذ عرقوب إلى الصف الحيواني وقال: "انظر إلى سيد "أوران غوتان" صاحب ربطة العنق البرتقالية.. أليس وسيما؟ لكن انظر إلى الحزن يملأ عينيه. لا أشك في أن الأمل يحدوه في نجاح هذه الجهود التطويرية النبيلة. أما عن الثياب, فإن الزملاء يرون أن كسوة "زملاء التطور" خطوة في الطريق الصحيح; حيث أعطت بعد عام نتائج مهمة; منها أن شعر "الكلاب التي لبست الثياب" بدأ يتساقط. يا له من تطور ملحوظ!" حين بلغ هذا الموضع من كلامه بدأت أشغال المؤتمر بإنشاد مقطوعة غنائية ما أن بدأت حتى انخرطت الكلاب في عواء. إنه يعرف هذه الكلمات, إنها فصول من: "هكذا تكلم زرادشت" نظمها شاعر الإلحاد المبدع "أبو المجامر". استمع إلى الترانيم يرافقها النهيق والمواء والعواء, فكاد أن يغلبه البكاء -من فرط التأثر- لولا أنه تجلد.
انتهت الافتتاحية الفنية ثم دخل الضيوف المميزون. يتقدمهم عميد ملاحدة الشبكة بلحمه وشحمه الزميل شقيق بن آوى. لقد افتتح وحده مائة صفحة "فيسبوك" وعشرين قناة "يوتيوب" وخمسة منتديات. الزميل يحتفظ في جعبته بمئات المعرفات, إنه يكتب المقال, ثم يعلق عليه, ويمدح نفسه, ثم يعود بمعرف آخر فيشتمها, وهكذا دواليك... إن الزميل يتحرك في الفضاء الإلكتروني وحيدا كالفارس المغوار, فيحسبه الخصوم جيشا عرمرما. أخذ الجميع مقاعدهم, للأسف لم يتمكن أكبر المدعوين من الحضور. إنه إمام الإلحاد العالمي البروفيسور الذي لم يستطع حفظ اسمه قط. كل ما يعرفه أنه يسكن جزيرة نائية يلفها الضباب. إنه ملحد متمرس إذا سئل عن الدين صار كالذئب الشرس. ما أحوج الزملاء إلى التتلمذ عليه. بعضهم يدعوه بالقسيس لسعة إلحاده. لكم كان يود أن يلقاه هنا ليسأله عن تفاصيل نظريته عن الأصول الفضائية للحضارة الإنسانية وأوجه الجمع بينها وبين النظرية النسناسية لسلفه دارون. هذا إشكال آخر يصيبه بالصداع ولم يجد له بعد جوابا شافيا على الشبكة. حسنا سيؤجل النظر في هذه المعضلة ريثما يتشرف بلقاء ملحد موسوعي من طينة "دونكي" أظنه اسمه هكذا. لكن أليس هذا اسم حمار في لغة تلك الجزيرة؟ لا يهم إنه مجرد اشتراك لفظي آخر, ثم ما المانع من أن يستعير ملحد الأسماء الحيوانية وأن يتقلد الأوسمة البهيمية؟ لا مانع أبدا بل إن نظرة إلى أعضاء المؤتمر يلمس التمازج الأخوي الدارويني بين أبناء "الخلية الواحدة" التي نشأت يوما ما صدفة –كما هي نظرية الإلحاد- ثم ألقت الملخوقات الفضائية عليها برنامجا ذكيا أسماه العلماء بعد اكتشافه "دي إن إيه". فلماذا لا يدعى البروفيسور "دونكي" أو البروفيسور "حمار" لا أظنه يمانع أبدا. لكن ربما يمانع الحمار, لا إشكال أيضا, حين يتطور ويستطيع الاعتراض نسمع رأيه. لا بد أن نتحلى بالتسامح في هذه الظروف العصيبة ريثما تتحقق الديمقراطية الكونية التي تنصهر فيها الجراثيم والحشرات والبشر والحيات في بوتقة واحدة فتزول عن الإنسان نظرة الإستعلاء ويخلع عنه أوهام الكرامة والتفرد التي هي آخر الرواسب الدينية.
بدأ الزميل من حركة "الديمقراطية الكونية" كلمته, وأرادها أن تبدأ بشيء طريف يلطف الجو المفعم برائحة الدخان وروث الدواب, فوضع طائر ببغاء على الطاولة أمامه وأشار إليه بإشارة يعرفها فانطلق الببغاء صارخا: "النجدة ملحد.. ملحد.. النجدة النجدة.. لص لص!!" فأشار إليه يسكته فلم يسكت فانفجرت القاعة بالضحك فقال معتذرا: "إنما لقنته أن يقول: "أنا ملحد" فإذا بالأمر يختلط عليه فلفق كلمات أخرى تعلمها" كان يتكلم والببغاء لا يكف عن الصراخ, ولم يستطع أن يتم كلمته, فانصرف إلى مكانه في الصف الأول معتذرا. جاء بعده ممثل "النهضة العلمية اللاأدرية" فلما أخذ مكانه صرخ به الببغاء مرة أخرى: "ملحد ملحد النجدة..." فقام المنظمون باصطحاب الضيف المزعج خارج القاعة. حين بدأ الزميل في إلقاء كلمته: طرح عشرين سؤالا, ثم قال: من قال "لا أدري" فقد برئ وأنصف, وأنا لا أدري شيئا فأترك الأسئلة مفتوحة للتصويت العام ثم نزل من المنصة. شعر أبو الإلحاد بضآلة الزملاء وتساءل أين تلك العروض العلمية الدقيقة وتلك الخطب الإنترنيتية الرنانة؟ حينها تمنى لو أنه يعرف عنوان العلامة الحبر "جوجل" ليدعوه إلى مثل هذا المؤتمر, فإن الجعجعة اللفظية التي يهتز بها العالم الإلكتروني للملاحدة ليست إلا قبسا من علومه. إنهم ملاحدة "القص واللصق". زال عنه حزنه لمنعه من إلقاء كلمته. لأنه لو تكلم لقال: "أرى أن الإلحاد الافتراضي حلم جميل يوشك أن يتحول إلى كابوس فظيع حين يغادر به أصحابه أسوار العالم الرقمي." التفت إلى الأستاذ عرقوب فوجده يغط في نوم عميق. استسلم هو الآخر لإغفاءة لم ينبهه منها إلا نهيق مفاجئ. فتح عينيه فإذا به يبصر الحمار يتقدم جحافل التنوير وهي تغادر القاعة في موكب مهيب.
يتبع إن شاء الله
تعليق