فلان التزم!!
بجد؟؟
ما شاء الله...
عُقبالنا... ربنا يهدينا جميعًا.
هذا كان السيناريو المعتاد الذي كُنا نَسمعه منذ سنوات حينما كان أحد أصدقائنا أو زملائنا يَستقيم أو يهتدي ويتوب إلى الله.
كانت أيامًا جميلة. لم يكن التنازع والاحتقان والْمِراء على أشده كما هو الآن
فقط.
وببساطة... "التزم" كانت كلمة تعبر عن أشياء كثيرة دون كلام تفصيلي معقد، وكان لها وقْع على القلوب، وانطباع في العقول، سواء عند من رزقه الله بها، أو عند من لم يسلكْ بعد سبيلها.
وكنت تجدها كثيرًا - عند من رُزق بها - على لسانه تلقائيًّا، ودون تكلُّف معبرةً عن نقطة فاصلة في حياتِه، يفرق بها بين مرحلتين يُسمي الأولى ما قبل الالتزام والأخرى ما بعده.
وكذلك عند من لم يلتزم بعدُ تجد أن الكلمة لها انطباع؛ وهو أنَّ صديقه الذي التزم صارت له ثوابت وأخلاقيات وعادات مختلفة، وصارت هناك أنشطة وسلوكيات لن يشاركه فيها بعد أن وصف بهذا الوصف وأصبح ملتزمًا.
البعض كان يَـقْـصُرُ المصطلحَ على الأمور الظاهرية، فيعبر عن الالتزام من منطلق التمسك بالهَدْي الظاهر وحسْب، فإذا أتيت إلى سلوكه وإلى عمله وجدت هناك اهتزازًا شديدًا في معايير الالتزام، بينما ألغى البعض تمامًا قيمة التمسك بالهدْي الظاهر، وصار الالتزام لديهم قاصرًا على القلوبِ، ولا يظهر على واقع الشخص أبدًا.
والحقيقة أن السؤال الذي ينبغي أن يطرح نفسه الآن قبل أن نسأل أين ذهب الالتزام هو "ما معنى الالتزام؟".
نعم - وللأسف - الأمور لم تعد بالبساطة السابقة، حين كان الأمر مفهومًا وسهلًا حتى دخلت إليه الأبعاد السياسية والنزاعات الأيديولوجية، وقُدم سوء الظن وافتراض الاستقطاب على المعاني الإيمانية الواضحة التي يَنبغي لكلِّ مُسلم أن يَسعى للتمسك بها؛ بصرف النظر عن الاصطلاحات، فسواء استعمل اللفظ الحديث - ملتزم - أو الاصطلاحات الأصلية - كمستقيم، أو تائب، أو متسنن، أو ناسك، أو صالح -؛ فإنه لا يختلف مسلمان على وُجوب السعي لتلك المعاني الرفيعة، وتلك الواجبات الشرعية من: توبة، وهداية، واستقامة، واتباع لهدْي خير الأنام - صلى الله عليه وسلم -.
إن أردنا أن نُعرِّف الالتزام ببساطة؛ لقلنا: إنه استجابة لأمر الله - جل وعلا - الشامل والمحكم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ) [البقرة: 208]، والدخول في السلم كافة - كما قال جمهور المفسرين - هو الدخول في شعائر الإسلام كافة ودون تفريق.
وهذا يشمل الظاهر والباطن بلا إفراط ولا تفريط، وكما أن أصحاب مبدأ "ربك رب قلوب" سيُبادرون بقول الرسول «التقوى هاهنا»، وأشار إلى صدره، أو قوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [رواه مسلم]، فسيُرد عليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله» [متفق عليه]، وفيها الإقرار بأن صلاح الباطن والظاهر مترابطان، لا ينبغي فصلهما وأن أحدهما نتيجة للآخر.
والالتزام صبغة كاملة كما في قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة: 138]، والصبغة لا تصبغ الداخلَ فقط، وإنما تتغلغل لتشمل ظاهر الثوب وباطنه.
أما عدمُ نظر الله للصورِ والأجسام يومَ القيامة؛ فهو من بابِ عدم أهمية المظهر الخارجي الفارغ عند الله، وذلك من حيث الفخامة والجمال، لكنَّ النبيَّ عاد، وقال: «ينظر إلى أعمالكم».
ولا شك أن الأعمال منها الظاهر والباطن، والأدلة على ذلك من القرآن والسنة لا تُحصى.
إذن: فالأمر لا يَحتاج إلى هذا التنازع والخلاف، بل ينبغي أن ينظر للإسلام بشموله، وأن يُدخل فيه كافة كما سبق وبينا.
هل هذا معناه أن الملتزم معصوم لا يُخطئ؟!
لا، ولكنَّ الفارقَ كبيرٌ بين الذنبِ الذي يُدرك صاحبه أنه ذنب، ويَسعى إلى الإقلاع والتوبة عنه، وبين المجاهِر الذي لا يَرى - أو يرى - مَن حوله بأسًا فيما فعل، وهذه النقطة الأخيرة تمثل فارقًا مهمًّا بين الملتزم وغير الملتزم.
فالمجاهر بذنبه مشكلته مزدوجة، فهو بخلاف الذنب الأصلي يَنشر معصيته بين الناس، ويَجعل أعينهم وآذانهم تألفها، فيكون كمن يَشيع الفاحشة في المؤمنين.
أما الملتزم فحتى إن زلَّ أو ضعف؛ فإنه لا يَقبل أن يَفتن غيره، ولا يباهي بذلك، بل يستحي منه، ويسعى للخلاص والتطهر.
ولقد لخص النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفة المؤمن تُجاه الذنب الذي ضعف أمامه في جملة جامعة رائعة، جمعت صفات أربعًا تتوازن معًا: «إنَّ المؤمنَ خُلقَ مُفْـتَـنًا توابًا نسيًّا، إذا ذُكِّر؛ ذَكر» [صحيح الجامع]، فَـ"مفتنًا" تعادلها "توابًا"، فهو عُرضة للفتن، وقد يقع فيها، لكنه يُسارع بالتوبة، نسيًّا يقع في النسيان، كما وقع أبوه الأول، لكنه يقبل التذكرة والنصح ويتذكر.
الالتزام ببساطة هو عبارة عن قرار، نقطة فصل، منحنى تحول، ينتقل الإنسان بعده إلى مرحلة جديدة مختلفة تمامًا، الأصل فيها عنده أنْ يُطيع الله ورسوله فيما أمر، وينتهي عما نهى، والاستثناء لديه أن يَعصِي، أو يضعف، ثم لا يلبث أن يعود مرة أخرى لأنه... ملتزم.
بقلم
د.محمد على يوسف
تعليق