ولاية المتغلب (1)
من هو المتغلب؟ وما ولاية؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
ما زال كثيرٌ من العلماء المعاصرين يُحذِّرون الناسَ من الخروج على الحكام (وولاة الأمور) المعاصرين، رغم أن الأغلبية الساحقة منهم طغاة علمانيون، يحاربون الشريعة، ويُضَيِّقون على الدعوة والدعاة، ويبيحون المعاصي كالربا والاختلاط وغيره بموجب القانون، مما يعني التجويز والاستحلال! يعني بتشريع مخالف للشريعة وبقوانين ودساتير مناهضة للدين عقيدة وشريعة، وليس فقط معصية عينٍ عَصاها الحاكم في واقعة مُعيَّنة! بل هم:" يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون"[التوبة،30]، يضاهئون كفرةَ اليهود والنصارى في عزل الدِّين عن قيادة الدنيا وسياستها بشريعته، ويضاهئونهم في اتِّخاذ شركاء يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله -عز وجل-، بعدما شنقوا آخر ملِك بأمعاء آخر قسيس! لأنهما تعاونا على تعبيد الجماهير لأنفسهما باسم الدين والإله، فكانت العَلمانية التي لا دين لها ولا إله! وكانت المضاهاة بين قسٍّ وعالم، وبين ملِكٍ وحاكم!
ومن خالفهم في مخالفاتهم عوقب بموجب (دِين الملِك) أي قانون الحاكم أو الملك الذي يعاقب على الطاعة، ويكرم على المعصية.. يكرمون على العهر والدعارة والدياثة والفسوق والعصيان، وعلى والتمثيل الخليع والغناء الفاحش، وعلاوات وترقيات لمن تفنن في قتل الإسلاميين وحربهم.. وفي المقابل يهينون ويضيقون على الحشمة والحياء والالتزام، سجون أو إقامة جبرية (حبس في بيته) لعالم أقام درسا يطالب فيه بتحكيم الشريعة أو يتكلم فيه عن فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ينصر إخوانه من وراء الصحاري والبحار، أو يرمونهم بالتخابر ضد الوطن.. وفصلٌ من التدريس لمدرس يفصل بين الذكور والإناث في الفصل (قاعة التدريس)، بتهمة التمييز بين الذكور والإناث، أو احتقار المرأة... فضلا عن عقود وعهود مع يهود.. فضلا عن حصار المسلمين وقطع الماء عنهم والهواء.. ومجاهدة للمجاهدين... كل هذا وهم ولاة أمور تجب طاعتهم وتنفذ أحكامهم! بفتوى القساوسة.. أقصد مضاهئيهم من شيوخ السلطان من بني جلدتنا!
علماء البلاط وشيوخ السلطان
كل ذلك والفتاوى تترى من (علماء) تُحَرِّم وتُجَرِّم الخروج على و(عن) هؤلاء الحكام والملوك، وبإيعاز أو بأمر من ولاة الأمر والملوك بإخراج هذه الفتاوى، وإقرارها وتكرارها في كل واد وناد..
لكن وكما يقال: الفتاوى تتغير أو (تتلون) بتغير الزمان والمكان، أو بتلون المحيط الذي تعيش فيه الحرباء!!
فقد وجب –هذه المرة- الخروجُ أو على الأقل صحَّ الخروج على الحاكم إذْ كان مسلمًا، ولا يوالي يهود، ولا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما أحل.. فجوزوا الخروج عليه، وإعانة من خرج عليه بالمال والرجال إذا كان الخارج عليه طاغوتا ولم يكن داعية مسلما أو شبابا مسلما يبتغي تحكيم شرع الله.. أما لما كان يخرج بعض الإسلاميين على هؤلاء الطواغيت فكان يقوم علماء هؤلاء الطواغيت يضللون الخارجين!!
لقد انقلب السيسي على مرسي.. وخرج على الحاكم، ولي أمر المصريين.. وبدلا من أن نجد الفتاوى التي تحرم الخروج على الحكام، وتصف السيسي بالخارجية على الأقل(وهو أخبث من الخوارج).. بدلا من ذلك نجد عقيدة عدم الخروج على الحكام هذه المرة تطوى ولا تروى.. وتوضع في الأدراج.. وتُستَخْرج لها فتاوى أخرى.. اسمها زورًا : طاعة الحاكم المتغلب!!
أنا لم أستغرب موقف بعض حكام وملوك الخليج، لا أقول الداعم للانقلاب.. بل المدبر للانقلاب والراعي له.. ثم الداعم والمغذي له، والمنفق عليه بلا حساب، والمحامي عنه عند الغرب، والمتطوع بتخويف الغرب من حكم الإخوان.. ( وفوبيا الإخوان).. لم أستغرب موقفهم هذا لأني أعرف حقيقتهم من زمان، وأعرف عنهم أفضع من هذا وأشنع وأبشع.. لكن البوح بالحقيقة في غير حينها المناسب لا يصدقها أحد، وبل وربما إلى الآن لا يصدقها البعض..
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
) لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لكم(، فلعل الله- سبحانه- أراد أن يرحم أمته فيكشف ستره عن قِطاع كبير وقُطَّاع طُرُقٍ كثيرين من حكام وملوك و(دعاة) و(علماء) و(خطباء) ووزراء وإعلاميين و(إسلاميين!):) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ( [آل عمران: ١٧٩]، فعلينا فِعْلاً أن نؤمن كما جاء في هذه الآية، بأن هذه حكمة الله في قدره وقضائه، وهذه رحمته بالمؤمنين وبِصَفِّهِم.. فتميز الصفوف نصر لها وأمان.
بل لعله كما قال تعالى:")وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ([البقرة: ٢١٦]، و)فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاﮊالنساء: ١٩. وقوله تعالى:)إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ([النور: ١١]، وولله إنه لمن أعظم الإفك أن يوصَف المجاهدون بأنفسهم وأموالهم سليما بأنهم خوارج خائنون، ويوصَف الطغاة الخارجون على شريعة الله بالحرب بأنهم ولاة أمور وطنيون! وإن لكل امرئ منهم ما اكتسب من إثم الإفساد في الدين والدنيا، بالفعل أو بالفتوى.
فليس الأغرب هو تصرف أولياء الأمر و(ألويته) من الحكام والملوك، ولكن الأغرب من ذلك فِعال أولياء الأمور من(العلماء)؛ والفتاوي الجاهزة التي أجهزت على الحق الذي مع المظلومين، وجعلتهم خوارج وأهل فتنة.. ويعنى ذلك جواز قتالهم وقتلهم واستحلال دمائهم.. لأن التوصيف يقتضي الحكم بأنهم كلاب النار.. وأنهم شر قتيل تحت أديم السماء.. وقد سُحبت أحاديث الخوارج وأُسدلت ستائرها على الإخوة والإخوان في مصر!! وكما كان يقال: (اقتله يا أمير المؤمنين.. ودمه في عنقي!)، فقد أعاد التاريخ نفسه.. التاريخ البائس طبعاً!.
إنما العلم الخشية
وطبعاً هم ليسوا علماء وإن حشوا رؤوسهم بكثير من الثقافة والمعلومات، وإن حوى أحدهم في رأسه (شيخ كمبيوتر)، وإن هزَّ أعواد المنابر، وإن هَمْلَج وتلجلج، لأن العالم ليس ذلكم؛ وإنما هو الذي يخشى الله:)إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ( [فاطر: ٢٨]، فالذي لا يخشى الله –خاصة في المسلمين- وفي دمائهم وأعراضهم ليس عالماً، بل متعالم! قيل للشعبي-رحمه الله-: أيها العالم! قال: لست بعالم؛ إنما العالم من يخشى الله. وكان السلف يرددون هذه العبارة مثل سفيان بن عيينة ويحيى بن أبي كثير وغيرهم-رحمهم الله تعالى-، أي أن العلم قرين الخشية، ولذلك قرن النبي-صلى الله عليه وسلم- في وصف نفسه بين العلم والخشية والتقوى: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»[البخاري برقم: 20]، فعِلم بلا تقوى لا قيمة له، ومن قبلُ قال الله تعالى:)يَرْفَعِ اللَّهُالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ([الحديد: 11]، فبدأ بالإيمان قبل العلم.
تأسف حين تسمع خطيباً في ظل الكعبة المشرفة يردد ما يقوله الملوك.. ويدعم الانقلاب على دولة الإسلام والمسلمين.. ويَجري في هوى الحكام والقيادة الرشيدة والحكومة الحكيمة! ويجعل قيامها مع الطغيان والانقلاب وتقتيل الركع السجود، ودفع الأعطيات للجنود القتلَة... يجعلها قومة مشكورة في قضايا المسلمين ونصرتهم، والبلسم الشافي لجراحاتهم، والآخر يدور في فلك ولي الأمر فيفتي خطباء مملكته بألا تثار قضية مصر في المساجد؛ لأنها تشغل المصلين عن صلاتهم..
ولكن حين ترجع إلى عقلك تتذكر أن جنود الباطل ليسوا العسكر فقط، وإنما هم أيضاً - شعروا أم لم يشعروا-، علماء وإعلاميون وفنانون وسحرة فرعونيون، ورجال أعمال قارونيون، ووزراء هامانيون.. وأحزاب تزعم أنها إسلامية، بل سلفية! ومن هؤلاء الجنود علماء السوء، علماء اللسان الذين يجادلون بالباطل، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-«بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدُهم دينه بِعَرَضٍ من الدنيا»[السلسلة الصحيحة: 758] ، وأخطر من باع دينه بعرض من الدنيا هم علماء السوء، ومَكمن خطرهم أنّ ضررهم عائد على الدين وأهله، لا على أشخاصهم هم فحسبُ.
كان الإمام الهمام والفارس المغوار يخاطب العابد الزاهد-رحمهما الله- يقول له:
ولأن أمثال هؤلاء الآن لا عَبدوا حقا ولا جاهدوا صدقا! فإنا لنجد أنفسنا نقول عن بعضهم:
كان هؤلاء يقولون بأن الخروج على الحكام يجر البلاد إلى الفتنة ويُجري دماءها أنهارًا.. فقلنا: نعم! لكن لا ولاية للطغاة علينا، ولا طاعة لهم علينا، وإنما حفاظا على دماء المسلمين وأعراضهم وقضاياهم.
ما بالهم اليوم لا يقولون عن السيسي بأنه خرج على الحاكم.. وأنه جر البلاد إلى الفتنة.. وأنه أجري ويجري دماء المسلمين أنهارا؟! وأنه يعتقل الحرائر في سابقة لم يعمل مثلها الصهاينة عليهم لعائن الله.. كل ذلك ولم يقولوا هذا خروج على الحاكم الشرعي.. ولو قالوها لصدقناهم.. ولكنهم قالوا خلافها فخالفناهم، بل خالفوا أنفسهم فكذبناهم بأنفسهم.
بدلا من ذلك قالوا حاكم متغلب.. وكذَب ملوك الجبر ومفتو الضلال وخطباء الفتنة!
كذب الملوك والأمراء لأنهم غلَّبوه قبل أن يتغلب وسعوا في تغليبه.. فهم على هذا الهوى قبل أن يتغلب وقد غلَّبوه بتآمرهم وأموالهم ومخابراتهم. وإنما أُخرجت الفتوى للتبرير.. بل للتدليس والمكر والخداع.. لكن:)ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين([الأنفال:3] )ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله([فاطر:43]، فقد حاق بهم الأمر وافتضحوا، وفضيحة الآخرة أخزى، وكيف لا يقولون ذلك وهم أصلا متغلبون، وهم إخوة في الغصب والتغلب وأولياء فيه؟!
وأكذب منهم مفتوهم وخطباؤهم وأحبار سوء ورهبانها لأن هذا ليس حاكما متغلباً.. وإنما هو عدو منتصر على المسلمين بقوة السيف والسلاح.. أو على الأقل طائفة باغية خرجت على الأمة بالسلاح.
فهو إن لم يكن مرتدًّا عن الشرع، فهو مرتد عن الديمقراطية التي آمن بها ودعا الناس إليها، ثم انقلب عليها، فذبحها وذبح من فيها ذبح الخِراف!
فأين هذا من المتغلب؟ ومن هو المتغلب أصلا؟!
يتبع في حلقتنا القادمة إن شاء الله... وهي أكثر تركيزا
من هو المتغلب؟ وما ولاية؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
ما زال كثيرٌ من العلماء المعاصرين يُحذِّرون الناسَ من الخروج على الحكام (وولاة الأمور) المعاصرين، رغم أن الأغلبية الساحقة منهم طغاة علمانيون، يحاربون الشريعة، ويُضَيِّقون على الدعوة والدعاة، ويبيحون المعاصي كالربا والاختلاط وغيره بموجب القانون، مما يعني التجويز والاستحلال! يعني بتشريع مخالف للشريعة وبقوانين ودساتير مناهضة للدين عقيدة وشريعة، وليس فقط معصية عينٍ عَصاها الحاكم في واقعة مُعيَّنة! بل هم:" يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون"[التوبة،30]، يضاهئون كفرةَ اليهود والنصارى في عزل الدِّين عن قيادة الدنيا وسياستها بشريعته، ويضاهئونهم في اتِّخاذ شركاء يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله -عز وجل-، بعدما شنقوا آخر ملِك بأمعاء آخر قسيس! لأنهما تعاونا على تعبيد الجماهير لأنفسهما باسم الدين والإله، فكانت العَلمانية التي لا دين لها ولا إله! وكانت المضاهاة بين قسٍّ وعالم، وبين ملِكٍ وحاكم!
ومن خالفهم في مخالفاتهم عوقب بموجب (دِين الملِك) أي قانون الحاكم أو الملك الذي يعاقب على الطاعة، ويكرم على المعصية.. يكرمون على العهر والدعارة والدياثة والفسوق والعصيان، وعلى والتمثيل الخليع والغناء الفاحش، وعلاوات وترقيات لمن تفنن في قتل الإسلاميين وحربهم.. وفي المقابل يهينون ويضيقون على الحشمة والحياء والالتزام، سجون أو إقامة جبرية (حبس في بيته) لعالم أقام درسا يطالب فيه بتحكيم الشريعة أو يتكلم فيه عن فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ينصر إخوانه من وراء الصحاري والبحار، أو يرمونهم بالتخابر ضد الوطن.. وفصلٌ من التدريس لمدرس يفصل بين الذكور والإناث في الفصل (قاعة التدريس)، بتهمة التمييز بين الذكور والإناث، أو احتقار المرأة... فضلا عن عقود وعهود مع يهود.. فضلا عن حصار المسلمين وقطع الماء عنهم والهواء.. ومجاهدة للمجاهدين... كل هذا وهم ولاة أمور تجب طاعتهم وتنفذ أحكامهم! بفتوى القساوسة.. أقصد مضاهئيهم من شيوخ السلطان من بني جلدتنا!
علماء البلاط وشيوخ السلطان
كل ذلك والفتاوى تترى من (علماء) تُحَرِّم وتُجَرِّم الخروج على و(عن) هؤلاء الحكام والملوك، وبإيعاز أو بأمر من ولاة الأمر والملوك بإخراج هذه الفتاوى، وإقرارها وتكرارها في كل واد وناد..
لكن وكما يقال: الفتاوى تتغير أو (تتلون) بتغير الزمان والمكان، أو بتلون المحيط الذي تعيش فيه الحرباء!!
فقد وجب –هذه المرة- الخروجُ أو على الأقل صحَّ الخروج على الحاكم إذْ كان مسلمًا، ولا يوالي يهود، ولا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما أحل.. فجوزوا الخروج عليه، وإعانة من خرج عليه بالمال والرجال إذا كان الخارج عليه طاغوتا ولم يكن داعية مسلما أو شبابا مسلما يبتغي تحكيم شرع الله.. أما لما كان يخرج بعض الإسلاميين على هؤلاء الطواغيت فكان يقوم علماء هؤلاء الطواغيت يضللون الخارجين!!
لقد انقلب السيسي على مرسي.. وخرج على الحاكم، ولي أمر المصريين.. وبدلا من أن نجد الفتاوى التي تحرم الخروج على الحكام، وتصف السيسي بالخارجية على الأقل(وهو أخبث من الخوارج).. بدلا من ذلك نجد عقيدة عدم الخروج على الحكام هذه المرة تطوى ولا تروى.. وتوضع في الأدراج.. وتُستَخْرج لها فتاوى أخرى.. اسمها زورًا : طاعة الحاكم المتغلب!!
أنا لم أستغرب موقف بعض حكام وملوك الخليج، لا أقول الداعم للانقلاب.. بل المدبر للانقلاب والراعي له.. ثم الداعم والمغذي له، والمنفق عليه بلا حساب، والمحامي عنه عند الغرب، والمتطوع بتخويف الغرب من حكم الإخوان.. ( وفوبيا الإخوان).. لم أستغرب موقفهم هذا لأني أعرف حقيقتهم من زمان، وأعرف عنهم أفضع من هذا وأشنع وأبشع.. لكن البوح بالحقيقة في غير حينها المناسب لا يصدقها أحد، وبل وربما إلى الآن لا يصدقها البعض..
لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
) لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لكم(، فلعل الله- سبحانه- أراد أن يرحم أمته فيكشف ستره عن قِطاع كبير وقُطَّاع طُرُقٍ كثيرين من حكام وملوك و(دعاة) و(علماء) و(خطباء) ووزراء وإعلاميين و(إسلاميين!):) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ( [آل عمران: ١٧٩]، فعلينا فِعْلاً أن نؤمن كما جاء في هذه الآية، بأن هذه حكمة الله في قدره وقضائه، وهذه رحمته بالمؤمنين وبِصَفِّهِم.. فتميز الصفوف نصر لها وأمان.
بل لعله كما قال تعالى:")وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ([البقرة: ٢١٦]، و)فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاﮊالنساء: ١٩. وقوله تعالى:)إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ([النور: ١١]، وولله إنه لمن أعظم الإفك أن يوصَف المجاهدون بأنفسهم وأموالهم سليما بأنهم خوارج خائنون، ويوصَف الطغاة الخارجون على شريعة الله بالحرب بأنهم ولاة أمور وطنيون! وإن لكل امرئ منهم ما اكتسب من إثم الإفساد في الدين والدنيا، بالفعل أو بالفتوى.
فليس الأغرب هو تصرف أولياء الأمر و(ألويته) من الحكام والملوك، ولكن الأغرب من ذلك فِعال أولياء الأمور من(العلماء)؛ والفتاوي الجاهزة التي أجهزت على الحق الذي مع المظلومين، وجعلتهم خوارج وأهل فتنة.. ويعنى ذلك جواز قتالهم وقتلهم واستحلال دمائهم.. لأن التوصيف يقتضي الحكم بأنهم كلاب النار.. وأنهم شر قتيل تحت أديم السماء.. وقد سُحبت أحاديث الخوارج وأُسدلت ستائرها على الإخوة والإخوان في مصر!! وكما كان يقال: (اقتله يا أمير المؤمنين.. ودمه في عنقي!)، فقد أعاد التاريخ نفسه.. التاريخ البائس طبعاً!.
إنما العلم الخشية
وطبعاً هم ليسوا علماء وإن حشوا رؤوسهم بكثير من الثقافة والمعلومات، وإن حوى أحدهم في رأسه (شيخ كمبيوتر)، وإن هزَّ أعواد المنابر، وإن هَمْلَج وتلجلج، لأن العالم ليس ذلكم؛ وإنما هو الذي يخشى الله:)إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ( [فاطر: ٢٨]، فالذي لا يخشى الله –خاصة في المسلمين- وفي دمائهم وأعراضهم ليس عالماً، بل متعالم! قيل للشعبي-رحمه الله-: أيها العالم! قال: لست بعالم؛ إنما العالم من يخشى الله. وكان السلف يرددون هذه العبارة مثل سفيان بن عيينة ويحيى بن أبي كثير وغيرهم-رحمهم الله تعالى-، أي أن العلم قرين الخشية، ولذلك قرن النبي-صلى الله عليه وسلم- في وصف نفسه بين العلم والخشية والتقوى: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا»[البخاري برقم: 20]، فعِلم بلا تقوى لا قيمة له، ومن قبلُ قال الله تعالى:)يَرْفَعِ اللَّهُالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ([الحديد: 11]، فبدأ بالإيمان قبل العلم.
تأسف حين تسمع خطيباً في ظل الكعبة المشرفة يردد ما يقوله الملوك.. ويدعم الانقلاب على دولة الإسلام والمسلمين.. ويَجري في هوى الحكام والقيادة الرشيدة والحكومة الحكيمة! ويجعل قيامها مع الطغيان والانقلاب وتقتيل الركع السجود، ودفع الأعطيات للجنود القتلَة... يجعلها قومة مشكورة في قضايا المسلمين ونصرتهم، والبلسم الشافي لجراحاتهم، والآخر يدور في فلك ولي الأمر فيفتي خطباء مملكته بألا تثار قضية مصر في المساجد؛ لأنها تشغل المصلين عن صلاتهم..
ولكن حين ترجع إلى عقلك تتذكر أن جنود الباطل ليسوا العسكر فقط، وإنما هم أيضاً - شعروا أم لم يشعروا-، علماء وإعلاميون وفنانون وسحرة فرعونيون، ورجال أعمال قارونيون، ووزراء هامانيون.. وأحزاب تزعم أنها إسلامية، بل سلفية! ومن هؤلاء الجنود علماء السوء، علماء اللسان الذين يجادلون بالباطل، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-«بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدُهم دينه بِعَرَضٍ من الدنيا»[السلسلة الصحيحة: 758] ، وأخطر من باع دينه بعرض من الدنيا هم علماء السوء، ومَكمن خطرهم أنّ ضررهم عائد على الدين وأهله، لا على أشخاصهم هم فحسبُ.
كان الإمام الهمام والفارس المغوار يخاطب العابد الزاهد-رحمهما الله- يقول له:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
يا عابث الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تعبث
ما بالهم اليوم لا يقولون عن السيسي بأنه خرج على الحاكم.. وأنه جر البلاد إلى الفتنة.. وأنه أجري ويجري دماء المسلمين أنهارا؟! وأنه يعتقل الحرائر في سابقة لم يعمل مثلها الصهاينة عليهم لعائن الله.. كل ذلك ولم يقولوا هذا خروج على الحاكم الشرعي.. ولو قالوها لصدقناهم.. ولكنهم قالوا خلافها فخالفناهم، بل خالفوا أنفسهم فكذبناهم بأنفسهم.
بدلا من ذلك قالوا حاكم متغلب.. وكذَب ملوك الجبر ومفتو الضلال وخطباء الفتنة!
كذب الملوك والأمراء لأنهم غلَّبوه قبل أن يتغلب وسعوا في تغليبه.. فهم على هذا الهوى قبل أن يتغلب وقد غلَّبوه بتآمرهم وأموالهم ومخابراتهم. وإنما أُخرجت الفتوى للتبرير.. بل للتدليس والمكر والخداع.. لكن:)ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين([الأنفال:3] )ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله([فاطر:43]، فقد حاق بهم الأمر وافتضحوا، وفضيحة الآخرة أخزى، وكيف لا يقولون ذلك وهم أصلا متغلبون، وهم إخوة في الغصب والتغلب وأولياء فيه؟!
وأكذب منهم مفتوهم وخطباؤهم وأحبار سوء ورهبانها لأن هذا ليس حاكما متغلباً.. وإنما هو عدو منتصر على المسلمين بقوة السيف والسلاح.. أو على الأقل طائفة باغية خرجت على الأمة بالسلاح.
فهو إن لم يكن مرتدًّا عن الشرع، فهو مرتد عن الديمقراطية التي آمن بها ودعا الناس إليها، ثم انقلب عليها، فذبحها وذبح من فيها ذبح الخِراف!
فأين هذا من المتغلب؟ ومن هو المتغلب أصلا؟!
يتبع في حلقتنا القادمة إن شاء الله... وهي أكثر تركيزا
تعليق