حوار هادئ بين صاحب قرآن وصاحب غناء
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعملنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد
صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن بين يدي الساعة سنين خداعة يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويتكلم الرويبضة قيل وما الرويبضة قال: حثالة الناس يتكلمون في أمر العامة " والواقع شاهد على ما ذكرنا.
وقد شكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنس بن مالك رضى الله عنه ما يلقونه من الحجاج بن يوسف فقال اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري والواقع ـ أيضا ـ شاهد لما ذكرنا!.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها "
فشربوا الخمور وسموها: مشروبات روحية
وتعاطوا الزنا باسم: الحرية الشخصية
والغناء والموسيقى باسم: الغذاء الروحي
والرشوة باسم: الهدية
والكذب والنفاق باسم: الدبلوماسية
والسفور والتبرج والعرى: التقدم والحضارة
وقد تقادم العهد وطال الأمد ودرست معالم السنن وتوالت السنون وتعقبت العصور فإنعكست الأمور وانقلبت الموازين،
فأصبح الحق باطلا والباطل حقا
والمنكر معروفا والمعروف منكرا
والأمر بالمعروف فضولا والنهى عن المنكر تطفلا
والتمسك بدين الله - تعالى -تزمتا والتمرد على شرع الله تحررا
وبغض الكفار و معاداتهم تطرفا و موالاتهم و محبتهم توسطا واعتذارا
والكذب سياسة و النفاق لباقة
والسكوت عن قول الحق حكمة و الصدع بالحق فتنة
و الناصح عدوا والعدو صديقا
و المجرم بطلا و المواطن مبطلا
و المصلح مفسدا و الداعي إلى الفساد مصلحا
و التهور شجاعة و الفوضى حرية
و الزواج قيدا و التعدد جريمة
و الحب فجورا و الفجور تسلية
و الغش ذكاء و الرشوة هدية
و الصلاة عادة و الزكاة غرامة
و الصوم كسلا و نوما و الحج نزهة
و العلم تكسبا واتباع الأئمة تعصبا
و الدعوة إلى الله تحزبا
و تتبع الرخص دينا و الفقه جمودا
و الفن مجونا و الرياضة غاية!!
و هكذا انعكست الأمور و انقلبت الموازين فصارت ظهرا لبطن و رأسا لعقب ولكن:
فجائع الدهر أنواع منوعة *** و للزمان مسرات و أحزان
و للحوادث سلوان يسهلها *** و ما لما حل بالإسلام سلوان
من أجل هذا يذوب القلب من كمد *** إن كان في القلب إسلام وإيمان
فهلا عكست الأمر إن كنت حازما *** و لكن أضعت الحزم لو كنت تفهم
و تزعم مع هذا انك عارف *** كذبت يقينا في الذي تزعم
و ما أنت إلا ظالم ثم جاهل *** و انك بين الجاهلين مقدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه *** فمن ذا الذي من الهدى يتعلم
وفي مثل هذا الحال قد قال من *** مضى و احسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وان كنت تدري فالمصيبة اعظم
الأحاديث الصحيحة في تحريم الغناء
(1) عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليكون من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير والخمر و المعازف " رواه البخاري
تعريف المعازف:
في القاموس المحيط: هي الملاهي كالعود و الطنبور، و العازف اللاعب بها.
و قال ابن القيم - رحمه الله -: و هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك.
و قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: المعازف اسم لكل آلات الملاهي التي يعزف بها كالمزمار و الطنبور و الشبابة و الصنوج.
(2) وفي رواية " يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة " صحح هذه الزيادة الشيخ الألباني .
(3) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة " صححه الألباني .
(4) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله حرم عليّ ـ أو حرم ـ الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام " أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي والطبراني وصححه الألباني
والكوبة هي الطبل ويدخل في معناه كل وتر ومزهر ونحو ذلك من الملاهي والغناء .
(5) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف قيل يا رسول الله ومتى ذلك قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور " أخرجه الترمذي في كتاب الفتن وصححه الألباني .
قوله " وكثرت القيان " القيان جمع قينة وهي المغنية من الإماء وتجمع على قينات أيضا .
نتف من أقوال المخالفين:
قال بعضهم: (ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان: الغناء.. ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة).
وقال بعضهم أيضا: (كل ما روي فيها ـ أي الأغاني ـ باطل موضوع).
وقال ثالث: (إن الرقص على الطريقة الفرنسية فتوّة وأناقة).
وقال آخر: (بالنسبة للغناء إذا لم يكن فيه ما يثير الغريزة الجنسية فإننا لا نجد موجبا لتحريمه.. إلى أن قال: وعلى أي حال فمن المتفق عليه أنه ما دام لا يثير الغريزة الجنسية ولا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة فليس فيه ما يمس الدين) ا. هـ
* قال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: (و إني والله لأتعجب أشد العجب من تتابع هؤلاء الشيوخ الأزهريين على هذا القيد النظري فإنهم مع مخالفتهم للأحاديث الصحيحة ومعارضتهم لمذاهب الأئمة الأربعة وأقوال السلف، يختلقون عللا من عند أنفسهم لم يقل بها أحد من الأئمة المتبوعين ومن أثارها استباحة الغناء والموسيقى عندهم أيضا …إلى أن قال: تالله إنه لفقه لا يصدر إلا من ظاهري جامد بغيض أو صاحب هوى غير رشيد) أ. هـ باختصار.
قلت: لا عجب فإن الطيور على أشكالها تقع.
بعض أقوال السلف في الغناء:
1/ قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين): والله الذي لا اله غيره انه الغناء، وكذا قال عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة وأسانيد هذه الروايات كلها صحيحة.
2/ وقال محمد بن الحنفية - رحمه الله - في قوله - تعالى -(واجتنبوا قول الزور): يعني الغناء.
3/ وقال - تعالى -(أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) يقال سمد لنا يعني غنّى لنا في لغة حمير من أهل اليمن.
4/ قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب.
5/ قال الضحاك - رحمه الله -: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب.
6/ وسأل رجل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الغناء أحلال هو أم حرام فقال ابن عباس أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء قال مع الباطل قال اذهب فقد أفتيت نفسك.
7/ وقال القاضي تقي الدين السبكي - رحمه الله -: الرقص نقص والغناء سفاهة.
8/ وقال ابن كثير - رحمه الله -: حسبي الله ونعم الوكيل استعمال آلات الطرب والاستماع إليها حرام كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ثم استدل بحديث المعازف.
9/ قال ابن القيم - رحمه الله -: والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة وهما الأصلان اللذان ذم الله من يتبعهما ويحكّمهما على الوحي الذي بعث الله به أنبياءه ورسله قال - تعالى -(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) فالظن الشبهة، وما تهوى الأنفس الشهوة، والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا وهذا.
من أقوال الأئمة الأربعة في حكم الغناء:
* لما نسب ابن المطهر الشيعي إلي أهل السنة " إباحة الملاهي والغناء " كذبه شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليه في منهاج السنة (3/439) فقال: " هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه و لو أتلفها متلف لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها "
1- وقال الإمام مالك: لما سئل عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: "إنما يفعله عندنا الفسّاق".
2- وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله -: "تركت شيئا بالعراق يقال له التغبير أحدثته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن".
تعريف التغبير:
شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه.
3- وقال العلامة أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني.
4- وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - ما خلاصته:
"إن هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح لا يبيحه أحد من المسلمين و لا يستحسنه إلا من خلع جلباب الحياء و الدين عن وجهه و جاهر الله و رسوله و دينه و عباده بالقبيح، و سماع مشتمل على مثل هذه الأمور قبحه مستقر في الفطر -أو في فطر الناس- حتى إن الكفار ليعيرون به المسلمين ودينهم"ا. ه
أول من أحدث بدعة الرقص و التواجد:
سئل العلامة أبوبكر الطرطوشي المالكي القرطبي - رحمه الله - عن قوم في مكان يقرؤون شيئا من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر فيرقصون ويطربون و يضربون بالدف و الشبابة هل الحضور معهم حلال أم حرام؟
فأجاب:
مذهب الصوفية هذا بطالة و ضلالة، و ما الإسلام إلا كتاب الله و سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - و أما الرقص و التواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فأتوا يرقصون حوله و يتواجدون وهو -أي الرقص- دين الكفار و عباد العجل و إنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه كأن على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان و نوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد و غيرها و لا يحل لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يحضر و لا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك و أبي حنيفة و أحمد و غيرهم من أئمة المسلمين "أ. هـ
الحكمة من تحريم الغناء وآلات الطرب
(1) الغناء يصد عن القرآن و هو قرآن الشيطان و لا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد قرآن الرحمن و قرآن الشيطان. قال الشافعي - رحمه الله -:
(تركت شيئا بالعراق يقال له التغبير أحدثته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن) قال ابن القيم - رحمه الله -
تعليقا على الإمام الشافعي هذا:
(و ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه- من أنه إحداث الزنادقة فهو كلام إمام خبير بأصول الإسلام فإن السماع لم يرغب فيه و يدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي و الفارابي و ابن سينا و أمثالهم كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في "مسألة السماع" عن ابن الراوندي قال: اختلف العلماء الفقهاء في السماع فأباحه قوم و كرهه قوم فإنا أوجبه أو آمر به، فخالف إجماع العلماء في الأمر به.
و الفارابي كان بارعا في الغناء الذي يسمونه الموسيقى، وله فيه طريقة عند أهل الغناء، و حكايته مع ابن حمدان مشهورة لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج " أ. ه
(2) الغناء ينبت النفاق في القلب قال ابن القيم (الغناء يفسد القلب فإذا القلب هاج في النفاق)
(3) أنه رقية الزنا و الفواحش و التشبيب بالنساء و الواقع شاهد لما ذكرنا.
(4) الغناء يلهي عن ذكر الله - تعالى -و عن طاعته، قال بعضهم:
أتذكر ليلة و قد اجتمعنا *** على طيب السماع إلى الصباح
و دارت بيننا كأس الأغاني *** فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى *** سرورا و السرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه أجاب*** اللهو حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات *** شيئا أرقناها لألحاظ الملاح
قال بعض العارفين: "السماع يورث النفاق في قوم و العناد في قوم و الكذب في قوم و الفجور في قوم و الرعونة في قوم "
فإن قيل فما وجه إنبات الغناء النفاق في القلب؟ فالجواب: قال ابن القيم - رحمه الله -: " إن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق و نباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه:
أنه يلهي القلب و يصده عن فهم القرآن و تدبره والعمل بما فيه فإن القرآن و الغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى و يأمر بالعفة و مجانبة شهوات النفوس و أسباب الغي و ينهى عن اتباع خطوات الشيطان. و الغناء يأمر بضد ذلك كله و يحسنه و يهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها و يزعج قاطنها و يحركها إلى كل قبيح و يسوقها إلى وصل كل مليحة و مليح فهو و الخمر رضيعا لبان و في تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر و رضيعه و نائبه و حليفه و خدينه و صديقه.
عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ، و أحكم شريعة الوفاء التي لا تنسخ و هو جاسوس القلب و سارق المروءة و سوس العقل. يتغلغل في مكامن القلوب و يطلع على سرائر الأفئدة و يدب إلى محل التخييل فيثير ما فيه من الهوى و الشهوة و السخافة و الرقاعة و الرعونة و الحماقة.
فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع إلى الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلّى عنه وقاره وفرح شيطانه وشكا إلى الله - تعالى -إيمانه وثقل عليه قرآنه، وقال يا رب: لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهزّ منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أمّ رأسه بيديه ويثب وثبات الدّباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا *** على طيب السماع إلى الصباح
وقد صح أن الملائكة كانت تتنزل لاستماع قراءة أسيد بن حضير - رضي الله عنه - وإذا كان ذلك كذلك فإن إنشاد الأبيات بدل الآيات يستوجب أن تتنزل الشياطين ولابد وما أعظم الفرق بينهما والله المستعان.
الحوار
1/ قال صاحب غناء (الفنان):
دعنا من بنيات الطريق فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي علمه العام والخاص من إباحة الغناء، فقد جاء في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتين من جواري الأنصار تغنيان بغناء الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين فاضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الفراش وحوّل وجهه ودخل أبو بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه فانتهرني وفي رواية فانتهرهما وقال: أمزمور الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
قال صاحب قرآن:
الجواب عن هذا الحديث من وجوه: -
1- المستقر عند الصحابة في الأصل تحريم الغناء.
2- إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في تسمية الغناء بمزمار الشيطان.
3- قولها (وليستا بمغنيتين) فيه دليل على أن الغناء ليس حرفة لهما.
4- إباحة الغناء هنا مقيدة لا مطلقة (في الزمان والجنس) أي في العيد وكذا العرس بأدلة أخرى والجنس ومرادنا به الصبيات الصغيرات.
5- لم يبح الغناء والضرب على الدف للرجال قط بل النساء الصغيرات دون البلوغ.
6- قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا) دليل على علة الإباحة في ذلك اليوم وهو العيد.
7- المشروع الضرب على الدّف في العيد والعرس فقط.
8- الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإذا عدم العيد لم يبح الغناء بحال إلا في الأعراس بشروط وهذا الحديث من أكبر الحجج على تحريم الغناء.
9- إن الذي كن يقلنه هو إنشاد أشعار العرب في الشجاعة ومكارم الأخلاق ومدحها وذم الجبن ومساوئ الأخلاق ومع هذا أسماه صديق الأمة مزمور الشيطان وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
10- ليس فيه آلات محرمة بل الضرب بالدف فقط.
11- إنما أبيح الغناء يوم العيد والعرس للنساء والصبيان لنقص عقولهم:
فلم أر في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام
وما عجب أن النساء ترجلت *** ولكن تأنيث الرجال عجاب!
2/ قال الفنان:
فإن أثبت أن الغناء مزمار الشيطان، فلم أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعائشة والجاريتين؟
قال صاحب القرآن:
قال ابن القيم - رحمه الله - ما ملخصه: معلوم أن هذا من الشيطان وان كان رخّص فيه لهؤلاء ـ يعني النساء والصبيان ـ وذلك لضعف عقولهم ولئلا يدعوهم الشيطان إلى ما يفسد عليهم دينهم إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطباع من الباطل، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
3/ قال الفنان:
لقد صح أن الرسول - عليه السلام - كان يستمع إلى الشعر من الصحابة - رضي الله عنهم - كحسان بن ثابت وأبيّ بن كعب وغيرهما وكان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل قول بعضهم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة ونحو ذلك؟
قال صاحب القرآن:
1- الحمد لله الذي عافإنا مما ابتلاكم به وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.
2- جهلت فعاديت العلوم وأهلها *** كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا *** ويكره لا أدري أصيب مقاتله.
3- لو فرض أن الشعر جرى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - إنشاء ابتداء لم يكن في ذلك شبهة لكم في حل الغناء والموسيقى وسماع الألحان. عجبا لكم أيها السماعاتية.
4- لقد ثبت في سبب النزول أن الله - تعالى -ذم الشعراء في أواخر سورة الشعراء ثم استثنى منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال - تعالى -(والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا..) فهذا هو شعر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد كان دفاعا عن الإسلام والمسلمين:
إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلول
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
أين هذا من شعر المتأخرين المشتمل على الشرك والكفر والخنا والفحش:
فإنت باب الله إلى أمري ***أتاه من غيرك لا يدخل
عجل بإذهاب الذي اشتكي *** فإن توقفت فمن أسأل
وقال آخر:
تقول وقد قبلتها ألف قبلة كفاك *** أما شئ لديك سوى القبل؟!
وقال بعض الملاحدة:
دع المساجد للعباد يعمرها ***هيا اسقني خمرا بالحوانيت
ما قال ربك ويل للأولى سكروا *** إنما قال ويل للمصلين
5- ثم إن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يشغلوا جل أوقاتهم بهذه الأبيات والإنشاد و إنما كان ذلك عرضا في الجهاد وعند مفاخرة الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك ولم يكن ذلك ديدنهم ليلا ونهارا كما نرى ذلك في هذه الأزمنة المتأخرة والله المستعان.
وان تعجب فعجب قولهم أن هذه هي الموسيقى الإسلامية على وزن الاشتراكية الإسلامية والديمقراطية الإسلامية وغيرها مما يصدق عليها قوله- تبارك وتعالى -(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شئ من ذلك بقوله: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، والله المستعان.
4/ قال صاحب الغناء (الفنان):
يكفينا في هذا الباب ما ثبت عن أبي محمد بن حزم - رحمه الله - من انه تتبع الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الطرب وضعفها كلها ثم قال: " فإذا لم يصح في هذا شئ أصلا فقد قال - تعالى- (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) إلى أن قال: فصح أن كل شئ حرمه - تعالى -علينا قد فصله لنا وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال " ا. هـ
وناهيك من ابن حزم علما وتحقيقا وتدقيقا؟
قال صاحب القرآن:
جوابنا عن هذه الشبهة كما يلي:
1- الواجب علينا عند التنازع رد الحكم إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا إلى فلان ولا إلى علان ونحن إذا رددنا هذه المسألة إلى الله ورسوله وجدنا أن الحق من جمهور أهل العلم خلافا لابن حزم - رحمه الله - للأدلة التي سبق ذكرها.
2- الأحاديث التي استندنا إليها على حرمة الغناء أحاديث صحيحة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ومن علم حجة على من لم يعلم. فعلى سبيل المثال: حديث أبي مالك الأشجعي " ليكونن من أمتي قوم … الخ " فهذا الحديث صححه من الأئمة الحفاظ " البخاري، الإسماعيلي، ابن الصلاح، النووي، ابن تيمية، ابن القيم، ابن كثير، ابن حجر العسقلاني، ابن الوزير الصنعاني، السخاوي، الأمير الصنعاني ".
قال ابن القيم - رحمه الله - " ولم يصب من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحته الملاهي وزعم انه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به وهذا القدح باطل من وجوه ثم ذكرها " ا. ه باختصار
3- أن هذا الذي قاله أبو محمد ابن حزم - رحمه الله - اجتهد منه لكن لم يكن الحق حليفه فله اجر واحد للحديث المشهور " إذا اجتهد الحاكم فاصاب فله أجران وان اجتهد فأخطأ فله أجر " وعليه فلا يجوز تقليده أو متابعته في هذه المسألة ولا يصح الاستدلال بالقاعدة التي قعدها العوام: (من قلد عالما لقي الله سالما).
4- الاحتجاج بقول ابن حزم هنا يعتبر من تتبع رخص الفقهاء وقد قال بعض السلف: "من تتبع الرخص تزندق"
ولهذا قالوا: " زلة العالم زلة العالم " وقد رد على الإمام ابن حزم - رحمه الله - على مر العصور جهابذة من أهل العلم منهم ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم كثير، ولكن كل هذا لغربة الدين وبعد الناس عن الحق،
ولقد صدق في هذه الأمة ما قاله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلّت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقّه لغير الدين. رواه الحاكم والدارمي بسند صحيح.
5/ قال الفنان - صاحب الغناء:
قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع الحداء ـ هو سوق الإبل بإنشاد الأشعار ـ وحدا الحداة بين يديه وكذلك عمر بن الخطاب بعده رخّص في الحداء، والغناء والحداء كل منهما إنشاد بأصوات مطربة؟
قال صاحب القرآن:
قد اتفق الناس على جواز الحداء وثبت أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هنيّاتك ـ أي من كلماتك أو أراجيزك تصغير هنيهة ـ وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما ***اهتدينا ولا تصدقنا ولاصلينا
فإنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا *** إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عوّلوا علينا
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع قال - يرحمه الله - رواه البخاري ومسلم، وحديث أنجشة الحبشي الذي كان يحدو بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير " يعني النساء أمره بالرفق بهن لئلا تزعجهن الإبل في المسير إذا اشتد سيرها والحديث متفق عليه
فمن الذي حرم الحداء؟
لكن: هل يجعل هذا ديدنه؟ وهل يستخدم معه الآلات والموسيقى؟ وهل يتقرب به إلى الله - عز وجل -؟
ثم إن قياس هذا مع قياس الغناء المحرم من جنس قياس النكاح الحلال بقياس الزنى الحرام وقياس نكاح المتعة بنكاح الرغبة وهذا من أفسد القياس وأبطل الباطل.
6/ قال الفنان:
لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن فروى البراء بن عازب قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " حسنه الألباني
وصح عنه انه - عليه السلام - قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن " رواه البخاري وأحمد
قالوا: فإذا ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن والتغني به فمن باب أولى أن يجوز له تحسين الصوت بالشعر ويتغنى به وأي حرج في تحسين الصوت بالشعر؟
قال صاحب القرآن:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
أولا: هذه الأدلة إنما تدل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله لا على فضل الصوت الحسن بالغناء الذي هو مزمور الشيطان ومن قاس هذا بهذا وشبه أحدهما بالآخر فقد شبه الباطل بالحق وقاس قرآن الشيطان على كتاب الرحمن.
ثانيا: من يقول بهذا نلزمه أن يقول بفضيلة القتال في غير سبيل الله - تعالى -قياسا على القتال في سبيل الله بجامع فضيلة الطعن والرمى والضرب!
ثالثا: تحسين الصوت ندب إليه وحمد الصوت الحسن لما فيه من الإعانة على ما يحب الله من سماع القرآن وترقيق القلوب وتزهيدها عن الدنيا ولأنه يقرب إلى الله - تعالى -ومحابه فكيف يجعل هذا نظير الصوت الملعون بالغناء والموسيقى الذي ينبت النفاق قي القلب والذي أخف أنواعه وأقلها شرا ما وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن.
7/ قال الفنان ـ صاحب الغناء ـ:
صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (صوتان ملعونان: صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة) وفي رواية " إني نهيت عن صوتين فاجرين … الحديث الأول صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (428) فالنهي هنا عن صوت الغناء وليس عن الغناء نفسه؟
قال صاحب القرآن:
وهذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء لأنه هنا نهي عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة والصوت الذي يفعل عند النعمة هو صوت الغناء، والمراد بصوت المزمار هنا هو نفس الغناء فإن نفس صوت الإنسان يسمى مزمارا ومزمورا كما قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داؤد " وسمى صوته مزمارا وكما قال الصديق ـرضي الله عنه ـ لغناء الجاريتين " أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولم يكن معهما مزمور غير أصواتهما فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين.. " ثم فسرهما بالغناء والنوح اللذين يثيرهما الطرب والحزن.
8/ قال الفنان:
لقد ثبت أن ابن عمر - رضي الله عنه - سمع صوت زمارة راع فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول نعم فيمضي حتى قلت: لا فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع زمارة راع فصنع مثل هذا " أخرجه أحمد وأبو داود.
قالوا لو كان الغناء حراما ما أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع مولاه سماعه أيضا؟
قال صاحب القرآن:
• غاب عن هؤلاء الفرق بين السماع والاستماع حيث فسروا الأول بالثاني وهو خطأ ظاهر لغة وقرآنا وسنة ولذلك قال ابن تيمية - رحمه الله - عقب حديث الجاريتين: " وليس في حديث الجاريتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى ذلك والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا ما يحصل منها بغير الاختيار.. الخ.
• الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه لأنه ـ أي ابن عمرـ لم يكن يستمع و إنما كان يسمع فقط وهذا لا إثم فيه و إنما النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل طلبا للأكمل والأفضل.
• قال العلامة ابن عبد الهادي - رحمه الله - ما خلاصته:
" وتقرير الراعي لا يدل على اباحته لأنها قضية عين فلعلّه سمعه بلا رؤية أو بعيدا منه على رأس جبل أو مكان لا يمكن الوصول إليه أو لعلّ الراعي لم يكن مكلفا فلم يتعين الإنكار " ا. ه.
• وقال الألباني " كذلك نحن نقول على افتراض دلالة الحديث على الإباحة انه يحتمل أنه كان قبل التحريم ومع الاحتمال يسقط الاستدلال ".
• وأخيرا وعلى افتراض الإباحة فهي خاصة بمزمار الراعي وهو آلة بدائية ساذجة سخيفة من حيث اثارتها للنفوس وتحريك الطباع واخراجها عن حد الاعتدال فأين هي من الآلات الأخرى كالعود والقانون وغيرهما من الآلات التي تنوعت مع مرور الزمن وبخاصة في العصر الحاضر …!
• قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
" إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال فكيف بغناء أهل الزمان وزمورهم "؟!
قلت: فماذا يقال في أهل زماننا وموسيقاهم؟!
والله المستعان وعليه التكلان.
9/ قال الفنان:
روي عن ابن عمر وعبد الله بن جعفر الطيار ابن أبي طالب آثار في اباحة السماع هذا مع تشدد ابن عمر وزهده ودينه وحرصه على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعده من البدع؟ وكذا قالوا روي عن الشافعي - رحمه الله - أنه يبيحه ولا يحرمه؟
قال صاحب القرآن:
1- قال ابن القيم - رحمه الله - " أما ما نقل عن ابن عمر فإنه نقل باطل والمحفوظ عن ابن عمر ذمه للغناء ونهيه عنه كما هو المحفوظ عن اخوانه من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم ممن رضيهم المسلمون قدوة وأئمة وهذه سيرة ابن عمر وأخباره ومناقبه وفتاواه بين الأمة هل تجد فيها انه عمل هذا السماع أو حضره أو رخص فيه فقد نزه الله ابن عمر عنه بل وأصحاب ابن عمر.
2- لو فرض صحة ذلك لكان اجتهاد منه وله اجر واحد والحجة في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
3- أما ما نقل عن عبد الله بن جعفر الطيار فلا ريب أن النقل صحيح وأنه قد نقل عنه ذلك لكن المنقول عنه خلاصته ما يلي:
أ- أنه كانت له جارية في بيته فيستمتع بسماع غنائها.
ب- أن ذلك في بيته ومع جاريته لا مع عشيقته.
ج- أن فعل ابن جعفر ليس ممن يعارض به أركان الأمة كابن مسعود وابن عباس وجابر وابن عمر.
د- أن من احتج بفعل عبد الله بن جعفر هذا فنلزمه أن يحتج بفعل مروان بن الحكم عندما خطب يوم العيد قبل الصلاة وهذا معلوم انه لا يصلح أن يكون دليلا يدخل في الشرع.
ه- لا يجوز لهؤلاء أن يتركوا سبيل مثل أبي ذر وأبي أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح والمشهورين بالنسك والعبادة ويتبعون سبيل من اتخذ جارية تغنيه في بيته للهو واللذة.
4- وأما قولهم أن الشافعي - رحمه الله - لا يرى به بأسا وأنه يبيحه فكذب صريح على الإمام الشافعي فقوله في الغناء للعوام من الناس أنه مكروه ولكن هل الكراهة للتحريم أو التنزيه هذا محل خلاف عند أصحابه. وأما سماع الخاصة الذي أشار إليه الفنان فهذا عند الشافعي أنه من فعل الزنادقة كما تقدم حكاية كلامه.
قال ابن القيم:
" وبالجملة فالكلام في السماع على وجهين:
أحدهما: سماع اللهو واللعب والطرب فهذا يقال فيه مكروه أو محرم أو باطل أو مرخص في بعض أنواعه ـ يعني في العرس والعيد للنساء.
والثاني: السماع المحدث لأهل الدين والقربة ـ يعني الصوفية ـ فهذا يقال فيه أنه بدعة وضلالة وأنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجماع المسلمين جميعهم " أ. ه
والخلاصة كل من نقل عنه أنه يجوزالغناء والموسيقىوآلات الطرب وغيرها فإن هذا لا يخلو من الأمورالآتية:
1- أن يكون النقل كذبا فهذا أراحنا ولله الحمد.
2- أن يكون النقل صحيحا فهذا يكون متأوّلا مجتهدا لا يجوز تقليده فيه.
3- أنه لا حجة مع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الحجة في قوله وفعله.
وكذلك الفرية التي ألصقت بالإمام مالك - رحمه الله - في إباحة الغناء، كذب صريح وهو أشد العلماء نهيا عنه وقوله عنه لم يختلف فيه.
4- قال ابن القيم - رحمه الله -:
" وهاهنا أصل يجب اعتماده وهو أن الله - سبحانه - عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ولم يعصم آحادها من الخطأ لا صدّيقا ولا غيره لكن إذا وقع في بعضها خطأ فلا بد أن يقيم الله فيها من يكون على الصواب لأن هذه الأمة شهداء الله في الأرض وهم شهداء على الناس يوم القيامة.. الخ "
10/ قال الفنان:
لقد حرمتم علينا الغناء بجميع أنواعه وصوره وأتيتم بخيل الأدلة ورجلها وأوردتم ما لذ لكم وطاب من حجج الكتاب. لكن من المعلوم في الدين يقينا أن الله – تعالى- لا يحرم شيئا إلا وقد فتح للعباد من الحلال ما يكون به سلوان القلوب وشفاء ما في الصدور: فمن حرم الزنى وأباح النكاح وحرم الربا.. الخ وقد قال - تعالى -(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ولكن قولوا انظرنا.. )
فقد رضينا بما قلتم أيها الحاملون للقرآن الكريم لكننا لم نر أي أثر لهذه القاعدة المتفق عليها فما قولكم؟!
قال صاحب القرآن:
1- قال الله - تعالى -(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) 8 المائدة.
2- هذا الذي سألت عنه يمكن أن يعنون له تحت عنوان " الغناء بدون آلة " فنقول: لا يصح إطلاق القول بتحريم الغناء ـ الشعر ـ بدون آلة لأنه لا دليل على هذا الإطلاق كما لا يصح إطلاق القول بإباحته كما يفعل بعض أهل الأهواء اليوم. وذلك لأن الغناء يكون بالشعر وليس الشعر بالمحرّم إطلاقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن من الشعر لحكمة " رواه البخاري، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر أحيانا كمثل شعر عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ولما سئل - عليه السلام - عن الشعر قال: " هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح " وكذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: " خذ بالحسن ودع القبيح ".
3- وصح أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى قال:
كل امرئ مصبّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وبلال - رضي الله عنه - إذا اشتدت به الحمى يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي اذخر وجليل
وهل أردنّ يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم أخز عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة.
وقد كان بعض الصحابة يتغنون النّصب: قال في القاموس: نصب العرب ضرب من مغانيها أرقّ من الحداء.
4- قال الشيخ العلامة الألباني - رحمه الله -:
" فأقول وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات كالتذكير بالموت أو الشوق إلى الأهل والوطن أو للترويح عن النفس والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه ونحو ذلك مما يتخذ مهنة ولا يخرج به عن حد الاعتدال فلا يقترن به التثني والضرب بالرجل مما يخل بالمروءة " ا. ه
وقال الشاطبي - رحمه الله - في الكلام على حديث أنجشة السابق:
" وهذا حسن لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا ومن غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى فلم يكن فيه الذاذ ولا إطراب يلهي و إنما كان لهم شئ من النشاط كما كان عبد الله بن رواحة يحدو بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا
فيجيبهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " ا. ه
ومن ذلك أيضا: الأشعار التي ينشدها المتزهدون بتطريب وتلحين يذكر الآخرة وقد روى ابن الجوزي بسنده عن أبي حامد الخلقاني أنّه قال: قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شئ تقول فيها؟ فقال مثل أي شئ؟ قلت: يقولون
إذا ما قال لي ربي *** أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي *** وبالعصيان تأتيني
فقال أعد عليّ فأعدت عليه فقام ودخل بيته ورد الباب فسمعت نحيبه من داخل البيت وهو يقول: فذكر البيتين " ا. هـ
هذا ما يسّر الله لي جمعه وإعداده
والله - تعالى - أعلم
ومرجع العلم إليه أسلم وأحكم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعملنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد
صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن بين يدي الساعة سنين خداعة يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويتكلم الرويبضة قيل وما الرويبضة قال: حثالة الناس يتكلمون في أمر العامة " والواقع شاهد على ما ذكرنا.
وقد شكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنس بن مالك رضى الله عنه ما يلقونه من الحجاج بن يوسف فقال اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري والواقع ـ أيضا ـ شاهد لما ذكرنا!.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها "
فشربوا الخمور وسموها: مشروبات روحية
وتعاطوا الزنا باسم: الحرية الشخصية
والغناء والموسيقى باسم: الغذاء الروحي
والرشوة باسم: الهدية
والكذب والنفاق باسم: الدبلوماسية
والسفور والتبرج والعرى: التقدم والحضارة
وقد تقادم العهد وطال الأمد ودرست معالم السنن وتوالت السنون وتعقبت العصور فإنعكست الأمور وانقلبت الموازين،
فأصبح الحق باطلا والباطل حقا
والمنكر معروفا والمعروف منكرا
والأمر بالمعروف فضولا والنهى عن المنكر تطفلا
والتمسك بدين الله - تعالى -تزمتا والتمرد على شرع الله تحررا
وبغض الكفار و معاداتهم تطرفا و موالاتهم و محبتهم توسطا واعتذارا
والكذب سياسة و النفاق لباقة
والسكوت عن قول الحق حكمة و الصدع بالحق فتنة
و الناصح عدوا والعدو صديقا
و المجرم بطلا و المواطن مبطلا
و المصلح مفسدا و الداعي إلى الفساد مصلحا
و التهور شجاعة و الفوضى حرية
و الزواج قيدا و التعدد جريمة
و الحب فجورا و الفجور تسلية
و الغش ذكاء و الرشوة هدية
و الصلاة عادة و الزكاة غرامة
و الصوم كسلا و نوما و الحج نزهة
و العلم تكسبا واتباع الأئمة تعصبا
و الدعوة إلى الله تحزبا
و تتبع الرخص دينا و الفقه جمودا
و الفن مجونا و الرياضة غاية!!
و هكذا انعكست الأمور و انقلبت الموازين فصارت ظهرا لبطن و رأسا لعقب ولكن:
فجائع الدهر أنواع منوعة *** و للزمان مسرات و أحزان
و للحوادث سلوان يسهلها *** و ما لما حل بالإسلام سلوان
من أجل هذا يذوب القلب من كمد *** إن كان في القلب إسلام وإيمان
فهلا عكست الأمر إن كنت حازما *** و لكن أضعت الحزم لو كنت تفهم
و تزعم مع هذا انك عارف *** كذبت يقينا في الذي تزعم
و ما أنت إلا ظالم ثم جاهل *** و انك بين الجاهلين مقدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه *** فمن ذا الذي من الهدى يتعلم
وفي مثل هذا الحال قد قال من *** مضى و احسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وان كنت تدري فالمصيبة اعظم
الأحاديث الصحيحة في تحريم الغناء
(1) عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليكون من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير والخمر و المعازف " رواه البخاري
تعريف المعازف:
في القاموس المحيط: هي الملاهي كالعود و الطنبور، و العازف اللاعب بها.
و قال ابن القيم - رحمه الله -: و هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك.
و قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: المعازف اسم لكل آلات الملاهي التي يعزف بها كالمزمار و الطنبور و الشبابة و الصنوج.
(2) وفي رواية " يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة " صحح هذه الزيادة الشيخ الألباني .
(3) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة " صححه الألباني .
(4) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله حرم عليّ ـ أو حرم ـ الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام " أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي والطبراني وصححه الألباني
والكوبة هي الطبل ويدخل في معناه كل وتر ومزهر ونحو ذلك من الملاهي والغناء .
(5) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف قيل يا رسول الله ومتى ذلك قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور " أخرجه الترمذي في كتاب الفتن وصححه الألباني .
قوله " وكثرت القيان " القيان جمع قينة وهي المغنية من الإماء وتجمع على قينات أيضا .
نتف من أقوال المخالفين:
قال بعضهم: (ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان: الغناء.. ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة).
وقال بعضهم أيضا: (كل ما روي فيها ـ أي الأغاني ـ باطل موضوع).
وقال ثالث: (إن الرقص على الطريقة الفرنسية فتوّة وأناقة).
وقال آخر: (بالنسبة للغناء إذا لم يكن فيه ما يثير الغريزة الجنسية فإننا لا نجد موجبا لتحريمه.. إلى أن قال: وعلى أي حال فمن المتفق عليه أنه ما دام لا يثير الغريزة الجنسية ولا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة فليس فيه ما يمس الدين) ا. هـ
* قال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: (و إني والله لأتعجب أشد العجب من تتابع هؤلاء الشيوخ الأزهريين على هذا القيد النظري فإنهم مع مخالفتهم للأحاديث الصحيحة ومعارضتهم لمذاهب الأئمة الأربعة وأقوال السلف، يختلقون عللا من عند أنفسهم لم يقل بها أحد من الأئمة المتبوعين ومن أثارها استباحة الغناء والموسيقى عندهم أيضا …إلى أن قال: تالله إنه لفقه لا يصدر إلا من ظاهري جامد بغيض أو صاحب هوى غير رشيد) أ. هـ باختصار.
قلت: لا عجب فإن الطيور على أشكالها تقع.
بعض أقوال السلف في الغناء:
1/ قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين): والله الذي لا اله غيره انه الغناء، وكذا قال عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة وأسانيد هذه الروايات كلها صحيحة.
2/ وقال محمد بن الحنفية - رحمه الله - في قوله - تعالى -(واجتنبوا قول الزور): يعني الغناء.
3/ وقال - تعالى -(أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) يقال سمد لنا يعني غنّى لنا في لغة حمير من أهل اليمن.
4/ قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب.
5/ قال الضحاك - رحمه الله -: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب.
6/ وسأل رجل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الغناء أحلال هو أم حرام فقال ابن عباس أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء قال مع الباطل قال اذهب فقد أفتيت نفسك.
7/ وقال القاضي تقي الدين السبكي - رحمه الله -: الرقص نقص والغناء سفاهة.
8/ وقال ابن كثير - رحمه الله -: حسبي الله ونعم الوكيل استعمال آلات الطرب والاستماع إليها حرام كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ثم استدل بحديث المعازف.
9/ قال ابن القيم - رحمه الله -: والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة وهما الأصلان اللذان ذم الله من يتبعهما ويحكّمهما على الوحي الذي بعث الله به أنبياءه ورسله قال - تعالى -(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) فالظن الشبهة، وما تهوى الأنفس الشهوة، والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا وهذا.
من أقوال الأئمة الأربعة في حكم الغناء:
* لما نسب ابن المطهر الشيعي إلي أهل السنة " إباحة الملاهي والغناء " كذبه شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليه في منهاج السنة (3/439) فقال: " هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه و لو أتلفها متلف لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها "
1- وقال الإمام مالك: لما سئل عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: "إنما يفعله عندنا الفسّاق".
2- وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله -: "تركت شيئا بالعراق يقال له التغبير أحدثته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن".
تعريف التغبير:
شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه.
3- وقال العلامة أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني.
4- وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - ما خلاصته:
"إن هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح لا يبيحه أحد من المسلمين و لا يستحسنه إلا من خلع جلباب الحياء و الدين عن وجهه و جاهر الله و رسوله و دينه و عباده بالقبيح، و سماع مشتمل على مثل هذه الأمور قبحه مستقر في الفطر -أو في فطر الناس- حتى إن الكفار ليعيرون به المسلمين ودينهم"ا. ه
أول من أحدث بدعة الرقص و التواجد:
سئل العلامة أبوبكر الطرطوشي المالكي القرطبي - رحمه الله - عن قوم في مكان يقرؤون شيئا من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر فيرقصون ويطربون و يضربون بالدف و الشبابة هل الحضور معهم حلال أم حرام؟
فأجاب:
مذهب الصوفية هذا بطالة و ضلالة، و ما الإسلام إلا كتاب الله و سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - و أما الرقص و التواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فأتوا يرقصون حوله و يتواجدون وهو -أي الرقص- دين الكفار و عباد العجل و إنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه كأن على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان و نوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد و غيرها و لا يحل لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يحضر و لا يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك و أبي حنيفة و أحمد و غيرهم من أئمة المسلمين "أ. هـ
الحكمة من تحريم الغناء وآلات الطرب
(1) الغناء يصد عن القرآن و هو قرآن الشيطان و لا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد قرآن الرحمن و قرآن الشيطان. قال الشافعي - رحمه الله -:
(تركت شيئا بالعراق يقال له التغبير أحدثته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن) قال ابن القيم - رحمه الله -
تعليقا على الإمام الشافعي هذا:
(و ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه- من أنه إحداث الزنادقة فهو كلام إمام خبير بأصول الإسلام فإن السماع لم يرغب فيه و يدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي و الفارابي و ابن سينا و أمثالهم كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في "مسألة السماع" عن ابن الراوندي قال: اختلف العلماء الفقهاء في السماع فأباحه قوم و كرهه قوم فإنا أوجبه أو آمر به، فخالف إجماع العلماء في الأمر به.
و الفارابي كان بارعا في الغناء الذي يسمونه الموسيقى، وله فيه طريقة عند أهل الغناء، و حكايته مع ابن حمدان مشهورة لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج " أ. ه
(2) الغناء ينبت النفاق في القلب قال ابن القيم (الغناء يفسد القلب فإذا القلب هاج في النفاق)
(3) أنه رقية الزنا و الفواحش و التشبيب بالنساء و الواقع شاهد لما ذكرنا.
(4) الغناء يلهي عن ذكر الله - تعالى -و عن طاعته، قال بعضهم:
أتذكر ليلة و قد اجتمعنا *** على طيب السماع إلى الصباح
و دارت بيننا كأس الأغاني *** فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى *** سرورا و السرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه أجاب*** اللهو حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات *** شيئا أرقناها لألحاظ الملاح
قال بعض العارفين: "السماع يورث النفاق في قوم و العناد في قوم و الكذب في قوم و الفجور في قوم و الرعونة في قوم "
فإن قيل فما وجه إنبات الغناء النفاق في القلب؟ فالجواب: قال ابن القيم - رحمه الله -: " إن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق و نباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه:
أنه يلهي القلب و يصده عن فهم القرآن و تدبره والعمل بما فيه فإن القرآن و الغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى و يأمر بالعفة و مجانبة شهوات النفوس و أسباب الغي و ينهى عن اتباع خطوات الشيطان. و الغناء يأمر بضد ذلك كله و يحسنه و يهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها و يزعج قاطنها و يحركها إلى كل قبيح و يسوقها إلى وصل كل مليحة و مليح فهو و الخمر رضيعا لبان و في تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر و رضيعه و نائبه و حليفه و خدينه و صديقه.
عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ، و أحكم شريعة الوفاء التي لا تنسخ و هو جاسوس القلب و سارق المروءة و سوس العقل. يتغلغل في مكامن القلوب و يطلع على سرائر الأفئدة و يدب إلى محل التخييل فيثير ما فيه من الهوى و الشهوة و السخافة و الرقاعة و الرعونة و الحماقة.
فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع إلى الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلّى عنه وقاره وفرح شيطانه وشكا إلى الله - تعالى -إيمانه وثقل عليه قرآنه، وقال يا رب: لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهزّ منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أمّ رأسه بيديه ويثب وثبات الدّباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا *** على طيب السماع إلى الصباح
وقد صح أن الملائكة كانت تتنزل لاستماع قراءة أسيد بن حضير - رضي الله عنه - وإذا كان ذلك كذلك فإن إنشاد الأبيات بدل الآيات يستوجب أن تتنزل الشياطين ولابد وما أعظم الفرق بينهما والله المستعان.
الحوار
1/ قال صاحب غناء (الفنان):
دعنا من بنيات الطريق فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي علمه العام والخاص من إباحة الغناء، فقد جاء في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتين من جواري الأنصار تغنيان بغناء الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين فاضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الفراش وحوّل وجهه ودخل أبو بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه فانتهرني وفي رواية فانتهرهما وقال: أمزمور الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
قال صاحب قرآن:
الجواب عن هذا الحديث من وجوه: -
1- المستقر عند الصحابة في الأصل تحريم الغناء.
2- إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في تسمية الغناء بمزمار الشيطان.
3- قولها (وليستا بمغنيتين) فيه دليل على أن الغناء ليس حرفة لهما.
4- إباحة الغناء هنا مقيدة لا مطلقة (في الزمان والجنس) أي في العيد وكذا العرس بأدلة أخرى والجنس ومرادنا به الصبيات الصغيرات.
5- لم يبح الغناء والضرب على الدف للرجال قط بل النساء الصغيرات دون البلوغ.
6- قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا) دليل على علة الإباحة في ذلك اليوم وهو العيد.
7- المشروع الضرب على الدّف في العيد والعرس فقط.
8- الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإذا عدم العيد لم يبح الغناء بحال إلا في الأعراس بشروط وهذا الحديث من أكبر الحجج على تحريم الغناء.
9- إن الذي كن يقلنه هو إنشاد أشعار العرب في الشجاعة ومكارم الأخلاق ومدحها وذم الجبن ومساوئ الأخلاق ومع هذا أسماه صديق الأمة مزمور الشيطان وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
10- ليس فيه آلات محرمة بل الضرب بالدف فقط.
11- إنما أبيح الغناء يوم العيد والعرس للنساء والصبيان لنقص عقولهم:
فلم أر في عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام
وما عجب أن النساء ترجلت *** ولكن تأنيث الرجال عجاب!
2/ قال الفنان:
فإن أثبت أن الغناء مزمار الشيطان، فلم أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعائشة والجاريتين؟
قال صاحب القرآن:
قال ابن القيم - رحمه الله - ما ملخصه: معلوم أن هذا من الشيطان وان كان رخّص فيه لهؤلاء ـ يعني النساء والصبيان ـ وذلك لضعف عقولهم ولئلا يدعوهم الشيطان إلى ما يفسد عليهم دينهم إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطباع من الباطل، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
3/ قال الفنان:
لقد صح أن الرسول - عليه السلام - كان يستمع إلى الشعر من الصحابة - رضي الله عنهم - كحسان بن ثابت وأبيّ بن كعب وغيرهما وكان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل قول بعضهم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة ونحو ذلك؟
قال صاحب القرآن:
1- الحمد لله الذي عافإنا مما ابتلاكم به وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.
2- جهلت فعاديت العلوم وأهلها *** كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا *** ويكره لا أدري أصيب مقاتله.
3- لو فرض أن الشعر جرى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - إنشاء ابتداء لم يكن في ذلك شبهة لكم في حل الغناء والموسيقى وسماع الألحان. عجبا لكم أيها السماعاتية.
4- لقد ثبت في سبب النزول أن الله - تعالى -ذم الشعراء في أواخر سورة الشعراء ثم استثنى منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال - تعالى -(والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا..) فهذا هو شعر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد كان دفاعا عن الإسلام والمسلمين:
إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلول
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
أين هذا من شعر المتأخرين المشتمل على الشرك والكفر والخنا والفحش:
فإنت باب الله إلى أمري ***أتاه من غيرك لا يدخل
عجل بإذهاب الذي اشتكي *** فإن توقفت فمن أسأل
وقال آخر:
تقول وقد قبلتها ألف قبلة كفاك *** أما شئ لديك سوى القبل؟!
وقال بعض الملاحدة:
دع المساجد للعباد يعمرها ***هيا اسقني خمرا بالحوانيت
ما قال ربك ويل للأولى سكروا *** إنما قال ويل للمصلين
5- ثم إن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يشغلوا جل أوقاتهم بهذه الأبيات والإنشاد و إنما كان ذلك عرضا في الجهاد وعند مفاخرة الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك ولم يكن ذلك ديدنهم ليلا ونهارا كما نرى ذلك في هذه الأزمنة المتأخرة والله المستعان.
وان تعجب فعجب قولهم أن هذه هي الموسيقى الإسلامية على وزن الاشتراكية الإسلامية والديمقراطية الإسلامية وغيرها مما يصدق عليها قوله- تبارك وتعالى -(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شئ من ذلك بقوله: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، والله المستعان.
4/ قال صاحب الغناء (الفنان):
يكفينا في هذا الباب ما ثبت عن أبي محمد بن حزم - رحمه الله - من انه تتبع الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الطرب وضعفها كلها ثم قال: " فإذا لم يصح في هذا شئ أصلا فقد قال - تعالى- (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) إلى أن قال: فصح أن كل شئ حرمه - تعالى -علينا قد فصله لنا وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال " ا. هـ
وناهيك من ابن حزم علما وتحقيقا وتدقيقا؟
قال صاحب القرآن:
جوابنا عن هذه الشبهة كما يلي:
1- الواجب علينا عند التنازع رد الحكم إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا إلى فلان ولا إلى علان ونحن إذا رددنا هذه المسألة إلى الله ورسوله وجدنا أن الحق من جمهور أهل العلم خلافا لابن حزم - رحمه الله - للأدلة التي سبق ذكرها.
2- الأحاديث التي استندنا إليها على حرمة الغناء أحاديث صحيحة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ومن علم حجة على من لم يعلم. فعلى سبيل المثال: حديث أبي مالك الأشجعي " ليكونن من أمتي قوم … الخ " فهذا الحديث صححه من الأئمة الحفاظ " البخاري، الإسماعيلي، ابن الصلاح، النووي، ابن تيمية، ابن القيم، ابن كثير، ابن حجر العسقلاني، ابن الوزير الصنعاني، السخاوي، الأمير الصنعاني ".
قال ابن القيم - رحمه الله - " ولم يصب من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحته الملاهي وزعم انه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به وهذا القدح باطل من وجوه ثم ذكرها " ا. ه باختصار
3- أن هذا الذي قاله أبو محمد ابن حزم - رحمه الله - اجتهد منه لكن لم يكن الحق حليفه فله اجر واحد للحديث المشهور " إذا اجتهد الحاكم فاصاب فله أجران وان اجتهد فأخطأ فله أجر " وعليه فلا يجوز تقليده أو متابعته في هذه المسألة ولا يصح الاستدلال بالقاعدة التي قعدها العوام: (من قلد عالما لقي الله سالما).
4- الاحتجاج بقول ابن حزم هنا يعتبر من تتبع رخص الفقهاء وقد قال بعض السلف: "من تتبع الرخص تزندق"
ولهذا قالوا: " زلة العالم زلة العالم " وقد رد على الإمام ابن حزم - رحمه الله - على مر العصور جهابذة من أهل العلم منهم ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم كثير، ولكن كل هذا لغربة الدين وبعد الناس عن الحق،
ولقد صدق في هذه الأمة ما قاله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلّت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقّه لغير الدين. رواه الحاكم والدارمي بسند صحيح.
5/ قال الفنان - صاحب الغناء:
قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع الحداء ـ هو سوق الإبل بإنشاد الأشعار ـ وحدا الحداة بين يديه وكذلك عمر بن الخطاب بعده رخّص في الحداء، والغناء والحداء كل منهما إنشاد بأصوات مطربة؟
قال صاحب القرآن:
قد اتفق الناس على جواز الحداء وثبت أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هنيّاتك ـ أي من كلماتك أو أراجيزك تصغير هنيهة ـ وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما ***اهتدينا ولا تصدقنا ولاصلينا
فإنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا *** إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عوّلوا علينا
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع قال - يرحمه الله - رواه البخاري ومسلم، وحديث أنجشة الحبشي الذي كان يحدو بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير " يعني النساء أمره بالرفق بهن لئلا تزعجهن الإبل في المسير إذا اشتد سيرها والحديث متفق عليه
فمن الذي حرم الحداء؟
لكن: هل يجعل هذا ديدنه؟ وهل يستخدم معه الآلات والموسيقى؟ وهل يتقرب به إلى الله - عز وجل -؟
ثم إن قياس هذا مع قياس الغناء المحرم من جنس قياس النكاح الحلال بقياس الزنى الحرام وقياس نكاح المتعة بنكاح الرغبة وهذا من أفسد القياس وأبطل الباطل.
6/ قال الفنان:
لقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن فروى البراء بن عازب قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " حسنه الألباني
وصح عنه انه - عليه السلام - قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن " رواه البخاري وأحمد
قالوا: فإذا ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن والتغني به فمن باب أولى أن يجوز له تحسين الصوت بالشعر ويتغنى به وأي حرج في تحسين الصوت بالشعر؟
قال صاحب القرآن:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
أولا: هذه الأدلة إنما تدل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله لا على فضل الصوت الحسن بالغناء الذي هو مزمور الشيطان ومن قاس هذا بهذا وشبه أحدهما بالآخر فقد شبه الباطل بالحق وقاس قرآن الشيطان على كتاب الرحمن.
ثانيا: من يقول بهذا نلزمه أن يقول بفضيلة القتال في غير سبيل الله - تعالى -قياسا على القتال في سبيل الله بجامع فضيلة الطعن والرمى والضرب!
ثالثا: تحسين الصوت ندب إليه وحمد الصوت الحسن لما فيه من الإعانة على ما يحب الله من سماع القرآن وترقيق القلوب وتزهيدها عن الدنيا ولأنه يقرب إلى الله - تعالى -ومحابه فكيف يجعل هذا نظير الصوت الملعون بالغناء والموسيقى الذي ينبت النفاق قي القلب والذي أخف أنواعه وأقلها شرا ما وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن.
7/ قال الفنان ـ صاحب الغناء ـ:
صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (صوتان ملعونان: صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة) وفي رواية " إني نهيت عن صوتين فاجرين … الحديث الأول صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (428) فالنهي هنا عن صوت الغناء وليس عن الغناء نفسه؟
قال صاحب القرآن:
وهذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء لأنه هنا نهي عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة والصوت الذي يفعل عند النعمة هو صوت الغناء، والمراد بصوت المزمار هنا هو نفس الغناء فإن نفس صوت الإنسان يسمى مزمارا ومزمورا كما قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داؤد " وسمى صوته مزمارا وكما قال الصديق ـرضي الله عنه ـ لغناء الجاريتين " أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولم يكن معهما مزمور غير أصواتهما فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين.. " ثم فسرهما بالغناء والنوح اللذين يثيرهما الطرب والحزن.
8/ قال الفنان:
لقد ثبت أن ابن عمر - رضي الله عنه - سمع صوت زمارة راع فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول نعم فيمضي حتى قلت: لا فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع زمارة راع فصنع مثل هذا " أخرجه أحمد وأبو داود.
قالوا لو كان الغناء حراما ما أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر سماعه ولا أباح ابن عمر لنافع مولاه سماعه أيضا؟
قال صاحب القرآن:
• غاب عن هؤلاء الفرق بين السماع والاستماع حيث فسروا الأول بالثاني وهو خطأ ظاهر لغة وقرآنا وسنة ولذلك قال ابن تيمية - رحمه الله - عقب حديث الجاريتين: " وليس في حديث الجاريتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى ذلك والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا ما يحصل منها بغير الاختيار.. الخ.
• الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه لأنه ـ أي ابن عمرـ لم يكن يستمع و إنما كان يسمع فقط وهذا لا إثم فيه و إنما النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل طلبا للأكمل والأفضل.
• قال العلامة ابن عبد الهادي - رحمه الله - ما خلاصته:
" وتقرير الراعي لا يدل على اباحته لأنها قضية عين فلعلّه سمعه بلا رؤية أو بعيدا منه على رأس جبل أو مكان لا يمكن الوصول إليه أو لعلّ الراعي لم يكن مكلفا فلم يتعين الإنكار " ا. ه.
• وقال الألباني " كذلك نحن نقول على افتراض دلالة الحديث على الإباحة انه يحتمل أنه كان قبل التحريم ومع الاحتمال يسقط الاستدلال ".
• وأخيرا وعلى افتراض الإباحة فهي خاصة بمزمار الراعي وهو آلة بدائية ساذجة سخيفة من حيث اثارتها للنفوس وتحريك الطباع واخراجها عن حد الاعتدال فأين هي من الآلات الأخرى كالعود والقانون وغيرهما من الآلات التي تنوعت مع مرور الزمن وبخاصة في العصر الحاضر …!
• قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
" إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال فكيف بغناء أهل الزمان وزمورهم "؟!
قلت: فماذا يقال في أهل زماننا وموسيقاهم؟!
والله المستعان وعليه التكلان.
9/ قال الفنان:
روي عن ابن عمر وعبد الله بن جعفر الطيار ابن أبي طالب آثار في اباحة السماع هذا مع تشدد ابن عمر وزهده ودينه وحرصه على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعده من البدع؟ وكذا قالوا روي عن الشافعي - رحمه الله - أنه يبيحه ولا يحرمه؟
قال صاحب القرآن:
1- قال ابن القيم - رحمه الله - " أما ما نقل عن ابن عمر فإنه نقل باطل والمحفوظ عن ابن عمر ذمه للغناء ونهيه عنه كما هو المحفوظ عن اخوانه من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم ممن رضيهم المسلمون قدوة وأئمة وهذه سيرة ابن عمر وأخباره ومناقبه وفتاواه بين الأمة هل تجد فيها انه عمل هذا السماع أو حضره أو رخص فيه فقد نزه الله ابن عمر عنه بل وأصحاب ابن عمر.
2- لو فرض صحة ذلك لكان اجتهاد منه وله اجر واحد والحجة في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
3- أما ما نقل عن عبد الله بن جعفر الطيار فلا ريب أن النقل صحيح وأنه قد نقل عنه ذلك لكن المنقول عنه خلاصته ما يلي:
أ- أنه كانت له جارية في بيته فيستمتع بسماع غنائها.
ب- أن ذلك في بيته ومع جاريته لا مع عشيقته.
ج- أن فعل ابن جعفر ليس ممن يعارض به أركان الأمة كابن مسعود وابن عباس وجابر وابن عمر.
د- أن من احتج بفعل عبد الله بن جعفر هذا فنلزمه أن يحتج بفعل مروان بن الحكم عندما خطب يوم العيد قبل الصلاة وهذا معلوم انه لا يصلح أن يكون دليلا يدخل في الشرع.
ه- لا يجوز لهؤلاء أن يتركوا سبيل مثل أبي ذر وأبي أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح والمشهورين بالنسك والعبادة ويتبعون سبيل من اتخذ جارية تغنيه في بيته للهو واللذة.
4- وأما قولهم أن الشافعي - رحمه الله - لا يرى به بأسا وأنه يبيحه فكذب صريح على الإمام الشافعي فقوله في الغناء للعوام من الناس أنه مكروه ولكن هل الكراهة للتحريم أو التنزيه هذا محل خلاف عند أصحابه. وأما سماع الخاصة الذي أشار إليه الفنان فهذا عند الشافعي أنه من فعل الزنادقة كما تقدم حكاية كلامه.
قال ابن القيم:
" وبالجملة فالكلام في السماع على وجهين:
أحدهما: سماع اللهو واللعب والطرب فهذا يقال فيه مكروه أو محرم أو باطل أو مرخص في بعض أنواعه ـ يعني في العرس والعيد للنساء.
والثاني: السماع المحدث لأهل الدين والقربة ـ يعني الصوفية ـ فهذا يقال فيه أنه بدعة وضلالة وأنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجماع المسلمين جميعهم " أ. ه
والخلاصة كل من نقل عنه أنه يجوزالغناء والموسيقىوآلات الطرب وغيرها فإن هذا لا يخلو من الأمورالآتية:
1- أن يكون النقل كذبا فهذا أراحنا ولله الحمد.
2- أن يكون النقل صحيحا فهذا يكون متأوّلا مجتهدا لا يجوز تقليده فيه.
3- أنه لا حجة مع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الحجة في قوله وفعله.
وكذلك الفرية التي ألصقت بالإمام مالك - رحمه الله - في إباحة الغناء، كذب صريح وهو أشد العلماء نهيا عنه وقوله عنه لم يختلف فيه.
4- قال ابن القيم - رحمه الله -:
" وهاهنا أصل يجب اعتماده وهو أن الله - سبحانه - عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ولم يعصم آحادها من الخطأ لا صدّيقا ولا غيره لكن إذا وقع في بعضها خطأ فلا بد أن يقيم الله فيها من يكون على الصواب لأن هذه الأمة شهداء الله في الأرض وهم شهداء على الناس يوم القيامة.. الخ "
10/ قال الفنان:
لقد حرمتم علينا الغناء بجميع أنواعه وصوره وأتيتم بخيل الأدلة ورجلها وأوردتم ما لذ لكم وطاب من حجج الكتاب. لكن من المعلوم في الدين يقينا أن الله – تعالى- لا يحرم شيئا إلا وقد فتح للعباد من الحلال ما يكون به سلوان القلوب وشفاء ما في الصدور: فمن حرم الزنى وأباح النكاح وحرم الربا.. الخ وقد قال - تعالى -(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ولكن قولوا انظرنا.. )
فقد رضينا بما قلتم أيها الحاملون للقرآن الكريم لكننا لم نر أي أثر لهذه القاعدة المتفق عليها فما قولكم؟!
قال صاحب القرآن:
1- قال الله - تعالى -(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) 8 المائدة.
2- هذا الذي سألت عنه يمكن أن يعنون له تحت عنوان " الغناء بدون آلة " فنقول: لا يصح إطلاق القول بتحريم الغناء ـ الشعر ـ بدون آلة لأنه لا دليل على هذا الإطلاق كما لا يصح إطلاق القول بإباحته كما يفعل بعض أهل الأهواء اليوم. وذلك لأن الغناء يكون بالشعر وليس الشعر بالمحرّم إطلاقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن من الشعر لحكمة " رواه البخاري، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر أحيانا كمثل شعر عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ولما سئل - عليه السلام - عن الشعر قال: " هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح " وكذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: " خذ بالحسن ودع القبيح ".
3- وصح أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى قال:
كل امرئ مصبّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وبلال - رضي الله عنه - إذا اشتدت به الحمى يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي اذخر وجليل
وهل أردنّ يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم أخز عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة.
وقد كان بعض الصحابة يتغنون النّصب: قال في القاموس: نصب العرب ضرب من مغانيها أرقّ من الحداء.
4- قال الشيخ العلامة الألباني - رحمه الله -:
" فأقول وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات كالتذكير بالموت أو الشوق إلى الأهل والوطن أو للترويح عن النفس والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه ونحو ذلك مما يتخذ مهنة ولا يخرج به عن حد الاعتدال فلا يقترن به التثني والضرب بالرجل مما يخل بالمروءة " ا. ه
وقال الشاطبي - رحمه الله - في الكلام على حديث أنجشة السابق:
" وهذا حسن لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا ومن غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى فلم يكن فيه الذاذ ولا إطراب يلهي و إنما كان لهم شئ من النشاط كما كان عبد الله بن رواحة يحدو بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا
فيجيبهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " ا. ه
ومن ذلك أيضا: الأشعار التي ينشدها المتزهدون بتطريب وتلحين يذكر الآخرة وقد روى ابن الجوزي بسنده عن أبي حامد الخلقاني أنّه قال: قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شئ تقول فيها؟ فقال مثل أي شئ؟ قلت: يقولون
إذا ما قال لي ربي *** أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي *** وبالعصيان تأتيني
فقال أعد عليّ فأعدت عليه فقام ودخل بيته ورد الباب فسمعت نحيبه من داخل البيت وهو يقول: فذكر البيتين " ا. هـ
هذا ما يسّر الله لي جمعه وإعداده
والله - تعالى - أعلم
ومرجع العلم إليه أسلم وأحكم
تعليق