السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الله المستعان ... نسأل الله أن يولي من يصلح ونعوذ به من مضلات الفتن في زمن ضاع فيه العلم ووسد الأمر إلى غير أهله ... فحسبنا الله ونعم الوكيل .
أما أمر التوسل فيكفينا التأصيل ثم توضيح مذهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة وهذا خير رد في رأيي:
وخلاصة كلام أهل العلم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أقسام:
(1) أن يتوسل بالإيمان به وإتباعه، فهذا التوسل صحيح، مثل أن يقول: "اللهم آمنت بك وبرسولك فاغفر لي" وهذا لا بأس به، وقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} [آل عمران:193]. ولأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة شرعية لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات فهو قد توسل بوسيلة ثابتة شرعاً. (وهذا جائز في حياته وبعد مماته).
(2) أن يتوسل بدعائه، أي بأن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فهذا جائز في حياته ( لا بعد مماته لأنه بعد مماته متعذر)، وهذا النوع -أي التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم- هو الذي جاء في قصة توسل الأعمى. انظر جامع الترمذي (3578)، وسنن ابن ماجه (1385).
(3) أن يتوسل بجاهه ومنزلته عند الله، فهذا لا يجوز لا في حياته ولا بعد مماته؛ لأنه ليس وسيلة، إذ إنه لا يوصل الإنسان إلى مقصوده؛ لأنه ليس من عمله. [ابن عثيمين، الفتاوى (2/343-348)]. فلم يرو عن الصحابة ولا عن أحد من أئمة الدين أو علماء المسلمين المقتدى بهم ولا نُقل أن أحداً منهم قال: "اللهم إني أسألك بحق نبيك أو أنبيائك أو بجاه أو حرمة فلان أو أتوسل إليك بنبيك" ونحو هذا، ولم يفعلوه في الاستسقاء ولا في غيره، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا عند قبر غيره، ولم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما نقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو والشرك، وينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة أو موضوعة لا تقوم بها حجة، [الكنز الثمين (1/315/316)].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/202) عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم صرحوا عن ذلك، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك، ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن القول بجواز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وانعقاده قول ضعيف شاذ وكذا ما بني عليه من جواز القسم على الله به وما يناسبه من التوسل به كذلك، وما قاله شيخ الإسلام هو الصواب، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية، والله ولي التوفيق. [اللجنة الدائمة (1/225)].
وما نقل (ابن تيمية عن الإمام أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة التمريض فلا نعلم له طريقاً صحيحاً عن الإمام أحمد رحمه الله ولو صح عنه لم يكن به حجة بل الصواب ما قال غيره في ذلك وهم جمهور أهل السنة؛ لأن الأدلة الشرعية في ذلك معهم [اللجنة الدائمة (1/530)].
وكذلك مَنْ نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم، أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك -كالشافعي وأحمد وغيرهما- فقد كذب عليهم ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك، ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، بأن يدعو المسلم ربه عز وجل أن يشفع فيه نبيَّه صلى الله عليه وسلم وهذا هو المشروع) [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (1/255)].
وأما القياس الذي قاسه الشيخ - هداه الله - فقياس مع الفارق وهو باطل من هذا الوجه لأن القياس هو (تسوية فرع بأصل في حكم لعلَّة جامعة بينهما) وهو لم يلتزم بأبسط قواعد التعريف فسوى بين مختلفين وحتى يتضح ذلك نقف قليلا مع التعريف فالفهم نعمة ورزق من الله نسأل الله ان يرزقنا إياه :
فالحكم: ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب، أو تحريم، أو صحة، أو فساد، أو غيرها.
وأما العلة: فهي المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل.
و من شروطه :
:1 - أن لا يصادم دليلاً أقوى منه، فلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة إذا قلنا: قول الصحابي حجة، ويسمى القياس المصادم لما ذكر: (فاسد الاعتبار).
مثاله: أن يقال: يصح أن تزوج المرأة الرشيدة نفسها بغير ولي قياساً على صحة بيعها مالها بغير ولي.
فهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النص، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا نكاح إلا بولي" رواه الترمذي (1101) كتاب النكاح ، وأبو داوود (2085) .وابن ماجه (1880)، وأحمد (1/250) . والحاكم (2/185) . وصححه هو وابن حبان (1243- الموارد)،
2 - أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع، فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه، وإنما يقاس على الأصل الأول؛ لأن الرجوع إليه أولى، ولأن قياس الفرع عليه الذي جعل أصلاً قد يكون غير صحيح، ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة.
مثال ذلك: أن يقال: يجري الربا في الذرة قياساً على الرز، ويجري في الرز قياساً على البر، فالقياس هكذا غير صحيح، ولكن يقال: يجري الربا في الذرة قياساً على البر؛ ليقاس على أصل ثابت بنص.
3 - أن يكون لحكم الأصل علة معلومة؛ ليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها، فإن كان حكم الأصل تعبديًّا محضاً لم يصح القياس عليه.
مثال ذلك: أن يقال: لحم النعامة ينقض الوضوء قياساً على لحم البعير لمشابهتها له، فيقال: هذا القياس غير صحيح لأن حكم الأصل ليس له علة معلومة، وإنما هو تعبدي محض على المشهور.
4 - أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع اعتباره؛ كالإسكار في الخمر.
فإن كان المعنى وصفاً طرديًّا لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به؛ كالسواد والبياض مثلاً.
مثال ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت قال: وكان زوجها عبداً أسود" رواه البخاري (5282) كتاب الطلاق ،
فقوله: (أسود)؛ وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم، ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت لها إذا عتقت تحت حر، وإن كان أسود.
5 - أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل؛ كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف، فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس.
مثال ذلك: أن يقال العلة في تحريم الربا في البر كونه مكيلاً، ثم يقال: يجري الربا في التفاح قياساً على البر، فهذا القياس غير صحيح، لأن العلة غير موجودة في الفرع، إذ التفاح غير مكيل.
ولنرجع الآن إلى موضوعنا الذي نؤصل له بفضل الله:
* أما التوسل بالأعمال الصالحة فقد اتّفقت المذاهب على استحباب الصّدقة قبل الاستسقاء ، ولكنّهم اختلفوا في أمر الإمام بها ، قال الشّافعيّة ، والحنابلة ، والحنفيّة ، وهو المعتمد عند المالكيّة : يأمرهم الإمام بالصّدقة في حدود طاقتهم ، وقال بعض المالكيّة : لا يأمرهم بها ، بل يترك هذا للنّاس بدون أمرٍ ؛ لأنّه أرجى للإجابة ، حيث تكون صدقتهم بدافعٍ من أنفسهم ، لا بأمرٍ من الإمام .انتهى
ولتراجع " الموسوعة الفقهية " ( 3 / 310 ) .
و جاء " كشاف القناع " ( 1 / 368 ) - من كتب الحنابلة - : ويقدِّم بين يدي دعائه صدقة .انتهى .
وهذا ثابت بالكتاب والسنة ولا خلاف عليه.
* أما التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا امر يحتاج غلى دليل من الكتاب او السنة او القياس الصحيح
فالتوسل إلى الله بذوات المخلوقات، كالملائكة، والنبيين، والصالحين، أو بالأمكنة كالكعبة والمشعر الحرام، أو بالأزمنة الفاضلة كشهر رمضان، وليلة القدر، وأشهر الحج.
فهذا النوع من التوسل محرم لأنه من اللغو الباطل المخالف للمنقول والمعقول.
يقول صاحب كتاب حقيقة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم شبهات وردود ... الأستاذ الدكتور: عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار - أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة وأصول الدين جامعة القصيم:
وهذا النوع من التوسل له ثلاثة أوجه:
الأول: أن يتوسل إلى الله تعالى بذات وشخص المتوسل به، كأن يقول:(اللهم إني أتوسل إليك بفلان ـ يعني بذلك ذاته وشخصه ـ.
الثاني: أن يتوسل إلى الله تعالى بجاه فلان أو حقه أو حرمته أو بركته، كأن يقول المتوسل:(اللهم إني أتوسل إليك بجاه فلان عندك، أو حقه عليك، أو بحرمته أو بركته أن تقضي لي حاجتي).
الثالث: أن يتوسل المتوسل على الله بالمتوسل به: كأن يقول:(اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي لي حاجتي).
فهذه ثلاثة أوجه في التوسل بالمخلوق قد أجازها المستحلون للتوسل، والحقيقة أن كل هذه الأنواع باطلة فاسدة مخالفة لأصول الشريعة. انتهى
ويكفينا أن نفهم اهم الأحاديث التي يستدل بها أهل القائلين بالجواز وفيها ما يهدم مذهبهم فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:(اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُسْقَوْنَ)
جاء في كتاب التوسل حقائق وشبهات لأبي حميد عبد الله بن حميد الفلاسي :
قال: (وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر - رضي الله عنه -: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا) أي: كنا إذ قل المطر مثلاً نذهب إلى - صلى الله عليه وسلم -، ونطلب منه ان يدعو لنا الله جل شأنه.
ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر - رضي الله عنه -: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.
تُرى لماذا عدل عمر - رضي الله عنه - عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه -، مع العلم ان العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقامه؟
أما الجواب فهو: لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه: { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ]المؤمنون:100[.)
وهذا يكفينا الآن ...
وأما الخلاصة فنقول:
أما قياس النبي على الأعمال الصالحة في جواز التوسل فباطل لأن الأعمال الصالحة منصوص عليها في الكتاب والسنة وهي الوسيلة وهي عبارة عن أفعال أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فذات ولا يجوز لا شرعا ولا عقلا أن نقول فعلك هو ذاته فانتبهوا يا أولو الأبصار والبصيرة ،
ولذا عدل الصحابة عن التوسل بدعاء النبي بعد موته إلى غيره من الصالحين الأحياء وذلك لاختلاف الفعل (الأعمال الصالحة) والذات (النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ولمصادمة الفرع (التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -) مع الأصل (التوسل بالأعمال الصالحة) لترك الصحابة فعله وكذا لأن العلة التي تقبل لأجلها الأعمال الصالحة (وهي التقرب من الله ولأنها من فعل العباد) غير مشتركة مع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فكم من قريب للنبي لم ينفعه قربه وكم من منافق كذلك فلا يتحقق الانتفاع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه ظاهرا وباطنا فالاتباع متناسب في علته مع الأعمال الصالحة لأنهما من جنس واحد فهي تقرب إلى الله وكذا هي من فعل العبد فهي مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع اعتباره.
والله أعلم
جمعه ورتبه (أبو أنس)
السلام عليكم شيخنا أبو أنس حادي الطريق
هناك سؤال ـ ولا أعلم هل المكان مناسب للسؤال أم لا ـ أود طرحه لما يمثله شبهة باطلة قذفها أحد المخالفين للمنهج وقام بقياس فاسد بين مسألتين والعجيب أن هذا الرجل صاحب عمة . والقصة تبدأ من برنامج مجالس الطيبيبن حيث يذاع حلقة مسجلة لمفتي الديار المصرية كل يوم جمعة بعد صلاة الظهر وقد اعتاد من خلال هذا البرنامج وغيره أن يطعن في الدعوة السلفية والمنهج السلفي . فبينما أمر بالمنزل إذ أسمع بقياس عجيب يطلقه أكبر عمة بعد شيخ الأزهر وهو مفتي الديار المصرية على شاشة التليقزيون المصري على القناة الأولى الرسمية التي يشاهدها جمع كبير من المصريين وهو أنه يقول ما نصه لقد اجتمع العلماء على أنه يجوز التوسل والقسم بصالح الأعمال فما بالكم بالنبي ؟!! يريد من ذلك أن يقول إذا كان يجوز القسم بالأعمال الصالحة إن الحلف بالنبي يجوز أيضاً . نرجو من الشيخ رد هذه الشبهة الباطلة وتوضيح بطلان هذا القياس والإستدلال بأقوال أهل العلم وجزاكم الله خيراً .
الله المستعان ... نسأل الله أن يولي من يصلح ونعوذ به من مضلات الفتن في زمن ضاع فيه العلم ووسد الأمر إلى غير أهله ... فحسبنا الله ونعم الوكيل .
أما أمر التوسل فيكفينا التأصيل ثم توضيح مذهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة وهذا خير رد في رأيي:
وخلاصة كلام أهل العلم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أقسام:
(1) أن يتوسل بالإيمان به وإتباعه، فهذا التوسل صحيح، مثل أن يقول: "اللهم آمنت بك وبرسولك فاغفر لي" وهذا لا بأس به، وقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} [آل عمران:193]. ولأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة شرعية لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات فهو قد توسل بوسيلة ثابتة شرعاً. (وهذا جائز في حياته وبعد مماته).
(2) أن يتوسل بدعائه، أي بأن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فهذا جائز في حياته ( لا بعد مماته لأنه بعد مماته متعذر)، وهذا النوع -أي التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم- هو الذي جاء في قصة توسل الأعمى. انظر جامع الترمذي (3578)، وسنن ابن ماجه (1385).
(3) أن يتوسل بجاهه ومنزلته عند الله، فهذا لا يجوز لا في حياته ولا بعد مماته؛ لأنه ليس وسيلة، إذ إنه لا يوصل الإنسان إلى مقصوده؛ لأنه ليس من عمله. [ابن عثيمين، الفتاوى (2/343-348)]. فلم يرو عن الصحابة ولا عن أحد من أئمة الدين أو علماء المسلمين المقتدى بهم ولا نُقل أن أحداً منهم قال: "اللهم إني أسألك بحق نبيك أو أنبيائك أو بجاه أو حرمة فلان أو أتوسل إليك بنبيك" ونحو هذا، ولم يفعلوه في الاستسقاء ولا في غيره، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا عند قبر غيره، ولم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما نقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو والشرك، وينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة أو موضوعة لا تقوم بها حجة، [الكنز الثمين (1/315/316)].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/202) عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم صرحوا عن ذلك، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك، ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن القول بجواز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وانعقاده قول ضعيف شاذ وكذا ما بني عليه من جواز القسم على الله به وما يناسبه من التوسل به كذلك، وما قاله شيخ الإسلام هو الصواب، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية، والله ولي التوفيق. [اللجنة الدائمة (1/225)].
وما نقل (ابن تيمية عن الإمام أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة التمريض فلا نعلم له طريقاً صحيحاً عن الإمام أحمد رحمه الله ولو صح عنه لم يكن به حجة بل الصواب ما قال غيره في ذلك وهم جمهور أهل السنة؛ لأن الأدلة الشرعية في ذلك معهم [اللجنة الدائمة (1/530)].
وكذلك مَنْ نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم، أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك -كالشافعي وأحمد وغيرهما- فقد كذب عليهم ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك، ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، بأن يدعو المسلم ربه عز وجل أن يشفع فيه نبيَّه صلى الله عليه وسلم وهذا هو المشروع) [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (1/255)].
وأما القياس الذي قاسه الشيخ - هداه الله - فقياس مع الفارق وهو باطل من هذا الوجه لأن القياس هو (تسوية فرع بأصل في حكم لعلَّة جامعة بينهما) وهو لم يلتزم بأبسط قواعد التعريف فسوى بين مختلفين وحتى يتضح ذلك نقف قليلا مع التعريف فالفهم نعمة ورزق من الله نسأل الله ان يرزقنا إياه :
فالحكم: ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب، أو تحريم، أو صحة، أو فساد، أو غيرها.
وأما العلة: فهي المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل.
و من شروطه :
:1 - أن لا يصادم دليلاً أقوى منه، فلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة إذا قلنا: قول الصحابي حجة، ويسمى القياس المصادم لما ذكر: (فاسد الاعتبار).
مثاله: أن يقال: يصح أن تزوج المرأة الرشيدة نفسها بغير ولي قياساً على صحة بيعها مالها بغير ولي.
فهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النص، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا نكاح إلا بولي" رواه الترمذي (1101) كتاب النكاح ، وأبو داوود (2085) .وابن ماجه (1880)، وأحمد (1/250) . والحاكم (2/185) . وصححه هو وابن حبان (1243- الموارد)،
2 - أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع، فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه، وإنما يقاس على الأصل الأول؛ لأن الرجوع إليه أولى، ولأن قياس الفرع عليه الذي جعل أصلاً قد يكون غير صحيح، ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة.
مثال ذلك: أن يقال: يجري الربا في الذرة قياساً على الرز، ويجري في الرز قياساً على البر، فالقياس هكذا غير صحيح، ولكن يقال: يجري الربا في الذرة قياساً على البر؛ ليقاس على أصل ثابت بنص.
3 - أن يكون لحكم الأصل علة معلومة؛ ليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها، فإن كان حكم الأصل تعبديًّا محضاً لم يصح القياس عليه.
مثال ذلك: أن يقال: لحم النعامة ينقض الوضوء قياساً على لحم البعير لمشابهتها له، فيقال: هذا القياس غير صحيح لأن حكم الأصل ليس له علة معلومة، وإنما هو تعبدي محض على المشهور.
4 - أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع اعتباره؛ كالإسكار في الخمر.
فإن كان المعنى وصفاً طرديًّا لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به؛ كالسواد والبياض مثلاً.
مثال ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت قال: وكان زوجها عبداً أسود" رواه البخاري (5282) كتاب الطلاق ،
فقوله: (أسود)؛ وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم، ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت لها إذا عتقت تحت حر، وإن كان أسود.
5 - أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل؛ كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف، فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس.
مثال ذلك: أن يقال العلة في تحريم الربا في البر كونه مكيلاً، ثم يقال: يجري الربا في التفاح قياساً على البر، فهذا القياس غير صحيح، لأن العلة غير موجودة في الفرع، إذ التفاح غير مكيل.
ولنرجع الآن إلى موضوعنا الذي نؤصل له بفضل الله:
* أما التوسل بالأعمال الصالحة فقد اتّفقت المذاهب على استحباب الصّدقة قبل الاستسقاء ، ولكنّهم اختلفوا في أمر الإمام بها ، قال الشّافعيّة ، والحنابلة ، والحنفيّة ، وهو المعتمد عند المالكيّة : يأمرهم الإمام بالصّدقة في حدود طاقتهم ، وقال بعض المالكيّة : لا يأمرهم بها ، بل يترك هذا للنّاس بدون أمرٍ ؛ لأنّه أرجى للإجابة ، حيث تكون صدقتهم بدافعٍ من أنفسهم ، لا بأمرٍ من الإمام .انتهى
ولتراجع " الموسوعة الفقهية " ( 3 / 310 ) .
و جاء " كشاف القناع " ( 1 / 368 ) - من كتب الحنابلة - : ويقدِّم بين يدي دعائه صدقة .انتهى .
وهذا ثابت بالكتاب والسنة ولا خلاف عليه.
* أما التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا امر يحتاج غلى دليل من الكتاب او السنة او القياس الصحيح
فالتوسل إلى الله بذوات المخلوقات، كالملائكة، والنبيين، والصالحين، أو بالأمكنة كالكعبة والمشعر الحرام، أو بالأزمنة الفاضلة كشهر رمضان، وليلة القدر، وأشهر الحج.
فهذا النوع من التوسل محرم لأنه من اللغو الباطل المخالف للمنقول والمعقول.
يقول صاحب كتاب حقيقة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم شبهات وردود ... الأستاذ الدكتور: عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار - أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة وأصول الدين جامعة القصيم:
وهذا النوع من التوسل له ثلاثة أوجه:
الأول: أن يتوسل إلى الله تعالى بذات وشخص المتوسل به، كأن يقول:(اللهم إني أتوسل إليك بفلان ـ يعني بذلك ذاته وشخصه ـ.
الثاني: أن يتوسل إلى الله تعالى بجاه فلان أو حقه أو حرمته أو بركته، كأن يقول المتوسل:(اللهم إني أتوسل إليك بجاه فلان عندك، أو حقه عليك، أو بحرمته أو بركته أن تقضي لي حاجتي).
الثالث: أن يتوسل المتوسل على الله بالمتوسل به: كأن يقول:(اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي لي حاجتي).
فهذه ثلاثة أوجه في التوسل بالمخلوق قد أجازها المستحلون للتوسل، والحقيقة أن كل هذه الأنواع باطلة فاسدة مخالفة لأصول الشريعة. انتهى
ويكفينا أن نفهم اهم الأحاديث التي يستدل بها أهل القائلين بالجواز وفيها ما يهدم مذهبهم فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:(اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُسْقَوْنَ)
جاء في كتاب التوسل حقائق وشبهات لأبي حميد عبد الله بن حميد الفلاسي :
قال: (وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر - رضي الله عنه -: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا) أي: كنا إذ قل المطر مثلاً نذهب إلى - صلى الله عليه وسلم -، ونطلب منه ان يدعو لنا الله جل شأنه.
ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر - رضي الله عنه -: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.
تُرى لماذا عدل عمر - رضي الله عنه - عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه -، مع العلم ان العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقامه؟
أما الجواب فهو: لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه: { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ]المؤمنون:100[.)
وهذا يكفينا الآن ...
وأما الخلاصة فنقول:
أما قياس النبي على الأعمال الصالحة في جواز التوسل فباطل لأن الأعمال الصالحة منصوص عليها في الكتاب والسنة وهي الوسيلة وهي عبارة عن أفعال أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فذات ولا يجوز لا شرعا ولا عقلا أن نقول فعلك هو ذاته فانتبهوا يا أولو الأبصار والبصيرة ،
ولذا عدل الصحابة عن التوسل بدعاء النبي بعد موته إلى غيره من الصالحين الأحياء وذلك لاختلاف الفعل (الأعمال الصالحة) والذات (النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ولمصادمة الفرع (التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -) مع الأصل (التوسل بالأعمال الصالحة) لترك الصحابة فعله وكذا لأن العلة التي تقبل لأجلها الأعمال الصالحة (وهي التقرب من الله ولأنها من فعل العباد) غير مشتركة مع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فكم من قريب للنبي لم ينفعه قربه وكم من منافق كذلك فلا يتحقق الانتفاع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه ظاهرا وباطنا فالاتباع متناسب في علته مع الأعمال الصالحة لأنهما من جنس واحد فهي تقرب إلى الله وكذا هي من فعل العبد فهي مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع اعتباره.
والله أعلم
جمعه ورتبه (أبو أنس)
تعليق