فارق جوهري بين المؤمن وغيره في نظرهم وقبولهم للحياة، فغير المؤمن يقبل الحياة بأي وجه كانت، لا يجد فارقا بين عز أو ذل، لا يشغل نفسه كثيرا بذلك، فالمهم عنده أن يعيش..
ويعتبر أن أكبر مصائبه أن يُحرم منها فيتمنى أن تطول لأطول وقت ممكن بصرف النظر عن جوهرها، فقال الله عز وجل عنهم كمثال للبعيد عنه سبحانه :{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96].
لكن المؤمن الحق لا يقبل بأي حياة، فلا يرى فيها مطمعًا إن كانت حياة ذليلة أو مهينة، ويرى الموت في عز أفضل ألف مرة من الحياة في ذل، فلا ينشد إلا الحياة العزيزة الكريمة التي سماها الله سبحانه بالحياة الطيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
والفارق الجوهري بين التصورين والفكرتين هو الإيمان الحقيقي القولي منه والعملي بالله سبحانه وخاصة في الركن المتعلق بالإيمان بالقدر خيره وشره، والمعيار الصحيح لتطبيقه هو التمثل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما « لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
إنه الركن السادس من أركان الإيمان الذي جاء به جبريل عليه السلام ليعلمه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الجامع الصحيح، فلا يتم إيمان مؤمن إلا به، وهو واحة النجاة من كروب الدنيا ، وبقدر إيمان الناس بهذا الركن وتفاعلهم معه تتفاوت مراتبهم في الدنيا والآخرة، فمن آمن بهذا الركن وعمل بمفهومه عاش حرا ومات كريما وأصبحت الحياة خيرا له في كل أحوالها وصار الموت رفعة لقدره، ومن اختل هذا الركن في تصوراته وضعف أو انعدم إيمانه بالقدر عاش مهينا ومات ذليلا، فلا غنم خير الدنيا ولا ربح سعادة الآخرة.
والمؤمن بالقدر من أسعد الناس في هذه الحياة وأكثرهم راحة وسرورا وسعة صدر، فما الذي يشغله أو يضيره ؟! يؤمن بأن رزقه لا يتحكم فيه احد إلا خالقه ومولاه، ويؤمن بأن صاحب القرار الوحيد في إنهاء حياته هو الله سبحانه، ويتيقن أن كل من على وجه الأرض مجتمعين لا يملكون أن يتدخلوا في رزقه أو في حياته زيادة أو نقصا , فماذا يضره أو يضيره إذن؟ فهذه وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمته: «..وإن الروح الأمين -وفي رواية: وإن الروح القدس - نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته».
والمؤمن في نعمة عظمى لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدوه عليها بالسيوف، نعمة لا تقدر بثمن، فالمؤمن أغنى الناس بإيمانه بالقدر فلن يستطيع احد أن يذل نفسه أو يستعبد روحه.
والمؤمن بالقدر أقوى الناس فلا يلين ولا يطأطئ رأسه أمام بشر وهو يعلم أن ناصية هذا البشري بيد ربه ومولاه، فإيذاؤه كفارة لذنوبه ونفيه سياحة في ملك الله وحبسه خلوة يذكر فيها خالقه ومولاه وقتله شهادة في سبيل رضاه.. فماذا ينقمون منه؟!
والمؤمن بالقدر لا يخشى قولة الحق بل يصدع بها في وجه كل المخلوقين فلا ترغيب يطربه ولا تهديد يرهبه، يمضي في طريقه لا يلتفت لمخلوق على الأرض، يرى الحاجات فلا تذل نفسه في طلبها بل يتخذ لها أسبابها ولا يطلبها إلا ممن يملكها، فان قضاها ربه حمده وشكره، وإن لم يقدرها حمده واستغفره.
والمؤمن بالقدر مختلف عن الناس، فيرى الأمور بنظرة مغايرة لما ينظرون، مقاييسه للقوة والضعف مغايرة تمامًا لمقاييسهم، يعلم ويوقن بأن كل هؤلاء لا يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن أن ينفعوا أو يضروا غيرهم، يراهم كلهم عبيدا حتى لو تزيوا بأزياء الملوك والسلاطين، ويراهم فقراء لخالقهم -مثله تماما- حتى وإن بدوا في ثياب الأغنياء، يتمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
والمؤمن بالقدر يأوي إلى ركن ركين وقوي متين تتضاءل وتتلاشى في جواره كل القوى، يشعر بعزته في جوار ربه، ويوقن بذله في ابتعاده عن خالقه، فإذا ارتفعت رأسه فخرا بانتسابه إليه فلا يخفضها بعد ذلك لأحد سواه.
والمؤمن بالقدر لا يطيش عقله فرحا بإقبال الدنيا عليه ولا ينخلع قلبه فرقا من إدبارها عنه، لا يصرفه عن ربه حادث من سعة أو ضيق، فكل ما يرضي ربه يرضيه، شعاره عند إقبالها: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] وشعاره عند إدبارها وإعراضها: {لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50] وشعاره عن تحزب الأحزاب وادلهام الخطوب عليه {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
والمؤمن بالقدر حينما يكون على الحق لا تغره كثرة الأتباع والمناصرين والمؤيدين، وأيضًا لا تخذله ولا تفت في عضده قلتهم أو ضعف قوتهم، فوجودهم وعدمهم سواء، فلا كثيرهم يزيد من قوة الله ولا قليلهم يضعف منها، وكل هم المؤمن كيفية تحقيق معية الله سبحانه في نفسه.
والمؤمن بالقدر لا يكف عن السعي واتخاذ الأسباب في كل أعماله، فلا يستكين ويركن بدعوى أن القدر مكتوب قبلا في اللوح المحفوظ، وكل مؤمن مطالب بالعمل للوصول لقدر الله سبحانه، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يعمله الناس أهو أمر قد قضي وفرغ منه أم أمر مستأنف، فقال: «بل أمر قد قضي وفرغ منه»، فقالوا: «ففيم العمل يارسول الله؟» فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».
والمؤمن بالقدر لا يعتاد شكوى ما ألم به للناس، فشكواه لا تكون إلا لمن يُرجى عنده القدرة على كشفها، لمن لا يغلق دونه الأبواب، لمن لا يعطي القليل ويكدي ولا لمن يعطي الكثير ويمنن، فلا يذل المؤمن نفسه في شكواه للبشر بل يترفع عن كل شكوى في غير محلها، فالشكوى للمخلوقين ضعف ومهانة والشكوى لرب البشر نصرة وتمكين، ولهذا يردد دوما قول يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86].
وسواء كان حوله مؤمنون أو فقدهم فشكواه لا يخرجها من صدره إلا لخالقه سبحانه، فها هو خبيب بن عدي الصحابي رضي الله عنه يُرفع على خشبة القتل وحده في أرض ليس بها مؤمن غيره، فلا يذكر في محنته إلا سبحانه، ولا يرفع يده بالشكوى إلا له فيقول:
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي *** وما جمع الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبِّرني على ما أصابني *** فقد بضعوا لحمي وقد خلَّ مطمعي
لست بمبدٍ للعدوِّ تخشُّعاً *** ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أيِّ جنبٍ كان في الله مصرعي
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما دخلوا عليه وهو مريض فسألوه: "ماذا تشتكي؟" فقال: لا أخبر أحداً، ثم ردد قائلاً:تموت النفوس بأوصابها *** ولم يدرِ عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي *** أذاها إلى غير أحبابها
فما أشد حاجتنا وحاجة الأمة كلها في تلك الأيام المقبلة إلى رجال مؤمنين بقدر الله، يعلمون أنه لا توجد قوة مهما تعاظمت بطائراتها ودباباتها وأسلحتها فلن تعدل قوة الله، ويوقنون أن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ويستقر في أعماق أفكارهم أنه ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرًا.
م/ن
تعليق