الترويج لمذهب التدريج في الشريعة
الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم....
قضية أخرى أرى أن المُسلمين، خاصة الشباب منهم، في حاجةٍ ماسّة إلى النظر فيها واعتبار مَصادرها ومَواردها، إذ عمّا قليل، قد يأذن الله بفرج من عنده، ويصبحُ لمسلمٍ يداً في حكم هذه البلاد، وترتفع ألوية الشريعة، فوق ألوية الكفر العلمانيّ، وحينئذٍ يدخل المسلمون في جدلٍ حولها، وتكون سبباً في تفرقهم عنها، والشريعة أصلاً موضوعة لاجتماعهم عليها. وما يُفرّق الناس إلا الجهل وضيق الأفق، فلعلنا نستبق الحدث، ونتقدم بين يدي الناس بما نحسبه حقاً شافياً.
أود أولا أن أُثبت أمراً أو أمرين، أقدّم بهما بين يَدي المقال، أولهما، أنْ "ليس كل من قال حقاً، محقٌ في كلّ ما قال"، وعكسه أن "ليس كل من قال باطلاً، مبطلُ في كلّ ما قال". وهذا تطبيق أصوليّ رأيته يأتي حاشية على قاعدة أن "الرجال يعرفون بالحق"، ويقيّدها. فإنّ بعض من قال حقاً، خرج عنه في أمور أخرى، ومن قال باطلاً أصاب الحق في أمور أخرى، والحكم النهائي يكون لمن غلب حقه على باطله، أو غلب باطله على حقه. وأنما أردت بيان هذا، عدا أنه حقٌ واجب البيان في ذاته، أن أحذر من أن يرفض بعضُ الناسِ مفهوماً لأنه تردد على أفواه من ظهر منه باطلاً، قلّ أو كثر.
ثم الثاني هو أن يلحَظ طلبةُ العلم أنّ الكلمات الدالة على مفاهيم، قد يكون لها أكثر من معنى ومقصد، فتنقل هذه المعاني والمقاصد عن أصل وضعها حسب الإستعمال أو العرف أو الشرع، كما قد تحمل الكلمة أكثر من معنى تشترك فيه، فيجب أن يُحمل معناها على ما يليق به في موضعه. والقصدُ أن إطلاق الأحكام الشرعية على أساس مفهوم مُعينٍ لكلمة درج استعمالها فيه، إنما يؤدى إلى الإنحراف عن الحق ومجانبة الصواب.
و"التدرّج" يقصد به عادة "التوالي في الأخذ بأمر ما"، قصد التيسير، ومنه الدرج، الذي يأخذ الإنسان من طبق إلى طبق تدرجاً دون مشقة. فإذا نظرنا إلى هذا المعنى، وجدنا أنه لا يمكن أن يكون مقصوداً على هذا الوجه فيما يستعمله الناس اليوم، من قولهم "التدرج في تطبيق الشريعة".
فإن أريد بالتدرج هنا عدم سنّ التشريعات التي جاءت بها الشريعة، إلا تدرجاً، لعدم المشقة على الناس، فهذا باطلٌ وظلمات بعضها فوق بعض إذ الشريعة قد إكتملت يوم أنزل تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا} [المائدة: 3]. فحين يتراضى الناس على شرع فإما يتراضون به كله دفعة واحدة غير مجزأة، هذا من ناحية القبول والرضا وكونه كله جزءًا من قوانين البلاد التي يتحاكم اليها الناس؛ هذه واحدة.
ثم الأخرى، إن هؤلاء الذين يروّجون لمفهوم "التدرج"، لا يكادون يفقهون ما يقولون، فإن التدرج في سنّ القوانين وجعلها المَرجع في حياة المُسلمين شيء، ومُراعاة تحقق شروطها وإنتفاء مَوانعها شيء آخر بالتمام، لا علاقة له بمفهوم التدرج، ولا دخل للكيفية التي نزلت بها الأحكام الشرعية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه.
ذلك أن حكم السّرقة مثلاً، يكون مَسنوناً، مَوضوعاً في القوانين التي تحكُم البلاد، تراضى عليه الناس وقبلوه، لكنّ هناك موانع من تطبيقه، مثل أن يشيع الفقر حتى تغلب مظنّة الجوع والفَاقة، حينئذ يُمكن لوليّ الأمر أن يُعَلق الحُكم الشَرعيّ حتى تنتفي مَوانعه، وهو ما جَرت عليه الشَريعة في أبواب الشُروط والمَوانع، التي هي أحكامٌ من الله سُبحانه، مثلها مثل الأحكام التكليفية. وهذا التعليق ذاته له شروطٌ، منها أن يَعمّ به البلاء، وأن يؤدي تطبيقه إلى ضَررٍ حالٍ ظاهرٍ أكبر من تَعليقه، وغير ذلك، وهو ما يقرره عُلماء أهل السنة في موضعه، لا المفتي ولا "شَرخ" الأزهر! وهو ما عمل به عمر الفاروق -رضي الله عنه- في عام المَجاعة. وقل مثل ذلك في أيّ حكم شرعيّ عَمّت البلوى، في سنوات الجاهلية، بتفويته، وظهر ما يمنع من تطبيقه، لا تقنينه، آنياً موانع شرعية معتبرة.
ثم أعود للتنبيه على أن إستخدام كلمة "التدرج" في هذا المقام، يدل على جهل أو مكر؛ وكلاهما مُردٍ بصاحبه.
وكأني أسمع إلى فريقين يجادلا فيما قررنا، أحدهما، ذلك الفريق الذي يريد "الترويج لمذهب التدريج"، من باب مُسايسة اللادينيين ومداهنة القبط، ومغافلة، بل مغازلة، الأمريكان، والفوز بالأصوات في الإنتخابات، على حساب الشريعة، لينشروا - بزعمهم -الشريعة! إلى هؤلاء نقول: والله لقد آمنا بما قال تعالى {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 13]، وما قال تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّـهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}[النساء: 77] والشريعة لا تتبعّض ولا تتجزأ، بعد أن اكتملت، يقبلها من يقبلها كلها، ويرفضها من يرفضها كلها، ولا يكون حكم مسلمٌ دون القبول بها كلها دون مواربة.
والفريق الثاني، هم فيما نحسَب من يرفض مفهوم إعتبار الموانع مطلقاً، لما حَدث عنده من حَساسية ضد ما يراه "تأجيلاً" أو "تسويفاً" للعمل بالأحكام الشرعية. وإلى هؤلاء نقول: على رَسلِكم، فإن الشريعة لا تؤتي إلا من مواردها، ومن أرادها من غير ذلك ضلّ في شواردها. والله سبحانه قد شَرع أحكامه لتحصيل مَقاصد عُليا للعباد في المَعاش والمَعاد. ولمّا عَلم سبحانه أن الأمور في الدنيا لا تجري على مَهيع واحدٍ، ولا على عادةٍ مضطردةٍ، وضع لذلك أحكاماّ وضعية خَمسة، تكتمل بها تكاليفه للعباد، فهي مؤهلاتٌ للتكليف، لا يتم إلا بها، كالسبب والشرط والمانع، ومنها الرُخصة والعَزيمة، والصحة والبطلان. والقصد منها هو ضَمان أن يقع الفِعل الشرعيّ على وفاق قصد المُشرع، ووزان المصلحة المقصودة به إبتداءاً، لا إعتباطاً بإيقاعه دون مراعاة أسبابه وشروطه وموانعه. وهذا الأمر جارٍ في كلّ حكمٍ شرعي بلا تخلف. فمن اعتقد أن الحكم الشرعيّ، الذي يجب إبتداءاً الرضا به والتسليم له، واجب التطبيق في كل حالٍ وآن، فقد أبعد النجعة، وفارَقَ الجماعة.
بقلم الدكتور: طارق عبد الحليم
قضية أخرى أرى أن المُسلمين، خاصة الشباب منهم، في حاجةٍ ماسّة إلى النظر فيها واعتبار مَصادرها ومَواردها، إذ عمّا قليل، قد يأذن الله بفرج من عنده، ويصبحُ لمسلمٍ يداً في حكم هذه البلاد، وترتفع ألوية الشريعة، فوق ألوية الكفر العلمانيّ، وحينئذٍ يدخل المسلمون في جدلٍ حولها، وتكون سبباً في تفرقهم عنها، والشريعة أصلاً موضوعة لاجتماعهم عليها. وما يُفرّق الناس إلا الجهل وضيق الأفق، فلعلنا نستبق الحدث، ونتقدم بين يدي الناس بما نحسبه حقاً شافياً.
أود أولا أن أُثبت أمراً أو أمرين، أقدّم بهما بين يَدي المقال، أولهما، أنْ "ليس كل من قال حقاً، محقٌ في كلّ ما قال"، وعكسه أن "ليس كل من قال باطلاً، مبطلُ في كلّ ما قال". وهذا تطبيق أصوليّ رأيته يأتي حاشية على قاعدة أن "الرجال يعرفون بالحق"، ويقيّدها. فإنّ بعض من قال حقاً، خرج عنه في أمور أخرى، ومن قال باطلاً أصاب الحق في أمور أخرى، والحكم النهائي يكون لمن غلب حقه على باطله، أو غلب باطله على حقه. وأنما أردت بيان هذا، عدا أنه حقٌ واجب البيان في ذاته، أن أحذر من أن يرفض بعضُ الناسِ مفهوماً لأنه تردد على أفواه من ظهر منه باطلاً، قلّ أو كثر.
ثم الثاني هو أن يلحَظ طلبةُ العلم أنّ الكلمات الدالة على مفاهيم، قد يكون لها أكثر من معنى ومقصد، فتنقل هذه المعاني والمقاصد عن أصل وضعها حسب الإستعمال أو العرف أو الشرع، كما قد تحمل الكلمة أكثر من معنى تشترك فيه، فيجب أن يُحمل معناها على ما يليق به في موضعه. والقصدُ أن إطلاق الأحكام الشرعية على أساس مفهوم مُعينٍ لكلمة درج استعمالها فيه، إنما يؤدى إلى الإنحراف عن الحق ومجانبة الصواب.
و"التدرّج" يقصد به عادة "التوالي في الأخذ بأمر ما"، قصد التيسير، ومنه الدرج، الذي يأخذ الإنسان من طبق إلى طبق تدرجاً دون مشقة. فإذا نظرنا إلى هذا المعنى، وجدنا أنه لا يمكن أن يكون مقصوداً على هذا الوجه فيما يستعمله الناس اليوم، من قولهم "التدرج في تطبيق الشريعة".
فإن أريد بالتدرج هنا عدم سنّ التشريعات التي جاءت بها الشريعة، إلا تدرجاً، لعدم المشقة على الناس، فهذا باطلٌ وظلمات بعضها فوق بعض إذ الشريعة قد إكتملت يوم أنزل تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينا} [المائدة: 3]. فحين يتراضى الناس على شرع فإما يتراضون به كله دفعة واحدة غير مجزأة، هذا من ناحية القبول والرضا وكونه كله جزءًا من قوانين البلاد التي يتحاكم اليها الناس؛ هذه واحدة.
ثم الأخرى، إن هؤلاء الذين يروّجون لمفهوم "التدرج"، لا يكادون يفقهون ما يقولون، فإن التدرج في سنّ القوانين وجعلها المَرجع في حياة المُسلمين شيء، ومُراعاة تحقق شروطها وإنتفاء مَوانعها شيء آخر بالتمام، لا علاقة له بمفهوم التدرج، ولا دخل للكيفية التي نزلت بها الأحكام الشرعية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه.
ذلك أن حكم السّرقة مثلاً، يكون مَسنوناً، مَوضوعاً في القوانين التي تحكُم البلاد، تراضى عليه الناس وقبلوه، لكنّ هناك موانع من تطبيقه، مثل أن يشيع الفقر حتى تغلب مظنّة الجوع والفَاقة، حينئذ يُمكن لوليّ الأمر أن يُعَلق الحُكم الشَرعيّ حتى تنتفي مَوانعه، وهو ما جَرت عليه الشَريعة في أبواب الشُروط والمَوانع، التي هي أحكامٌ من الله سُبحانه، مثلها مثل الأحكام التكليفية. وهذا التعليق ذاته له شروطٌ، منها أن يَعمّ به البلاء، وأن يؤدي تطبيقه إلى ضَررٍ حالٍ ظاهرٍ أكبر من تَعليقه، وغير ذلك، وهو ما يقرره عُلماء أهل السنة في موضعه، لا المفتي ولا "شَرخ" الأزهر! وهو ما عمل به عمر الفاروق -رضي الله عنه- في عام المَجاعة. وقل مثل ذلك في أيّ حكم شرعيّ عَمّت البلوى، في سنوات الجاهلية، بتفويته، وظهر ما يمنع من تطبيقه، لا تقنينه، آنياً موانع شرعية معتبرة.
ثم أعود للتنبيه على أن إستخدام كلمة "التدرج" في هذا المقام، يدل على جهل أو مكر؛ وكلاهما مُردٍ بصاحبه.
وكأني أسمع إلى فريقين يجادلا فيما قررنا، أحدهما، ذلك الفريق الذي يريد "الترويج لمذهب التدريج"، من باب مُسايسة اللادينيين ومداهنة القبط، ومغافلة، بل مغازلة، الأمريكان، والفوز بالأصوات في الإنتخابات، على حساب الشريعة، لينشروا - بزعمهم -الشريعة! إلى هؤلاء نقول: والله لقد آمنا بما قال تعالى {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 13]، وما قال تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّـهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}[النساء: 77] والشريعة لا تتبعّض ولا تتجزأ، بعد أن اكتملت، يقبلها من يقبلها كلها، ويرفضها من يرفضها كلها، ولا يكون حكم مسلمٌ دون القبول بها كلها دون مواربة.
والفريق الثاني، هم فيما نحسَب من يرفض مفهوم إعتبار الموانع مطلقاً، لما حَدث عنده من حَساسية ضد ما يراه "تأجيلاً" أو "تسويفاً" للعمل بالأحكام الشرعية. وإلى هؤلاء نقول: على رَسلِكم، فإن الشريعة لا تؤتي إلا من مواردها، ومن أرادها من غير ذلك ضلّ في شواردها. والله سبحانه قد شَرع أحكامه لتحصيل مَقاصد عُليا للعباد في المَعاش والمَعاد. ولمّا عَلم سبحانه أن الأمور في الدنيا لا تجري على مَهيع واحدٍ، ولا على عادةٍ مضطردةٍ، وضع لذلك أحكاماّ وضعية خَمسة، تكتمل بها تكاليفه للعباد، فهي مؤهلاتٌ للتكليف، لا يتم إلا بها، كالسبب والشرط والمانع، ومنها الرُخصة والعَزيمة، والصحة والبطلان. والقصد منها هو ضَمان أن يقع الفِعل الشرعيّ على وفاق قصد المُشرع، ووزان المصلحة المقصودة به إبتداءاً، لا إعتباطاً بإيقاعه دون مراعاة أسبابه وشروطه وموانعه. وهذا الأمر جارٍ في كلّ حكمٍ شرعي بلا تخلف. فمن اعتقد أن الحكم الشرعيّ، الذي يجب إبتداءاً الرضا به والتسليم له، واجب التطبيق في كل حالٍ وآن، فقد أبعد النجعة، وفارَقَ الجماعة.
بقلم الدكتور: طارق عبد الحليم
تعليق