كلام بن القيم فى مدارج السالكين عن منزلة الفراسة .. والخلط فى كلام القبوريين بينها وبين الكرامة
يقول بن القيم رحمه الله : ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة ( الفراسة ) . قال تعالى فى سورة الحجر 75 : إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وقوله " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " أي أن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته كما قال مجاهد في قوله " للمتوسمين " قال المتفرسين وعن ابن عباس والضحاك للناظرين وقال قتادة للمعتبرين وقال مالك عن بعض أهل المدينة " للمتوسمين"للمتأملين.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " إن في ذلك لآيات للمتوسمين ".
وفى سورة محمد 30 :
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
يقول عز وجل ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه وحملا للأمور على ظاهر السلامة وردا للسرائر إلى عالمها "ولتعرفنهم في لحن القول" أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه وهو المراد من لحن القول كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وفي الحديث "ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيرا فخير وإن شرا فشر" وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا.
فالأول فراسة النظر والعين ، والثانى فراسة الأذن والسمع .
ثم يقول رحمه الله :
أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم . فإن معرفة المتكلم وما فى ضميره من كلامه أقرب من معرفته بسيماءه وما فى وجهه ، فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية .
والفراسة تتعلق بالنوعين :بالنظر والسمع ، وفى الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى صل الله عليه وسلم قال : ( أتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ) ، ثم تلى قوله تعالى :
فى سورة الحجر 75 :
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ .
وفراسة المؤمن صادقة دائما ، وسببها نور يقذفه الله فى قلب عبده ، يفرق به بين الحق والباطل ، والصادق والكاذب
ثم يقول : وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء :
بعينه ، وأذنه ، وقلبه ، فعينه للسيماء والعلامات ، وأذنه للكلام ، ، وتصريحه ، وتعريضه ، ومفهومه ، وفحواه ، وإشارته ولحنه ، وإيمانه ونحو ذلك .
وقلبه للعبور والأستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه ، فيعبر إلى ما وراء ظاهره ، كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة ، إلى باطن النقد والأطلاع عليه : هل هو صحيح ، أو زغل ؟ ، وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل ، إلى باطن الروح والقلب . فنسبة نقده للأرواح من الأشباح ، كنسبة نقد الصيرفى ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد .
وكذلك نقد أهل الحديث : فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب ، فيخرجه ناقدهم ، كما يخرج الصيرفى الزغل من تحت الظاهر من الفضة
.....................................
ونلاحظ من هذا النقل بتصرف عن الإمام بن القيم رحمه الله أن ( الفراسة ) خبرة بشرية إيمانية أساسها حسن الصلة بالله والترقى فى مقام العبودية ، وهى خبرة تتوزع على عباد الله كل بقدر تقواه ومنزلته فى العبودية ، وهى لا تختص بأعيان دون غيرهم .. وليست هى بعيدة المنال إذا أخذت بأسبابها .
لذا يقول بن القيم : ( فإذا أجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة ، وإذا أنتفيا ، لم تكد تصح له فراسة ، وإذا قوى أحدهما وضعف الآخر : كانت فراسته بين بين .
تعليق