للإمام الحافظ
أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن عبد الهادي الحنبلي
توفي سنة 744
الباب الأول
في الأحاديث الواردة في الزيارة نصا
في الأحاديث الواردة في الزيارة نصا
الحديث الأول: « من زار قبري وجبت له شفاعتي » رواه الدار قطني، والبيهقي وغيرهما [1]، ثم ذكر من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر.
وفي رواية عن عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله « من زار قبري وجبت له شفاعتي » ثم زعم أن أقل درجات هذا الحديث أن يكون حسنا إن توزع في دعوى صحته؛ وذكر أن الراجح كونه من رواية عبيد الله المصفر الثقة لا من رواية عبد الله المكبر المضعف، وقال في أثناء كلامه: يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعا ويكون موسى سمعه منهما فتارة حدث به عن هذا وتارة حدث به عن هذا. قال في آخر كلامه: وبهذا بل بأقل منه يتبين افتراء من ادعى أن جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة؛ فسبحان الله أما استحى من الله ومن رسوله في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث ولا من غيرهم، ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديث هذا بالوضع ولا اتهمه به فيما علمنا فكيف يستجير مسلم أن يطلق على كل الأحاديث التي هو واحد منها أنها موضوعة ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع، ولا حكم متنه مما يخالف الشريعة، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفا فكيف وهو حسن أو صحيح.
هذا كله كلام المعترض، وهو متضمن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم.
والجواب أن يقال
هذا الحديث الذي ابتدأ المعترض بذكره وزعم أنه حديث حسن أو صحيح هو أمثل حديث ذكره في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمد على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعف هذا الخبر ونكارته كما سنذكر بعض ما بلغنا عنهم في ذل إن شاء الله تعالى.
وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم أنها بضعة عشر حديثا ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع، كما أشار إليه شيخ الإسلام.
ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله وبين البدعية التي لم يشرعها، بل نهى عنها، مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والصلاة إلى القبر واتخاذه وثنا [28]، وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى » حتى أن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت، سمعت رسول الله يقول: « لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس » [29].
فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف والمسجد الحرام يختص بالطواف لا يطاف بغيره، وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: « من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له اللهم أرحمه ما لم يحدث » [30].
ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها، أو بالعكس، أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد.
وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك: في مسجد قباء فقط، ولكن إذا أتى المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه، لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل فإن النبي كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا كل سبت ويصلي فيه ركعتين [31] وقال: « من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة » [32] رواه الترمذي وابن أبي شيبة، وقال سعد بن أبي وقاس وابن عمر: صلاة فيه كعمرة، ولو نذر [33] المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين، ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان: أحدهما ليس عليه الوفاء، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه ليس من جنسة ما يجب بالشرع، والثاني عليه الوفاء بنذره، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر، لأن هذا طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة عن البني أنه قال: « من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه » [34].
ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذر باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي ، بل قد قال: « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي وفى بنذره، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره، قال: لأن النبي قال: « لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ».
والمسألة ذكرها إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، ومعناها في المدونة والجلاب وغيرهما من كتب أصحاب مالك يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي لزمه الوفاء بنذره؛ لأن المسجد لا يؤتي إلا للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفى بنذره، وإن قصد شيئا آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره؛ لأن السفر إنما يشر إلى المساجد الثلاثة.
وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحد من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته.
وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم وكذلك أصحاب مالك وغيرهم، وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله : « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » صيغة خبر ومعناه النهي فيكون حراما. وقال بعضهم: ليس بنهي، وإنما معناه أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها، فيقال: تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية، والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب. فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعا مخالفا للاجتماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة، فإنه قد يعذر، فإذا تبينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي ولا التعبد بما نهى عنه، كما لا يجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها [35]، وكما لا يجوز صوم يومي العيدين [36]، وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات، ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم.
فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبا، وما علمت أحد أحدا من أئمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا، وإذا قيل هذا كان قولا ثالثا في المسألة، وحيئنذ فبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح، وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر إليه أحد منهم من الصحابة وكانوا يأتون بيت المقدس ويصلون فيه ولا يذهبون إلى قبل الخليل ولم يكن ظاهرا، بل كان في البناء الذي بناه سليمان عليه السلام؛ ولا كان قبر يوسف يعرف، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة، ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من أهل العلم ينكره، ونقل ذلك عن مالك وغيره، لأن الصحابة لم يكونوا يزورنه فيعرف، ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل واتخذوا المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحا.
وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا ، ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي ، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه وهو مدفون في حجرة عائشة فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجا عنها في المسجد عند السور، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر امتداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق، وهم الذين قال الله فيهم: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ويصلون في مسجده كما ذكرنا [37]، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة؛ وعمدة مالك وغيره فيه على فعل ابن عمر.
وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع، أما أن يجعل هو الدين الحق ويستحل عقوبة من خالفه أو يقال بكفره فهذا خلاف إجماع المسلمين وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة، فإن كان المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر؛ فالذي خالف سنته وإجمال الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر ونحن نكفر أحدا من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل، ولا في غيرها لكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة واجماع الصحابة والعلماء أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها.
فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي :87[[ وبين ما نهى عنه في هذا وغيره؛ فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركا كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب من ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين ويصلون إليها وينذرون لها ويحجون إليها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، ويسمونه ذلك الحج الأكبر، وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات كما صنف المفيد بن النعمان كتابا في مناسك المشاهد سماه مناسك حج المشاهد، وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وأصل دين الإسلام أن نعبد الله وحده ولا نجعل له من خلقه ندا ولا كفوا ولا سميا قال تعالى { بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وقال: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وقال: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: « أن تجعل لله ندا، وهو خلقك » قلت: ثم أي؟ قال: « أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك » قلت: ثم أي؟ قال: « أن تزني بحليلة جارك » [38].
وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فمن سوى بين الخالق والمخلوق في الحب له والخوف منه والرجاء له فهو مشرك.
والنبي نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال : « من حلف بغير الله فقد أشرك » [39] رواه أبو داود وغيره، وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده [40]، وقال: « لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد » [41].
وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له فقال له: « ما هذا يا معاذ؟ » فقال: يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم فقال: « يا معاذ إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كان آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها » [42].
فلهذا فرق النبي :87[[ بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك: فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم وهو مثل الصلاة على جنائزهم، وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق: ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله ندا وسووه برب العالمين.
وقد نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزيز ويدعون الملائكة فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيدة يرجون رحمة ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك، قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }
وسيدنا محمد [ سيد الشفعاء لديه، وشفاته أعظم الشفاعات [43] وجاهه عند الله أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسى، ثم من عيسى كل واحد حيلهم على الآخر، فإذا جاءوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: « فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال: أي محمد ارفع رأسك، قل يسمع سل تعطه، واشفع تشفع قال: فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة » [44].
فمن أنكر شفاعة نبينا في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال كما ينكرها الخوارج والمعتزلة، ومن قال: إن مخلوقا يشفع عند الله بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } وقال تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وقال تعالى: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وقال تعالى: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وقال تعالى: { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } وقال تعالى { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } ومثل هذا في القرآن كثير.
فالدين هو متابعة النبي بأن يؤمر بما أمر به وينهي عما نهى عنه، ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله الأعمال والأشخاص، والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمدا بالفرقان ففرق بين هذا وهذا فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه، فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول فصلى في مسجده، وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله :87[[، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح، ومن أنكر هذا السفر هو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر، ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده ولا سلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر، ثم رجع فهذا مبتدع ضال مخالف لسنة رسول الله ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته، وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له، والذي يفعله علماء المسلمين، وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين، قد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبي وعلى صاحبيه، وهذا الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا مطلقا كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي، ومحمد بن سرين، وهؤلاء من أجله التابعين، ونقل ذلك عن مالك [45]، وعنه أنها مباحة ليست مستحبة، وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتى القبر، ثم رجع، فهذا هو الذي أنكر الأئمة كمالك وغيره، وليس هذا مستحبا عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح، وما علمنا أحد من علماء المسلمين استحب مثل هذا والله أعلم.
تعليق