رابط المحاضرة:
ملحوظة:ملخص المحاضرة فى أول رد على المشاركة
http://www.youtube.com/watch?v=HLusrErfKoY
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الرُّسُل والنَّبيين، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
نُرحِّب بالإخوة والأخوات المُتابعين معنا في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مقرر العقيدة (1)، وهذا هو اللِّقاء الأخير والدرس الأخير في هذه الدَّورة، وتبدأ -إن شاء الله- دوراتٌ أخرى.
أيضًا نُرحِّب بالإخوة الحضور معنا في الاستوديو، والذين تجشَّموا دائمًا الحضور، وإن كانوا يغيبون أحيانًا ويحضرون أحيانًا، فحيَّاهم الله، وحيَّا الله الإخوةَ المتابعين معنا، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا.
الختام في هذا اللِّقاء الأخير سيكون معنا الكلام عن الأسماء الحسنى، أسماء الرب -سبحانه وتعالى- وصفاته العُلَى، والكلام عنها لا يُمَلُّ، وهو كلامٌ عظيمٌ وجليلٌ، وحَرِيٌّ بالإنسان أن يتعلَّمه ويتدبَّره، وينظر فيه بين حينٍ وآخر؛ لأنَّه بابٌ من أبواب العبادة العظيمة التي يحرص الإنسانُ عليها، وإنَّما أصبح هذا البابُ صعبًا على كثيرٍ من طلاب العلم وبعض المسلمين بسبب ما دخله من البدع، فلو أنَّ الناسَ تابعوا ما جاء عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتركوا تَكَلُّفات أهل الكلام وأهل الضَّلالة وأهل البدع لَمَا وجودوا شيئًا من هذه الأمور، لكن -للأسف الشَّديد- كثيرًا من المسلمين أو كثيرًا ممن كتب في هذا الباب أصبحت قضيته هي النِّقاشَات.
وسأضرب لكم مثالًا عمليًّا دقيقًا، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حديث النُّزول، وهذه صفةٌ من صفات ربِّنا: «يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ»، هذه صفة النزول، انظر ما هي، جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- انظروا الجانبَ العلميَّ التَّطبيقيَّ، يقول الله تعالى: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟» ارفع حاجتَك إلى ربِّك -سبحانه وتعالى- ثم لما دخلت البدعُ على المسلمين، انظروا آثارها، قالوا: كيف ينزل ربُّنا -سبحانه وتعالى؟ هذه الكيفيَّة أنت لا تُحيط بها، فأنت لم تُحِطْ بكيفيَّة جسدك، وروحك لا تحيط بها؛ فلماذا تكبَّرتَ؟ لماذا تجبَّرت على ربِّك -سبحانه وتعالى؟
فهذه من القضايا التي أفسدها على كثيرٍ من المسلمين.
انظروا، وتأمَّلوا، يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهذا مرَّ معنا في أول الدروس، آية الكرسي: «مَنْ قَرَأَ آيةَ الكُرْسِيِّ بَعْدَ كُلِّ صَلاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ إِلَّا المَوتُ». كم من المسلمين يقرأها؟ لكن هل تأمَّلناها؟!
انظروا ما هي الأسماء والصِّفات الواردة في هذه آية الكرسي؟ ما هي الصِّفات والأسماء الواردة فيها؟ كم من الأسماء التي يُرددها المسلمُ في أذكار الصَّباح والمساء؟ أسماء الرب -سبحانه وتعالى.
هل حاول أن يتفهَّم هذه المعاني؟ أم أصبحت الأسماءُ والصِّفاتُ مباحث في النِّقاش العقيم الذي أدخله كثيرٌ من أهل الكلام والفلسفة والنِّقاش البِيزَنْطي، المنسوب إلى الفلسفة الإغريقيَّة وغيرها، وهي فلسفة بعيدةٌ عن الواقع، تبحث عن الجانب النَّظري في ذلك.
آية الكرسي فيها خمسة أسماء، هي (الله، والحي، والقيوم، والعلي، والعظيم) هذه خمسة أسماء من أسماء ربنا -سبحانه وتعالى.
تأمَّلتَ عُلُوَّه -سبحانه وتعالى؟
هل تأمَّلتَ عظمتَه -سبحانه وتعالى؟
القيُّوم، قائمٌ بكلِّ شيءٍ، قائمٌ بمعيشتك، بطعامك، برزقك، بحياتك، كل مخلوقٍ على هذه الأرض هو القيُّوم عليه -سبحانه وتعالى.
هل تأمَّلنا هذه المعاني؟
انظر من صفات الرب -سبحانه وتعالى- الألوهيَّة، انتفاء السِّنَة والنَّوم عنه -سبحانه وتعالى- صفة الملك، قوَّة السُّلطان، الإذن، علم الله -سبحانه وتعالى- فهو لا ينسى ما مضى، ولا يجهل المستقبل، المشيئة، العظمة، القُوَّة، القدرة، كمال العلم، كمال رحمة الله -سبحانه وتعالى- حفظه لخلقه -سبحانه وتعالى.
هذه كلها صفات الرب، هل تأمَّلناها؟
هذا هو الواجب في دراسة الأسماء والصِّفات، أننا ندرس النُّصوصَ الواردة فيها أسماء الرب -سبحانه وتعالى- وصفاته في هذا الباب.
المؤلف -رحمه الله- أورد بعضَ الأبواب التي فيها ردٌّ على بعض الفرق المُخالفة لأهل السُّنة، ولذلك أورد شيخُ الإسلام الإمامُ المُجدِّد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بعضَ الأسماء المُتعلِّقة بالأسماء والصِّفات، فالكتاب في غالبه يتعلَّق بتوحيد العبادة، لكن أورد بعضَ الأسماء المتعلِّقة بالأسماء والصِّفات، لماذا؟
لأن الذي ينفي أسماءَ الله وصفاته لا يمكن أن تتحقَّق له العبادةُ الصَّحيحةُ، فلا يمكن أن تكون عبادتُه صحيحةً، فالذي ينفي حكمةَ الرب -سبحانه وتعالى- هل سيتوكل عليه؟ والذي ينفي علمَ الرب -سبحانه وتعالى- وقدرته هل سيتوكل عليه؟ لا يمكن أن تكون عبادتُه صحيحةً وسليمةً في ذلك.
ولذلك أورد المؤلفُ -رحمه الله- في هذا الباب: (باب مَن جَحَدَ شيئًا من الأسماء والصِّفات) مَن يجحد شيئًا من أسماء الله وصفات الرب -سبحانه وتعالى- ما حكمه؟
أمَّا بابُ الأسماء فقد ذكرها كثيرٌ من أهل العلم، وإنَّما ذكروا الأسماءَ بالأدلة من كتاب الله وسُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما فعل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في العقيدة الواسطِيَّة، فهو حينما جاء إلى مسألة الأسماء والصِّفات أورد النُّصوصَ من كتاب الله ومن سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
إذن نحن أمامنا هذا الباب العظيم، وهو أحد أنواع التَّوحيد، أنواع التَّوحيد ثلاثة: توحيد الألوهيَّة، وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات.
بعضُ أهل العلم قد يُدخِل توحيدَ الرُّبوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصِّفات ويُسمِّيه توحيد المعرفة والإثبات، وإنَّما أُفرِدَ توحيدُ الأسماء والصِّفات لما كثُرَ فيه الخلافُ من المُخالفين لأهل السُّنة، فتكلَّموا في ذلك.
نقرأ هذا البابَ حتى نستذكر هذه النُّصوص.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى: (باب مَن جحدَ شيئًا من الأسماء والصِّفات، وقول الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30]، الآية.
وفي صحيح البخاريِّ: قال عليٌّ -رضي الله عنه: "حَدِّثُوا الناسَ بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله!". وروى عبد الرَّزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباسٍ أنَّه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الصِّفات، استنكارًا لذلك، فقال: "ما فرق هؤلاء؟ يجدون رِقَّةً عند مُحْكَمِه، ويهلكون عند مُتشابِهه". انتهى.
ولما سمعت قريشُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمنَ؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30])}.
هذه المسائل التي أوردها المؤلفُ: (باب مَن جحد شيئًا من الأسماء والصِّفات) الجحود هنا قد يكون جحودَ إنكارٍ، وهذا كفرٌ مُخرِجٌ من المِلَّة، وهو أن يجحد أسماءَ الرب -سبحانه وتعالى- أو صفاته، وهناك جحود تأويلٍ، وهو الذي وقعت فيه طوائفُ من هذه الأُمَّة، وفِرَقٌ من فِرَق الضَّلال المُخالفة لأهل السُّنة.
أول أسماء الرب -سبحانه وتعالى- مثل قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، استوى: نقول كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، قال أهلُ الباطل: لا، لم يستوِ! إذن ماذا فعلوا؟ فقالت المُعْتَزِلَةُ: استولى.
وكلمتهم هذه مثل كلمة اليهود، فاليهود قيل لهم: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: 58]، فقالوا: حنطة.
فلذلك هؤلاء زادوا نونًا، وهؤلاء زادوا لامًا، فتشابهوا بهم، وقد أخبرنا اللهُ -عز وجل- بخبرِ ما حصل من الأمم السَّابقة، وأنَّ طوائفَ من هذه الأُمَّة سيُتابعون هذه الأُمم.
ثم جاء أيضًا نفي الاستواء عند الكُلَّابِيَّة، فهم يقولون مثلًا: استوى هو فعل يفعله في العرش، وليس من أفعال الرب -سبحانه وتعالى. فنفوه، ولذلك يقولون: استوى، ودائمًا يُطلقونها، لكن عند التَّفسير حين تتأمَّل بعضَ أقوالهم، وهذا عند الكُلَّابِيَّة وقُدماء الأشعرِيَّة، فإنَّهم يُثبتون الاستواء، لكن يقولون: هو فعلٌ يفعله في العرش. هذا قول بعضهم، أو هو الظَّاهر من أقوالهم، لكن قد يكون لبعضهم قولٌ مُوافِقٌ للسُّنة.
ثم تحوَّلت الأشعرِيَّةُ بعد ذلك على يد الجُويني ومَن تابعه، فهم قالوا: استوى: استولى. هذا قول الجُويني ومَن تابعه، أمَّا أوائل الأشعَرِيَّة فلم يكونوا يقولون بقول المُعتزِلَة في ذلك، حتى يتبيَّن التاريخُ. ثم استقَرَّ عند الأشعَرِيَّة المُتفلسفة كالرَّازي وأتباعه على أنَّ استوى: استولى، وهو قول المعتزلة تمامًا، فأوائلهم كانوا يردون ذلك كأبي الحسن الأشعري والقدماء، فكانوا يَرُدُّون مثل ذلك ويُثبتون الاستواء.
هذا هو التأويل، إذا كان لهذا التَّأويل مُسَوِّغٌ في لغة العرب؛ فإنَّه لا يكفر، أمَّا إذا لم يكن له مُسَوِّغٌ، بل عن الهوى واللَّعب بآيات الله -عز وجل- وتحريفها؛ فإنَّه يكون كفرًا يُخرج من المِلَّة.
وهنا قال: (باب مَن جحد الأسماء والصِّفات) أي مَن يجحد هذه الأسماء والصِّفات، فوقعت فيه طوائفُ.
وذكر هذه الآية: (قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾) هذه الآية نزلت في المشركين، فالمراد هنا المشركون الذين يكفرون بالرحمن، أي يكفرون باسم الرحمن -سبحانه وتعالى- وإلا فهم كما أخبر الله -عز وجل: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ﴾ [الزخرف: 87]، ماذا يقولون؟ يُثبتون الرُّبوبيَّة لله -عز وجل- ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [العنكبوت: 61]، ولئن سألتهم عن رزقهم وعن خلقهم، كل ذلك يُقرُّون، ولذلك استدلَّ اللهُ -عز وجل- عليهم بذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21]؛ لأنَّهم لا يُنكرون الخلقَ، فاستدلَّ عليهم بذلك.
وسبب نزول هذه الآية أنَّ كفار قريش لما سمعوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن قالوا: وما الرحمن؟ لا نعرف إلا رحمان اليمامة. أي مُسَيلِمَة الكذَّاب.
ويظهر أنَّ هذا ليس قولهم كلهم، ففي صُلح الحُدَيبية نادى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- ليكتب الصُّلحَ، فقال: «بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ». فقالوا: لا نعرف هذا، وإنَّما اكتب: بسمك اللَّهُمَّ.
العجيب أنَّ بعضَ الذين يدَّعون أنَّهم يُحِبُّون آل البيت ويُتابعونهم؛ إذا جاءوا يكتبون يُتابعون قريشًا، ولا يُتابعون الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- ولا آل بيته، فيكتبون دائمًا في مقدمة فتاويهم: باسمك اللهم.
طيب لماذا لا تُتابعون النبي –صلى الله عليه وسلم- وتقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم. كما في القرآن وقول الرسول وفعله -صلى الله عليه وسلم؟!
ولذلك رفضت قريش أن يُكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم" في صُلح الحديبية، ورفضوا أن يُكتب "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فهم كفروا به، فالذي يكفر بأسماء الرب أو صفات الرب -سبحانه وتعالى- هو تابِعٌ لهم، وسنذكر مَن يكفر بذلك.
وأسماء الرب -سبحانه وتعالى- كثيرةٌ ومُتعدِّدةٌ، ولا يدلُّ تعدُّدُ الأسماء على تعدُّد المسمى؛ بل يدلُّ تعدُّد الأسماء على عظمة المُسمَّى سبحانه، فكثرة الأسماء لا تدلُّ على تعدُّد المُسمَّى، كما زعمت المعتزلةُ أو غيرها، فقد زعموا أنَّ الصِّفات تدلُّ على أربابٍ كُثُر، لا، هذا ليس صحيحًا، بل تدلُّ على عظمة المُسَمَّى -سبحانه وتعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: 8]، كلُّ هذه دلَّت على الأسماء الحسنى لله رب العالمين، وجاءت في القرآن الكريم في ذلك.
جاء أيضًا في الحديث: «إِنَّ لله تِسْعةً وتسعين اسمًا، مَن أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ». معنى «أَحْصَاهَا»: أي أنَّه عرفها وعرف معناها وتعبَّد اللهَ بها، وأسماء الله أكثر من ذلك، وإنَّما أخبر أنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، لكن أسماء الله أكثر من ذلك، بدلالة قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ بكُلِّ اسمٍ هُو لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَو أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَو عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ». فأسماء الله كثيرة -سبحانه وتعالى.
أحيانًا نجد في كثيرٍ من المحلات أو في كثيرٍ من الأماكن قائمةً فيها أسماء الرب -سبحانه وتعالى- هذه الأسماء لم ترد عن الرسول بهذه الصِّياغة، وإنَّما وردت عن بعض رُواة حديث: «إِنَّ لله تِسْعةً وتسعين اسمًا». فلمَّا جاء هذا الفضل سرد الأسماء، وبعض الناس ظنُّوا أنَّها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن اجتهد كثيرٌ من علماء الأُمَّة وذكروا أسماءَ الله الحُسنى.
ثم قال تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]: أي توسَّلوا بها بالدُّعاء إلى الله -سبحانه وتعالى.
وهذا مما سأل عنه بعضُ الناس، فقد سألوا عن قضيَّة التَّوسُّل، ويُطِيلُون النِّزاعَ فيها، وقضية التَّوسُّل بيَّنها الله -عز وجل- فالإنسان يتوسَّل بماذا؟ يتوسَّل بما بيَّنه الله -عز وجل- فيتوسَّل بأسماء الله وبصفات الله -سبحانه وتعالى- كما في الأدعية النَّبويَّة: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، اذْهِبِ الْبَأْسَ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي». باسم الله -عز وجل- من أسماء الرب -سبحانه وتعالى.
ودعاء سيِّد الاستغفار قال: «إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ». صفة المغفرة، فيتوسَّل الإنسانُ بأدعية الرب -سبحانه وتعالى.
وقال: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180]، أي يُنكِرونها، ويُنكرون معانيها، ويُحرِّفونها، ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، فهذا الوعيد الشَّديد العظيم لهم.
وأهل السُّنة والجماعة يُثْبِتُون أسماءَ الرب -سبحانه وتعالى- من غير تحريفٍ، فلا يُحرِّفونها عن معانيها، ومعانيها كما جاءت في لغة العرب، وكما وردت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسُّنة، فلا نُحرِّف، ولا نُغَيِّر، ولا نُعَدِّل، والتَّحريف ذكره الله عن الأُمم السَّابقة.
من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ: التَّعطيل معناه: أنَّه يُعَطِّل معناها، مثلًا: استوى معناها ارتفع واستقرَّ وعلا. فيلغي المُعَطِّل هذا المعنى، أي يُعطِّله، فيمنع هذا المعنى ويأتي بمعنًى جديدٍ، ويُحرِّف، فهو عَطَّل ثم حرَّف بعد ذلك.
ومن غير تكييفٍ: الكيفيَّة: فلا نقول صفة السَّمع لربنا مثل صفة سمعي، أو نقول: ينزل ربنا كذا. لا، هذا هو التَّكييف الذي لا يجوز، فلا نُكيِّف الصِّفة؛ لأنَّنا لا نعرف كون الرب -سبحانه وتعالى- حتى نُكَيِّف الصِّفة، فلا نستطيع، وليس في قُدرة البشر أن يُكيِّفوا صفات الرب سبحانه.
هذا هو التَّكييف، أي وصف كيفيَّة الصِّفة، وهذا هو الذي لا نعلمه، أمَّا آيات الصِّفات والصِّفات الواردة والأسماء الحسنى؛ فهذه معروفة معانيها في لغة العرب.
من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ: لا يُمَثِّلون الله، فلا يُقال: لله يد كيدي، أو سمع كسمعي، أو بصر كبصري. لا يقولون ذلك، وهذا ينفيه أهلُ السُّنة ويُثبتون معانيها وما تدلُّ عليه، لكن كيفيَّة هذه الصِّفة لا يعلمها إلا الله، كيف استوى، كيف ينزل ربنا؟ لا نعلم هذه الصِّفة، ولا نُحيط بها علمًا، ولا قُدرة لنا على ذلك؛ بل الإنسانُ في نفسه ضعيفٌ، غير قادرٍ على فهم نفسه ذاتها.
من الطَّوائف التي جحدت أسماءَ الله -عز وجل- الجَهْمِيَّة، أتباع الجهم بن صفوان، أخذ ذلك عن لبيد بن الأعصم الذي سحر الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسَّند معروفٌ في كتب أهل العلم، فجحد الأسماء والصِّفات، نفى الأسماء والصفات، وقال: إذا أثبتنا لله أسماء وصفات فمعنى ذلك أننا نُثبت لله -سبحانه وتعالى- قدماء مع الرب -سبحانه وتعالى.
وكذلك المعتزلة: فقد نفوا الصِّفات وأثبتوا الأسماءَ، ونفوا ما تدلُّ عليه الأسماءُ.
وأوائل الأشعريَّة أو الكُلَّابِيَّة عمومًا أتباع ابن كُلَّاب، كانوا ينفون الصِّفات الفعليَّة، أي صفات الأفعال، ويُثبتون الصفات الخبريَّة، ثم تطوَّر الأمرُ بهم حتى أن متأخِّريهم كالجويني ومَن تابعه، والرازي ومَن تابعه، نفوا الصِّفات الفعليَّة والخبريَّة كلها، وتابعوا المعتزلة، ولذلك لقَّبهم بعضُ أهل العلم بمُعتزلة الأشاعرة.
أمَّا صفات الرب -سبحانه وتعالى- فهناك صفاتٌ فعليَّةٌ تتعلَّق بمشيئة الرب -سبحانه وتعالى- إذا شاء فعلها، مثل النُّزول والاستواء والكلام، فإذا شاء تكلَّم -سبحانه وتعالى- فأهل الكلام ينفون صفةَ الكلام للرب -سبحانه وتعالى- من حيث آحاد صفة الكلام.
الصِّفات الخبريَّة التي جاءت في خبرٍ من كتاب الله وسُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل: الوجه، والعين، واليد، وغير ذلك، وقد وردت في كتاب الله وفي سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
والصِّفات دائمًا أوسع من الأسماء، فهناك صفات لا نأخذ منها أسماء، فالصِّفات أوسع من الأسماء، فكلُّ اسمٍ يتضمَّن صفةً، فالحي يتضمَّن صفة الحياة، والله يتضمَّن الألوهيَّة، والعظيم يتضمَّن صفة العظمة، والعَلِيُّ يتضمَّن صفة العُلُو، لكن ليست كلُّ صفةٍ تكون اسمًا، مثل صفة الكلام، فلا نقول: الله مُتكَلِّم. والإرادة، فلا نقول: الله مُرِيد. وعلى هذا النَّحو، وهي لها تفصيلٌ أكثر من ذلك.
الدَّليل الثاني الذي ذكره المؤلفُ: حديث عليٍّ -رضي الله عنه- يقول: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب اللهَ ورسُولَه". أتُحِبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! وهذا منهجٌ عمليٌّ وتربويٌّ عظيمٌ، فيجب أن تُحدِّث الناسَ بما ينفعهم، وما يُفيدهم، فلا تأتي الناسَ فتُكلِّمهم عن قضايا ليست في واقعهم، ولا في بلادهم، وليس لها واقعٌ، وهذه هي المناهج الكلاميَّة التي وقع فيها أناسٌ، وهذه مناهج موجودة عند بعض المسلمين.
فالواجب أن تُحدِّث الناسَ بما يعقلون وبما يعرفون وبما يفهمون، هل قالها عليُّ ابن أبي طالبٍ في الأسماء والصِّفات، أي لا نُحدِّث الناسَ بها، أم قالها في شيءٍ آخر؟ يجب أن نعرف سياقَ القصَّة ما هي؟
كان القُصَّاص يذكرون للناس أشياءَ عجائب وغرائب وقصص خياليَّة، وأشياء من ذلك، فقال لهم عليٌّ -رضي الله عنه- هذا الأمر وأنَّه يجب أن تُحدِّث الناسَ بما ينفعهم؛ حتى لا يُبادرون إلى تكذيبه، وهذا منهجٌ عظيمٌ جدًا، فالواجب على كلِّ مسلمٍ أن يُحدِّثَ الناسَ بما يعقلون وبما يعرفون، وينقل لهم الأخبارَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالبلاد التي فيها تعصُّبٌ مذهبيٌّ مثلًا فلا يأخذون إلا بمذهبٍ مُعيَّنٍ فقط، فتُحدِّث هؤلاء من علماء ذلك المذهب، فتأخذ من علماء ذلك المذهب وتُخبرهم بما قالوا من الحقِّ بمُتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكلُّ الأئمَّة الأربعة -بحمد الله- دعوا إلى مُتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فهذه قاعدةٌ: أن الإنسانَ يُراعي أحوالَ السَّامعين، فإذا كان في وسطهم مُتعَلِّمٌ لهم كلامٌ، وإذا كان غير ذلك فيُبيِّن الأمورَ ويُوضِّحها في ذلك.
فمثلًا: بعض الناس يتحَذْلَق، فيأتي في الصَّحافة ويكتب لك ويقول: المسألة فيها خلافٌ. طيب الناس لا ينظرون في الأدلة، والخلاف إنَّما يكون في مجالس العلم، فالذين يعرفون أن هذا الدليلَ ضعيفٌ وهذا غير ضعيفٍ هم العلماء.
أمَّا أن تأتي على الناسِ وتطرح لهم المسألةَ وهم لا يعرفون ما الصَّحيح منها؟ وما الضَّعيف؟ وما دام في القضية خلافٌ فخذ ما شئتَ من ذلك! هذا من الباطل.
ولذلك فالواجب ألا يُكتَب ولا يُعرَض على الناس إلا ما كان فيه منفعتهم ومصلحتهم، وهذا هو المنهج الذي جاء به رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- فهذه قاعدةٌ عظيمةٌ.
الحديث الثاني: حديث عبد الله بن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- وهو حديثٌ صحيحٌ: أنَّه رأى رجلًا انتفض لما سمع آيات الصِّفات، هل انتفض خوفًا من الله؟ لا. وإنَّما إنكارًا لها، فقال ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنه- استنكارًا: "ما فرق هؤلاء؟!" ووردت لها ثلاثة ألفاظ، لكن معناها: ما أمر هؤلاء؟ لماذا يجدون رِقَّةً؟ تكون الرِّقَّةُ عند المُحْكَم، ويهلكون عند المُتشابه، لماذا هؤلاء القوم لا يتبعون المُحْكَم؟
وكما أخبرنا الله -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ [آل عمران: 7]، فالقرآن العظيم فيه مُحكَمٌ وفيه مُتشابِهٌ، وإذا جمعت الآيات التي اشتبه عليك معناها، ورددتها إلى المُحْكَم اتَّضح لك المعنى في ذلك.
فآيات الصِّفات مثلًا المُتشابه فيها هو: الكيفيَّة، والكيفيَّة لا نعلمها، ولا نحيط بها، ولا نعرفها، ويستحيل علينا معرفتها، أمَّا معاني الصِّفات فهو واضحٌ وبيِّنٌ وسهلٌ على الناس، فهو سهلٌ على مَن عرف العربيَّة، ومَن قرأ القرآنَ الكريم.
قاعدة أهل السُّنة والجماعة أنَّهم يردُّون المُتشابهَ إلى المُحْكَم، فيُفسِّرون بعضَ النُّصوص ببعضٍ؛ لأنَّه كلام الله وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم.
أمَّا أهل البدع: فإنَّهم يضربون كلامَ الله بعضَه ببعضٍ، فيُكذِّبون بعضَه ببعضٍ. أمَّا أهل السُّنة فيجمعون.
ولذلك زعمت بعضُ الفرَق الضَّالة أنَّ آيات الصِّفات كلها من المُتشابه، والله تعالى يقول: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، يتدبرون شيئًا مُتشابهًا، ما يعرفونه؟! ثم يقولون: يدَّبَّر آيات الأحكام! ولكن آيات الصِّفات أكثر، فكيف يمكن تأويلها؟ كيف نتدبر آيات الصِّفات؟! هذا من الجهل، فكيف تكون أشرف آيات الكتاب العزيز التي فيها صفات الرب -سبحانه وتعالى- وأسماؤه الحسنى من المُتشابه الذي لا يُفهم ولا يُتدبر؟! هذا من الضَّلال العظيم، نعوذ بالله من الخذلان في ذلك.
فكيف يكون أشرف ما في القرآن خفيًّا؟! هذا لا يكون أبدًا بأيِّ حالٍ من الأحوال.
هذا الرجل لما سمع أحاديثَ عن الصِّفات استنكرها وانتفض، أي خوفًا من ذكرها، وابن عبَّاسٍ استنكر حاله، قال: "يجدون رِقَّةً عند مُحكمه"، أي عند هذه الآيات تجد عندهم خوفًا، والفَرَق هو: الخوف، فهم يخافون عند ذكر هذه الآيات.
فالمقصود أنَّ هؤلاء الأقوام عندهم ضلالٌ حينما تُذكر آيات الأسماء والصِّفات، ومثلهم مثل عُبَّاد القبور، فعُبَّاد القبور اليوم إذا ذُكرَت عليهم الآيات التي فيها الرد على المشركين والأحاديث الواردة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الرد على المشركين، تجد عندهم ماذا؟ يكون عندهم تردُّدٌ، ولا يُحبُّون سماع هذه الأحاديث، وبعضهم يقول: لا نقرأ التَّوحيدَ على الناس. لماذا؟ قال: لأنَّه يُفَرِّق الناسَ!
التَّوحيد هو الذي يُفرِّق الناس؟! ما قيمة هذا الاجتماع إذا كان بغير توحيد الله، وإخلاص العبوديَّة لرب العالمين؟!
فإذن لا يوجد أحدٌ -كما قال أئمَّة أهل السُّنة- من علماء أهل السُّنة يجعل آيات الصِّفات من المُتشابه، فآيات الصِّفات من المُحْكَم الواضح البيِّن، وطريقة أهل البدع أنَّهم جعلوا آيات الصِّفات من المتشابه، ثم جاء بعدهم مَن جعل ما يتعلَّق بالقبور من المُتشابه، وتجدهم يتمسَّكون بأثرٍ ضعيفٍ، أو بقصَّةٍ وردت عمَّن لا يُعرَف، ويُثبتونها ويجعلونها دليلًا، وآيات القرآن الكريم والصَّحيح من سُنَّة الرسول لا يعملون به! وهذا من غاية الانحراف، نعوذ بالله من الخذلان العظيم.
والدَّليل الأخير: حديثٌ عن مُجاهد وهو مُرسَلٌ ضعيفٌ، لكن مرَّ معنا في أسباب النُّزول، ويذكره أهلُ العلم في ذلك، لما سمعت قريش رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30]، وهم يكفرون، ولذلك مَن أنكر شيئًا من أسماء الله فإنَّه كفر.
فهذا الباب العظيم فيه أنَّ إنكارَ الأسماء والصِّفات كفرٌ، كما قال الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ﴾ [الرعد: 30]، وهذا فيه تفصيلٌ: فيكون كفرًا مُخرِجًا من المِلَّة، ويكون كفرًا غيرَ مُخرِجٍ من المِلَّة، ويكون ضلالًا في ذلك.
القضية الثانية أيضًا: التَّدرُّج في تعليم الناس: كما في حديث عليٍّ -رضي الله عنه- فيُبدأ بصغار العلم، وهذا أيضًا ورد عن ابن عبَّاسٍ كما في صحيح الإمام البخاري في كتاب العلم: أنَّه يُبدَأ بصِغار المسائل ثم يُنتقل إلى كبارها.
أيضًا حديث ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- دليلٌ على أن نصوصَ الصِّفات من المُحْكَم، وأنَّها تُذكر عند الناس ولا يُتحاشَى من ذكرها؛ بل تُشرَح للناس وتُبيَّن للناس في ذلك.
أول مَن جحد أسماءَ الرب -سبحانه وتعالى- المشركون، كفار قريش، وتابعهم مَن تابعهم من طوائف هذه الأُمَّة، نعوذ بالله من الخذلان.
نحن نختصر في هذا الباب اختصارًا شديدًا؛ لأنَّنا نخشى ألا ندرك ما جاء في هذا الباب.
نأخذ الباب الثاني في ذلك: (ولله الأسماء الحسنى).
هذا الباب الثاني فيما يتعلَّق بالأسماء والصِّفات، وكما ترون المؤلف -رحمه الله- فقد تكلَّمنا في المحاضرات الماضية كلها عن باب حماية جناب التَّوحيد، واليوم نذكر أكثر من بابٍ يتعلَّق بالأسماء والصِّفات، وفي كتاب التَّوحيد أكثر من بابٍ يتعلَّق بذلك، لكن الوقت لا يسمح بذلك.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180]، الآية.
ذكر ابنُ أبي حاتمٍ عن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- يُلحدون في أسمائه: يُشركون. وعن الأعمش: يُدخلون فيها ما ليس منها)}.
إذن هذا هو باب: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180]، كأنَّه لما تكلَّم على مسألة التَّوسُّل غير المشروع، وبيَّنه في الكتاب، وإخلاص العبودية، بيَّن لك بابًا عظيمًا وهو التَّوسُّل بالله، ما التَّوسُّل المشروع الحَرِيُّ بالإنسان أن يحرص عليه؟ ولذلك بيَّنه في هذا الباب.
وقضية التَّوسُّل من القضايا التي يُثيرها كثيرٌ من أهل البدع، ويتمسَّكون فيها بكلِّ شيءٍ، فيتمسَّكون بالقصَّة، ويتمسَّكون بالموضوعات، ويتمسَّكون بكلِّ شيءٍ في هذا الباب؛ لأنَّهم يُحاولون التَّمسُّك في هذا الأمر.
وهذا شيءٌ قديمٌ عند أهل الضَّلال كما قال الله تعالى عن المشركين أنَّهم قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وقوله: ﴿وَيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ ولَا يَنفَعُهُمْ وَيقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]، الغريب أنَّ بعضَ مَن يعبد القبور جاء على القبر نفسه وعلَّق هذه الآية، كتب آية: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، وهي نفس دعوى المشركين، ونفس أسلوبهم، بل يُكرر الآية: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ هل هؤلاء فهموا القرآن؟ معاذ الله، نعوذ بالله من الضلال. هل فهموا هذه الآية: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾.
فهؤلاء يقولون: نعرف أنَّ هؤلاء المقبورين مخلُوقُون ضعفاء، وليس عندهم قُدرةٌ، ولا يرزقون، ولا يخلقون، وليس عندهم شيءٌ من ذلك؛ لكن هؤلاء وُسَطاء عن الرب -سبحانه وتعالى- وشفعاء لنا، يقربونا إلى الله زلفى.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35]، ابتغاء الوسيلة هو: طاعة الله، الوسيلة بيَّنها اللهُ لنا، ولذلك سنذكر التَّوسُّل المشروع والتَّوسُّل الباطل في هذا الباب.
إنَّما تُتَّخذ الوسائط عند مَن؟ عند ملوك الأرض الذين لا يُحيطون بأحوال الناس، ولا يعرفون أحوالَ الناس، فقد نقص علمُهم ونقصت معرفتُهم، أمَّا الرب -سبحانه وتعالى- فهو بريءٌ من ذلك كله -سبحانه وتعالى.
فلذلك فإنَّ الوسيلةَ تُعرَّف في الاصطلاح بأنَّها: السَّبب والطَّريق الذي يُوصِل إلى الله -سبحانه وتعالى.
ما الذي بيَّنه اللهُ في كتابه وسُنَّة الرسول؟ السبيل والطَّريق المُوصِل إلى الله هو عبادة الله، وطاعته، وعبادته على ما شرع وبيَّن رسوله -صلى الله عليه وسلم.
من الأسئلة التي وردت في مسألة التَّوسُّل: أحد الإخوة من المغرب سأل فقال: أنَّه جاء في بعض المقولات أنَّهم ينقلون عن الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- أنَّه يقول أنَّ التَّوسُّلَ من مسائل الفقه والاجتهاد التي لا إنكارَ فيها، فنسبوها إلى الشَّيخ، وهذا يُنكره شيخُنا الشيخ صالح الفوزان، فلا يصِحُّ في ذلك، بل الثَّابت عنه -رحمه الله- أنَّه قال: التَّوسُّل الخالي من عبادة -هذا قول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- المُتَوَسِّل به، وإنَّما هو تَوسُّل بحقِّ الشَّخص أو جاهه، فهذا بدعةٌ وليس بشركٍ.
قال: "التَّوسُّل الخالي من عبادة المُتوسِّل" أي لا يعبده، فهو خالٍ من عبادته، وإنَّما هو توسُّل بحقِّ شخصٍ أو جاهٍ، فهذا بدعةٌ، وليس بشركٍ؛ لأنَّ هذا الشَّخصَ لم يصل إلى عبادة هذا الذي يتوسَّل به.
أمَّا التَّوسُّل الذي معناه التَّقرُّب إلى المُتوسِّل به بالذَّبح له والنذر له وغير ذلك من أنواع العبادات فهذا من الشِّرك.
إذن يجب أن نُفرِّق بين هذا وذاك، فالتَّوسُّل بجاه الشخص أو بحقِّه ليس له حقٌّ عن الله -سبحانه وتعالى- فهذا يكون بدعةً، ومن وسائل الشِّرك. أمَّا إذا كان التَّوسُّل الذي يصل إلى الذَّبح له والنذر له وصرف العبادة إليه؛ فهذا شركٌ يُخرج من المِلَّة.
إذن هناك تَوسُّلٌ ممنوعٌ، وهو التَّوسُّل بجاه الشخص أو بحقِّه أو بمنزلته أو بذاته، فهذا إمَّا أن يكون شركًا، وإمَّا أن يكون بدعةً، وإمَّا أن يكون وسيلةً إلى الشِّرك، وهو أن يقول: بحقِّ فلانٍ، أو بجاه فلانٍ.
لما جاء بعضُ المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية ببعض الأحاديث الموضوعة من الإسرائيليَّات، وتوسَّل بعضُهم إلى الله فقال: بحقِّي وحقِّ آبائي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأيُّ حقٍّ لك ولآبائك؟ فإذا كنتم تريدون الموضوعات فهي كثيرةٌ، فيمكن أن تأتي موضوعات ترد على باطلكم بباطلٍ في ذلك.
فإذن المقصود من هذا: التَّوسُّل بذات الشَّخص أو بجاهه، أو بحقِّه، فهذا إمَّا أن يكون شركًا، وإمَّا أن يكون بدعةً، فإن صرف العبادةَ لهذا الشَّخص، أي ذبح له، أو نذر له، فصرف العبادة له؛ فهذا يكون شركًا، أمَّا إذا لم يصرف العبادةَ له؛ فلا يكون شركًا، بل يكون بدعةً أو وسيلةً إلى الشِّرك.
نحن بيَّنا الباطل، ونريد أن نُبيِّن الحقَّ، ما الحقُّ؟ الحقُّ في التَّوسُّل المشروع، والتَّوسُّل المشروع أنواعٌ وأصنافٌ بيَّنها اللهُ في كتابه وبيَّنها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وأُلِّفت فيها المؤلفات الواضحة البيِّنة، والواجب على المسلم أن يحرصَ على ذلك، وهو في الأذكار، أذكار الصَّباح وأذكار المساء وأذكار اليوم والليلة الواردة في سُنَّة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فتجد في القرآن أو في السُّنة توسُّلات كثيرةٌ بأسماء الرب -سبحانه وتعالى.
أعظم هذه الأبواب: التَّوسُّل بأسماء الرب -سبحانه وتعالى- وصفاته. إذا سأل العبدُ المغفرةَ ماذا يقول؟ يا غفور. وإذا سأل الرحمة: يا رحيم. ولذلك تجد في دعاء سيد الاستغفار: «إنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ». صفة الاستغفار، إثبات صفة الاستغفار له -سبحانه وتعالى- ولذلك يقول العبدُ: يا غفور اغفر لي، ويا رحمن ارحمني.
وانظر إلى الصلاة، فإنَّ العبدَ يقول في بداية قيامه بين يدي الله -سبحانه وتعالى: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، ثم يذكر صفة ربِّه: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:3] سبحانه وتعالى، هذه صفته العظيمة، ويا تواب تُب عليَّ، وغيرها من الصِّفات التي وردت في أدعية النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أو أدعية الأنبياء من قبله في القرآن الكريم، أو في الأدعية التي علَّمنا اللهُ -سبحانه وتعالى- إيَّاها، فحين تتأمل هذه الأدعية تجد فيها توسُّلًا بصفات الرب -سبحانه وتعالى- أو بغير ذلك.
فهذا نوعٌ من التَّوسُّل يجب أن يعرفه الإنسانُ ويتعبَّد به.
من التَّوسُّل أيضًا: التَّوسُّل إلى الله بالعمل الصَّالح، مثل: حديث أصحاب الغار، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا عن ثلاثة رجالٍ ذهبوا في سفرٍ، فأُغلِق عليهم الطَّريقُ، ونزلت صخرةٌ فأغلقت عليهم بابَ الغار، فتوسَّلوا إلى الله بأعمالٍ صالحةٍ عملوها، وهي أعمالٌ صالحةٌ خالصةٌ لله رب العالمين، فكشف اللهُ كُربَتَهم.
أيضًا من التَّوسُّل ما فعله الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- في صلاة الاستسقاء، فقد قدَّم عمرُ بن الخطَّاب العبَّاسَ عم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يدعو وهم يُؤمِّنون.
أيضًا معاوية -رضي الله عنه- قدَّم يزيد الجرشي، وأمره أن يدعو والناس يُؤمَّنون، وغدًا الاستسقاء، فحَرِيٌّ بالإنسان أن يكون حريصًا على الصلاة مع المسلمين، ويسأل الله -عز وجل- أن يسقي البلادَ والعبادَ.
انظر إلى أصحاب الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- هل ذهبوا يتوسَّلون بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهم في المدينة، وفي مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم؟ لا، وإنَّما طلبوا من العبَّاس، فيدعو الرجل الصَّالح لك وتُؤمِّن على ذلك، أو يدعو لك بظهر الغيب، فهذا أمرٌ مشروعٌ، لا إشكالَ فيه، وقد مرَّ بنا أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عاهد بعضَ أصحابه ألا يسألوا الناسَ شيئًا.
ولذلك لا يثبت أنَّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- طلب من أحدٍ الدُّعاءَ، فحديث عمر -رضي الله عنه- ضعيفٌ، كما بيَّن أهلُ العلم، وهو الحديث الذي جاء فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: «لا تَنْسَنا مِن دُعَاءِكَ يَا أَخِي». هذا ضعيفٌ كما بيَّنه أهلُ العلم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت أنَّه طلب من أحدٍ الدُّعاءَ.
فإذن هذه الآية: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: 180]، الأسماء الحسنى: أي بالغة الحُسن، ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ أي بالغة من الحُسن أعلاه، فلا شيءَ أحسن منها، فهي المتناهية في الحُسن، وكل أسماء الله -سبحانه وتعالى- حسنةٌ، ولا يعلم عددَها إلا اللهُ، كما مرَّ معنا: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُو لَكَ». كما جاء في الحديث عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
لما روى الترمذي هذا الحديث: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسمًا» أورد بعضَ الرُّواة وهو الوليد بن مسلم هذه الأسماء، وهذا السَّرد لا يصِحُّ عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- وإنَّما تُستخرَج الأسماءُ من كتاب الله ومن سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومشروعيَّة التوسل بأسمائه قال: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾، أي توسَّلوا إلى الله بها، تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا جواد يا كريم، ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ أي اتركوهم وجانبوهم وفارقوهم في ذلك.
فهذا أيضًا جحود الأسماء والصِّفات وقد مرَّ معنا.
مما مرَّ معنا أنَّ جُحودَ أسماء الله -عز وجل- منه ما هو جُحودٌ كُليٌّ، فيجحدها تمامًا أو يُؤوِّلها، ومنه أنَّه يُسمِّي المخلوقين بأسماء الله -عز وجل- كما فعل المشركون، فقالوا: اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز.
مرَّ معنا أنَّ اللاتَ كان رجلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ، فأيُّهما الصَّحيح؟ الصَّحيح كلا الأمرين، أنَّه كان يَلُتُّ السَّوِيقَ، ثم قالوا: هو اللات من الإله، فنسبوه إلى الله -سبحانه وتعالى.
وأيضًا من جحد أسماءَ الله -عز وجل- أن يُدخَل فيها ما ليس منها، فيجعل من أسماء الله ما ليس منها، وأن تُؤوَّل الصِّفات إلى غير معناها، ولذلك جاء عن ابن أبي حاتم في تفسير: ﴿يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ قال: يُشركون. أي يشركون في أسماء الله -عز وجل- في ذلك. هذا الباب مرَّ معنا.
لعلنا نختم هذه الدُّروس المُباركة بهذا الباب العظيم، وفيه تحذيرٌ للمسلمين وبيانٌ في ذلك، وهذا الباب هو باب الهَذْل بشيءٍ مما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم.
وهذا -للأسف الشديد- واقعٌ في بعض المسلمين، وأصبح دَيْدَنَ بعض مَن يُسمُّونهم أدباء، وهم أبعد شيءٍ عن الأدب، فهذا فيه سَبٌّ الله -عز وجل- واستهزاءٌ بالله وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- والغريب أنَّ بعضَ هؤلاء لا يجرؤ على الاستهزاء أو الكلام على كثيرٍ من المخلوقين، فيعُفُّون عن ذلك ويجبنون، لكن يستهزؤون بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يقول: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، نعوذ بالله من الضَّلال.
فنختم هذه الدروس بهذا الباب العظيم، ومن مزاعم بعضهم أنَّ الأدبَ لابُدَّ أن يُطْلَق، لكن لماذا لا يُطلق في سَبِّ البشر؟! لماذا لا يُطلق في سَبِّ الخلق من الناس؟! لماذا انطلق في سَبِّ الرب -سبحانه وتعالى- وشرعه والاستهزاء بشرعه وبدينه وبما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم؟!
لعلنا نقرأ هذا النَّصَّ الآن، أو هذا البابَ ونختم به، حتى يكون معنا -إن شاء الله- شيءٌ من الوقت للأسئلة.
{قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى: (باب مَن هَذَلَ بشيءٍ فيه ذكرُ الله أو القرآن أو الرسول -صلى الله عليه وسلم.
وقول الله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنلْعَبُ﴾ [التوبة: 65]، عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديثُ بعضهم في بعضٍ: أنَّه قال رجلٌ في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللِّقاء. يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه القُرَّاء، فقال له عوفُ بن مالك: كذبتَ، ولكنَّك مُنافِقٌ، لأخبرنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليُخبره، فوجد القرآنَ قد سبقه)}.
هذه معجزةٌ، فهؤلاء في جيشٍ واحدٍ، فينزل الوحي ويسبق عوفًا وهو ذاهِبٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
{(فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقتَه، فقال: يا رسول الله، إنَّما كنا نخوض ونتحدَّث حديث الرَّكْبِ نقطع به عنا الطَّريقَ. قال ابنُ عمر: كأنِّي أنظر إليه مُتعلِّقًا بِنِسْعَةِ ناقة)}.
بنِسْعَة ناقةٍ: أي الحبل الذي يُربط على بطن النَّاقة.
{(بنِسْعَةِ ناقةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنَّ الحجارةَ تنكب رجليه، وهو يقول: إنَّما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: ﴿أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65، 66]، وما يلتفت إليه، وما يزيده عليه)}.
هذا في باب الاستهزاء بالله وآياته ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكتابه وشرعه ودينه، فالمُستهزئ أعظم كفرًا ممن يسجد للصَّنم، أرأيت الذي يسجد للصنم؟ فالذي يستهزئ أعظم ممن يسجد للصنم؛ لأنَّ الكفرَ هنا كفر إعراضٍ، فكفره مُعارضة، فهذا كفرُ معارضةٍ من المُستهزئ، وهذا أمرٌ عظيمٌ: ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ﴾ دائمًا إذا جئنا نقرأ الآيات نتأمَّل ما قبلها، الله -عز وجل- ذكر قبل هذه الآية أن الله مُخرِجٌ ما يحذرون، فما يحذرون أن يُخرجوه للناس ويقولونه للناس سيُخرجه الله، ولذلك يقولون بعضَ الكلمات وتضيق بهم الأرضُ بما رحبت، ما يريدون أن يقولونها، لكن خرجت وبيَّنها اللهُ -عز وجل- وفضحهم على رؤوس الخَلائق، فأجابهم الله، أي جاؤوا بدعواهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونزل الوحي.
قال: (عن ابن عمر) عبد الله بن عمر (ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديثُ بعضهم في بعضٍ) أي أنهم كلهم رووا الحديثَ وألفاظهم مُتقاربة، فجمع الحديثَ وجعله لفظًا واحدًا، فهؤلاء لفظهم واحدٌ في ذلك، ولذلك لا يجوز الاستهزاء بالله وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو كفرٌ بإجماع المسلمين، ناقضٌ من نواقض الإسلام، وفاعله مُرتدٌّ، يجب أن يُحاكَم في المحاكم الشَّرعية، فيُحاكَم عند الولاة، ويُبيَّن عند علماء المسلمين وعند قضاتهم، أمَّا ما تفعله بعضُ الجماعات من قتله بمجرد الكفر، فلا، ليس هذا صحيحًا، ولا يُشرع في الإسلام.
فسواءً كان هذا المستهزئ جادًّا أو هازلًا أو لاعبًا أو مازحًا، كل هذا لم يُستثنَ، ولذلك فإنَّ الله استثنى طائفةً واحدةً حيث قال: ﴿مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾ [النحل: 106]، المُكرَه هنا هو الذي استثناه اللهُ، أمَّا غير ذلك فكلُّهم يكونون في هذه القضية.
هذه القصَّة وقعت في غزوة تبوك، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- غزا تبوك في شدَّة الحَرِّ وفي شدَّة الصيف، فكان بعضُ المنافقين يقول: تحسبون غزو بني الأصفر-يعني الروم- مثل غزو العرب بعضهم لبعضٍ؛ كأنِّي بكم مُقَرَّنين في الأصفاد. يعني كلكم أسرى عندهم.
قال الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 42] وغيرها من الآيات، فسورة التَّوبة كلها تُبيِّن هذا الأمر العظيم في ذلك.
قال هذا المُنافق يسُبُّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء". يعني رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- "أرغب بطونًا". أي أنهم يُحبُّون الأكلَ، وأيضًا: "أكذب ألسنًا، وأجبن عند اللِّقاء". وهذه هي صفات المنافقين، لكن كثيرًا من المنافقين اليوم يجعلون الصِّفات التي فيهم في المسلمين، انظروا في بعض المنافقين، هم من حلفاء اليهود، وهم الذين ينصرون اليهودَ، وساندوا اليهود سنين طويلة، ومع ذلك يقولون للمسلمين: أنتم الذين تُحبُّون اليهودَ ونحن الذين نُقاتلهم! ما وجدنا شيئًا من دعواكم في ذلك.
(فذهب عوف) وهذا هو الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يرفع مثلَ هؤلاء المنافقين إلى الولاة، ويرفعهم حتى يُقام عليهم أمر الله -سبحانه وتعالى.
(فسبقه القرآنُ) وهذا علم الرب، والوحي، ومعجزة من معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فارتحل الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وهذه القصة سندها حسنٌ في ذلك.
فهذا أمرٌ عظيمٌ بيِّنٌ في هذه القضية، وهي بابٌ عظيمٌ، وحريٌّ بنا أن نُطِيلَ فيه، لكن وقتنا لا يسمح في هذا، فلعلنا نستعرض بعضَ الأسئلة لبعض الإخوة حتى نفي بشيءٍ من حقِّهم في هذا الأمر، والله -عز وجل- سمَّى الاستهزاءَ كفرًا؛ فقال سبحانه: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وهو من نواقض الإسلام، ولا يُعفى فيه عن اللعبِ والمِزَاح أو غير ذلك.
{يقول السائلُ: الحديث دلَّ على أنَّ الاستهزاءَ مُتَّجهٌ للصَّحابة والقُرَّاء، فالآية تقول: ﴿أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ﴾ فأيُّ هذا؟}.
آيات القرآن الكريم، وآيات الله الكونية، وآياته الشَّرعية، كلُّ هذا لا يجوز الاستهزاء به.
{لكن هم سَبُّوا القُرَّاءَ مُباشَرةً}.
نعم، لكنَّهم قالوا: القُرَّاء، مَن الذي يحمل القرآن؟ مَن الذي يُبلغنا العلمَ اليوم؟ هو سَبَّ القارئ، وسَبَّ العالِمَ، وسَبَّ السُّني، ما يُراد به؟ يُراد به ما يحمله.
{طيب والاستهزاء بالله في الآية؟}.
هو بآيات الله، بكلام الله، فالقرآن كلام الله، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالاستهزاء بهم، ولذلك فإنَّ كلَّ الاستهزاء الذي يكون بالعلماء أو بأهل السُّنة والتَّجنِّي عليهم، المراد به صدُّ الناس عمَّا يقولونه من الحقِّ، وما يقولونه مما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
{تقول السائلةُ: بالنِّسبة لزيارة النِّساء للقبور، في بلادنا هناك أيام جُعلت لزيارة القبور، وتعني بالقبور قبور الأقرباء والأرحام، وليس للعبادة، لكن أنا أُورد لهم هذا الحديث: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ». فيجعلون يوم السابع والعشرين من رمضان والعاشر من محرم لزيارة قبور الأقرباء والوالدين؟}
زيارة القبور بالنِّسبة للرِّجال جعلها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مباحة فقال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا». أمَّا زيارة النِّساء فجاءت فيها الأحاديث، والواجب على المسلم امتثال ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذه المسألة كما رأيتم فيها خلافٌ بين أهل العلم؛ لاختلاف الأدلة في ذلك، والرَّاجح والصَّحيح هو: النَّهي عن زيارة النِّساء، لكن إذا كان العلماء في بلادك يُفتون بإباحة زيارة النساء، فلا تجعل القضية تصل إلى النِّزاعَ والشِّجار والخلاف في ذلك، لكنَّ الصَّحيحَ والرَّاجحَ من ذلك عدم زيارة النِّساء.
أمَّا تحديد يوم العاشر أو تحديد يوم السابع والعشرين لزيارة القبور؛ فلم يرد فيه دليلٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك.
{يقول السائلُ: رجاء أن تُحدِّد لنا مَن هم آل محمدٍ الذين نذكرهم في الصَّلاة وفي التَّشهد؟}
آل محمَّدٍ هم آل قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيهم آل العباس عم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الذين لا يأخذون الزكاة، وآل جعفر، وآل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومنه زوجات النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فكلُّ هؤلاء آله، ويرد في بعض الآيات الآل هم الأتباع أيضًا، فالمقصود أنَّه يدخل فيها هذه المعاني.
بعضُ أهل البدع جعلوا آلَ البيت هم أبناء عليٍّ من فاطمةَ -رضي الله عنهما- وأبناء عليٍّ -رضي الله عنه- أكثر من سبعة عشر، وفيهم عمر وفيهم أبو بكر وفيهم جميع الأسماء التي يزعمون أنَّ عليًّا يبغض أصحابها، فكانت بينهم المحبَّة مُتبادلةً، رحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم، وسلك بنا طريقَهم وعلى نهجهم.
ننتهي في هذا اللِّقاء الأخير، ونسأل الله تعالى أن يجعل عملَنا خالصًا، وأن يجعله نافعًا، ونسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم العلمَ النَّافعَ والعملَ الصَّالحَ، وأن يجعله حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، ونتمنى وندعو جميعَ الإخوة إلى المُشاركة في الدَّورات القادمة، وشكر الله لكم جميعًا، المشاهدين والمتابعين، وشكر الله لكم حضوركم، وتثقيلنا عليكم في بعض الأسئلة أحيانًا، فشكر الله للجميع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّدٍ، وإلى لقاءٍ آخر -إن شاء الله تعالى.
ملحوظة:ملخص المحاضرة فى أول رد على المشاركة
http://www.youtube.com/watch?v=HLusrErfKoY
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الرُّسُل والنَّبيين، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
نُرحِّب بالإخوة والأخوات المُتابعين معنا في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مقرر العقيدة (1)، وهذا هو اللِّقاء الأخير والدرس الأخير في هذه الدَّورة، وتبدأ -إن شاء الله- دوراتٌ أخرى.
أيضًا نُرحِّب بالإخوة الحضور معنا في الاستوديو، والذين تجشَّموا دائمًا الحضور، وإن كانوا يغيبون أحيانًا ويحضرون أحيانًا، فحيَّاهم الله، وحيَّا الله الإخوةَ المتابعين معنا، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا.
الختام في هذا اللِّقاء الأخير سيكون معنا الكلام عن الأسماء الحسنى، أسماء الرب -سبحانه وتعالى- وصفاته العُلَى، والكلام عنها لا يُمَلُّ، وهو كلامٌ عظيمٌ وجليلٌ، وحَرِيٌّ بالإنسان أن يتعلَّمه ويتدبَّره، وينظر فيه بين حينٍ وآخر؛ لأنَّه بابٌ من أبواب العبادة العظيمة التي يحرص الإنسانُ عليها، وإنَّما أصبح هذا البابُ صعبًا على كثيرٍ من طلاب العلم وبعض المسلمين بسبب ما دخله من البدع، فلو أنَّ الناسَ تابعوا ما جاء عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتركوا تَكَلُّفات أهل الكلام وأهل الضَّلالة وأهل البدع لَمَا وجودوا شيئًا من هذه الأمور، لكن -للأسف الشَّديد- كثيرًا من المسلمين أو كثيرًا ممن كتب في هذا الباب أصبحت قضيته هي النِّقاشَات.
وسأضرب لكم مثالًا عمليًّا دقيقًا، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حديث النُّزول، وهذه صفةٌ من صفات ربِّنا: «يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ»، هذه صفة النزول، انظر ما هي، جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- انظروا الجانبَ العلميَّ التَّطبيقيَّ، يقول الله تعالى: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟» ارفع حاجتَك إلى ربِّك -سبحانه وتعالى- ثم لما دخلت البدعُ على المسلمين، انظروا آثارها، قالوا: كيف ينزل ربُّنا -سبحانه وتعالى؟ هذه الكيفيَّة أنت لا تُحيط بها، فأنت لم تُحِطْ بكيفيَّة جسدك، وروحك لا تحيط بها؛ فلماذا تكبَّرتَ؟ لماذا تجبَّرت على ربِّك -سبحانه وتعالى؟
فهذه من القضايا التي أفسدها على كثيرٍ من المسلمين.
انظروا، وتأمَّلوا، يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهذا مرَّ معنا في أول الدروس، آية الكرسي: «مَنْ قَرَأَ آيةَ الكُرْسِيِّ بَعْدَ كُلِّ صَلاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ إِلَّا المَوتُ». كم من المسلمين يقرأها؟ لكن هل تأمَّلناها؟!
انظروا ما هي الأسماء والصِّفات الواردة في هذه آية الكرسي؟ ما هي الصِّفات والأسماء الواردة فيها؟ كم من الأسماء التي يُرددها المسلمُ في أذكار الصَّباح والمساء؟ أسماء الرب -سبحانه وتعالى.
هل حاول أن يتفهَّم هذه المعاني؟ أم أصبحت الأسماءُ والصِّفاتُ مباحث في النِّقاش العقيم الذي أدخله كثيرٌ من أهل الكلام والفلسفة والنِّقاش البِيزَنْطي، المنسوب إلى الفلسفة الإغريقيَّة وغيرها، وهي فلسفة بعيدةٌ عن الواقع، تبحث عن الجانب النَّظري في ذلك.
آية الكرسي فيها خمسة أسماء، هي (الله، والحي، والقيوم، والعلي، والعظيم) هذه خمسة أسماء من أسماء ربنا -سبحانه وتعالى.
تأمَّلتَ عُلُوَّه -سبحانه وتعالى؟
هل تأمَّلتَ عظمتَه -سبحانه وتعالى؟
القيُّوم، قائمٌ بكلِّ شيءٍ، قائمٌ بمعيشتك، بطعامك، برزقك، بحياتك، كل مخلوقٍ على هذه الأرض هو القيُّوم عليه -سبحانه وتعالى.
هل تأمَّلنا هذه المعاني؟
انظر من صفات الرب -سبحانه وتعالى- الألوهيَّة، انتفاء السِّنَة والنَّوم عنه -سبحانه وتعالى- صفة الملك، قوَّة السُّلطان، الإذن، علم الله -سبحانه وتعالى- فهو لا ينسى ما مضى، ولا يجهل المستقبل، المشيئة، العظمة، القُوَّة، القدرة، كمال العلم، كمال رحمة الله -سبحانه وتعالى- حفظه لخلقه -سبحانه وتعالى.
هذه كلها صفات الرب، هل تأمَّلناها؟
هذا هو الواجب في دراسة الأسماء والصِّفات، أننا ندرس النُّصوصَ الواردة فيها أسماء الرب -سبحانه وتعالى- وصفاته في هذا الباب.
المؤلف -رحمه الله- أورد بعضَ الأبواب التي فيها ردٌّ على بعض الفرق المُخالفة لأهل السُّنة، ولذلك أورد شيخُ الإسلام الإمامُ المُجدِّد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بعضَ الأسماء المُتعلِّقة بالأسماء والصِّفات، فالكتاب في غالبه يتعلَّق بتوحيد العبادة، لكن أورد بعضَ الأسماء المتعلِّقة بالأسماء والصِّفات، لماذا؟
لأن الذي ينفي أسماءَ الله وصفاته لا يمكن أن تتحقَّق له العبادةُ الصَّحيحةُ، فلا يمكن أن تكون عبادتُه صحيحةً، فالذي ينفي حكمةَ الرب -سبحانه وتعالى- هل سيتوكل عليه؟ والذي ينفي علمَ الرب -سبحانه وتعالى- وقدرته هل سيتوكل عليه؟ لا يمكن أن تكون عبادتُه صحيحةً وسليمةً في ذلك.
ولذلك أورد المؤلفُ -رحمه الله- في هذا الباب: (باب مَن جَحَدَ شيئًا من الأسماء والصِّفات) مَن يجحد شيئًا من أسماء الله وصفات الرب -سبحانه وتعالى- ما حكمه؟
أمَّا بابُ الأسماء فقد ذكرها كثيرٌ من أهل العلم، وإنَّما ذكروا الأسماءَ بالأدلة من كتاب الله وسُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما فعل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في العقيدة الواسطِيَّة، فهو حينما جاء إلى مسألة الأسماء والصِّفات أورد النُّصوصَ من كتاب الله ومن سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
إذن نحن أمامنا هذا الباب العظيم، وهو أحد أنواع التَّوحيد، أنواع التَّوحيد ثلاثة: توحيد الألوهيَّة، وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات.
بعضُ أهل العلم قد يُدخِل توحيدَ الرُّبوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصِّفات ويُسمِّيه توحيد المعرفة والإثبات، وإنَّما أُفرِدَ توحيدُ الأسماء والصِّفات لما كثُرَ فيه الخلافُ من المُخالفين لأهل السُّنة، فتكلَّموا في ذلك.
نقرأ هذا البابَ حتى نستذكر هذه النُّصوص.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى: (باب مَن جحدَ شيئًا من الأسماء والصِّفات، وقول الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30]، الآية.
وفي صحيح البخاريِّ: قال عليٌّ -رضي الله عنه: "حَدِّثُوا الناسَ بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله!". وروى عبد الرَّزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباسٍ أنَّه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الصِّفات، استنكارًا لذلك، فقال: "ما فرق هؤلاء؟ يجدون رِقَّةً عند مُحْكَمِه، ويهلكون عند مُتشابِهه". انتهى.
ولما سمعت قريشُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمنَ؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30])}.
هذه المسائل التي أوردها المؤلفُ: (باب مَن جحد شيئًا من الأسماء والصِّفات) الجحود هنا قد يكون جحودَ إنكارٍ، وهذا كفرٌ مُخرِجٌ من المِلَّة، وهو أن يجحد أسماءَ الرب -سبحانه وتعالى- أو صفاته، وهناك جحود تأويلٍ، وهو الذي وقعت فيه طوائفُ من هذه الأُمَّة، وفِرَقٌ من فِرَق الضَّلال المُخالفة لأهل السُّنة.
أول أسماء الرب -سبحانه وتعالى- مثل قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، استوى: نقول كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، قال أهلُ الباطل: لا، لم يستوِ! إذن ماذا فعلوا؟ فقالت المُعْتَزِلَةُ: استولى.
وكلمتهم هذه مثل كلمة اليهود، فاليهود قيل لهم: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: 58]، فقالوا: حنطة.
فلذلك هؤلاء زادوا نونًا، وهؤلاء زادوا لامًا، فتشابهوا بهم، وقد أخبرنا اللهُ -عز وجل- بخبرِ ما حصل من الأمم السَّابقة، وأنَّ طوائفَ من هذه الأُمَّة سيُتابعون هذه الأُمم.
ثم جاء أيضًا نفي الاستواء عند الكُلَّابِيَّة، فهم يقولون مثلًا: استوى هو فعل يفعله في العرش، وليس من أفعال الرب -سبحانه وتعالى. فنفوه، ولذلك يقولون: استوى، ودائمًا يُطلقونها، لكن عند التَّفسير حين تتأمَّل بعضَ أقوالهم، وهذا عند الكُلَّابِيَّة وقُدماء الأشعرِيَّة، فإنَّهم يُثبتون الاستواء، لكن يقولون: هو فعلٌ يفعله في العرش. هذا قول بعضهم، أو هو الظَّاهر من أقوالهم، لكن قد يكون لبعضهم قولٌ مُوافِقٌ للسُّنة.
ثم تحوَّلت الأشعرِيَّةُ بعد ذلك على يد الجُويني ومَن تابعه، فهم قالوا: استوى: استولى. هذا قول الجُويني ومَن تابعه، أمَّا أوائل الأشعَرِيَّة فلم يكونوا يقولون بقول المُعتزِلَة في ذلك، حتى يتبيَّن التاريخُ. ثم استقَرَّ عند الأشعَرِيَّة المُتفلسفة كالرَّازي وأتباعه على أنَّ استوى: استولى، وهو قول المعتزلة تمامًا، فأوائلهم كانوا يردون ذلك كأبي الحسن الأشعري والقدماء، فكانوا يَرُدُّون مثل ذلك ويُثبتون الاستواء.
هذا هو التأويل، إذا كان لهذا التَّأويل مُسَوِّغٌ في لغة العرب؛ فإنَّه لا يكفر، أمَّا إذا لم يكن له مُسَوِّغٌ، بل عن الهوى واللَّعب بآيات الله -عز وجل- وتحريفها؛ فإنَّه يكون كفرًا يُخرج من المِلَّة.
وهنا قال: (باب مَن جحد الأسماء والصِّفات) أي مَن يجحد هذه الأسماء والصِّفات، فوقعت فيه طوائفُ.
وذكر هذه الآية: (قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾) هذه الآية نزلت في المشركين، فالمراد هنا المشركون الذين يكفرون بالرحمن، أي يكفرون باسم الرحمن -سبحانه وتعالى- وإلا فهم كما أخبر الله -عز وجل: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ﴾ [الزخرف: 87]، ماذا يقولون؟ يُثبتون الرُّبوبيَّة لله -عز وجل- ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [العنكبوت: 61]، ولئن سألتهم عن رزقهم وعن خلقهم، كل ذلك يُقرُّون، ولذلك استدلَّ اللهُ -عز وجل- عليهم بذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21]؛ لأنَّهم لا يُنكرون الخلقَ، فاستدلَّ عليهم بذلك.
وسبب نزول هذه الآية أنَّ كفار قريش لما سمعوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن قالوا: وما الرحمن؟ لا نعرف إلا رحمان اليمامة. أي مُسَيلِمَة الكذَّاب.
ويظهر أنَّ هذا ليس قولهم كلهم، ففي صُلح الحُدَيبية نادى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- ليكتب الصُّلحَ، فقال: «بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ». فقالوا: لا نعرف هذا، وإنَّما اكتب: بسمك اللَّهُمَّ.
العجيب أنَّ بعضَ الذين يدَّعون أنَّهم يُحِبُّون آل البيت ويُتابعونهم؛ إذا جاءوا يكتبون يُتابعون قريشًا، ولا يُتابعون الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- ولا آل بيته، فيكتبون دائمًا في مقدمة فتاويهم: باسمك اللهم.
طيب لماذا لا تُتابعون النبي –صلى الله عليه وسلم- وتقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم. كما في القرآن وقول الرسول وفعله -صلى الله عليه وسلم؟!
ولذلك رفضت قريش أن يُكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم" في صُلح الحديبية، ورفضوا أن يُكتب "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فهم كفروا به، فالذي يكفر بأسماء الرب أو صفات الرب -سبحانه وتعالى- هو تابِعٌ لهم، وسنذكر مَن يكفر بذلك.
وأسماء الرب -سبحانه وتعالى- كثيرةٌ ومُتعدِّدةٌ، ولا يدلُّ تعدُّدُ الأسماء على تعدُّد المسمى؛ بل يدلُّ تعدُّد الأسماء على عظمة المُسمَّى سبحانه، فكثرة الأسماء لا تدلُّ على تعدُّد المُسمَّى، كما زعمت المعتزلةُ أو غيرها، فقد زعموا أنَّ الصِّفات تدلُّ على أربابٍ كُثُر، لا، هذا ليس صحيحًا، بل تدلُّ على عظمة المُسَمَّى -سبحانه وتعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: 8]، كلُّ هذه دلَّت على الأسماء الحسنى لله رب العالمين، وجاءت في القرآن الكريم في ذلك.
جاء أيضًا في الحديث: «إِنَّ لله تِسْعةً وتسعين اسمًا، مَن أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ». معنى «أَحْصَاهَا»: أي أنَّه عرفها وعرف معناها وتعبَّد اللهَ بها، وأسماء الله أكثر من ذلك، وإنَّما أخبر أنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، لكن أسماء الله أكثر من ذلك، بدلالة قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «أَسْأَلُكَ بكُلِّ اسمٍ هُو لَكَ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَو أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَو عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ». فأسماء الله كثيرة -سبحانه وتعالى.
أحيانًا نجد في كثيرٍ من المحلات أو في كثيرٍ من الأماكن قائمةً فيها أسماء الرب -سبحانه وتعالى- هذه الأسماء لم ترد عن الرسول بهذه الصِّياغة، وإنَّما وردت عن بعض رُواة حديث: «إِنَّ لله تِسْعةً وتسعين اسمًا». فلمَّا جاء هذا الفضل سرد الأسماء، وبعض الناس ظنُّوا أنَّها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن اجتهد كثيرٌ من علماء الأُمَّة وذكروا أسماءَ الله الحُسنى.
ثم قال تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]: أي توسَّلوا بها بالدُّعاء إلى الله -سبحانه وتعالى.
وهذا مما سأل عنه بعضُ الناس، فقد سألوا عن قضيَّة التَّوسُّل، ويُطِيلُون النِّزاعَ فيها، وقضية التَّوسُّل بيَّنها الله -عز وجل- فالإنسان يتوسَّل بماذا؟ يتوسَّل بما بيَّنه الله -عز وجل- فيتوسَّل بأسماء الله وبصفات الله -سبحانه وتعالى- كما في الأدعية النَّبويَّة: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، اذْهِبِ الْبَأْسَ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي». باسم الله -عز وجل- من أسماء الرب -سبحانه وتعالى.
ودعاء سيِّد الاستغفار قال: «إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ». صفة المغفرة، فيتوسَّل الإنسانُ بأدعية الرب -سبحانه وتعالى.
وقال: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180]، أي يُنكِرونها، ويُنكرون معانيها، ويُحرِّفونها، ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، فهذا الوعيد الشَّديد العظيم لهم.
وأهل السُّنة والجماعة يُثْبِتُون أسماءَ الرب -سبحانه وتعالى- من غير تحريفٍ، فلا يُحرِّفونها عن معانيها، ومعانيها كما جاءت في لغة العرب، وكما وردت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسُّنة، فلا نُحرِّف، ولا نُغَيِّر، ولا نُعَدِّل، والتَّحريف ذكره الله عن الأُمم السَّابقة.
من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ: التَّعطيل معناه: أنَّه يُعَطِّل معناها، مثلًا: استوى معناها ارتفع واستقرَّ وعلا. فيلغي المُعَطِّل هذا المعنى، أي يُعطِّله، فيمنع هذا المعنى ويأتي بمعنًى جديدٍ، ويُحرِّف، فهو عَطَّل ثم حرَّف بعد ذلك.
ومن غير تكييفٍ: الكيفيَّة: فلا نقول صفة السَّمع لربنا مثل صفة سمعي، أو نقول: ينزل ربنا كذا. لا، هذا هو التَّكييف الذي لا يجوز، فلا نُكيِّف الصِّفة؛ لأنَّنا لا نعرف كون الرب -سبحانه وتعالى- حتى نُكَيِّف الصِّفة، فلا نستطيع، وليس في قُدرة البشر أن يُكيِّفوا صفات الرب سبحانه.
هذا هو التَّكييف، أي وصف كيفيَّة الصِّفة، وهذا هو الذي لا نعلمه، أمَّا آيات الصِّفات والصِّفات الواردة والأسماء الحسنى؛ فهذه معروفة معانيها في لغة العرب.
من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ: لا يُمَثِّلون الله، فلا يُقال: لله يد كيدي، أو سمع كسمعي، أو بصر كبصري. لا يقولون ذلك، وهذا ينفيه أهلُ السُّنة ويُثبتون معانيها وما تدلُّ عليه، لكن كيفيَّة هذه الصِّفة لا يعلمها إلا الله، كيف استوى، كيف ينزل ربنا؟ لا نعلم هذه الصِّفة، ولا نُحيط بها علمًا، ولا قُدرة لنا على ذلك؛ بل الإنسانُ في نفسه ضعيفٌ، غير قادرٍ على فهم نفسه ذاتها.
من الطَّوائف التي جحدت أسماءَ الله -عز وجل- الجَهْمِيَّة، أتباع الجهم بن صفوان، أخذ ذلك عن لبيد بن الأعصم الذي سحر الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسَّند معروفٌ في كتب أهل العلم، فجحد الأسماء والصِّفات، نفى الأسماء والصفات، وقال: إذا أثبتنا لله أسماء وصفات فمعنى ذلك أننا نُثبت لله -سبحانه وتعالى- قدماء مع الرب -سبحانه وتعالى.
وكذلك المعتزلة: فقد نفوا الصِّفات وأثبتوا الأسماءَ، ونفوا ما تدلُّ عليه الأسماءُ.
وأوائل الأشعريَّة أو الكُلَّابِيَّة عمومًا أتباع ابن كُلَّاب، كانوا ينفون الصِّفات الفعليَّة، أي صفات الأفعال، ويُثبتون الصفات الخبريَّة، ثم تطوَّر الأمرُ بهم حتى أن متأخِّريهم كالجويني ومَن تابعه، والرازي ومَن تابعه، نفوا الصِّفات الفعليَّة والخبريَّة كلها، وتابعوا المعتزلة، ولذلك لقَّبهم بعضُ أهل العلم بمُعتزلة الأشاعرة.
أمَّا صفات الرب -سبحانه وتعالى- فهناك صفاتٌ فعليَّةٌ تتعلَّق بمشيئة الرب -سبحانه وتعالى- إذا شاء فعلها، مثل النُّزول والاستواء والكلام، فإذا شاء تكلَّم -سبحانه وتعالى- فأهل الكلام ينفون صفةَ الكلام للرب -سبحانه وتعالى- من حيث آحاد صفة الكلام.
الصِّفات الخبريَّة التي جاءت في خبرٍ من كتاب الله وسُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل: الوجه، والعين، واليد، وغير ذلك، وقد وردت في كتاب الله وفي سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
والصِّفات دائمًا أوسع من الأسماء، فهناك صفات لا نأخذ منها أسماء، فالصِّفات أوسع من الأسماء، فكلُّ اسمٍ يتضمَّن صفةً، فالحي يتضمَّن صفة الحياة، والله يتضمَّن الألوهيَّة، والعظيم يتضمَّن صفة العظمة، والعَلِيُّ يتضمَّن صفة العُلُو، لكن ليست كلُّ صفةٍ تكون اسمًا، مثل صفة الكلام، فلا نقول: الله مُتكَلِّم. والإرادة، فلا نقول: الله مُرِيد. وعلى هذا النَّحو، وهي لها تفصيلٌ أكثر من ذلك.
الدَّليل الثاني الذي ذكره المؤلفُ: حديث عليٍّ -رضي الله عنه- يقول: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب اللهَ ورسُولَه". أتُحِبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! وهذا منهجٌ عمليٌّ وتربويٌّ عظيمٌ، فيجب أن تُحدِّث الناسَ بما ينفعهم، وما يُفيدهم، فلا تأتي الناسَ فتُكلِّمهم عن قضايا ليست في واقعهم، ولا في بلادهم، وليس لها واقعٌ، وهذه هي المناهج الكلاميَّة التي وقع فيها أناسٌ، وهذه مناهج موجودة عند بعض المسلمين.
فالواجب أن تُحدِّث الناسَ بما يعقلون وبما يعرفون وبما يفهمون، هل قالها عليُّ ابن أبي طالبٍ في الأسماء والصِّفات، أي لا نُحدِّث الناسَ بها، أم قالها في شيءٍ آخر؟ يجب أن نعرف سياقَ القصَّة ما هي؟
كان القُصَّاص يذكرون للناس أشياءَ عجائب وغرائب وقصص خياليَّة، وأشياء من ذلك، فقال لهم عليٌّ -رضي الله عنه- هذا الأمر وأنَّه يجب أن تُحدِّث الناسَ بما ينفعهم؛ حتى لا يُبادرون إلى تكذيبه، وهذا منهجٌ عظيمٌ جدًا، فالواجب على كلِّ مسلمٍ أن يُحدِّثَ الناسَ بما يعقلون وبما يعرفون، وينقل لهم الأخبارَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالبلاد التي فيها تعصُّبٌ مذهبيٌّ مثلًا فلا يأخذون إلا بمذهبٍ مُعيَّنٍ فقط، فتُحدِّث هؤلاء من علماء ذلك المذهب، فتأخذ من علماء ذلك المذهب وتُخبرهم بما قالوا من الحقِّ بمُتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكلُّ الأئمَّة الأربعة -بحمد الله- دعوا إلى مُتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فهذه قاعدةٌ: أن الإنسانَ يُراعي أحوالَ السَّامعين، فإذا كان في وسطهم مُتعَلِّمٌ لهم كلامٌ، وإذا كان غير ذلك فيُبيِّن الأمورَ ويُوضِّحها في ذلك.
فمثلًا: بعض الناس يتحَذْلَق، فيأتي في الصَّحافة ويكتب لك ويقول: المسألة فيها خلافٌ. طيب الناس لا ينظرون في الأدلة، والخلاف إنَّما يكون في مجالس العلم، فالذين يعرفون أن هذا الدليلَ ضعيفٌ وهذا غير ضعيفٍ هم العلماء.
أمَّا أن تأتي على الناسِ وتطرح لهم المسألةَ وهم لا يعرفون ما الصَّحيح منها؟ وما الضَّعيف؟ وما دام في القضية خلافٌ فخذ ما شئتَ من ذلك! هذا من الباطل.
ولذلك فالواجب ألا يُكتَب ولا يُعرَض على الناس إلا ما كان فيه منفعتهم ومصلحتهم، وهذا هو المنهج الذي جاء به رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- فهذه قاعدةٌ عظيمةٌ.
الحديث الثاني: حديث عبد الله بن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- وهو حديثٌ صحيحٌ: أنَّه رأى رجلًا انتفض لما سمع آيات الصِّفات، هل انتفض خوفًا من الله؟ لا. وإنَّما إنكارًا لها، فقال ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنه- استنكارًا: "ما فرق هؤلاء؟!" ووردت لها ثلاثة ألفاظ، لكن معناها: ما أمر هؤلاء؟ لماذا يجدون رِقَّةً؟ تكون الرِّقَّةُ عند المُحْكَم، ويهلكون عند المُتشابه، لماذا هؤلاء القوم لا يتبعون المُحْكَم؟
وكما أخبرنا الله -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ [آل عمران: 7]، فالقرآن العظيم فيه مُحكَمٌ وفيه مُتشابِهٌ، وإذا جمعت الآيات التي اشتبه عليك معناها، ورددتها إلى المُحْكَم اتَّضح لك المعنى في ذلك.
فآيات الصِّفات مثلًا المُتشابه فيها هو: الكيفيَّة، والكيفيَّة لا نعلمها، ولا نحيط بها، ولا نعرفها، ويستحيل علينا معرفتها، أمَّا معاني الصِّفات فهو واضحٌ وبيِّنٌ وسهلٌ على الناس، فهو سهلٌ على مَن عرف العربيَّة، ومَن قرأ القرآنَ الكريم.
قاعدة أهل السُّنة والجماعة أنَّهم يردُّون المُتشابهَ إلى المُحْكَم، فيُفسِّرون بعضَ النُّصوص ببعضٍ؛ لأنَّه كلام الله وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم.
أمَّا أهل البدع: فإنَّهم يضربون كلامَ الله بعضَه ببعضٍ، فيُكذِّبون بعضَه ببعضٍ. أمَّا أهل السُّنة فيجمعون.
ولذلك زعمت بعضُ الفرَق الضَّالة أنَّ آيات الصِّفات كلها من المُتشابه، والله تعالى يقول: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، يتدبرون شيئًا مُتشابهًا، ما يعرفونه؟! ثم يقولون: يدَّبَّر آيات الأحكام! ولكن آيات الصِّفات أكثر، فكيف يمكن تأويلها؟ كيف نتدبر آيات الصِّفات؟! هذا من الجهل، فكيف تكون أشرف آيات الكتاب العزيز التي فيها صفات الرب -سبحانه وتعالى- وأسماؤه الحسنى من المُتشابه الذي لا يُفهم ولا يُتدبر؟! هذا من الضَّلال العظيم، نعوذ بالله من الخذلان في ذلك.
فكيف يكون أشرف ما في القرآن خفيًّا؟! هذا لا يكون أبدًا بأيِّ حالٍ من الأحوال.
هذا الرجل لما سمع أحاديثَ عن الصِّفات استنكرها وانتفض، أي خوفًا من ذكرها، وابن عبَّاسٍ استنكر حاله، قال: "يجدون رِقَّةً عند مُحكمه"، أي عند هذه الآيات تجد عندهم خوفًا، والفَرَق هو: الخوف، فهم يخافون عند ذكر هذه الآيات.
فالمقصود أنَّ هؤلاء الأقوام عندهم ضلالٌ حينما تُذكر آيات الأسماء والصِّفات، ومثلهم مثل عُبَّاد القبور، فعُبَّاد القبور اليوم إذا ذُكرَت عليهم الآيات التي فيها الرد على المشركين والأحاديث الواردة عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الرد على المشركين، تجد عندهم ماذا؟ يكون عندهم تردُّدٌ، ولا يُحبُّون سماع هذه الأحاديث، وبعضهم يقول: لا نقرأ التَّوحيدَ على الناس. لماذا؟ قال: لأنَّه يُفَرِّق الناسَ!
التَّوحيد هو الذي يُفرِّق الناس؟! ما قيمة هذا الاجتماع إذا كان بغير توحيد الله، وإخلاص العبوديَّة لرب العالمين؟!
فإذن لا يوجد أحدٌ -كما قال أئمَّة أهل السُّنة- من علماء أهل السُّنة يجعل آيات الصِّفات من المُتشابه، فآيات الصِّفات من المُحْكَم الواضح البيِّن، وطريقة أهل البدع أنَّهم جعلوا آيات الصِّفات من المتشابه، ثم جاء بعدهم مَن جعل ما يتعلَّق بالقبور من المُتشابه، وتجدهم يتمسَّكون بأثرٍ ضعيفٍ، أو بقصَّةٍ وردت عمَّن لا يُعرَف، ويُثبتونها ويجعلونها دليلًا، وآيات القرآن الكريم والصَّحيح من سُنَّة الرسول لا يعملون به! وهذا من غاية الانحراف، نعوذ بالله من الخذلان العظيم.
والدَّليل الأخير: حديثٌ عن مُجاهد وهو مُرسَلٌ ضعيفٌ، لكن مرَّ معنا في أسباب النُّزول، ويذكره أهلُ العلم في ذلك، لما سمعت قريش رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30]، وهم يكفرون، ولذلك مَن أنكر شيئًا من أسماء الله فإنَّه كفر.
فهذا الباب العظيم فيه أنَّ إنكارَ الأسماء والصِّفات كفرٌ، كما قال الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ﴾ [الرعد: 30]، وهذا فيه تفصيلٌ: فيكون كفرًا مُخرِجًا من المِلَّة، ويكون كفرًا غيرَ مُخرِجٍ من المِلَّة، ويكون ضلالًا في ذلك.
القضية الثانية أيضًا: التَّدرُّج في تعليم الناس: كما في حديث عليٍّ -رضي الله عنه- فيُبدأ بصغار العلم، وهذا أيضًا ورد عن ابن عبَّاسٍ كما في صحيح الإمام البخاري في كتاب العلم: أنَّه يُبدَأ بصِغار المسائل ثم يُنتقل إلى كبارها.
أيضًا حديث ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- دليلٌ على أن نصوصَ الصِّفات من المُحْكَم، وأنَّها تُذكر عند الناس ولا يُتحاشَى من ذكرها؛ بل تُشرَح للناس وتُبيَّن للناس في ذلك.
أول مَن جحد أسماءَ الرب -سبحانه وتعالى- المشركون، كفار قريش، وتابعهم مَن تابعهم من طوائف هذه الأُمَّة، نعوذ بالله من الخذلان.
نحن نختصر في هذا الباب اختصارًا شديدًا؛ لأنَّنا نخشى ألا ندرك ما جاء في هذا الباب.
نأخذ الباب الثاني في ذلك: (ولله الأسماء الحسنى).
هذا الباب الثاني فيما يتعلَّق بالأسماء والصِّفات، وكما ترون المؤلف -رحمه الله- فقد تكلَّمنا في المحاضرات الماضية كلها عن باب حماية جناب التَّوحيد، واليوم نذكر أكثر من بابٍ يتعلَّق بالأسماء والصِّفات، وفي كتاب التَّوحيد أكثر من بابٍ يتعلَّق بذلك، لكن الوقت لا يسمح بذلك.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180]، الآية.
ذكر ابنُ أبي حاتمٍ عن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- يُلحدون في أسمائه: يُشركون. وعن الأعمش: يُدخلون فيها ما ليس منها)}.
إذن هذا هو باب: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180]، كأنَّه لما تكلَّم على مسألة التَّوسُّل غير المشروع، وبيَّنه في الكتاب، وإخلاص العبودية، بيَّن لك بابًا عظيمًا وهو التَّوسُّل بالله، ما التَّوسُّل المشروع الحَرِيُّ بالإنسان أن يحرص عليه؟ ولذلك بيَّنه في هذا الباب.
وقضية التَّوسُّل من القضايا التي يُثيرها كثيرٌ من أهل البدع، ويتمسَّكون فيها بكلِّ شيءٍ، فيتمسَّكون بالقصَّة، ويتمسَّكون بالموضوعات، ويتمسَّكون بكلِّ شيءٍ في هذا الباب؛ لأنَّهم يُحاولون التَّمسُّك في هذا الأمر.
وهذا شيءٌ قديمٌ عند أهل الضَّلال كما قال الله تعالى عن المشركين أنَّهم قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وقوله: ﴿وَيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ ولَا يَنفَعُهُمْ وَيقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]، الغريب أنَّ بعضَ مَن يعبد القبور جاء على القبر نفسه وعلَّق هذه الآية، كتب آية: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، وهي نفس دعوى المشركين، ونفس أسلوبهم، بل يُكرر الآية: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ هل هؤلاء فهموا القرآن؟ معاذ الله، نعوذ بالله من الضلال. هل فهموا هذه الآية: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾.
فهؤلاء يقولون: نعرف أنَّ هؤلاء المقبورين مخلُوقُون ضعفاء، وليس عندهم قُدرةٌ، ولا يرزقون، ولا يخلقون، وليس عندهم شيءٌ من ذلك؛ لكن هؤلاء وُسَطاء عن الرب -سبحانه وتعالى- وشفعاء لنا، يقربونا إلى الله زلفى.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35]، ابتغاء الوسيلة هو: طاعة الله، الوسيلة بيَّنها اللهُ لنا، ولذلك سنذكر التَّوسُّل المشروع والتَّوسُّل الباطل في هذا الباب.
إنَّما تُتَّخذ الوسائط عند مَن؟ عند ملوك الأرض الذين لا يُحيطون بأحوال الناس، ولا يعرفون أحوالَ الناس، فقد نقص علمُهم ونقصت معرفتُهم، أمَّا الرب -سبحانه وتعالى- فهو بريءٌ من ذلك كله -سبحانه وتعالى.
فلذلك فإنَّ الوسيلةَ تُعرَّف في الاصطلاح بأنَّها: السَّبب والطَّريق الذي يُوصِل إلى الله -سبحانه وتعالى.
ما الذي بيَّنه اللهُ في كتابه وسُنَّة الرسول؟ السبيل والطَّريق المُوصِل إلى الله هو عبادة الله، وطاعته، وعبادته على ما شرع وبيَّن رسوله -صلى الله عليه وسلم.
من الأسئلة التي وردت في مسألة التَّوسُّل: أحد الإخوة من المغرب سأل فقال: أنَّه جاء في بعض المقولات أنَّهم ينقلون عن الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- أنَّه يقول أنَّ التَّوسُّلَ من مسائل الفقه والاجتهاد التي لا إنكارَ فيها، فنسبوها إلى الشَّيخ، وهذا يُنكره شيخُنا الشيخ صالح الفوزان، فلا يصِحُّ في ذلك، بل الثَّابت عنه -رحمه الله- أنَّه قال: التَّوسُّل الخالي من عبادة -هذا قول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- المُتَوَسِّل به، وإنَّما هو تَوسُّل بحقِّ الشَّخص أو جاهه، فهذا بدعةٌ وليس بشركٍ.
قال: "التَّوسُّل الخالي من عبادة المُتوسِّل" أي لا يعبده، فهو خالٍ من عبادته، وإنَّما هو توسُّل بحقِّ شخصٍ أو جاهٍ، فهذا بدعةٌ، وليس بشركٍ؛ لأنَّ هذا الشَّخصَ لم يصل إلى عبادة هذا الذي يتوسَّل به.
أمَّا التَّوسُّل الذي معناه التَّقرُّب إلى المُتوسِّل به بالذَّبح له والنذر له وغير ذلك من أنواع العبادات فهذا من الشِّرك.
إذن يجب أن نُفرِّق بين هذا وذاك، فالتَّوسُّل بجاه الشخص أو بحقِّه ليس له حقٌّ عن الله -سبحانه وتعالى- فهذا يكون بدعةً، ومن وسائل الشِّرك. أمَّا إذا كان التَّوسُّل الذي يصل إلى الذَّبح له والنذر له وصرف العبادة إليه؛ فهذا شركٌ يُخرج من المِلَّة.
إذن هناك تَوسُّلٌ ممنوعٌ، وهو التَّوسُّل بجاه الشخص أو بحقِّه أو بمنزلته أو بذاته، فهذا إمَّا أن يكون شركًا، وإمَّا أن يكون بدعةً، وإمَّا أن يكون وسيلةً إلى الشِّرك، وهو أن يقول: بحقِّ فلانٍ، أو بجاه فلانٍ.
لما جاء بعضُ المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية ببعض الأحاديث الموضوعة من الإسرائيليَّات، وتوسَّل بعضُهم إلى الله فقال: بحقِّي وحقِّ آبائي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأيُّ حقٍّ لك ولآبائك؟ فإذا كنتم تريدون الموضوعات فهي كثيرةٌ، فيمكن أن تأتي موضوعات ترد على باطلكم بباطلٍ في ذلك.
فإذن المقصود من هذا: التَّوسُّل بذات الشَّخص أو بجاهه، أو بحقِّه، فهذا إمَّا أن يكون شركًا، وإمَّا أن يكون بدعةً، فإن صرف العبادةَ لهذا الشَّخص، أي ذبح له، أو نذر له، فصرف العبادة له؛ فهذا يكون شركًا، أمَّا إذا لم يصرف العبادةَ له؛ فلا يكون شركًا، بل يكون بدعةً أو وسيلةً إلى الشِّرك.
نحن بيَّنا الباطل، ونريد أن نُبيِّن الحقَّ، ما الحقُّ؟ الحقُّ في التَّوسُّل المشروع، والتَّوسُّل المشروع أنواعٌ وأصنافٌ بيَّنها اللهُ في كتابه وبيَّنها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وأُلِّفت فيها المؤلفات الواضحة البيِّنة، والواجب على المسلم أن يحرصَ على ذلك، وهو في الأذكار، أذكار الصَّباح وأذكار المساء وأذكار اليوم والليلة الواردة في سُنَّة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فتجد في القرآن أو في السُّنة توسُّلات كثيرةٌ بأسماء الرب -سبحانه وتعالى.
أعظم هذه الأبواب: التَّوسُّل بأسماء الرب -سبحانه وتعالى- وصفاته. إذا سأل العبدُ المغفرةَ ماذا يقول؟ يا غفور. وإذا سأل الرحمة: يا رحيم. ولذلك تجد في دعاء سيد الاستغفار: «إنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ». صفة الاستغفار، إثبات صفة الاستغفار له -سبحانه وتعالى- ولذلك يقول العبدُ: يا غفور اغفر لي، ويا رحمن ارحمني.
وانظر إلى الصلاة، فإنَّ العبدَ يقول في بداية قيامه بين يدي الله -سبحانه وتعالى: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، ثم يذكر صفة ربِّه: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:3] سبحانه وتعالى، هذه صفته العظيمة، ويا تواب تُب عليَّ، وغيرها من الصِّفات التي وردت في أدعية النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أو أدعية الأنبياء من قبله في القرآن الكريم، أو في الأدعية التي علَّمنا اللهُ -سبحانه وتعالى- إيَّاها، فحين تتأمل هذه الأدعية تجد فيها توسُّلًا بصفات الرب -سبحانه وتعالى- أو بغير ذلك.
فهذا نوعٌ من التَّوسُّل يجب أن يعرفه الإنسانُ ويتعبَّد به.
من التَّوسُّل أيضًا: التَّوسُّل إلى الله بالعمل الصَّالح، مثل: حديث أصحاب الغار، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا عن ثلاثة رجالٍ ذهبوا في سفرٍ، فأُغلِق عليهم الطَّريقُ، ونزلت صخرةٌ فأغلقت عليهم بابَ الغار، فتوسَّلوا إلى الله بأعمالٍ صالحةٍ عملوها، وهي أعمالٌ صالحةٌ خالصةٌ لله رب العالمين، فكشف اللهُ كُربَتَهم.
أيضًا من التَّوسُّل ما فعله الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- في صلاة الاستسقاء، فقد قدَّم عمرُ بن الخطَّاب العبَّاسَ عم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يدعو وهم يُؤمِّنون.
أيضًا معاوية -رضي الله عنه- قدَّم يزيد الجرشي، وأمره أن يدعو والناس يُؤمَّنون، وغدًا الاستسقاء، فحَرِيٌّ بالإنسان أن يكون حريصًا على الصلاة مع المسلمين، ويسأل الله -عز وجل- أن يسقي البلادَ والعبادَ.
انظر إلى أصحاب الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- هل ذهبوا يتوسَّلون بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهم في المدينة، وفي مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم؟ لا، وإنَّما طلبوا من العبَّاس، فيدعو الرجل الصَّالح لك وتُؤمِّن على ذلك، أو يدعو لك بظهر الغيب، فهذا أمرٌ مشروعٌ، لا إشكالَ فيه، وقد مرَّ بنا أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عاهد بعضَ أصحابه ألا يسألوا الناسَ شيئًا.
ولذلك لا يثبت أنَّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- طلب من أحدٍ الدُّعاءَ، فحديث عمر -رضي الله عنه- ضعيفٌ، كما بيَّن أهلُ العلم، وهو الحديث الذي جاء فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: «لا تَنْسَنا مِن دُعَاءِكَ يَا أَخِي». هذا ضعيفٌ كما بيَّنه أهلُ العلم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت أنَّه طلب من أحدٍ الدُّعاءَ.
فإذن هذه الآية: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: 180]، الأسماء الحسنى: أي بالغة الحُسن، ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ أي بالغة من الحُسن أعلاه، فلا شيءَ أحسن منها، فهي المتناهية في الحُسن، وكل أسماء الله -سبحانه وتعالى- حسنةٌ، ولا يعلم عددَها إلا اللهُ، كما مرَّ معنا: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُو لَكَ». كما جاء في الحديث عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
لما روى الترمذي هذا الحديث: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسمًا» أورد بعضَ الرُّواة وهو الوليد بن مسلم هذه الأسماء، وهذا السَّرد لا يصِحُّ عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- وإنَّما تُستخرَج الأسماءُ من كتاب الله ومن سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومشروعيَّة التوسل بأسمائه قال: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾، أي توسَّلوا إلى الله بها، تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا جواد يا كريم، ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ أي اتركوهم وجانبوهم وفارقوهم في ذلك.
فهذا أيضًا جحود الأسماء والصِّفات وقد مرَّ معنا.
مما مرَّ معنا أنَّ جُحودَ أسماء الله -عز وجل- منه ما هو جُحودٌ كُليٌّ، فيجحدها تمامًا أو يُؤوِّلها، ومنه أنَّه يُسمِّي المخلوقين بأسماء الله -عز وجل- كما فعل المشركون، فقالوا: اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز.
مرَّ معنا أنَّ اللاتَ كان رجلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ، فأيُّهما الصَّحيح؟ الصَّحيح كلا الأمرين، أنَّه كان يَلُتُّ السَّوِيقَ، ثم قالوا: هو اللات من الإله، فنسبوه إلى الله -سبحانه وتعالى.
وأيضًا من جحد أسماءَ الله -عز وجل- أن يُدخَل فيها ما ليس منها، فيجعل من أسماء الله ما ليس منها، وأن تُؤوَّل الصِّفات إلى غير معناها، ولذلك جاء عن ابن أبي حاتم في تفسير: ﴿يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ قال: يُشركون. أي يشركون في أسماء الله -عز وجل- في ذلك. هذا الباب مرَّ معنا.
لعلنا نختم هذه الدُّروس المُباركة بهذا الباب العظيم، وفيه تحذيرٌ للمسلمين وبيانٌ في ذلك، وهذا الباب هو باب الهَذْل بشيءٍ مما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم.
وهذا -للأسف الشديد- واقعٌ في بعض المسلمين، وأصبح دَيْدَنَ بعض مَن يُسمُّونهم أدباء، وهم أبعد شيءٍ عن الأدب، فهذا فيه سَبٌّ الله -عز وجل- واستهزاءٌ بالله وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- والغريب أنَّ بعضَ هؤلاء لا يجرؤ على الاستهزاء أو الكلام على كثيرٍ من المخلوقين، فيعُفُّون عن ذلك ويجبنون، لكن يستهزؤون بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يقول: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، نعوذ بالله من الضَّلال.
فنختم هذه الدروس بهذا الباب العظيم، ومن مزاعم بعضهم أنَّ الأدبَ لابُدَّ أن يُطْلَق، لكن لماذا لا يُطلق في سَبِّ البشر؟! لماذا لا يُطلق في سَبِّ الخلق من الناس؟! لماذا انطلق في سَبِّ الرب -سبحانه وتعالى- وشرعه والاستهزاء بشرعه وبدينه وبما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم؟!
لعلنا نقرأ هذا النَّصَّ الآن، أو هذا البابَ ونختم به، حتى يكون معنا -إن شاء الله- شيءٌ من الوقت للأسئلة.
{قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى: (باب مَن هَذَلَ بشيءٍ فيه ذكرُ الله أو القرآن أو الرسول -صلى الله عليه وسلم.
وقول الله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنلْعَبُ﴾ [التوبة: 65]، عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديثُ بعضهم في بعضٍ: أنَّه قال رجلٌ في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللِّقاء. يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه القُرَّاء، فقال له عوفُ بن مالك: كذبتَ، ولكنَّك مُنافِقٌ، لأخبرنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليُخبره، فوجد القرآنَ قد سبقه)}.
هذه معجزةٌ، فهؤلاء في جيشٍ واحدٍ، فينزل الوحي ويسبق عوفًا وهو ذاهِبٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
{(فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقتَه، فقال: يا رسول الله، إنَّما كنا نخوض ونتحدَّث حديث الرَّكْبِ نقطع به عنا الطَّريقَ. قال ابنُ عمر: كأنِّي أنظر إليه مُتعلِّقًا بِنِسْعَةِ ناقة)}.
بنِسْعَة ناقةٍ: أي الحبل الذي يُربط على بطن النَّاقة.
{(بنِسْعَةِ ناقةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنَّ الحجارةَ تنكب رجليه، وهو يقول: إنَّما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: ﴿أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65، 66]، وما يلتفت إليه، وما يزيده عليه)}.
هذا في باب الاستهزاء بالله وآياته ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكتابه وشرعه ودينه، فالمُستهزئ أعظم كفرًا ممن يسجد للصَّنم، أرأيت الذي يسجد للصنم؟ فالذي يستهزئ أعظم ممن يسجد للصنم؛ لأنَّ الكفرَ هنا كفر إعراضٍ، فكفره مُعارضة، فهذا كفرُ معارضةٍ من المُستهزئ، وهذا أمرٌ عظيمٌ: ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ﴾ دائمًا إذا جئنا نقرأ الآيات نتأمَّل ما قبلها، الله -عز وجل- ذكر قبل هذه الآية أن الله مُخرِجٌ ما يحذرون، فما يحذرون أن يُخرجوه للناس ويقولونه للناس سيُخرجه الله، ولذلك يقولون بعضَ الكلمات وتضيق بهم الأرضُ بما رحبت، ما يريدون أن يقولونها، لكن خرجت وبيَّنها اللهُ -عز وجل- وفضحهم على رؤوس الخَلائق، فأجابهم الله، أي جاؤوا بدعواهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونزل الوحي.
قال: (عن ابن عمر) عبد الله بن عمر (ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديثُ بعضهم في بعضٍ) أي أنهم كلهم رووا الحديثَ وألفاظهم مُتقاربة، فجمع الحديثَ وجعله لفظًا واحدًا، فهؤلاء لفظهم واحدٌ في ذلك، ولذلك لا يجوز الاستهزاء بالله وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو كفرٌ بإجماع المسلمين، ناقضٌ من نواقض الإسلام، وفاعله مُرتدٌّ، يجب أن يُحاكَم في المحاكم الشَّرعية، فيُحاكَم عند الولاة، ويُبيَّن عند علماء المسلمين وعند قضاتهم، أمَّا ما تفعله بعضُ الجماعات من قتله بمجرد الكفر، فلا، ليس هذا صحيحًا، ولا يُشرع في الإسلام.
فسواءً كان هذا المستهزئ جادًّا أو هازلًا أو لاعبًا أو مازحًا، كل هذا لم يُستثنَ، ولذلك فإنَّ الله استثنى طائفةً واحدةً حيث قال: ﴿مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾ [النحل: 106]، المُكرَه هنا هو الذي استثناه اللهُ، أمَّا غير ذلك فكلُّهم يكونون في هذه القضية.
هذه القصَّة وقعت في غزوة تبوك، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- غزا تبوك في شدَّة الحَرِّ وفي شدَّة الصيف، فكان بعضُ المنافقين يقول: تحسبون غزو بني الأصفر-يعني الروم- مثل غزو العرب بعضهم لبعضٍ؛ كأنِّي بكم مُقَرَّنين في الأصفاد. يعني كلكم أسرى عندهم.
قال الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 42] وغيرها من الآيات، فسورة التَّوبة كلها تُبيِّن هذا الأمر العظيم في ذلك.
قال هذا المُنافق يسُبُّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء". يعني رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- "أرغب بطونًا". أي أنهم يُحبُّون الأكلَ، وأيضًا: "أكذب ألسنًا، وأجبن عند اللِّقاء". وهذه هي صفات المنافقين، لكن كثيرًا من المنافقين اليوم يجعلون الصِّفات التي فيهم في المسلمين، انظروا في بعض المنافقين، هم من حلفاء اليهود، وهم الذين ينصرون اليهودَ، وساندوا اليهود سنين طويلة، ومع ذلك يقولون للمسلمين: أنتم الذين تُحبُّون اليهودَ ونحن الذين نُقاتلهم! ما وجدنا شيئًا من دعواكم في ذلك.
(فذهب عوف) وهذا هو الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يرفع مثلَ هؤلاء المنافقين إلى الولاة، ويرفعهم حتى يُقام عليهم أمر الله -سبحانه وتعالى.
(فسبقه القرآنُ) وهذا علم الرب، والوحي، ومعجزة من معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فارتحل الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وهذه القصة سندها حسنٌ في ذلك.
فهذا أمرٌ عظيمٌ بيِّنٌ في هذه القضية، وهي بابٌ عظيمٌ، وحريٌّ بنا أن نُطِيلَ فيه، لكن وقتنا لا يسمح في هذا، فلعلنا نستعرض بعضَ الأسئلة لبعض الإخوة حتى نفي بشيءٍ من حقِّهم في هذا الأمر، والله -عز وجل- سمَّى الاستهزاءَ كفرًا؛ فقال سبحانه: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وهو من نواقض الإسلام، ولا يُعفى فيه عن اللعبِ والمِزَاح أو غير ذلك.
{يقول السائلُ: الحديث دلَّ على أنَّ الاستهزاءَ مُتَّجهٌ للصَّحابة والقُرَّاء، فالآية تقول: ﴿أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ﴾ فأيُّ هذا؟}.
آيات القرآن الكريم، وآيات الله الكونية، وآياته الشَّرعية، كلُّ هذا لا يجوز الاستهزاء به.
{لكن هم سَبُّوا القُرَّاءَ مُباشَرةً}.
نعم، لكنَّهم قالوا: القُرَّاء، مَن الذي يحمل القرآن؟ مَن الذي يُبلغنا العلمَ اليوم؟ هو سَبَّ القارئ، وسَبَّ العالِمَ، وسَبَّ السُّني، ما يُراد به؟ يُراد به ما يحمله.
{طيب والاستهزاء بالله في الآية؟}.
هو بآيات الله، بكلام الله، فالقرآن كلام الله، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالاستهزاء بهم، ولذلك فإنَّ كلَّ الاستهزاء الذي يكون بالعلماء أو بأهل السُّنة والتَّجنِّي عليهم، المراد به صدُّ الناس عمَّا يقولونه من الحقِّ، وما يقولونه مما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
{تقول السائلةُ: بالنِّسبة لزيارة النِّساء للقبور، في بلادنا هناك أيام جُعلت لزيارة القبور، وتعني بالقبور قبور الأقرباء والأرحام، وليس للعبادة، لكن أنا أُورد لهم هذا الحديث: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ». فيجعلون يوم السابع والعشرين من رمضان والعاشر من محرم لزيارة قبور الأقرباء والوالدين؟}
زيارة القبور بالنِّسبة للرِّجال جعلها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مباحة فقال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا». أمَّا زيارة النِّساء فجاءت فيها الأحاديث، والواجب على المسلم امتثال ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذه المسألة كما رأيتم فيها خلافٌ بين أهل العلم؛ لاختلاف الأدلة في ذلك، والرَّاجح والصَّحيح هو: النَّهي عن زيارة النِّساء، لكن إذا كان العلماء في بلادك يُفتون بإباحة زيارة النساء، فلا تجعل القضية تصل إلى النِّزاعَ والشِّجار والخلاف في ذلك، لكنَّ الصَّحيحَ والرَّاجحَ من ذلك عدم زيارة النِّساء.
أمَّا تحديد يوم العاشر أو تحديد يوم السابع والعشرين لزيارة القبور؛ فلم يرد فيه دليلٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك.
{يقول السائلُ: رجاء أن تُحدِّد لنا مَن هم آل محمدٍ الذين نذكرهم في الصَّلاة وفي التَّشهد؟}
آل محمَّدٍ هم آل قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيهم آل العباس عم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الذين لا يأخذون الزكاة، وآل جعفر، وآل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومنه زوجات النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فكلُّ هؤلاء آله، ويرد في بعض الآيات الآل هم الأتباع أيضًا، فالمقصود أنَّه يدخل فيها هذه المعاني.
بعضُ أهل البدع جعلوا آلَ البيت هم أبناء عليٍّ من فاطمةَ -رضي الله عنهما- وأبناء عليٍّ -رضي الله عنه- أكثر من سبعة عشر، وفيهم عمر وفيهم أبو بكر وفيهم جميع الأسماء التي يزعمون أنَّ عليًّا يبغض أصحابها، فكانت بينهم المحبَّة مُتبادلةً، رحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم، وسلك بنا طريقَهم وعلى نهجهم.
ننتهي في هذا اللِّقاء الأخير، ونسأل الله تعالى أن يجعل عملَنا خالصًا، وأن يجعله نافعًا، ونسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم العلمَ النَّافعَ والعملَ الصَّالحَ، وأن يجعله حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، ونتمنى وندعو جميعَ الإخوة إلى المُشاركة في الدَّورات القادمة، وشكر الله لكم جميعًا، المشاهدين والمتابعين، وشكر الله لكم حضوركم، وتثقيلنا عليكم في بعض الأسئلة أحيانًا، فشكر الله للجميع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّدٍ، وإلى لقاءٍ آخر -إن شاء الله تعالى.
تعليق