رابط المحاضرة:
http://www.youtube.com/watch?v=liDqJHdkOcY
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الرُّسُل والنَّبيين، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم في هذه اللِّقاءات المُتجدِّدة من لقاءات الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مقرر العقيدة (1)، وقد توقَّفنا في اللِّقاء الماضي في باب ما جاء في التَّغليظ فيمَن عبد اللهَ عند قبر رجلٍ صالِحٍ، فكيف إذا عبدَه؟ وقد أخذنا بعضَ النُّصوص في ذلك، وتوقَّفنا في جزءٍ من هذا الباب، وكان الوقتُ بالأمس قد أدركنا بحيث لم نتعرَّض لبعض الأسئلة التي وعدنا الإخوةَ بها، ولذلك فإنَّنا سنقف اليوم عند بعض هذه الأسئلة قبل بداية الدَّرس، وقبل التَّذكير ببعض هذه القضايا.
من الأسئلة التي تَكرَّرت فيما مضى السؤال الآتي:
{يقول السائلُ: ما حكم مقولة: (خَلِّيها على الله)؟}
هذه مُتكرِّرة كثيرًا أم لا؟ نجاوب أم (نخليها على الله)؟
هذه اللَّفظة لا يوجد فيها كلامٌ لأهل العلم، وإن كانت في سياقها الصَّحيح، ومعناها هو التَّفويض، أي فوِّض الأمرَ إلى الله -سبحانه وتعالى- فهذا لا إشكالَ فيه، ولذلك فإنَّ الكلمةَ لا إشكالَ فيها إذا كان المرادُ بها تفويضَ الأمر إلى الله -سبحانه وتعالى- وبعض الفُسَّاق أو المُغَنِّين قد يجعلها في كلامه أو في غزله أو في كذا، فهذه لا تجوز بأيِّ حالٍ من الأحوال، بل هي مُحرَّمةٌ، فإنَّ هذا من الكلام المُحَرَّم الذي لا يجوز، فكيف يكون فيه ذِكْرُ لفظ الجلالة وغير ذلك؟!
أمَّا إذا كانت في سياقها العام الواضح فلا إشكالَ فيها بحمد الله -تبارك وتعالى.
من الأسئلة التي وردت: يسأل بعضُ الإخوة عن حكم قراءة الأبراج التي في الصُّحُف، ففي بعض الصُّحُف تجد: مواليد برج العقرب يكون لهم كذا، وبرج كذا..، {هل يجوز قراءة مثل ذلك؟}
هذه مثلها مثل مَن أتى كاهنًا فسأله، فهو مجرد سؤالٍ، سواءً سألته عن طريق الإعلام أو عن طريق الجريدة أو عن طريق الموقع أو سألته مباشرةً، أو سألته عن طريق الهاتف، فكلُّ السُّؤال واحدٌ، وكله حُكْمُه واحدٌ، ولذلك لا يجوز قراءة هذه الصُّحف، بل يجب مُقاطعة مثل هذه الصُّحف التي تنشر هذا البلاء.
أيضًا سؤال أحد الإخوة يقول: {ما حكم مَن يشاهد السَّاحر؟}
ففي بعض البرامج أو بعض المواقع أو غير ذلك، يرى فيها ساحرًا كيف يعمل، وكيف كذا وكذا، وهي مثل ما إذا أتى الكاهِنَ، وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»، فمشاهدته مثل إتيانه، ولولا أنَّه يجد مَن يُتابع ويُشاهد لتَوَقَّف، لكنَّه يجد مَن يتابعه، ولذلك لا تجوز مشاهدتُه ولا مُتابعتُه في جميع الأحوال.
أيضًا من الإخوة مَن يسأل ويقول: {هل من الكَهَانَة الإخبارُ بما يُدْرَك بالحساب، مثلًا الذي يقول: الكسوفُ يكون يوم كذا، أو غدًا يكون الجَوُّ باردًا، أو غدًا يكون الجَوُّ غائمًا، أو غدًا يكون الجَوُّ صَحْوًا؟}
لا، هذه علوم تُعْرَف عن طريق الحساب، مثلًا الكسوف كان معروفًا قبل ذلك، حتى ذكره بعضُ العلماء قبل ثمانمئة سنة، وقد أجاب ابنُ تيمية عن بعض الأسئلة التي طُرِحَتْ عن معرفة مسألة الكسوف، وللأسف الشَّديد اليوم كثيرٌ من الناس إذا عرف الكسوفَ لا يسأل لماذا حصل؟ ولذلك جاء التَّحذيرُ النَّبويُّ، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فزع لما حصل الكسوفُ أو الخُسُوفُ، وهذا بسبب غضب الرَّبِّ، وأنَّها من آيات الله وتدبير الله -عز وجل- ولذلك من علامات يوم القيامة أنَّ الشمسَ والسَّاعةَ يُكسَف بهما ويُخْسَف بهما، ويذهب نورهما، وكل هذه التَّغَيُّرات، فلا يدري الإنسانُ ماذا يحدث في هذا الأمر، فمجرد معرفة الحساب جعلت بعض الناس لا ينظر إلى هذه الآيات العظيمة، ولا يتدبَّر ما وراء الخبر. ولذلك فإنَّ مسألة الحساب للخُسُوفِ وغيره معروفةٌ عند جميع مَن يهتمُّ بأمره، فتجده يعرف مثل هذه الأشياء.
أيضًا أحوال الطَّقس، فأحوال الطقس هي: تنبُّؤات بناءً على مُعطياتٍ مُعيَّنةٍ، فيقولون هناك رياح قادمة، أو الحرارة تكون هنا، والبُرُودة تكون هنا، فهي مُعطياتٌ مُعيَّنةٌ تخرج بناءً عليها هذه التَّنبُّؤات، وهي من العلوم التي تعارف عليها أهلُ هذا الفَنِّ، فهي ليست من الكَهَانَة في شيءٍ.
هنا شخص أيضًا يقول: {عرفنا شخصًا يعمل بالسِّحْر أو الكَهَانَة}، والسَّائل من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، فلذلك نقول له: يجب عليك أن تُبلغ هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فعندهم اهتمامٌ بهذه القضايا، وضبط لمثل هذه الجرائم -بحمد الله- وهذه من حسنات هذه البلاد، ومن فضل الله -عز وجل- علينا، فمَن عرف ساحرًا أو كاهنًا فعليه أن يُحَذِّر المسلمين منه، وعليه أن يتعاون مع مَن ولاه الله -عز وجل- السُّلطةَ؛ لرَدِّه ورَدْعِه عن هذا الباطل.
سائل آخر يقول: {مَن سأل عن اسم الأُمِّ، راقٍ سأل عن اسم الأُمِّ؟!}
شخص يرقي الناسَ ويقرأ على الناس، سأل عن اسم الأم، ماذا يكون؟ شاركونا.
{قد يكون ساحرًا؛ لأنَّها من أفعال السَّحَرة والكُهَّان}.
لماذا يسأل عن الأُمِّ؟ لماذا لم يسأل عن الأب؟
أجيبوا، هذه مُتعلِّقةٌ بأحوال الشَّياطين، فالشَّياطين يعتبرون النَّاسَ أبناء زِنى، ولذلك فهم لا يعترفون بعُقُود الزَّواج، فيسألون عن الأُمِّ؛ لأنَّهم ينسبون الإنسانَ إلى أُمِّه، ولذلك يسألون عن اسمه واسم أمه، هذه أحوال الشَّياطين، والشَّياطين ليس عندها قُدرةٌ أو اطِّلاعٌ، فلذلك يُعطَوْن من قِبَل السَّاحر أو الكَاهِن أو غيره شيئًا من أثر هذا الإنسانِ حتى يتعرَّفوا عليه، ولو كانوا يعرفون الغيبَ هل هم بحاجةٍ إلى أثرٍ منه؟ لا، ليسوا بحاجةٍ إلى أثر منه في ذلك.
هذه بعض الأسئلة التي تيسَّرت الإجابةُ عليها، ولدينا -إن شاء الله- لقاءٌ في الفصول الافتراضيَّة يمكن أن نُجِيب فيه على بقيَّة الأسئلة إذا كان لدى الإخوة أسئلة، وهنا أرى أنَّ لهم حقًّا في إجابة أسئلتهم ونشكرهم على تَوَاصُلهم معنا.
نكمل اليوم البابَ الذي بدأنا فيه في اللِّقاء الماضي، وهو باب ما جاء في التَّغليظ فيمَن عَبَدَ اللهَ عند قبر رجلٍ صالِحٍ، فكيف إذا عبده؟!
فإذن عندنا هنا مسألتان في هذا الباب، منها: ما هو من وسائل الشِّرك، وهو: أنَّه يعبد اللهَ عند قبر رجلٍ صالِحٍ. ومنها ما هو من الشِّرك الأكبر إذا عَبَدَه.
وللأسف الشَّديد بعض الذين يُعبَدون من دون الله -عز وجل- ليسوا من الصَّالحين، بل هم من الفُجَّار، بل يُعتبر بعضُهم من الكُفَّار، مثل: ابن عربي، فابن عربي هذا ليس هو الإمامَ ابنَ العربي المالكي -رحمه الله- صاحب كتاب "الأحكام" وغيره، لا، وإنَّما مقصودنا ابن عربي الذي يُسمِّيه الصُّوفيَّة الشيخ الأكبر محيي الدِّين، وهذا له قبرٌ في شمال سُوريا يُعْبَد من دون الله -عز وجل- وله كتاب "الفصوص"، هذا يُطْلِقُون عليه أنَّه رجلٌ صالِحٌ، بل في بعض قبورهم قبر فرس الولي المغربي، فلم يعبدوا الولي المغربي، بل عبدوا فرسَه الآن، عُبِدَ الفرس من دونه.
ولذلك فإنَّ كثيرًا من القبور التي يُزعم أنَّها قبور صالحين هي في أكثرها خيالٌ، هي خيال لا حقيقةَ لها، ففي بعضها حيوانات، بل مثلًا قبور الفرنسيين الذين كانوا في غزو مصر مع لويس التاسع، بعد طول الزمن عُبِدَت بعض هذه القبور، وهم نصارى.
المقصود أن كثيرًا من القبور التي تُعبَد من دون الله الآن ليست قبورَ صالحِين، بل بعضُها خيالٌ وبعضها وَهْمٌ وبعضها ليس له أصلٌ إطلاقًا، مثل قبر الحُسين الموجود في القاهرة الآن، أو رأس الحسين التي في القاهرة، هي رأس أحد الحواريين جيء بها من بلاد فلسطين، والذي جاء بها العُبَيديين الكُفَّار، وقد خرجت الفتوى من بغداد من نقيب الطَّالبيين ومن علماء المسلمين والخليفة العباسي أنَّهم كُفَّارٌ ملاحِدَةٌ، فخرجت الفتوى عنهم بذلك، وهم الذين بنوا هذا البناءَ الذي هو في مصر الآن في قبر رأس الحسين.
هذا الباب يتعلَّق بحماية جَنَاب التَّوحيد، وذكرنا فيه حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- في صحيح الإمام البخاري ومسلم، أنَّه لما نُزل برسول الله، أي لما نزل به الموتُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- واشتدَّ عليه الكَرْبُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وطَفِقَ -أي جعل- يطرح خَمِيصَةً على وجهه، يغطي وجهه -عليه الصلاة والسلام- ثم وهو كذلك في شدة المرض، وشدة الموت، والنَّزع، يقول: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» لماذا؟ قال: «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». ومع أنَّ التَّحذيرَ في كتاب الله كافٍ، إلا أنَّه قد جاء التَّحذير في هذا الحديثِ والتَّشديد عليه في ذلك.
قالت عائشة: "يُحذِّر ما صَنَعُوا". فهو يُحذِّر هذه الأُمَّة مما صنع أولئك الأقوام، يحذر هذه الأمة أن تصنع مثلما صنع أولئك الأقوام، لماذا؟ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا في حياته أيضًا أنَّه قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ نَحْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ». هذا أخبرنا به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- متى؟ في حنين، وحنين في سنة كم؟ في السنة الثَّامنة للهجرة، وأخبر -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث أخرى، لكن هذا مرَّ معنا في هذا الكتاب، هذا الحديث مرَّ معنا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ».
وتكلَّمنا في اللِّقاء الماضي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنَّ قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس فيه حُجَّةٌ لعُبَّاد القبور اليوم إطلاقًا، فلا يحتجُّ به علينا أحد، لماذا؟ لأنَّ مسجدَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يُبْنَ على قبرٍ، وأيضًا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لم يُدْفَن في المسجدِ، وإنَّما دُفِنَ في غرفة عائشةَ -رضي الله عنها- فإذن كانت غرفةُ عائشةَ خارج المسجد في زمن الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وزمن الخلافة الرَّاشِدة، وزمن الصَّحابة -رضي الله عنهم- وفي زمن مُعاوية، حتى جاء زمن الوليد بن عبد الملك فأدخلها في المسجد، ووضع عليها جدارًا عازلًا، ثم أيضًا وُضع الجدار من الخلف بشكل مُثلَّثٍ، بحيث لا يستطيع الإنسانُ استقبال القبر.
فإذن الحُجَّة باطلةٌ، فالمسجد لم يُبْنَ على قبرٍ، وأيضًا نبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يُدفَن في المسجد، ولا زال قبره -عليه الصَّلاة والسَّلام- في غرفة عائشةَ، ولم يأذن بدخوله -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولا زال فيها، وهذا من استجابة دُعاء الله -عز وجل- فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتينا في الحديث القادم: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ». فاستجاب اللهُ لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فقبره -صلى الله عليه وسلم- بين جدرانٍ ثلاثةٍ لا يصل إليه أحدٌ -عليه الصلاة والسلام- فإذن هذا الدُّخول لم يكن بمُوافقة أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فإذن في هذا الحديث والحديث الذي قبله تحريم البناء على القُبور، وفيه أيضًا تحريم العبادة عند القبر ولو لم يُبْنَ عليه، سواء كان عنده بناءٌ أو ما عنده بناءٌ، لا يجوز العبادة عند القبر، ولذلك قول بعض الفقهاء: أنَّه لا تجوز العبادةُ عند القبر خوف النَّجاسَة، غير صحيحٍ، بل إنَّه لا تجوز الصَّلاةُ إلى القُبور، ولا تجوز الصَّلاةُ عندها، وُجِدَت نجاسَةٌ أم لم تُوجد نجاسَةٌ في ذلك، فلا تجوز الصَّلاةُ ولا الذَّبحُ ولا النَّذْرُ ولا غيرها من الأعمال في ذلك.
سيأتينا أيضًا في هذه الأحاديث والحديث السَّابق: أنَّ الذين يبنون على القبور ويدعون إلى عبادتها هم شِرارُ الخلق، وليسوا من أهل العلم، وليسوا من أهل الفضل، ولا يُعتَبرون ممن يُرجَع إليهم في هذه الأُمَّة، بل هم من شِرارِ الخلق، وأهل السُّنة والجماعة خيارهم هم علماؤهم، والطَّوائف الأخرى شِرارُهم هم علماؤهم، الطَّوائف الضَّالَّة المُنحَرِفَة عن هدي رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شِرارهم هم علماؤهم، ولذلك تجدهم يأخذون أموالَ الناس بالباطل، ويرتكبون المُوبِقَات، ويدعون إلى مُخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإنَّ هؤلاء الذين يدعون الناسَ إلى عبادة القبور، والصَّلاة عندها، والبناء عليها، والدَّعوة إليها، هم شِرار الخلقِ، وبعض الناس يُعظِّمهم ويجعلهم علماء، أو يجعلهم غير ذلك، لا، هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كان يُنازِع رسولَ -صلى الله عليه وسلم- فليَسْتَعْلِن بذلك، فإنَّ معصيةَ هؤلاء فوق كلِّ معصيةٍ، وشَرَّهم على الأُمَّة فوق كلِّ شَرٍّ، وضلالَهم وإفسادَهم في الأُمَّة أعظمُ من كلِّ ضلالٍ، فلذلك هؤلاء من شِرار الخلق.
من أحاديث هذا الباب: حديث جُندب بن عبد الله البَجَلِي -رضي الله عنه- الصَّحابي الجليل، قال: (ولمسلمٍ عن جُندب بن عبد الله قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا -هنا الشَّاهد- وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»).
متى قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا؟ قاله في سياق الموت -عليه الصَّلاة والسَّلام- فقال هذا قبل أن يموت بخمس ليالٍ، أي خمسة أيَّامٍ قبل موته، فهذه وصيَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أين مَن يُحبُّون الرسولَ؟ أين مَن يُتابعون الرسولَ -صلى الله عليه وسلم؟ كيف يدَّعُون محبَّتَه، وهذه وصيَّته -عليه الصلاة والسلام؟ وقد اشتدَّ عليه المرضُ -عليه الصلاة والسلام- بل إنَّ من شدَّة المرض أنَّ عبد الله بن مسعود وضع يده على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "يا رسول الله إنَّك لَتُوعَك"! وذلك من شدَّة الحرارة، بل يدعو نبينا -صلى الله عليه وسلم- بسبع قِرَبٍ من الماء، من سبع آبارٍ شتَّى، فتُصَبُّ عليه حتى تهدأ الحرارةُ فيقوم فيُوصِي الناسَ -صلى الله عليه وسلم.
فإذن القضيَّة أمرها شديدٌ، ولذلك أوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحال الشَّديدة قبل أن يموت بخمسٍ بهذه الوصيَّة، فهذه وصيَّة رسول الله، وكتاب الله قائمٌ على هذه القضية، وهو واضحٌ غاية الوضوح.
قال: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ». الخُلَّة هي: أعلى درجات المحبَّة، ولذلك فإنَّ كثيرًا من أهل الباطل أو بعض المسلمين يتنَقَّص الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- كيف؟ يقول عن الرسول ماذا؟ حبيب الله أو خليل الله؟
{حبيب الله}.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن أم حبيب الله؟
{الرسول خليل الرحمن}.
خليل الرحمن، وحبيب الله؟
{كثيرٌ من الناس يقولون: حبيب الله، وهذا أقلُّ درجةً من الخُلَّة}.
وهذا أقلُّ درجةً، ولذلك فنبينا -صلى الله عليه وسلم- هو خليل الرحمن كما قال في هذا الحديث: «فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا». ما معنى خُلَّة؟ الخُلَّة هي أعلى درجات المحبَّة، ولذلك فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس في قلبه مكانٌ لمحبَّة أحدٍ، فقد استولت على قلبه محبَّةُ الرَّبِّ -سبحانه وتعالى.
ولذلك فإنَّ الخُلَّةَ لا تقبل الاشتراكَ، وإنَّما الخُلَّة ثبتت لإبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأفضل الرُّسُل الخليلان، وأفضهما محمد -صلى الله عليه وسلم- فأفضلهم محمد -صلى الله عليه وسلم.
«إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ» يتبرأ إلى الله أن يكون له خليلٌ، لماذا؟ لأنَّه خليلُ الرَّحمن، وهذه لا تقبل الاشتراكَ، فقد خلص قلبُه لله.
ولذلك انظر خليل الرحمن لما جاء له إسماعيلُ بعد عُقْمٍ طويلٍ، وبلغ معه السَّعْيَ، أي أصبح يُحبُّه قلبه، رأى في المنام أنَّه يذبحه، لماذا؟ ليكون قلبُه خالصًا لله -عز وجل- ولذلك كان له هذا الجزاء العظيم.
«فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا». أبو بكر مَن هو؟ أبو بكر الصِّديق، صاحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ﴾ [التوبة: 40]، فهو صاحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أسلم على يد أبي بكر الصِّديق أغلبُ العشرة المُبشَّرين بالجنَّة، وهو من أول الناس إسلامًا، وكان رجلًا تاجرًا، بذل مالَه كلَّه في سبيل الله، وهاجر مع الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- وله في الهجرة خبرٌ عظيمٌ، فكان يسير قبل رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حينًا، ثم يسير حينًا خلف رسول الله، فقال: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» قال: "يا رسول الله، أذكر الرَّصْدَ". أي الناس الذين يرصدون لك على الطَّريق، "فأسير أمامك ليكون فيَّ ولا يُصِيبك شيءٌ، فأذكر الطَّلَبَ فأتأخَّر". أي أكون خلفك.
هل بلغت هذه المحبَّة؟ ولذلك فإنَّ أبا بكر الصِّديق -رضي الله عنه- كانت له المواقفُ العظيمةُ لما مات الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- ولَحِقَ بربِّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولمَّا ارتدَّت العربُ، فكلُّ القضايا التي احتاجت الأُمَّةُ فيها إلى خبرٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقفةٍ كان ذلك عند أبي بكر الصِّديق -رضي الله عنه- فكانت له المنزلةُ.
والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يُصلِّي بالصَّحابة، وجاءته امرأةٌ كما في صحيح البخاري، فأمرها أن تعود إليه بعد ذلك، فقالت: "إن لم أجدك". كأنَّها تعني الموتَ، قال: «تَجِدِينَ أَبَا بَكْرٍ». فكان فيه إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر الصِّديق -رضي الله عنه.
وهذه منزلة أبي بكر الصِّديق، ويجب أن يُعرف هذا الفضلُ له -رضي الله عنه- ولذلك هؤلاء الذي يَسُبُّون أبا بكرٍ، ويتكلَّمون فيه -رضي الله عنه- كما قالت عائشةُ، فالقوم ماتوا، وانقطعت أعمالُهم، فما الذي حصل؟ أراد الله -عز وجل- أن تزيد حسناتُهم، فكلَّما يسبُّهم هؤلاء ترتفع درجاتهم، فهذا فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
انظر الشَّاهد في هذا الباب: قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «أَلَا». ألا: حرف تنبيهٍ، أي سأتكلم عن شيءٍ مُهمٍّ الآن وأنبِّهك، وتكرَّر هذا الحرفُ، انظر: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» مَن هم؟ اليهود والنَّصارى هم الذي فعلوا ذلك، «أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». ينهانا مَن؟ رسولنا -صلى الله عليه وسلم- سيد الرُّسُل -عليه الصلاة والسلام- حتى إنَّ بعضَهم كان في لقاءٍ فاستدَلَّ بآية الكهف: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]، قلنا له: هذا فعل النصارى، فهل تريد متابعة الرسول أم متابعة النصارى؟! فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
من القصص الجميلة أن شيخ الإسلام ابن تيمية لما سُجِنَ في سجنٍ في القاهرة، دخل معه السّجن بعضُ النَّصارى، فقالوا: أيُّ فضلٍ في دينكم؟ ما الدِّين الذي عندكم حتى تقولوا يا معشر المسلمين ديننا صحيح؟
قال -رحمه الله- مُبَيِّنًا لهم الدِّين الذي جاء به الرسولُ، وهو توحيد الله، وإخلاص العبوديَّة لله، حتى إنَّ هؤلاء النصارى قالوا له: إن كنتم تعبدون الحسينَ، فنحن عيسى، أيُّهما أفضل؟ عيسى النبي، أم الحسين -رضي الله عنه؟
فأجابهم: بأنَّه لا تجوز لا عبادة عيسى ولا الحسين ولا غيرهم، وإنَّما عبادة الله وحده، فقالوا: هذا الدِّين الذي تذكره هو الصَّحيح، أما ديننا نحن وهؤلاء الذين يعبدون القبور فواحد.
ولذلك فإنَّ بعضَ أصحاب القبور التي تُعبَد من دون الله تعالى ليسوا صالحين، فابن الرُّومي هذا من الزَّنادِقَة الكبار، وقد كُتِبَ على قبره: للمسلمين واليهود والنصارى. مَن يريد أن يعبد قبري يعبده، كلهم شُركاء فيه.
«أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». هذه وصيَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي صحيح مسلمٍ، فلا يقول أحدٌ أن ذلك ضعيفٌ، فالحديث صحيحٌ، ووصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مرضه.
فإذا كنت تُحبُّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فما وَقْعُ هذه الوصية عندك؟ ما منزلة هذه الوصية في ذهنك وفي حياتك؟ فنهانا نبينا -صلى الله عليه وسلم- وكرَّر وأكَّد التَّنبيه، وأكَّد حرف التَّنبيه مرَّةً أخرى، «فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». تأكيدٌ بعد تأكيدٍ -عليه الصلاة والسلام.
ولذا فإنَّ مَن دَفَنَ شخصًا في مسجدٍ من مساجد المسلمين فيجب نبش هذا القبر، ويجب أن يُخرج هذا الميتُ ويُدفن مع المسلمين، بل إنَّ هذا الشخصَ الذي يُدفن في مسجدٍ أو في مكانٍ آخر يفوته دعاءُ المسلمين له الذين يزورون القبورَ، الذي هو الدُّعاء الشَّرعي، أمَّا هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله فهم في ضلالٍ ولا تُقبل منهم عبادةٌ، ولذلك لا يجوز اتِّخاذ القبور مساجدَ وبناء مسجدٍ عليها كما حصل من اليهود والنصارى، وكما حصل من فِرَق الضَّلال المُخالِفِين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرون المتأخرة في ذلك، أو عبادتها.
وأوَّل مَن بنى القبورَ في بلاد المسلمين هم ملوك الضَّلال، الذين كفَّرهم علماءُ المسلمين، فأوَّل مَن بناها في مصر هم الدولة العُبَيدِيَّة الذين قتلوا علماءَ المسلمين، وأفتى فيهم النَّابُلسِيُّ -رحمه الله- في فتواه المشهورة في العُبَيدِيَّة الباطنية، فهم باطنيَّةٌ، قال: إذا كان مع رجلٍ عشرةُ أسهمٍ، فإنَّه يرمي النَّصارى بسهمٍ ويرمي العُبَيدِيين بتسعٍ". فأحضروه وقالوا له: أنت أفتيتَ بأنَّ مَن كان معه عشرةُ أسهمٍ يرمينا بواحدٍ ويرمي النَّصارى بتسعةٍ؟ قال: لا، قلتُ لهم: يرمونكم بالتِّسعة ثم يرمونكم بالعاشر أيضًا. يقول: ارموهم بالعشرة كلها.
فأمروا يهوديًّا أن يسلخه حتى وصل إلى قلبه فطعنه واستشهد -رحمه الله تعالى.
والمقصود أنَّ هؤلاء هم الذين بنوا القبورَ، وسيرتهم غير محمودةٍ، فهم أهل ضلالٍ وكفرٍ، كَفَّرَهُم علماءُ المسلمين في زمانهم.
والذي بنى في العراق ما يُسَمُّونه المسجد الحيدري الآن، بناه أظلم ملوك الدولة البُوَيْهِيَّة الظَّالمة الفاجرة من دول الضلال، وأطغاهم وأظلمهم هو الذي بنى هذا المسجدَ، فبناه على قبر المغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه- وليس على قبر عليٍّ -رضي الله عنه- وليس عنده حُجَّةٌ أنَّ هذا قبر عليٍّ أصلًا، والآن انظر ماذا يزورونه، وما فيه من أئمَّة الضَّلال، نسأل الله العافيةَ.
يُعقِّب شيخُ الإسلام ابن تيمية على هذه الأحاديث بهذا الكلام الجميل، يقول: "فقد نهى عنه في آخر حياته". نهى عن اتِّخاذ القبور مساجدَ، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
"ثم إنَّه لعن وهو في السِّياق" يعني في سياق الموت، "مَن فعله" لعنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فحذَّر منه، ونهى عن ذلك في آخر الحياة، ولعنه وهو في سياق الموت -عليه الصلاة والسلام.
(والصَّلاة عندها من ذلك) الصَّلاة عند القبور من اتِّخاذ القبور مساجد.
(وإن لم يُبْنَ مسجدٌ) وهو معنى قوله: "خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مسجدًا"، وخشي: كما مرَّ معنا في اللِّقاء الماضي جاءت على روايتين، خَشِيَ أو خُشِيَ.
فإنَّ الصَّحابةَ لم يكونوا ليبنوا حول قبره -صلى الله عليه وسلم- مسجدًا، ولذلك كان من فضل الله أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دُفنَ في غرفة عائشة، وهذا خاصٌّ بالرسول، وإلا فالواجب على أهل الميت أن يدفنوه في مقابر المسلمين، فكلُّ ميِّتٍ يجب أن يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُدفَن في منزله، فهذا خاصٌّ بالرسول -صلى الله عليه وسلم.
وكلُّ موضعٍ قُصِدَت الصلاةُ فيه فقد اتُّخِذَ مسجدًا، بل كلُّ موضعٍ يُصلَّى فيه يُسمَّى مسجدًا، كما قال -صلى الله عليه وسلم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». فالمكان الذي يُصلَّى فيه مهما سمَّاه، فبعضهم يتحَذْلَقُ في ذلك فيقول: لا أُسمِّيه مسجدًا أو غير ذلك. لا، هو مسجدٌ، شئتَ أو أبيتَ، إذا صلَّيت عند هذا القبر، واتَّخذته مَزَارًا تصلي وتدعو، فهذا مسجدٌ في ذلك.
أيضًا من الأحاديث: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- رواه الإمامُ أحمد بسندٍ جيِّدٍ، وهو كما قال المؤلفُ -رحمه الله: (ولأحمدَ بسندٍ جيِّدٍ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ: مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ». رواه أبو حاتم في صحيحه، والحديث حسنٌ). فإسناد الحديث حسنٌ.
هذا حديث عبد الله بن مسعود، ويتكلم عن شِرَارِ الناس، وهذا تأكيدٌ للحديث السَّابق.
مَن هم شرار الناس؟ الذين يتَّخذون القبور مساجد.
قال ابنُ مسعود -رضي الله عنه- في الحديث عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ». أي يوم القيامة، فيُدركهم يوم القيامة، عند نفخة الصَّعق: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ﴾ [الزمر: 68]، هذه نفخة الصَّعْق.
﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]، هذه نفخة البَعْثِ، وهناك نفخة ثالثة وهي نفخة الفَزَع: ﴿وَيوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ﴾ [النمل: 87]، فهذه نفخة الفَزَع، وبعضُ أهل العلم قال: هي ثلاث نفخاتٍ: نفخة الفَزَع، ونفخة الصَّعْق، ونفخة البعث. ومنهم مَن قال: نفخة الصَّعق هي نفخة الفَزَع.
فهذا يوم السَّاعة، ولذلك فإنَّ كلَّ دَاهِيَةٍ وكلَّ أمرٍ عظيمٍ يُسمَّى ساعةً.
«إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ: مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ» ألم يُخبر الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه لا تزال هذه الطَّائفة المنصورة -أهل السُّنة والجماعة- قائمةٌ إلى قيام السَّاعة؟ طيب كيف نجمع؟ هل هم شِرار؟ هل هم خيار؟ كيف نجمع مع ذلك؟
{إنَّ الله يقبض أرواحَ المؤمنين ثم تُقام السَّاعةُ على شِرار الخلق}.
جاء في الحديث عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ وَفِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللهُ اللهُ». وذلك لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- يبعث ريحًا طيِّبةً تقبض أرواحَ المؤمنين، فبقاء الطَّائفة المنصورة إلى قبيل قيام السَّاعة.
فالمراد أنَّهم يموتون قبل قيام السَّاعة، وتُقبض أرواحهم بريحٍ يُرسلها الله -سبحانه وتعالى- ولا يحضرون هذا الحدثَ العظيمَ المُرَوِّعَ الشَّديدَ.
فإذن أهلُ السُّنة باقين، ولذلك لا حُجَّة لأحدٍ يقول: أنا لم أعرف الحق. لا، أهل السُّنة موجودون وبيَّنوا الحقَّ الذي بيَّنه الرسولُ، فهم أتباع الرسولِ، وهم الذين يُخبرون بما أخبر به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فلا حُجَّة لأحدٍ في ذلك.
وفي هذا الحديث قال نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ». أيضًا من شِرار الناس الذين يتَّخِذُون القبورَ مَساجِدَ.
فأنت إذا رأيت طائفةً تتَّخذ القبورَ مساجدَ، فهؤلاء شِرار الناسِ بمنطوق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أُسمِّهم أنا، بل هذه تسمية الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فأفاد هذا الحديثُ أيضًا المنع، قال الرسولُ -صلى الله عليه وسلم: «فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ». فمنع البناء والصَّلاة عليها، فما حكم الصَّلاة إذا صلى الإنسانُ في مسجدٍ فيه قبرٌ؟ أو مسجدٍ بُنِيَ على قبرٍ؟ فإنَّ الصَّلاةَ باطِلةٌ في هذه المساجد المَبْنِيَّة على القبور؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى، والنَّهي يقتضي الفسادَ، فالذي يُصلِّي عند القبر صلاته غير صحيحةٍ، فعليه أن يُعِيد الفريضةَ؛ لأنَّ صلاتَه عند القبر أو في المسجد الذي بُني على القبر غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّها صلاةٌ مَنْهِيٌّ عنها، نهى عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم.
إذن هذا الباب فيه بيانٌ عظيمٌ وهو وصيَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحرص نبينا -صلى الله عليه وسلم- على حماية التَّوحيد وسلامة المؤمنين في عقائدهم وفي دينهم، وأنَّه -عليه الصلاة والسلام- بيَّن هذا بيانًا كافيًا واضحًا يعرفه كلُّ مؤمنٍ، أمَّا إذا جهله مَن لم يبحث عن الحقِّ، ولم يعرف ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه، فهو الذي خالف ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا بيَّن الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ هؤلاء الذين يتَّخذون القبورَ مساجدَ هم شِرار الخلق، سواءً كانوا من اليهود أو النَّصارى أو ممن ينتسب للإسلام من فِرَق الضَّلال، فنُسمِّيهم شِرار الخلق، فنصفهم بذلك كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فليحذر المسلمُ أن يكون من شِرار الخلق.
معنا الباب الذي بعده، والمؤلف -رحمه الله- كرَّر وأعاد في هذا الباب الذي هو: حماية التَّوحيد، وسدَّ كلَّ وسائل الشِّرك، وكرَّر فيه النُّصوصَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كما حرص النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فكلُّ أتباع الرسولِ يحرصون على هذا الباب ويُبيِّنونه غاية البيان ويُوضِّحونه غاية الوُضُوح.
فلدينا الآن الباب الذي بعده: (باب ما جاء أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصيِّرها أوثانًا تُعْبَدُ من دون الله -عز وجل). ما جاء في أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصيِّرها أوثانًا، ما دام أنَّها عُبِدَتْ من دون الله تصير أوثانًا كما أنَّ اللَّاتَ والعُزَّى أوثانٌ تُعبد من دون الله –عز وجل.
اقرأ لنا نصوص الباب.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد...
قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى: (باب ما جاء أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصيِّرها أوثانًا تُعْبَدُ من دون الله.
روى مالكٌ في "الموطَّأ" أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». ولابن جريرٍ بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19]، قال: كان يَلُتُّ لهم السَّوِيقَ فمات فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يَلُتُّ السَّوِيقَ للحاجِّ.
وعن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: لعن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زائراتِ القُبُورِ، والمُتَّخِذين عليها المساجِدَ والسُّرُجَ. رواه أهلُ السُّنن)}.
نعم، إذن هذا الباب العظيم الذي بيَّن فيه هذه النُّصوص العظيمة، وأيضًا لدينا من الأبواب المتعَلِّقة بهذا الباب الذي بعد هذا الباب، وأيضًا بابٌ في آخر الكتاب.
(باب ما جاء أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصَيِّرها أوثانًا تُعْبَد من دون الله) حين يقرأ الإنسانُ سواءً في القرآن الكريم، أو في سيرة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يجد أنَّه كسر الأوثانَ وهدمَها، ما هذه الأوثان؟ هل هي حجارة؟ هل هي أشجار؟ منها أشجارٌ، ومنها أحجارٌ، ومنها قبور قومٍ صالحين، فإذن هذه القبور إذا عُبدت من دون الله فهي أوثانٌ سواءً سَمُّوها أوثانًا أو لم يُسمُّوها أوثانًا، أو سمُّوها قبورَ صالحين، أو غير ذلك.
والغُلُوُّ هو: تجاوز الحَدِّ كما تبيَّن المعنى فيما مضى، فالغُلُوُّ هو: تجاوز الحَدِّ؛ لأنَّ هذا الغُلُوَّ زِيادةٌ تُؤدِّي إلى الشِّرك؛ لأنَّ المشروعَ في قبور الصَّالحين وقبورِ المسلمين عمومًا احترامها، فنحترمها ولا نُهِينُها، ونصُونها عن الأذى، فلا يكون عليها أذى، أيضًا زيارتها، والسَّلام على الأموات، والدُّعاء لهم، والاعتبار بأحوالهم، هذا هو المشروع.
أمَّا قصدها للتَّبرُّك والدُّعاء عندها، والصَّلاة عندها رجاء الإجابة، ونَثْر النُّقود عليها، أي رمي النقود عليها، ووضع العُطور عليها، فكلُّ هذا غير مشروعٍ، وهو من الشِّرك، أو من وسائل الشِّرك، بحسب اعتباره.
ولذلك فإنَّ الوَثَنَ هو ما عُبِدَ من دون الله من قبرٍ أو شجرٍ أو حجرٍ أو غير ذلك، ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: 52]، فالتَّماثيل تَعُمُّ ذلك، ولذلك عمَّها المؤلفُ -رحمه الله تعالى- ما الأدلة على ذلك؟
الأدلة قال: (روى الإمامُ مالكٌ). الإمام مالك -رحمه الله- إمام المالكيَّة، وهو إمام السُّنة -رحمه الله تعالى- وهو على مُعْتَقَدِ أهل السُّنة، وألَّف مُصنَّفاتٍ في اعتقاد أهل السُّنة، والإمام مالك هو من أئمَّة السُّنة الكِبَار، وكلُّ الأئمَّة الأربعة يقولون باعتقاد أهل السُّنة ولا يُخالفونهم، وإنَّما جاء بعضُ أتباعهم ونسبوا لهم أقوالًا غير صحيحةٍ، فهم على السُّنة في كلِّ ذلك.
فالإمام مالكٌ -رحمه الله- والإمامُ الشَّافعي والإمامُ أحمد وأبو حنيفة، كلُّ هؤلاء الأئمَّة الكبار -رحمهم الله- لهم ببيان التَّوحيد والنَّهي عن الشِّرك الأمر العظيم.
(روى الإمامُ مالكٌ في الموطأ): الموطأ كتاب الإمام مالك، ومعنى الموطأ: أنَّه سهَّله للناس، فجعله سهلًا ويسيرًا للناس في ذلك.
(أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»). هذا دعاء النبيِّ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»، هذا دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث صحيحٌ: «وَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ». هذا دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استجاب اللهُ هذا الدُّعاء، أليس كذلك؟
{استجاب الله دعاءَ النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- في ذلك بفضل الله، فصِينَ قَبْرُه عن العبادة من دون الله -عز وجل- بفضل الله تعالى، وقد استجاب الله دُعاءَه}.
استجاب الله دعاءه، فإنَّ قبرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يُصلَّى إليه الآن بحمد الله -عز وجل- ووُضِعَ عنده مَن يدعو الناسَ إلى الزِّيارة الشَّرعيَّة التي فعلها أصحابُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطبَّقوها في حياته -رضي الله عنهم.
أمَّا «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ»، معنى ذلك أيضًا أنَّ القبرَ إذا عُبِدَ يكون وَثَنًا، ولذلك فإنَّ هذه التي تُعبَدُ من دون الله أوثانٌ، ليست الآن في كثيرٍ منها قبور صالحين، بل هي أوثانٌ تُعبد من دون الله -عز وجل- ولذلك فإنَّ الغُلُوَّ في أيِّ قبرٍ يجعله وثنًا يُعبد من دون الله -عز وجل.
ولذلك فإنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- دعا بهذا الدُّعاء الذي استجابه الله -سبحانه وتعالى- ولذلك حماه الله بأن دُفِنَ في بيته -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما قالت عائشةُ: "ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه". غير أنَّه خشي أن يُتَّخذ مسجدًا، فدفنه في بيته -صلى الله عليه وسلم- له سِرٌّ عظيمٌ، وإجابة الله -عز وجل- هذا الدُّعاء في ذلك.
والمشروع عند زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يكون فيه شَدُّ رحالٍ؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ»، ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومسجد بيت المقدس. فهذه الأماكن الثلاثة التي تُشَدُّ لها الرِّحَالُ، أمَّا غيرها من الأماكن فلا يجوز شَدُّ الرِّحال إليها، فلا يقول إنسانٌ: أنا سأذهب إلى زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم. فيذهب للمسجد النبوي ثم يزور قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ما المشروع له في زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم؟
يُطبِّقها عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنه- فيأتي أمام قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول: السَّلامُ عليك يا رسول الله. ثم يتقدَّم قليلًا ويقول: السَّلامُ عليك يا أبا بكر. ثم يتقدَّم قليلًا ويقول: السَّلام عليك يا أبتي. وينصرف.
هل فيه دعاءٌ هنا؟ لا يوجد دعاءٌ، هذا فعل أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أيضًا لم يكن الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- كلَّما دخلوا المسجدَ يذهبون لزيارة القبر، بل إذا قَدِمُوا من سفرٍ، كما كان يفعل عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنه- إذا قدم من سفرٍ زار قبرَ رسول الله، وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر. ثم انصرف.
هذا دُعاء عبد الله بن عمر وأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونقله عنهم سلفُ الأُمَّة، فلم يكونوا يتردَّدون على القبر بشكلٍ مُتكَرِّرٍ، بل إنَّ الإمامَ مالكًا -رحمه الله- كان يكره أن يقول الإنسانُ: زرتُ قبرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟ هذا هو تعظيم الرسول، هذا هو حُبُّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الإمام مالك يكره أن يقول الإنسانُ: زُرْتُ قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. لأنَّه لم يرد بها دليلٌ.
ولذلك فقد وضع أهلُ الضَّلال عدَّةَ أحاديث في زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن ردَّها أهلُ العلم كابن عبد الهادي -رحمه الله- في كتابه "الصَّارم" فقد ردَّ هذه الأحاديث وبيَّن أنَّها كلها موضوعةٌ، فأحاديث زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يصِحُّ فيها شيءٌ.
ليس معنى ذلك الجفاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يجب مُتابعته -عليه الصَّلاة والسَّلام- ومُتابعة قوله -عليه الصلاة والسلام- وتقديم قوله على كلِّ قولٍ، وأمره على كلِّ أمرٍ، ومحبَّته -صلى الله عليه وسلم- دينٌ، فهذه من القضايا العظيمة المُهِمَّة التي ينبغي للمسلم أن يلتفت إليها، فيُتابع الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- ويُتابع أصحابَ الرسول -صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ مِنْ بَعْدِي». هذا هو الواجب على المسلم أن يسير على هذا النَّهْج.
فإذا جاء الإنسانُ إلى قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: السَّلامُ عليك يا رسول الله، أشهد أنَّك قد بلَّغتَ الرسالةَ، وأدَّيتَ الأمانةَ، ونصحتَ الأُمَّةَ، وجاهدتَ في الله... فلا شكَّ في ذلك كما قال شيخُنا ابن باز -رحمه الله تعالى- في كتابه "الزِّيارة والإيضاح"، فبيَّن هذا، وأنَّه إذا دعا فلا إشكالَ في ذلك.
أمَّا أن يقف الإنسانُ ويستقبل القِبلةَ هناك ويدعو ويُطِيلُ الدُّعاء، ويبكي ويخشع أمام القبر، فهذا غير صحيحٍ، وقد ألَّف أحدُ علماء الحنفيَّة كتابًا سمَّاه "المشاهد المعصومِيَّة عند قبر خير البَرِيَّة"، أنكر فيه هذه الأفعال كلها، وهو أحد العلماء -رحمه الله تعالى- يُقال له: المَعْصُومِي.
{هل زيارة قبر النبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- داخلةٌ في أعمال الحجِّ؟ لأنَّ هناك مَن يقول: بأنَّ مَن لم يَزُرْ قبرَ النبيِّ فحجُّه ناقصٌ}.
ليس صحيحًا، ليس له علاقةٌ بالحجِّ، وليست مرتبطةً بمسألة الحج، لكن إذا زار مسجدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه يزور قبرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ما البديل؟ البديل سيخبرنا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث القادمة بعد ذلك، قال -صلى الله عليه وسلم: «وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي».
خصَّ اللهُ تعالى نبيَّه بذلك، فصلِّ في أيِّ مكانٍ من الأرض، والذي أخبرنا بهذا أحفادُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنهم علي زين العابدين، فالذي يُخبر عنه آلُ بيته -عليه الصَّلاة والسَّلام- فلم يُخبر أحدٌ غيرهم، بل رواه الصَّحابةُ، فرواه أبو هريرة، وغيره؛ لكن أيضًا رواه آلُ بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». هذا تحذيرٌ بعد تحذيرٍ، وقد سبق مرَّات لعن اليهود والنَّصارى لأنَّهم فعلوا ذلك الفعل، وبيَّن أنَّهم شِرَارُ الخلق، «إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
«اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ». الغضب: صفةٌ من صفات الله، فالغضب والرِّضا من صفات الرب -سبحانه وتعالى- فهي من صفات الله الفعليَّة، فالله -سبحانه وتعالى- يغضب، ويشتد غضبه على هؤلاء الأقوام.
ونثبت صفات الرَّبِّ من غير تكييفٍ ولا تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ، فلا نقول: غضبه مثل غضب الناس. ولذلك فإنَّ هؤلاء الذين نفوا صفة غضب الرب -سبحانه وتعالى- قالوا: الغضب هو ثورانُ الدَّمِ. وهذا عند الإنسان، فكيف تُشَبِّهون اللهَ بخلقه؟ تعالى الله عن ذلك: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91].
قال: (ولابن جريرٍ) ابن جرير -رحمه الله تعالى- صاحب التَّفسير المشهور، روى (بسنده عن سفيان)، وهو سفيان الثَّوري، (عن منصور عن مجاهد) في تفسير هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19]، ما معنى اللَّات؟ قال: (كان يَلُتُّ لهم السَّوِيقَ، فمات فعكفوا على قبره).
(قال أبو الجَوْزَاءِ عن ابن عبَّاسٍ: كان يَلُتُّ السَّوِيقَ للحَاجِّ). فهو رجلٌ صالِحٌ، وهذا الأثر صحيحٌ، فأثر أبو الجوزاء عن ابن عبَّاسٍ سنده صحيحٌ.
فهذا الرجلُ كان رجلًا صالحًا يَلُتُّ السَّوِيقَ، ولَتُّ السَّوِيق هو: خلطه بالسَّمن، فالبُرُّ له طريقةٌ مُعيَّنةٌ، فيخلطه ويُقدِّمه للحُجَّاج تَقَرُّبًا إلى الله -سبحانه وتعالى- فلمَّا مات حزنوا عليه؛ لأنَّه رجلٌ صالحٌ كان يُقدِّم هذه الأعمال الصَّالحة، فعكفوا على قبره.
ومرَّ معنا أنَّ اللَّات: من الإله، فهو من اللَّات بالتَّشديد، وبعد ذلك قالوا أنَّه من الإله، فهذا الرجل كان رجلًا صالحًا يَلُتُّ السَّوِيقَ، ولذلك لا يجوز العُكُوفُ على قبر رجلٍ صالحٍ أو غير صالحٍ فلا يجوز ذلك.
ويتوقَّف حديثُنا هنا؛ لأنَّ الوقتَ انتهى، فنتوقَّف عند هذا القدر، ونُكمل -إن شاء الله- في الأسبوع القادم، فإلى لقاءٍ مُتجدِّدٍ، نسأل اللهَ تعالى للجميع التَّوفيقَ، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
http://www.youtube.com/watch?v=liDqJHdkOcY
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الرُّسُل والنَّبيين، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم في هذه اللِّقاءات المُتجدِّدة من لقاءات الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مقرر العقيدة (1)، وقد توقَّفنا في اللِّقاء الماضي في باب ما جاء في التَّغليظ فيمَن عبد اللهَ عند قبر رجلٍ صالِحٍ، فكيف إذا عبدَه؟ وقد أخذنا بعضَ النُّصوص في ذلك، وتوقَّفنا في جزءٍ من هذا الباب، وكان الوقتُ بالأمس قد أدركنا بحيث لم نتعرَّض لبعض الأسئلة التي وعدنا الإخوةَ بها، ولذلك فإنَّنا سنقف اليوم عند بعض هذه الأسئلة قبل بداية الدَّرس، وقبل التَّذكير ببعض هذه القضايا.
من الأسئلة التي تَكرَّرت فيما مضى السؤال الآتي:
{يقول السائلُ: ما حكم مقولة: (خَلِّيها على الله)؟}
هذه مُتكرِّرة كثيرًا أم لا؟ نجاوب أم (نخليها على الله)؟
هذه اللَّفظة لا يوجد فيها كلامٌ لأهل العلم، وإن كانت في سياقها الصَّحيح، ومعناها هو التَّفويض، أي فوِّض الأمرَ إلى الله -سبحانه وتعالى- فهذا لا إشكالَ فيه، ولذلك فإنَّ الكلمةَ لا إشكالَ فيها إذا كان المرادُ بها تفويضَ الأمر إلى الله -سبحانه وتعالى- وبعض الفُسَّاق أو المُغَنِّين قد يجعلها في كلامه أو في غزله أو في كذا، فهذه لا تجوز بأيِّ حالٍ من الأحوال، بل هي مُحرَّمةٌ، فإنَّ هذا من الكلام المُحَرَّم الذي لا يجوز، فكيف يكون فيه ذِكْرُ لفظ الجلالة وغير ذلك؟!
أمَّا إذا كانت في سياقها العام الواضح فلا إشكالَ فيها بحمد الله -تبارك وتعالى.
من الأسئلة التي وردت: يسأل بعضُ الإخوة عن حكم قراءة الأبراج التي في الصُّحُف، ففي بعض الصُّحُف تجد: مواليد برج العقرب يكون لهم كذا، وبرج كذا..، {هل يجوز قراءة مثل ذلك؟}
هذه مثلها مثل مَن أتى كاهنًا فسأله، فهو مجرد سؤالٍ، سواءً سألته عن طريق الإعلام أو عن طريق الجريدة أو عن طريق الموقع أو سألته مباشرةً، أو سألته عن طريق الهاتف، فكلُّ السُّؤال واحدٌ، وكله حُكْمُه واحدٌ، ولذلك لا يجوز قراءة هذه الصُّحف، بل يجب مُقاطعة مثل هذه الصُّحف التي تنشر هذا البلاء.
أيضًا سؤال أحد الإخوة يقول: {ما حكم مَن يشاهد السَّاحر؟}
ففي بعض البرامج أو بعض المواقع أو غير ذلك، يرى فيها ساحرًا كيف يعمل، وكيف كذا وكذا، وهي مثل ما إذا أتى الكاهِنَ، وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»، فمشاهدته مثل إتيانه، ولولا أنَّه يجد مَن يُتابع ويُشاهد لتَوَقَّف، لكنَّه يجد مَن يتابعه، ولذلك لا تجوز مشاهدتُه ولا مُتابعتُه في جميع الأحوال.
أيضًا من الإخوة مَن يسأل ويقول: {هل من الكَهَانَة الإخبارُ بما يُدْرَك بالحساب، مثلًا الذي يقول: الكسوفُ يكون يوم كذا، أو غدًا يكون الجَوُّ باردًا، أو غدًا يكون الجَوُّ غائمًا، أو غدًا يكون الجَوُّ صَحْوًا؟}
لا، هذه علوم تُعْرَف عن طريق الحساب، مثلًا الكسوف كان معروفًا قبل ذلك، حتى ذكره بعضُ العلماء قبل ثمانمئة سنة، وقد أجاب ابنُ تيمية عن بعض الأسئلة التي طُرِحَتْ عن معرفة مسألة الكسوف، وللأسف الشَّديد اليوم كثيرٌ من الناس إذا عرف الكسوفَ لا يسأل لماذا حصل؟ ولذلك جاء التَّحذيرُ النَّبويُّ، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فزع لما حصل الكسوفُ أو الخُسُوفُ، وهذا بسبب غضب الرَّبِّ، وأنَّها من آيات الله وتدبير الله -عز وجل- ولذلك من علامات يوم القيامة أنَّ الشمسَ والسَّاعةَ يُكسَف بهما ويُخْسَف بهما، ويذهب نورهما، وكل هذه التَّغَيُّرات، فلا يدري الإنسانُ ماذا يحدث في هذا الأمر، فمجرد معرفة الحساب جعلت بعض الناس لا ينظر إلى هذه الآيات العظيمة، ولا يتدبَّر ما وراء الخبر. ولذلك فإنَّ مسألة الحساب للخُسُوفِ وغيره معروفةٌ عند جميع مَن يهتمُّ بأمره، فتجده يعرف مثل هذه الأشياء.
أيضًا أحوال الطَّقس، فأحوال الطقس هي: تنبُّؤات بناءً على مُعطياتٍ مُعيَّنةٍ، فيقولون هناك رياح قادمة، أو الحرارة تكون هنا، والبُرُودة تكون هنا، فهي مُعطياتٌ مُعيَّنةٌ تخرج بناءً عليها هذه التَّنبُّؤات، وهي من العلوم التي تعارف عليها أهلُ هذا الفَنِّ، فهي ليست من الكَهَانَة في شيءٍ.
هنا شخص أيضًا يقول: {عرفنا شخصًا يعمل بالسِّحْر أو الكَهَانَة}، والسَّائل من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، فلذلك نقول له: يجب عليك أن تُبلغ هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فعندهم اهتمامٌ بهذه القضايا، وضبط لمثل هذه الجرائم -بحمد الله- وهذه من حسنات هذه البلاد، ومن فضل الله -عز وجل- علينا، فمَن عرف ساحرًا أو كاهنًا فعليه أن يُحَذِّر المسلمين منه، وعليه أن يتعاون مع مَن ولاه الله -عز وجل- السُّلطةَ؛ لرَدِّه ورَدْعِه عن هذا الباطل.
سائل آخر يقول: {مَن سأل عن اسم الأُمِّ، راقٍ سأل عن اسم الأُمِّ؟!}
شخص يرقي الناسَ ويقرأ على الناس، سأل عن اسم الأم، ماذا يكون؟ شاركونا.
{قد يكون ساحرًا؛ لأنَّها من أفعال السَّحَرة والكُهَّان}.
لماذا يسأل عن الأُمِّ؟ لماذا لم يسأل عن الأب؟
أجيبوا، هذه مُتعلِّقةٌ بأحوال الشَّياطين، فالشَّياطين يعتبرون النَّاسَ أبناء زِنى، ولذلك فهم لا يعترفون بعُقُود الزَّواج، فيسألون عن الأُمِّ؛ لأنَّهم ينسبون الإنسانَ إلى أُمِّه، ولذلك يسألون عن اسمه واسم أمه، هذه أحوال الشَّياطين، والشَّياطين ليس عندها قُدرةٌ أو اطِّلاعٌ، فلذلك يُعطَوْن من قِبَل السَّاحر أو الكَاهِن أو غيره شيئًا من أثر هذا الإنسانِ حتى يتعرَّفوا عليه، ولو كانوا يعرفون الغيبَ هل هم بحاجةٍ إلى أثرٍ منه؟ لا، ليسوا بحاجةٍ إلى أثر منه في ذلك.
هذه بعض الأسئلة التي تيسَّرت الإجابةُ عليها، ولدينا -إن شاء الله- لقاءٌ في الفصول الافتراضيَّة يمكن أن نُجِيب فيه على بقيَّة الأسئلة إذا كان لدى الإخوة أسئلة، وهنا أرى أنَّ لهم حقًّا في إجابة أسئلتهم ونشكرهم على تَوَاصُلهم معنا.
نكمل اليوم البابَ الذي بدأنا فيه في اللِّقاء الماضي، وهو باب ما جاء في التَّغليظ فيمَن عَبَدَ اللهَ عند قبر رجلٍ صالِحٍ، فكيف إذا عبده؟!
فإذن عندنا هنا مسألتان في هذا الباب، منها: ما هو من وسائل الشِّرك، وهو: أنَّه يعبد اللهَ عند قبر رجلٍ صالِحٍ. ومنها ما هو من الشِّرك الأكبر إذا عَبَدَه.
وللأسف الشَّديد بعض الذين يُعبَدون من دون الله -عز وجل- ليسوا من الصَّالحين، بل هم من الفُجَّار، بل يُعتبر بعضُهم من الكُفَّار، مثل: ابن عربي، فابن عربي هذا ليس هو الإمامَ ابنَ العربي المالكي -رحمه الله- صاحب كتاب "الأحكام" وغيره، لا، وإنَّما مقصودنا ابن عربي الذي يُسمِّيه الصُّوفيَّة الشيخ الأكبر محيي الدِّين، وهذا له قبرٌ في شمال سُوريا يُعْبَد من دون الله -عز وجل- وله كتاب "الفصوص"، هذا يُطْلِقُون عليه أنَّه رجلٌ صالِحٌ، بل في بعض قبورهم قبر فرس الولي المغربي، فلم يعبدوا الولي المغربي، بل عبدوا فرسَه الآن، عُبِدَ الفرس من دونه.
ولذلك فإنَّ كثيرًا من القبور التي يُزعم أنَّها قبور صالحين هي في أكثرها خيالٌ، هي خيال لا حقيقةَ لها، ففي بعضها حيوانات، بل مثلًا قبور الفرنسيين الذين كانوا في غزو مصر مع لويس التاسع، بعد طول الزمن عُبِدَت بعض هذه القبور، وهم نصارى.
المقصود أن كثيرًا من القبور التي تُعبَد من دون الله الآن ليست قبورَ صالحِين، بل بعضُها خيالٌ وبعضها وَهْمٌ وبعضها ليس له أصلٌ إطلاقًا، مثل قبر الحُسين الموجود في القاهرة الآن، أو رأس الحسين التي في القاهرة، هي رأس أحد الحواريين جيء بها من بلاد فلسطين، والذي جاء بها العُبَيديين الكُفَّار، وقد خرجت الفتوى من بغداد من نقيب الطَّالبيين ومن علماء المسلمين والخليفة العباسي أنَّهم كُفَّارٌ ملاحِدَةٌ، فخرجت الفتوى عنهم بذلك، وهم الذين بنوا هذا البناءَ الذي هو في مصر الآن في قبر رأس الحسين.
هذا الباب يتعلَّق بحماية جَنَاب التَّوحيد، وذكرنا فيه حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- في صحيح الإمام البخاري ومسلم، أنَّه لما نُزل برسول الله، أي لما نزل به الموتُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- واشتدَّ عليه الكَرْبُ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وطَفِقَ -أي جعل- يطرح خَمِيصَةً على وجهه، يغطي وجهه -عليه الصلاة والسلام- ثم وهو كذلك في شدة المرض، وشدة الموت، والنَّزع، يقول: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» لماذا؟ قال: «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». ومع أنَّ التَّحذيرَ في كتاب الله كافٍ، إلا أنَّه قد جاء التَّحذير في هذا الحديثِ والتَّشديد عليه في ذلك.
قالت عائشة: "يُحذِّر ما صَنَعُوا". فهو يُحذِّر هذه الأُمَّة مما صنع أولئك الأقوام، يحذر هذه الأمة أن تصنع مثلما صنع أولئك الأقوام، لماذا؟ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا في حياته أيضًا أنَّه قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ نَحْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ». هذا أخبرنا به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- متى؟ في حنين، وحنين في سنة كم؟ في السنة الثَّامنة للهجرة، وأخبر -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث أخرى، لكن هذا مرَّ معنا في هذا الكتاب، هذا الحديث مرَّ معنا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ».
وتكلَّمنا في اللِّقاء الماضي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنَّ قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس فيه حُجَّةٌ لعُبَّاد القبور اليوم إطلاقًا، فلا يحتجُّ به علينا أحد، لماذا؟ لأنَّ مسجدَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يُبْنَ على قبرٍ، وأيضًا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لم يُدْفَن في المسجدِ، وإنَّما دُفِنَ في غرفة عائشةَ -رضي الله عنها- فإذن كانت غرفةُ عائشةَ خارج المسجد في زمن الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وزمن الخلافة الرَّاشِدة، وزمن الصَّحابة -رضي الله عنهم- وفي زمن مُعاوية، حتى جاء زمن الوليد بن عبد الملك فأدخلها في المسجد، ووضع عليها جدارًا عازلًا، ثم أيضًا وُضع الجدار من الخلف بشكل مُثلَّثٍ، بحيث لا يستطيع الإنسانُ استقبال القبر.
فإذن الحُجَّة باطلةٌ، فالمسجد لم يُبْنَ على قبرٍ، وأيضًا نبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يُدفَن في المسجد، ولا زال قبره -عليه الصَّلاة والسَّلام- في غرفة عائشةَ، ولم يأذن بدخوله -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولا زال فيها، وهذا من استجابة دُعاء الله -عز وجل- فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتينا في الحديث القادم: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ». فاستجاب اللهُ لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فقبره -صلى الله عليه وسلم- بين جدرانٍ ثلاثةٍ لا يصل إليه أحدٌ -عليه الصلاة والسلام- فإذن هذا الدُّخول لم يكن بمُوافقة أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فإذن في هذا الحديث والحديث الذي قبله تحريم البناء على القُبور، وفيه أيضًا تحريم العبادة عند القبر ولو لم يُبْنَ عليه، سواء كان عنده بناءٌ أو ما عنده بناءٌ، لا يجوز العبادة عند القبر، ولذلك قول بعض الفقهاء: أنَّه لا تجوز العبادةُ عند القبر خوف النَّجاسَة، غير صحيحٍ، بل إنَّه لا تجوز الصَّلاةُ إلى القُبور، ولا تجوز الصَّلاةُ عندها، وُجِدَت نجاسَةٌ أم لم تُوجد نجاسَةٌ في ذلك، فلا تجوز الصَّلاةُ ولا الذَّبحُ ولا النَّذْرُ ولا غيرها من الأعمال في ذلك.
سيأتينا أيضًا في هذه الأحاديث والحديث السَّابق: أنَّ الذين يبنون على القبور ويدعون إلى عبادتها هم شِرارُ الخلق، وليسوا من أهل العلم، وليسوا من أهل الفضل، ولا يُعتَبرون ممن يُرجَع إليهم في هذه الأُمَّة، بل هم من شِرارِ الخلق، وأهل السُّنة والجماعة خيارهم هم علماؤهم، والطَّوائف الأخرى شِرارُهم هم علماؤهم، الطَّوائف الضَّالَّة المُنحَرِفَة عن هدي رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شِرارهم هم علماؤهم، ولذلك تجدهم يأخذون أموالَ الناس بالباطل، ويرتكبون المُوبِقَات، ويدعون إلى مُخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإنَّ هؤلاء الذين يدعون الناسَ إلى عبادة القبور، والصَّلاة عندها، والبناء عليها، والدَّعوة إليها، هم شِرار الخلقِ، وبعض الناس يُعظِّمهم ويجعلهم علماء، أو يجعلهم غير ذلك، لا، هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كان يُنازِع رسولَ -صلى الله عليه وسلم- فليَسْتَعْلِن بذلك، فإنَّ معصيةَ هؤلاء فوق كلِّ معصيةٍ، وشَرَّهم على الأُمَّة فوق كلِّ شَرٍّ، وضلالَهم وإفسادَهم في الأُمَّة أعظمُ من كلِّ ضلالٍ، فلذلك هؤلاء من شِرار الخلق.
من أحاديث هذا الباب: حديث جُندب بن عبد الله البَجَلِي -رضي الله عنه- الصَّحابي الجليل، قال: (ولمسلمٍ عن جُندب بن عبد الله قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا -هنا الشَّاهد- وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»).
متى قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا؟ قاله في سياق الموت -عليه الصَّلاة والسَّلام- فقال هذا قبل أن يموت بخمس ليالٍ، أي خمسة أيَّامٍ قبل موته، فهذه وصيَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أين مَن يُحبُّون الرسولَ؟ أين مَن يُتابعون الرسولَ -صلى الله عليه وسلم؟ كيف يدَّعُون محبَّتَه، وهذه وصيَّته -عليه الصلاة والسلام؟ وقد اشتدَّ عليه المرضُ -عليه الصلاة والسلام- بل إنَّ من شدَّة المرض أنَّ عبد الله بن مسعود وضع يده على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "يا رسول الله إنَّك لَتُوعَك"! وذلك من شدَّة الحرارة، بل يدعو نبينا -صلى الله عليه وسلم- بسبع قِرَبٍ من الماء، من سبع آبارٍ شتَّى، فتُصَبُّ عليه حتى تهدأ الحرارةُ فيقوم فيُوصِي الناسَ -صلى الله عليه وسلم.
فإذن القضيَّة أمرها شديدٌ، ولذلك أوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحال الشَّديدة قبل أن يموت بخمسٍ بهذه الوصيَّة، فهذه وصيَّة رسول الله، وكتاب الله قائمٌ على هذه القضية، وهو واضحٌ غاية الوضوح.
قال: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ». الخُلَّة هي: أعلى درجات المحبَّة، ولذلك فإنَّ كثيرًا من أهل الباطل أو بعض المسلمين يتنَقَّص الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- كيف؟ يقول عن الرسول ماذا؟ حبيب الله أو خليل الله؟
{حبيب الله}.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن أم حبيب الله؟
{الرسول خليل الرحمن}.
خليل الرحمن، وحبيب الله؟
{كثيرٌ من الناس يقولون: حبيب الله، وهذا أقلُّ درجةً من الخُلَّة}.
وهذا أقلُّ درجةً، ولذلك فنبينا -صلى الله عليه وسلم- هو خليل الرحمن كما قال في هذا الحديث: «فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا». ما معنى خُلَّة؟ الخُلَّة هي أعلى درجات المحبَّة، ولذلك فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس في قلبه مكانٌ لمحبَّة أحدٍ، فقد استولت على قلبه محبَّةُ الرَّبِّ -سبحانه وتعالى.
ولذلك فإنَّ الخُلَّةَ لا تقبل الاشتراكَ، وإنَّما الخُلَّة ثبتت لإبراهيم -عليه الصَّلاة والسَّلام- ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأفضل الرُّسُل الخليلان، وأفضهما محمد -صلى الله عليه وسلم- فأفضلهم محمد -صلى الله عليه وسلم.
«إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ» يتبرأ إلى الله أن يكون له خليلٌ، لماذا؟ لأنَّه خليلُ الرَّحمن، وهذه لا تقبل الاشتراكَ، فقد خلص قلبُه لله.
ولذلك انظر خليل الرحمن لما جاء له إسماعيلُ بعد عُقْمٍ طويلٍ، وبلغ معه السَّعْيَ، أي أصبح يُحبُّه قلبه، رأى في المنام أنَّه يذبحه، لماذا؟ ليكون قلبُه خالصًا لله -عز وجل- ولذلك كان له هذا الجزاء العظيم.
«فَإِنَّ اللهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا». أبو بكر مَن هو؟ أبو بكر الصِّديق، صاحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ﴾ [التوبة: 40]، فهو صاحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أسلم على يد أبي بكر الصِّديق أغلبُ العشرة المُبشَّرين بالجنَّة، وهو من أول الناس إسلامًا، وكان رجلًا تاجرًا، بذل مالَه كلَّه في سبيل الله، وهاجر مع الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- وله في الهجرة خبرٌ عظيمٌ، فكان يسير قبل رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حينًا، ثم يسير حينًا خلف رسول الله، فقال: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» قال: "يا رسول الله، أذكر الرَّصْدَ". أي الناس الذين يرصدون لك على الطَّريق، "فأسير أمامك ليكون فيَّ ولا يُصِيبك شيءٌ، فأذكر الطَّلَبَ فأتأخَّر". أي أكون خلفك.
هل بلغت هذه المحبَّة؟ ولذلك فإنَّ أبا بكر الصِّديق -رضي الله عنه- كانت له المواقفُ العظيمةُ لما مات الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- ولَحِقَ بربِّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولمَّا ارتدَّت العربُ، فكلُّ القضايا التي احتاجت الأُمَّةُ فيها إلى خبرٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقفةٍ كان ذلك عند أبي بكر الصِّديق -رضي الله عنه- فكانت له المنزلةُ.
والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يُصلِّي بالصَّحابة، وجاءته امرأةٌ كما في صحيح البخاري، فأمرها أن تعود إليه بعد ذلك، فقالت: "إن لم أجدك". كأنَّها تعني الموتَ، قال: «تَجِدِينَ أَبَا بَكْرٍ». فكان فيه إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر الصِّديق -رضي الله عنه.
وهذه منزلة أبي بكر الصِّديق، ويجب أن يُعرف هذا الفضلُ له -رضي الله عنه- ولذلك هؤلاء الذي يَسُبُّون أبا بكرٍ، ويتكلَّمون فيه -رضي الله عنه- كما قالت عائشةُ، فالقوم ماتوا، وانقطعت أعمالُهم، فما الذي حصل؟ أراد الله -عز وجل- أن تزيد حسناتُهم، فكلَّما يسبُّهم هؤلاء ترتفع درجاتهم، فهذا فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
انظر الشَّاهد في هذا الباب: قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «أَلَا». ألا: حرف تنبيهٍ، أي سأتكلم عن شيءٍ مُهمٍّ الآن وأنبِّهك، وتكرَّر هذا الحرفُ، انظر: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» مَن هم؟ اليهود والنَّصارى هم الذي فعلوا ذلك، «أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». ينهانا مَن؟ رسولنا -صلى الله عليه وسلم- سيد الرُّسُل -عليه الصلاة والسلام- حتى إنَّ بعضَهم كان في لقاءٍ فاستدَلَّ بآية الكهف: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]، قلنا له: هذا فعل النصارى، فهل تريد متابعة الرسول أم متابعة النصارى؟! فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».
من القصص الجميلة أن شيخ الإسلام ابن تيمية لما سُجِنَ في سجنٍ في القاهرة، دخل معه السّجن بعضُ النَّصارى، فقالوا: أيُّ فضلٍ في دينكم؟ ما الدِّين الذي عندكم حتى تقولوا يا معشر المسلمين ديننا صحيح؟
قال -رحمه الله- مُبَيِّنًا لهم الدِّين الذي جاء به الرسولُ، وهو توحيد الله، وإخلاص العبوديَّة لله، حتى إنَّ هؤلاء النصارى قالوا له: إن كنتم تعبدون الحسينَ، فنحن عيسى، أيُّهما أفضل؟ عيسى النبي، أم الحسين -رضي الله عنه؟
فأجابهم: بأنَّه لا تجوز لا عبادة عيسى ولا الحسين ولا غيرهم، وإنَّما عبادة الله وحده، فقالوا: هذا الدِّين الذي تذكره هو الصَّحيح، أما ديننا نحن وهؤلاء الذين يعبدون القبور فواحد.
ولذلك فإنَّ بعضَ أصحاب القبور التي تُعبَد من دون الله تعالى ليسوا صالحين، فابن الرُّومي هذا من الزَّنادِقَة الكبار، وقد كُتِبَ على قبره: للمسلمين واليهود والنصارى. مَن يريد أن يعبد قبري يعبده، كلهم شُركاء فيه.
«أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». هذه وصيَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي صحيح مسلمٍ، فلا يقول أحدٌ أن ذلك ضعيفٌ، فالحديث صحيحٌ، ووصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مرضه.
فإذا كنت تُحبُّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فما وَقْعُ هذه الوصية عندك؟ ما منزلة هذه الوصية في ذهنك وفي حياتك؟ فنهانا نبينا -صلى الله عليه وسلم- وكرَّر وأكَّد التَّنبيه، وأكَّد حرف التَّنبيه مرَّةً أخرى، «فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». تأكيدٌ بعد تأكيدٍ -عليه الصلاة والسلام.
ولذا فإنَّ مَن دَفَنَ شخصًا في مسجدٍ من مساجد المسلمين فيجب نبش هذا القبر، ويجب أن يُخرج هذا الميتُ ويُدفن مع المسلمين، بل إنَّ هذا الشخصَ الذي يُدفن في مسجدٍ أو في مكانٍ آخر يفوته دعاءُ المسلمين له الذين يزورون القبورَ، الذي هو الدُّعاء الشَّرعي، أمَّا هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله فهم في ضلالٍ ولا تُقبل منهم عبادةٌ، ولذلك لا يجوز اتِّخاذ القبور مساجدَ وبناء مسجدٍ عليها كما حصل من اليهود والنصارى، وكما حصل من فِرَق الضَّلال المُخالِفِين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرون المتأخرة في ذلك، أو عبادتها.
وأوَّل مَن بنى القبورَ في بلاد المسلمين هم ملوك الضَّلال، الذين كفَّرهم علماءُ المسلمين، فأوَّل مَن بناها في مصر هم الدولة العُبَيدِيَّة الذين قتلوا علماءَ المسلمين، وأفتى فيهم النَّابُلسِيُّ -رحمه الله- في فتواه المشهورة في العُبَيدِيَّة الباطنية، فهم باطنيَّةٌ، قال: إذا كان مع رجلٍ عشرةُ أسهمٍ، فإنَّه يرمي النَّصارى بسهمٍ ويرمي العُبَيدِيين بتسعٍ". فأحضروه وقالوا له: أنت أفتيتَ بأنَّ مَن كان معه عشرةُ أسهمٍ يرمينا بواحدٍ ويرمي النَّصارى بتسعةٍ؟ قال: لا، قلتُ لهم: يرمونكم بالتِّسعة ثم يرمونكم بالعاشر أيضًا. يقول: ارموهم بالعشرة كلها.
فأمروا يهوديًّا أن يسلخه حتى وصل إلى قلبه فطعنه واستشهد -رحمه الله تعالى.
والمقصود أنَّ هؤلاء هم الذين بنوا القبورَ، وسيرتهم غير محمودةٍ، فهم أهل ضلالٍ وكفرٍ، كَفَّرَهُم علماءُ المسلمين في زمانهم.
والذي بنى في العراق ما يُسَمُّونه المسجد الحيدري الآن، بناه أظلم ملوك الدولة البُوَيْهِيَّة الظَّالمة الفاجرة من دول الضلال، وأطغاهم وأظلمهم هو الذي بنى هذا المسجدَ، فبناه على قبر المغيرة بن شُعبة -رضي الله عنه- وليس على قبر عليٍّ -رضي الله عنه- وليس عنده حُجَّةٌ أنَّ هذا قبر عليٍّ أصلًا، والآن انظر ماذا يزورونه، وما فيه من أئمَّة الضَّلال، نسأل الله العافيةَ.
يُعقِّب شيخُ الإسلام ابن تيمية على هذه الأحاديث بهذا الكلام الجميل، يقول: "فقد نهى عنه في آخر حياته". نهى عن اتِّخاذ القبور مساجدَ، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
"ثم إنَّه لعن وهو في السِّياق" يعني في سياق الموت، "مَن فعله" لعنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فحذَّر منه، ونهى عن ذلك في آخر الحياة، ولعنه وهو في سياق الموت -عليه الصلاة والسلام.
(والصَّلاة عندها من ذلك) الصَّلاة عند القبور من اتِّخاذ القبور مساجد.
(وإن لم يُبْنَ مسجدٌ) وهو معنى قوله: "خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مسجدًا"، وخشي: كما مرَّ معنا في اللِّقاء الماضي جاءت على روايتين، خَشِيَ أو خُشِيَ.
فإنَّ الصَّحابةَ لم يكونوا ليبنوا حول قبره -صلى الله عليه وسلم- مسجدًا، ولذلك كان من فضل الله أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دُفنَ في غرفة عائشة، وهذا خاصٌّ بالرسول، وإلا فالواجب على أهل الميت أن يدفنوه في مقابر المسلمين، فكلُّ ميِّتٍ يجب أن يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُدفَن في منزله، فهذا خاصٌّ بالرسول -صلى الله عليه وسلم.
وكلُّ موضعٍ قُصِدَت الصلاةُ فيه فقد اتُّخِذَ مسجدًا، بل كلُّ موضعٍ يُصلَّى فيه يُسمَّى مسجدًا، كما قال -صلى الله عليه وسلم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا». فالمكان الذي يُصلَّى فيه مهما سمَّاه، فبعضهم يتحَذْلَقُ في ذلك فيقول: لا أُسمِّيه مسجدًا أو غير ذلك. لا، هو مسجدٌ، شئتَ أو أبيتَ، إذا صلَّيت عند هذا القبر، واتَّخذته مَزَارًا تصلي وتدعو، فهذا مسجدٌ في ذلك.
أيضًا من الأحاديث: حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- رواه الإمامُ أحمد بسندٍ جيِّدٍ، وهو كما قال المؤلفُ -رحمه الله: (ولأحمدَ بسندٍ جيِّدٍ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ: مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ». رواه أبو حاتم في صحيحه، والحديث حسنٌ). فإسناد الحديث حسنٌ.
هذا حديث عبد الله بن مسعود، ويتكلم عن شِرَارِ الناس، وهذا تأكيدٌ للحديث السَّابق.
مَن هم شرار الناس؟ الذين يتَّخذون القبور مساجد.
قال ابنُ مسعود -رضي الله عنه- في الحديث عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ». أي يوم القيامة، فيُدركهم يوم القيامة، عند نفخة الصَّعق: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ﴾ [الزمر: 68]، هذه نفخة الصَّعْق.
﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]، هذه نفخة البَعْثِ، وهناك نفخة ثالثة وهي نفخة الفَزَع: ﴿وَيوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ﴾ [النمل: 87]، فهذه نفخة الفَزَع، وبعضُ أهل العلم قال: هي ثلاث نفخاتٍ: نفخة الفَزَع، ونفخة الصَّعْق، ونفخة البعث. ومنهم مَن قال: نفخة الصَّعق هي نفخة الفَزَع.
فهذا يوم السَّاعة، ولذلك فإنَّ كلَّ دَاهِيَةٍ وكلَّ أمرٍ عظيمٍ يُسمَّى ساعةً.
«إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ: مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ» ألم يُخبر الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه لا تزال هذه الطَّائفة المنصورة -أهل السُّنة والجماعة- قائمةٌ إلى قيام السَّاعة؟ طيب كيف نجمع؟ هل هم شِرار؟ هل هم خيار؟ كيف نجمع مع ذلك؟
{إنَّ الله يقبض أرواحَ المؤمنين ثم تُقام السَّاعةُ على شِرار الخلق}.
جاء في الحديث عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ وَفِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللهُ اللهُ». وذلك لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- يبعث ريحًا طيِّبةً تقبض أرواحَ المؤمنين، فبقاء الطَّائفة المنصورة إلى قبيل قيام السَّاعة.
فالمراد أنَّهم يموتون قبل قيام السَّاعة، وتُقبض أرواحهم بريحٍ يُرسلها الله -سبحانه وتعالى- ولا يحضرون هذا الحدثَ العظيمَ المُرَوِّعَ الشَّديدَ.
فإذن أهلُ السُّنة باقين، ولذلك لا حُجَّة لأحدٍ يقول: أنا لم أعرف الحق. لا، أهل السُّنة موجودون وبيَّنوا الحقَّ الذي بيَّنه الرسولُ، فهم أتباع الرسولِ، وهم الذين يُخبرون بما أخبر به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فلا حُجَّة لأحدٍ في ذلك.
وفي هذا الحديث قال نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ». أيضًا من شِرار الناس الذين يتَّخِذُون القبورَ مَساجِدَ.
فأنت إذا رأيت طائفةً تتَّخذ القبورَ مساجدَ، فهؤلاء شِرار الناسِ بمنطوق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أُسمِّهم أنا، بل هذه تسمية الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فأفاد هذا الحديثُ أيضًا المنع، قال الرسولُ -صلى الله عليه وسلم: «فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ». فمنع البناء والصَّلاة عليها، فما حكم الصَّلاة إذا صلى الإنسانُ في مسجدٍ فيه قبرٌ؟ أو مسجدٍ بُنِيَ على قبرٍ؟ فإنَّ الصَّلاةَ باطِلةٌ في هذه المساجد المَبْنِيَّة على القبور؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى، والنَّهي يقتضي الفسادَ، فالذي يُصلِّي عند القبر صلاته غير صحيحةٍ، فعليه أن يُعِيد الفريضةَ؛ لأنَّ صلاتَه عند القبر أو في المسجد الذي بُني على القبر غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّها صلاةٌ مَنْهِيٌّ عنها، نهى عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم.
إذن هذا الباب فيه بيانٌ عظيمٌ وهو وصيَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحرص نبينا -صلى الله عليه وسلم- على حماية التَّوحيد وسلامة المؤمنين في عقائدهم وفي دينهم، وأنَّه -عليه الصلاة والسلام- بيَّن هذا بيانًا كافيًا واضحًا يعرفه كلُّ مؤمنٍ، أمَّا إذا جهله مَن لم يبحث عن الحقِّ، ولم يعرف ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه، فهو الذي خالف ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا بيَّن الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ هؤلاء الذين يتَّخذون القبورَ مساجدَ هم شِرار الخلق، سواءً كانوا من اليهود أو النَّصارى أو ممن ينتسب للإسلام من فِرَق الضَّلال، فنُسمِّيهم شِرار الخلق، فنصفهم بذلك كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فليحذر المسلمُ أن يكون من شِرار الخلق.
معنا الباب الذي بعده، والمؤلف -رحمه الله- كرَّر وأعاد في هذا الباب الذي هو: حماية التَّوحيد، وسدَّ كلَّ وسائل الشِّرك، وكرَّر فيه النُّصوصَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كما حرص النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فكلُّ أتباع الرسولِ يحرصون على هذا الباب ويُبيِّنونه غاية البيان ويُوضِّحونه غاية الوُضُوح.
فلدينا الآن الباب الذي بعده: (باب ما جاء أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصيِّرها أوثانًا تُعْبَدُ من دون الله -عز وجل). ما جاء في أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصيِّرها أوثانًا، ما دام أنَّها عُبِدَتْ من دون الله تصير أوثانًا كما أنَّ اللَّاتَ والعُزَّى أوثانٌ تُعبد من دون الله –عز وجل.
اقرأ لنا نصوص الباب.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد...
قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى: (باب ما جاء أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصيِّرها أوثانًا تُعْبَدُ من دون الله.
روى مالكٌ في "الموطَّأ" أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». ولابن جريرٍ بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19]، قال: كان يَلُتُّ لهم السَّوِيقَ فمات فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يَلُتُّ السَّوِيقَ للحاجِّ.
وعن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: لعن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زائراتِ القُبُورِ، والمُتَّخِذين عليها المساجِدَ والسُّرُجَ. رواه أهلُ السُّنن)}.
نعم، إذن هذا الباب العظيم الذي بيَّن فيه هذه النُّصوص العظيمة، وأيضًا لدينا من الأبواب المتعَلِّقة بهذا الباب الذي بعد هذا الباب، وأيضًا بابٌ في آخر الكتاب.
(باب ما جاء أنَّ الغُلُوَّ في قبور الصَّالحين يُصَيِّرها أوثانًا تُعْبَد من دون الله) حين يقرأ الإنسانُ سواءً في القرآن الكريم، أو في سيرة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يجد أنَّه كسر الأوثانَ وهدمَها، ما هذه الأوثان؟ هل هي حجارة؟ هل هي أشجار؟ منها أشجارٌ، ومنها أحجارٌ، ومنها قبور قومٍ صالحين، فإذن هذه القبور إذا عُبدت من دون الله فهي أوثانٌ سواءً سَمُّوها أوثانًا أو لم يُسمُّوها أوثانًا، أو سمُّوها قبورَ صالحين، أو غير ذلك.
والغُلُوُّ هو: تجاوز الحَدِّ كما تبيَّن المعنى فيما مضى، فالغُلُوُّ هو: تجاوز الحَدِّ؛ لأنَّ هذا الغُلُوَّ زِيادةٌ تُؤدِّي إلى الشِّرك؛ لأنَّ المشروعَ في قبور الصَّالحين وقبورِ المسلمين عمومًا احترامها، فنحترمها ولا نُهِينُها، ونصُونها عن الأذى، فلا يكون عليها أذى، أيضًا زيارتها، والسَّلام على الأموات، والدُّعاء لهم، والاعتبار بأحوالهم، هذا هو المشروع.
أمَّا قصدها للتَّبرُّك والدُّعاء عندها، والصَّلاة عندها رجاء الإجابة، ونَثْر النُّقود عليها، أي رمي النقود عليها، ووضع العُطور عليها، فكلُّ هذا غير مشروعٍ، وهو من الشِّرك، أو من وسائل الشِّرك، بحسب اعتباره.
ولذلك فإنَّ الوَثَنَ هو ما عُبِدَ من دون الله من قبرٍ أو شجرٍ أو حجرٍ أو غير ذلك، ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: 52]، فالتَّماثيل تَعُمُّ ذلك، ولذلك عمَّها المؤلفُ -رحمه الله تعالى- ما الأدلة على ذلك؟
الأدلة قال: (روى الإمامُ مالكٌ). الإمام مالك -رحمه الله- إمام المالكيَّة، وهو إمام السُّنة -رحمه الله تعالى- وهو على مُعْتَقَدِ أهل السُّنة، وألَّف مُصنَّفاتٍ في اعتقاد أهل السُّنة، والإمام مالك هو من أئمَّة السُّنة الكِبَار، وكلُّ الأئمَّة الأربعة يقولون باعتقاد أهل السُّنة ولا يُخالفونهم، وإنَّما جاء بعضُ أتباعهم ونسبوا لهم أقوالًا غير صحيحةٍ، فهم على السُّنة في كلِّ ذلك.
فالإمام مالكٌ -رحمه الله- والإمامُ الشَّافعي والإمامُ أحمد وأبو حنيفة، كلُّ هؤلاء الأئمَّة الكبار -رحمهم الله- لهم ببيان التَّوحيد والنَّهي عن الشِّرك الأمر العظيم.
(روى الإمامُ مالكٌ في الموطأ): الموطأ كتاب الإمام مالك، ومعنى الموطأ: أنَّه سهَّله للناس، فجعله سهلًا ويسيرًا للناس في ذلك.
(أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»). هذا دعاء النبيِّ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»، هذا دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث صحيحٌ: «وَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ». هذا دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استجاب اللهُ هذا الدُّعاء، أليس كذلك؟
{استجاب الله دعاءَ النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- في ذلك بفضل الله، فصِينَ قَبْرُه عن العبادة من دون الله -عز وجل- بفضل الله تعالى، وقد استجاب الله دُعاءَه}.
استجاب الله دعاءه، فإنَّ قبرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يُصلَّى إليه الآن بحمد الله -عز وجل- ووُضِعَ عنده مَن يدعو الناسَ إلى الزِّيارة الشَّرعيَّة التي فعلها أصحابُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطبَّقوها في حياته -رضي الله عنهم.
أمَّا «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ»، معنى ذلك أيضًا أنَّ القبرَ إذا عُبِدَ يكون وَثَنًا، ولذلك فإنَّ هذه التي تُعبَدُ من دون الله أوثانٌ، ليست الآن في كثيرٍ منها قبور صالحين، بل هي أوثانٌ تُعبد من دون الله -عز وجل- ولذلك فإنَّ الغُلُوَّ في أيِّ قبرٍ يجعله وثنًا يُعبد من دون الله -عز وجل.
ولذلك فإنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- دعا بهذا الدُّعاء الذي استجابه الله -سبحانه وتعالى- ولذلك حماه الله بأن دُفِنَ في بيته -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما قالت عائشةُ: "ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه". غير أنَّه خشي أن يُتَّخذ مسجدًا، فدفنه في بيته -صلى الله عليه وسلم- له سِرٌّ عظيمٌ، وإجابة الله -عز وجل- هذا الدُّعاء في ذلك.
والمشروع عند زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يكون فيه شَدُّ رحالٍ؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ»، ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومسجد بيت المقدس. فهذه الأماكن الثلاثة التي تُشَدُّ لها الرِّحَالُ، أمَّا غيرها من الأماكن فلا يجوز شَدُّ الرِّحال إليها، فلا يقول إنسانٌ: أنا سأذهب إلى زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم. فيذهب للمسجد النبوي ثم يزور قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ما المشروع له في زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم؟
يُطبِّقها عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنه- فيأتي أمام قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول: السَّلامُ عليك يا رسول الله. ثم يتقدَّم قليلًا ويقول: السَّلامُ عليك يا أبا بكر. ثم يتقدَّم قليلًا ويقول: السَّلام عليك يا أبتي. وينصرف.
هل فيه دعاءٌ هنا؟ لا يوجد دعاءٌ، هذا فعل أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أيضًا لم يكن الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- كلَّما دخلوا المسجدَ يذهبون لزيارة القبر، بل إذا قَدِمُوا من سفرٍ، كما كان يفعل عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنه- إذا قدم من سفرٍ زار قبرَ رسول الله، وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر. ثم انصرف.
هذا دُعاء عبد الله بن عمر وأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونقله عنهم سلفُ الأُمَّة، فلم يكونوا يتردَّدون على القبر بشكلٍ مُتكَرِّرٍ، بل إنَّ الإمامَ مالكًا -رحمه الله- كان يكره أن يقول الإنسانُ: زرتُ قبرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟ هذا هو تعظيم الرسول، هذا هو حُبُّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الإمام مالك يكره أن يقول الإنسانُ: زُرْتُ قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. لأنَّه لم يرد بها دليلٌ.
ولذلك فقد وضع أهلُ الضَّلال عدَّةَ أحاديث في زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن ردَّها أهلُ العلم كابن عبد الهادي -رحمه الله- في كتابه "الصَّارم" فقد ردَّ هذه الأحاديث وبيَّن أنَّها كلها موضوعةٌ، فأحاديث زيارة قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يصِحُّ فيها شيءٌ.
ليس معنى ذلك الجفاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يجب مُتابعته -عليه الصَّلاة والسَّلام- ومُتابعة قوله -عليه الصلاة والسلام- وتقديم قوله على كلِّ قولٍ، وأمره على كلِّ أمرٍ، ومحبَّته -صلى الله عليه وسلم- دينٌ، فهذه من القضايا العظيمة المُهِمَّة التي ينبغي للمسلم أن يلتفت إليها، فيُتابع الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- ويُتابع أصحابَ الرسول -صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ مِنْ بَعْدِي». هذا هو الواجب على المسلم أن يسير على هذا النَّهْج.
فإذا جاء الإنسانُ إلى قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: السَّلامُ عليك يا رسول الله، أشهد أنَّك قد بلَّغتَ الرسالةَ، وأدَّيتَ الأمانةَ، ونصحتَ الأُمَّةَ، وجاهدتَ في الله... فلا شكَّ في ذلك كما قال شيخُنا ابن باز -رحمه الله تعالى- في كتابه "الزِّيارة والإيضاح"، فبيَّن هذا، وأنَّه إذا دعا فلا إشكالَ في ذلك.
أمَّا أن يقف الإنسانُ ويستقبل القِبلةَ هناك ويدعو ويُطِيلُ الدُّعاء، ويبكي ويخشع أمام القبر، فهذا غير صحيحٍ، وقد ألَّف أحدُ علماء الحنفيَّة كتابًا سمَّاه "المشاهد المعصومِيَّة عند قبر خير البَرِيَّة"، أنكر فيه هذه الأفعال كلها، وهو أحد العلماء -رحمه الله تعالى- يُقال له: المَعْصُومِي.
{هل زيارة قبر النبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- داخلةٌ في أعمال الحجِّ؟ لأنَّ هناك مَن يقول: بأنَّ مَن لم يَزُرْ قبرَ النبيِّ فحجُّه ناقصٌ}.
ليس صحيحًا، ليس له علاقةٌ بالحجِّ، وليست مرتبطةً بمسألة الحج، لكن إذا زار مسجدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه يزور قبرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ما البديل؟ البديل سيخبرنا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث القادمة بعد ذلك، قال -صلى الله عليه وسلم: «وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي».
خصَّ اللهُ تعالى نبيَّه بذلك، فصلِّ في أيِّ مكانٍ من الأرض، والذي أخبرنا بهذا أحفادُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنهم علي زين العابدين، فالذي يُخبر عنه آلُ بيته -عليه الصَّلاة والسَّلام- فلم يُخبر أحدٌ غيرهم، بل رواه الصَّحابةُ، فرواه أبو هريرة، وغيره؛ لكن أيضًا رواه آلُ بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». هذا تحذيرٌ بعد تحذيرٍ، وقد سبق مرَّات لعن اليهود والنَّصارى لأنَّهم فعلوا ذلك الفعل، وبيَّن أنَّهم شِرَارُ الخلق، «إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
«اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ». الغضب: صفةٌ من صفات الله، فالغضب والرِّضا من صفات الرب -سبحانه وتعالى- فهي من صفات الله الفعليَّة، فالله -سبحانه وتعالى- يغضب، ويشتد غضبه على هؤلاء الأقوام.
ونثبت صفات الرَّبِّ من غير تكييفٍ ولا تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ، فلا نقول: غضبه مثل غضب الناس. ولذلك فإنَّ هؤلاء الذين نفوا صفة غضب الرب -سبحانه وتعالى- قالوا: الغضب هو ثورانُ الدَّمِ. وهذا عند الإنسان، فكيف تُشَبِّهون اللهَ بخلقه؟ تعالى الله عن ذلك: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91].
قال: (ولابن جريرٍ) ابن جرير -رحمه الله تعالى- صاحب التَّفسير المشهور، روى (بسنده عن سفيان)، وهو سفيان الثَّوري، (عن منصور عن مجاهد) في تفسير هذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19]، ما معنى اللَّات؟ قال: (كان يَلُتُّ لهم السَّوِيقَ، فمات فعكفوا على قبره).
(قال أبو الجَوْزَاءِ عن ابن عبَّاسٍ: كان يَلُتُّ السَّوِيقَ للحَاجِّ). فهو رجلٌ صالِحٌ، وهذا الأثر صحيحٌ، فأثر أبو الجوزاء عن ابن عبَّاسٍ سنده صحيحٌ.
فهذا الرجلُ كان رجلًا صالحًا يَلُتُّ السَّوِيقَ، ولَتُّ السَّوِيق هو: خلطه بالسَّمن، فالبُرُّ له طريقةٌ مُعيَّنةٌ، فيخلطه ويُقدِّمه للحُجَّاج تَقَرُّبًا إلى الله -سبحانه وتعالى- فلمَّا مات حزنوا عليه؛ لأنَّه رجلٌ صالحٌ كان يُقدِّم هذه الأعمال الصَّالحة، فعكفوا على قبره.
ومرَّ معنا أنَّ اللَّات: من الإله، فهو من اللَّات بالتَّشديد، وبعد ذلك قالوا أنَّه من الإله، فهذا الرجل كان رجلًا صالحًا يَلُتُّ السَّوِيقَ، ولذلك لا يجوز العُكُوفُ على قبر رجلٍ صالحٍ أو غير صالحٍ فلا يجوز ذلك.
ويتوقَّف حديثُنا هنا؛ لأنَّ الوقتَ انتهى، فنتوقَّف عند هذا القدر، ونُكمل -إن شاء الله- في الأسبوع القادم، فإلى لقاءٍ مُتجدِّدٍ، نسأل اللهَ تعالى للجميع التَّوفيقَ، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
تعليق