رابط المحاضرة:
http://www.youtube.com/watch?v=FNA0UZRTSWc
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الرُّسل والنَّبيين، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسُولِك محمَّدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أهلًا وسهلًا بكم في لقاءاتنا المُتجدِّدة في مُقرر العقيدة من الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة، فأهلًا وسهلًا بالإخوة والأخوات المُشاهدين والمتابعين لهذا البرنامج، وأهلًا وسهلًا بالحضور معنا، فحيَّاكم الله.
نواصل في درسنا هذا اليوم ما يتعلَّق بأسباب وقوع بني آدمَ في الشِّرك، وقد ذكر المؤلِّفُ -رحمه الله- عدَّة أبوابٍ تُبيِّن هذا الأمرَ العظيمَ، وهذه من القضايا المُهمَّة جدًّا التي ينبغي على المسلم أن يعرفها للحذر منها، فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- حذَّرنا من ذلك غاية التَّحذير، ففي كتاب الله وفي سُنَّة الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- ما يكفي ويشفي.
فحَرِيٌّ بالإنسانِ أن يتعلَّم ذلك ويتدبَّر ما يتعلَّق بهذه القضية، وفعلًا مَن لم يحذر من هذه الأسبابِ وقع في كثيرٍ من أنواع الشِّرك كما مرَّ معنا في الأبواب السَّابقة.
أول هذه الأبواب: باب قول المؤلف -رحمه الله: (باب ما جاء أنَّ سببَ كفر بني آدمَ وتركهم دينَهم هو الغُلُوُّ في الصَّالحين).
فالغُلُوُّ في الصَّالحين أحد الأسباب وأهمها.
(باب ما جاء أنَّ سببَ كُفر بني آدمَ وتركهم دينَهم هو الغُلُوُّ في الصَّالحين:
قال الله -عز وجل: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: 171]، وفي الصَّحيح عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في قول الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولَا تَذَرُنَّ وَدًّا ولَا سُوَاعًا ولَا يَغُوثَ وَيعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]، قال: هذه أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوحٍ، فلمَّا هلكوا أوحى الشَّيطانُ إلى قومِهم أن انْصُبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلمُ عُبِدَتْ.
وقال ابنُ القَيِّم: قال غيرُ واحدٍ من السَّلف: لما ماتوا عَكَفُوا على قُبورهم، ثم صوَّروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأَمَدُ فعبدوهم.
وعن عمرَ أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمِ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»).
وقال: (قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ». ولمسلمٍ عن ابن مسعود أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قالها ثلاثًا).
إذن هذه هي الآيات والأحاديث المُتعلِّقة بهذا البابِ العظيم، وهو ما سبب هلاك الأمم السَّابقة؟ وأيضًا طوائف من هذه الأُمَّة؛ لأنَّ هذه الأُمَّةَ -كما مرَّ معنا في أحاديثَ سابقةٍ- تبقى فيها الطَّائفةُ المنصورةُ على الحقِّ، فلا يخفى الحقُّ في هذه الأُمَّة أبدًا، بل يكون ظاهرًا بيِّنًا -بحمد الله تعالى- كما نراه في هذه الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة -ولله الحمد- فهي تنشر قولَ الله وقولَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وتُعلِّم الناسَ دينَهم كما جاء في كتاب الله وعن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فإنَّ في هذا من الأجر العظيم سواء للقائمين عليها أو المشاركين فيها، فهذا بابٌ من أبواب الخير الذي فتحه اللهُ -عز وجل- لعباده.
(باب ما جاء أنَّ سبب كُفر بني آدم) وأيضًا وسبب (تركهم دينَهم هو الغُلُوُّ في الصَّالحين).
الغُلُوُّ كما عرَّفه أهلُ العلم هو: الزِّيادة عن الحَدِّ، ولذلك جاء في الشَّرع أنَّه: الزِّيادة عن الحدِّ المشروعِ، فهذا يُسمَّى غُلُوًّا، ويُسمَّى طُغيانًا، والزِّيادة في مدح الصَّالحين، أو رفعهم فوق مكانتهم بأن يجعلَ لهم شيئًا من العبادة.
السَّبب هو: ما يُتوصَّل به إلى الشَّيء، أو إلى غيره.
وعُرِّف الصَّالحُ بأنَّه: مَن قام بحقِّ الله وحقِّ العباد، فالذي يقوم بحقِّ الله وحقِّ العِباد يُعَدُّ من الصَّالحين، أمَّا أنَّه لا يقوم بحقِّ العباد، ويُسِيءُ معاملتهم، ويأخذ حقوقَهم؛ فهذا ليس من الصَّالحين، أو لا يقوم بأمر الله -عز وجل- كالذي يدَّعي أنَّه سقطت عنه الواجبات، وأنَّه وصل إلى مرحلةٍ تسقط عنه فيها الواجبات، وغير ذلك؛ فهذا ليس من الصَّالحين، بل هو من المُحاربين لله ورسولِه، ولذلك بيَّنَ اللهُ -عز وجل- أنَّ بعضَ من يتسمَّى بالصَّلاح وغيره يكون من دُعاة الضَّلالة، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ﴾ [التوبة: 34]، الرُّهْبان: مَن يتعبَّدون، والأحبار: مَن يدَّعي العلمَ منهم، وهؤلاء إنَّما يصُدُّون عن سبيل الله.
الدَّليل الأول على قضية الغُلُوِّ قوله -تبارك وتعالى: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ [النساء: 171]، ومنهم محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرُّسُل -عليه الصلاة والسَّلام: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 171].
﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، الغُلُوُّ: هو مُجاوزة الحدِّ -كما مرَّ معنا- وقد غَلَا اليهودُ والنَّصارى وجاوزوا الحدَّ المشروع، فاليهود قالوا في عيسى ابن مريم كلمتَهم الشَّنيعة، واتَّهموه بأنَّه ابن زنا، وهو رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- والنصارى قالت: عيسى ابن مريم إلهٌ، وابن إلهٍ، ولذلك قال: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا﴾، ولذلك قال: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ﴾، كلمته هي قوله -تبارك وتعالى: "كـن فيكون"، ولذلك قال: ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾.
فهؤلاء غلوا وهؤلاء قصَّروا فيه، فأمَّا هذه الأُمَّة فإنَّهم يشهدون كما في كتاب الله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ﴾ فهو عبد الله ورسوله، كما مرَّ أيضًا معنا في أول هذا المُقرَّر أنَّ عيسى ابن مريم عبدُ الله ورسولُه، فلا نرفعه فوق مكانته، ولا نُنزله عن المكانة التي شرعها الله -عز وجل- له وأمر بها، وأخبرنا الله بها، بل هو من أُولي العزم من الرُّسل -عليهم الصلاة والسلام.
فلذلك حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الغُلُوِّ فيه.
وقوله -تبارك وتعالى: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ﴾ بيان أنَّ المطلوبَ منهم أن يتقَيَّدوا بالكتاب المُنزَّل إليهم، وكذلك هذه الأُمَّة، فالخطاب هنا وإن كان مُوَجَّهًا إلى اليهود والنَّصارى، إلا أنَّ هذه الأُمَّةَ مُخاطَبةٌ به أيضًا، فتقيَّدوا بكتابكم ولا تغلوا، كما سيأتي في الأحاديث بعد ذلك تحذير الأُمَّة من الغُلُوِّ في ذلك.
ولذلك فإنَّ الزِّيادة عن المشروع هي الغُلُو، سواء في العبادات أو في مقادِيرها، مثلًا الأذكار التي تُقال بعد الصَّلاة قد وردت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعددٍ مُعيَّنٍ وكيفيَّةٍ مُعيَّنةٍ، فحينما يزيد الإنسانُ في عددها، أو يزيد في الكيفيَّة، أو يُغيِّر الكيفيَّة فيجعلها ذكرًا جماعيًّا، فكلُّ هذا لا يجوز، إنَّما تُقال كما جاءت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وستأتي في الأدلة القادمة في قضية الغُلُوِّ بعضُ الأحاديث الدَّالَّة على هذا مما يزيد الأمرَ وُضُوحًا.
والدَّليل الثاني في هذا الباب: ما جاء في صحيح الإمام البخاريِّ -رحمه الله تعالى- عن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- وهو تُرْجُمان هذه الأُمَّة في تفسير قول الله تعالى في سورة نوح: ﴿وَقَالُوا﴾ أي قوم نوح، قال بعضُهم لبعضٍ: ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولَا تَذَرُنَّ وَدًّا ولَا سُوَاعًا ولَا يَغُوثَ وَيعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]، مَن هؤلاء الأشخاص؟ وَدّ، وسُوَاع، ويَغُوث، ويَعُوق، ونسرًا؟ قال: (هؤلاء رجالٌ صالحون من قوم نوحٍ، فلمَّا هلكوا أوحى الشَّيطانُ إلى قومهم) أي وسوس الشَّيطانُ إليهم وأتاهم بمشورةٍ ظاهرها الصَّلاحُ، ماذا قال؟ أوحى إليهم أن: (انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها) أي ضعوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابًا لهم وأشكالًا لهم، وتماثيلَ لهم، لماذا؟ قال: حتى تُعِينكم على العبادة، ويكون عندكم حماسٌ في العبادة، فإذا رأيتم صورَ هؤلاء الأقوام الذين كانوا يتعبَّدون في هذا المكان وَلَّدَ ذلك عندكم الحماسَةَ والنَّشاطَ في العبادة.
وكما تعلمون فقد جاء أيضًا عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ بين نوح وآدمَ عشرة قرون، كلهم كانوا على التَّوحيد، فأصل البشرية هو التَّوحيد، فآدم -عليه الصلاة والسَّلام- نبيٌّ مُكَلَّمٌ، وهو على التَّوحيد.
وقد بحث الباحثون عن آدم وقالوا: متى جاء؟ وكيف جاء؟ وهم لا يعلمون، والله -عز وجل- علَّمك أيُّها المسلم هذه القضايا بسهولةٍ ويُسرٍ، فقال -سبحانه وتعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وهذا نبيٌّ من أنبياء الله، فأنت تجد بعضَ البحوث التي يبحثونها كثيرًا -سواءً كانت جيولوجية أو غيرها- يضربون فيها ويظنُّون أوهامًا وغير ذلك، بينما أنت أيُّها المسلم علَّمك الله الحقيقةَ في أقصر بيانٍ وأسهل عبارةٍ.
فكانت القرون العشرة على التَّوحيد، وكان فيهم هؤلاء الأقوام الصَّالحون الذين أخبرنا الله بأسمائهم: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولَا تَذَرُنَّ وَدًّا ولَا سُوَاعًا ولَا يَغُوثَ وَيعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]، فلمَّا مات هؤلاء جاء الشَّيطانُ لأتباعهم بهذه النَّصيحة، ماذا تفعلون؟ قالوا: نضع لهم تماثيلَ حتى إذا رأيناهم نجتهد مثلما كانوا يجتهدون، إذن هنا القضية في ظاهرها ماذا؟
{القضية في ظاهرها الصَّلاح}.
ظاهرها الصلاح لكن باطنها فيه الفساد، ولذلك فإنَّ البدعَ لا تجوز، يقول بعضُ الناس: أنَّها جيِّدة وفيها كذا. والله -عز وجل- يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3]، فالدين ليس بحاجةٍ إلى زيادةٍ إطلاقًا، ولذلك فإن ظاهر هذه المشورة الخير، لكن باطنها فيه الشر، وفيه هذه البدعة.
فلمَّا هلك هذا الجيل الذي وضع الأصنامَ والتَّماثيل، جاء بعده جيلٌ آخر، فجاءهم الشيطانُ بنصيحةٍ أخرى وقال: إنَّما وضعوها لأجل أنَّهم يتقرَّبون إليهم، ويستسقون بهم. فجاءت النَّصيحةُ الآن مُتغيِّرة، ولذلك حذَّر اللهُ العبادَ من خطوات الشيطان، ومقالته هنا للجيل الأخير مُخالفة للجيل السَّابق، فأتى بعباراتٍ أخرى.
وقد وقع في هذه الأُمَّة ما أخبر به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- فوُجِدَ أولًا البناء على القبور، ثم بعد ذلك جاءت قضية التَّعظيم والمحبَّة وغير ذلك، حتى وصل الأمرُ إلى عبادتهم وصرف العبادة لهم من دون الله -عز وجل- وإذا نصحهم أهلُ التَّوحيد وقالوا: لا يجوز البناءُ على هذه القبور، وقد نهى نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. قالوا: أنتم لا تُحبُّون الأولياءَ، ولا تُحبُّون الصَّالحين، وتبغضونهم.
فهؤلاء حوَّلوا العبادةَ، فالمحبَّة عبادةٌ، والبُغض ترك عبادتهم! وهذا انتكاسٌ في الفِطْرة، بل نُحبُّهم وندعوا لهم، لكننا لا نعبدهم، فالعبادة لله وحده، وهذا من انتكاس الفِطَر، نعوذ بالله من الخِذْلان.
الأثر الثاني في هذا التَّفسير ما ذكره ابنُ القَيِّم: (قال غيرُ واحدٍ من السَّلف) منهم أبو جعفر الصَّادق -رحمه الله (قال غيرُ واحدٍ من السَّلف: لما ماتوا عكفوا على قُبورهم، ثم صوَّروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأَمَدُ فعبدوهم). أي لم يعبدوهم مباشرةً، وإنَّما عبدوهم بعد مُدَّةٍ طويلةٍ.
وحينما يتأمَّل الإنسانُ البدعَ التي ظهرت في الأُمَّة الإسلاميَّة يجد أنَّها بدأت تدريجيَّة، فمثلًا البناء على القُبور أول مَن بدأه هم أظلم وأشد وأطغى الولاة في بلاد المسلمين، وهم ولاة الدولة العُبَيدِيَّة والدَّولة البُوَيْهِيَّة، فعاثوا في البلاد ظلمًا، ونشروا البدعَ، وأفسدوا في الأرض، وقتلوا عبادَ الله، ومع ذلك فهم أول مَن بنوا على القبور، فهم أول مَن بنى القبرَ المنسوب إلى عليٍّ -رضي الله عنه- ولم يُدفن عليٌّ في النَّجف، بل دُفن في غير ذلك كما هو معروفٌ في السِّير.
فأول مَن بنى على القبور هو آخر وأظلم ملوك الدولة البُوَيهِيَّة، والذي بنى على قبر رأس الحسين المزعوم في القاهرة هو أيضًا أحد ملوك الدولة العُبَيدِيَّة.
فهؤلاء بنوها لمقاصد سيِّئة، ولذلك فإنَّها إنَّما عُبِدَتْ بعدهم بقرونٍ، فهي قضيَّة تدرُّجٍ في ذلك، وليحذر الإنسانُ من هذا الأمر.
إذن الخطوات التي اتَّبعها هؤلاء أنَّهم صوَّروا تماثيلَهم فهذه خُطوة، ثم لما طال عليهم الأمدُ عبدوهم من دون الله -عز وجل- فهذه خطوة أخرى.
ولذلك وُجِدَ في هذه الآيات -آية النساء وآية سورة نوح- تحريم الغُلُوِّ في الصَّالحين، وأنَّ مصير هذا الغُلُوِّ وغاية هذا الغُلُوِّ هو الشِّرك، وهذا ما وقع في بعض طوائف هذه الأُمَّة.
الثانية: أنَّ الغُلُوَّ في الصَّالحين من سُنن الأمم السَّابقة، ولذلك حذَّرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ذلك.
أيضًا نجد التَّحذير من التَّصوير ونشر الصور؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى الشِّرك، والآن وجدنا بعضَ الطُّرق الصُّوفية لا يُصلِّي حتى يضع صورةَ شيخه أمامه، ويقول أنَّه يستمِدُّ منه في الصَّلاة، وهذا غايةٌ في الشِّرك، وبعضهم يضع الصورةَ في محلِّه وغيره، وهذا من وسائل الشِّرك، ولذلك فالتَّصوير ممنوعٌ لعِلَّتين:
العِلَّة الأولى: أنَّه وسيلةٌ إلى الشِّرك.
والثانية: أنَّه مُضاهاة لخلق الله -عز وجل- في ذلك، وفيه تفصيلٌ أكبر في هذا.
أيضًا في هذه الآثار دليلٌ على أنَّ حُسنَ النِّية لا يُسَوِّغ العملَ غيرَ المشروع، فالذي يُريد أن يصوم الدَّهرَ، فهذا العمل غير مشروعٍ، بل العجبُ أن بعضهم في هذه الأزمنة التي ظهرت فيها السُّنة واضحة يزعم أنَّه يصوم الدَّهرَ كلَّه إلا العيدين، وأين أيَّام التَّشريق؟ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ، يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا». وليس صيام الدَّهر في ذلك، وقد جاء النَّهي عنه.
أيضًا هنا فضيلةُ وجود العلماء، فكما جاء في رواية المُؤلِّف هنا: (نُسِيَ العلمُ)، وفي رواية البخاريِّ: (حتى تَنَسَّخ العلمُ)، ولذلك فوجود العلم مهمٌّ.
والآن أكثر الذين يُفتون الناسَ بعبادة القبور هم جُهَّال، لا يعرفون ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلى الإنسان أن يُتابع الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- ولا يُتابع أحدًا من البشر، ودور العلماء أنَّهم يُبيِّنوا للناس كلامَ الله وكلامَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء علماء السُّنة، أمَّا علماءُ البدعة فهم يدعون إلى أنفسهم في ذلك.
وأيضًا هنا في هذه الآيات التَّحذير من كيد الشَّيطان، ومكر الشَّيطان، وأنَّه يتدرَّج بالناس شيئًا فشيئًا.
وأيضًا يحذر الإنسانُ من شياطين الإنس وشياطين الجن، فيوجد شياطين الإنس كما يوجد شياطين الجن.
أيضًا نجد هنا تحريم الغُلُوِّ في قبور الصَّالحين، ولذلك جاء في الإسلام النَّهيُ عن العُكوف على القبور، والبناء عليها، وأيّ مظهرٍ من المظاهر في ذلك، وحذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الصَّلاة عند القبر، والدُّعاء عنده؛ لأنَّ هذا وسيلةٌ، ولذلك قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وُالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ». فحذَّر من الكتابة عليها أنَّ هذا قبر فلان بن فلان، فلا يُكتب اسمُ الميت ولا وفاته، ولا غير ذلك، وهذا قبر العالم، أو غير ذلك؛ لأنَّ هذه كلَّها تُؤدِّي بالناس بعد ذلك إلى الغُلُوِّ في هذه القبور، كما نُشاهد الآن في كثيرٍ من بلاد المسلمين كم يُبنى عليها من القِبَاب! وكم يُنفق عليها من الأموال! وكم يكون فيها! نعوذ بالله من الخِذلان.
ولذلك فالصَّحيح في القبر أنَّه يُدفن بترابه، ويُرفع عن الأرض بقدر شبرٍ من أجل أن يُعرف، ويُوضع عليه نصائب من طرفيه لتحديد القبر فقط، أمَّا الزِّيادة على ذلك والغُلُو فقد جاء النَّهيُ عنها.
أيضًا حديث عمر -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ». صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاريُّ.
انظر: قال: (الغُلُو، والإطراء) وكلها جاء التَّحذيرُ منها بعِدَّة عباراتٍ، ولذلك قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لا تُطْرُونِي». فنهى نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن الإطراء في حقِّه، وهو زيادة المدح، والمُبالغة في ذلك، فجاء التَّحذير الشَّديد من نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فالغُلُو يُؤدِّي إلى الشرك، وهذا ما وقع من بعض الناس، مثل قصيدة البُردة وغيرها، فقد وقع فيها بعضُ الغُلُوِّ، وسنذكر بعض الأبيات الدَّالة على هذا بعد ذلك.
لكن أصحابَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كحسَّان بن ثابت، وغيره من أئمَّة أهل السُّنة مدحوا الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- ولهم قصائد في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذكر صِفاته -عليه الصلاة والسلام- وما لرسول الله من الصِّفات الجميلة الجليلة العظيمة يكفيه عن مدح أهل البدع، فإنَّهم غلو في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخالفوا وصيَّته.
«كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال هنا: «النَّصَارَى» فهل وردت تسميتُهم في كتاب الله النصارى أم المسيحيين؟
{النصارى}.
النصارى، لماذا؟ نسبة إلى بلدة النَّاصِرة، لكنَّهم لا يُنسبون إلى المسيح -عليه الصلاة والسلام- فيُنسب إلى المسيح عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- مَن تابعه، أمَّا هؤلاء فلم يُتابعوه، ولذلك يُنسبون إلى بلدة النَّاصِرة.
فسبب وقوع النَّصارى أنَّهم لم يرضوا بوصف عيسى بأنَّه عبد الله ورسوله، ولذلك غلوا فيه، حتى ادَّعى فيه أقوامٌ أنَّه قُتِلَ وصُلِبَ لأجل خطيئة الناس، وغير ذلك من الدَّعاوى الباطلة التي يُنَزَّه عنها الربُّ -سبحانه وتعالى- ومنها أنَّه قام وصَعِدَ إلى السماء، وغير ذلك، وهو لم يُصلب، ولم يُقتل كما أخبر اللهُ -عز وجل- عنه، ولذلك أخبرنا الله أنَّ عيسى -عليه الصلاة والسلام- قال في سورة مريم: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ [مريم 30، 31]، فهو الذي أخبر عن نفسه أنَّه عبد الله.
ولذلك فإنَّ الله -عز وجل- يقول لعيسى يوم القيامة: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: 116]، فالعبوديَّة حقُّ الله -سبحانه وتعالى- وليست حقَّ أحدٍ حتى يدَّعيها، ولذلك قال: ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: 116]، وقال أيضًا -عليه الصلاة والسلام: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117]، فهذه شهادته عليهم يوم القيامة، فيوم القيامة يشهد عليهم عيسى -عليه الصلاة والسلام- بهذه الشَّهادة العظيمة، وهو كما بيَّن -عليه الصلاة والسلام- في الدُّنيا أنَّه عبدُ الله، فكذلك يوم القيامة يُبيِّن ذلك.
ولذلك قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» لمَن؟ لله، وجاءت بسبيل الحصر «إِنَّمَا»، فهي كلمة حصرٍ، أي شأني ومكانتي أني عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو عبد الله لا يُرفع فوق مكانته، فلا يُدْعَى، ولا تُصرف له العبادة، بل هو مُبلِّغٌ -عليه الصَّلاة والسلام: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»، فهو عبد الله ورسوله.
والغريب أنَّ هؤلاء الذين يدَّعون محبَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويغلون فيه لا يُتابعون سُنَّته، ولا يأخذون بقوله -عليه الصلاة والسلام- فتجد الواحد منهم ظاهره مُخالِفٌ لما كان عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وحتى في علمه لا يحفظ ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأين محبَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم؟ أم أنَّها دعوى فارغة؟ يا سبحان الله.
وبعضهم يُردِّد أحاديثَ مكذوبةً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف يدَّعي المحبَّة ثم يأتي بالموضوعات والمكذوبات ويقول عن رسول الله في ذلك؟! أين هذه المحبَّة؟ هذه محبَّةٌ مزعومةٌ مكذوبة، ودعوى خالية، ولذلك قال: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»، فهو رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وقد مدح الله -عز وجل- عبدَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالعبودِيَّة في أعلى الأماكن وأَجَلِّها، فوصفه بأنَّه أنزل الكتابَ على عبده، ولما أُسري به قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: 1]، فسمَّاه الله -عز وجل- في أجلِّ الأماكن وغيرها.
فـ "عبد الله" ردٌّ على الغُلاة، و"رسوله" ردٌّ على المُكذِّبين، وكلُّ هؤلاء موجودون، فالغُلاة موجودون، والمُكذِّبون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا موجودون الآن في هذه الأزمنة، ولذلك إذا قال المسلمُ: "عبد الله ورسوله" ردَّ على هؤلاء وردَّ على هؤلاء، ردَّ على مَن يغلو في النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرفعه فوق منزلته، كصاحب قصيدة البُرْدَة الذي يقول:
فإنَّ من جُودِك الدُّنيا وضُرَّتَها
يقصد أنَّ من جود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدنيا، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلق الدنيا والآخرة، إذن ما هذا؟ مَن الخالق؟ يا سبحان الله!
ومِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوحِ والقَلَمِ
يقصد أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم اللوحَ ويعلم ما كتبه القلمُ، إذن ماذا بقي بعد ذلك إذا كان هو الخالق وهو المحيط بكلِّ شيءٍ؟ يا سبحان الله تعالى!
فأعوذ بالله من هذا الشرك الأعظم الذي وقعت فيه بعضُ هذه الطَّوائف.
الحديث الآخر في هذا الباب: حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وأخرجه النسائيُّ وابنُ ماجة، قال -صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ». انظر هذا التَّحذير: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ».
متى قال الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- هذا؟ في حجَّة الوداع، فهو كالوصيَّة، انظر ما مرَّ في حياة الرسول، وما في القرآن الكريم، وما في غيره، ثم جاءت هذه في آخر حياة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف في حجَّته من مُزْدَلِفة إلى مِنى لرمي جَمْرة العقبة، فأمر أن يُلتقط له حصًى، فأخذ حصيات صغيرات مثل الخَذَف، أي حصى الخَذَف، فهي صغار أكبر من الحِمَّص بقليلٍ، فأخذها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بيده، وقال: «بِمِثْلِ هَذَا فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ».
وهذا يدلُّ على أنَّ الواجبَ على الإنسانِ أن يتقيَّد بالعبادة، فحتى في قضية رمي الجمار، في الحِجارة التي يرمي بها إياك والغُلُوَّ، فلذلك إيَّاك الغُلُوَّ في دينك كُلِّه.
انظر الآن ماذا حدث ممن لم يسمع لهذه الوصية!
وحجَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أمرٌ عظيمٌ، وفيها قضايا عظيمةٌ جدًّا يجب على الإنسان أن يتأمَّلها، فكثيرٌ من الناس يذهب إلى الحجِّ دون أن يتأمَّل الوصايا الكبرى التي أوصى بها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حجَّته تجد قضية التَّوحيد ظاهرةً في أول الحجِّ وهو التَّحذير من الغُلُوِّ، والانحراف في الدِّين، فجاءت الوصيةُ بهذا، وجاء في مصدر تلقِّي الدين وهو كتاب الله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
فالدَّعوة إلى الوحدة والاجتماع وترك التَّفرق والاختلاف، وتحريم الدِّماء والأموال والأعراض، كلُّ هذه الوصايا أوصى بها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
قال: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ» ما الهدف من الغُلُوِّ عند الطَّوائف التي غلت؟ كالنَّصارى الذين غلوا في عيسى وقالوا عنه أنَّه ابن الله، واليهود الذين غلوا في عُزَير، فقالوا: عُزَير ابن الله. ما هدف الغلو عندهم؟
{هدفهم هو محبتهم}.
النَّجاة، هم يُريدون النَّجاةَ، لكن جاءت بضدِّ ما يُريدون، ما المراد هنا؟ قال: «إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». إذن الغُلُوُّ سبب الهلاك في الدُّنيا والآخرة، فكان في كثيرٍ من الأحوال من أسباب تَسَلُّط الكُفَّار على المسلمين ما قاله كثيرٌ من المشركين من أنَّهم يَلُوذُون بغير الله -سبحانه وتعالى.
ولذلك فالواجب على المسلم أن يبحث عن النَّجاة في مُتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتَّقيُّد بالعبادة كما جاءت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سواءً في الهيئة، أو في الصِّفة، أو في غير ذلك.
ولو تتبَّعنا أحوالَ كثيرٍ من الطَّوائف التي انحرفت في هذه الأُمَّة سنجد أنَّ سببَ انحرافها هو الغُلُوُّ، فالخوارج غلوا في بعض الأمور حتى خرجوا وقتلوا المسلمين وسفكوا دماءَهم، والمُرْجِئة غلوا حتى أباحوا كلَّ شيءٍ، وجعلوا إسلامَ أفسق الناس مثل إسلام خيار الناس، كل هذه الطَّوائف نجد عندها شيئًا من الغُلُوِّ.
الدَّليل الأخيرُ في هذا الباب: حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قالها ثلاثًا. كررها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا.
المُتَنَطِّعُون: جمع مُتَنَطِّع، والتَّنَطُّع: أصله التَّقَعُّر، كالتَّقَعُّر في الكلام، والتَّقَعُّر في الاستدلال، أي المبالغة في العبادة، فكلُّ هذا من التَّنطُّع، ولذلك قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»، فأصل التَّنَطُّع أن يتكلَّم الإنسانُ بكلماتٍ غير مفهومةٍ، والواجب على الإنسان أن يتكلَّم بما هو واضحٌ وبيِّنٌ للناس، ويفهمه الناسُ، فلذلك حذَّر نبينا -صلى الله عليه وسلم- من التَّنطُّع بكلِّ أشكاله وألوانه، كالتَّنطُّع في الكلام، والتَّنطُّع في العبادة، والتَّنطُّع في الاستدلال، والتَّنطُّع في الكتابة، والتَّنطُّع في كلِّ شيءٍ أنت مَنْهِيٌّ عنه.
وبعض الناس يُريد أن يُظهر نفسَه ويُبرزها بخطابٍ وعباراتٍ مُتكَلَّفةٍ وهائلةٍ، لماذا؟ لأجل الناس، وأحيانًا يُريد أن يُظهر نفسَه ببعض المواقف المُتصَلِّبة، أو بعض المواقف المُخالفة في ذلك.
ولذلك فإنَّ التَّنطُّع أن يزيد الإنسانُ في العبادة عن الحدِّ المشروع في ذلك، كالعبادة بالتَّبَتُّل، وعدم الزَّواج، والصَّوم الدَّائم، والصَّلاة كلَّ اللَّيل، فكلُّ هذا مما نُهِيَ عنه.
وأحيانًا يَرِدُ في بعض السِّير بعضُ أخبار العُبَّاد وتُشرح للناس على أساس أنَّها جانبٌ جميلٌ، والصَّواب أنَّ الجانبَ الجميلَ هو مُتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
من الغُلُوِّ ما يكون في هذه الأيام، وهو المولد النَّبوي، فنجد بعضَ طوائف الأُمَّة قد شابهت النَّصارى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ». فنهانا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فوقعت طوائفُ من هذه الأُمَّة في إطراء الرسول، وشابهوا النَّصارى في اتِّخاذ يوم مولد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عيدًا، ويُجعل هذا اليومَ في بعض البلاد إجازةً رسميَّةً، وتُقام فيه الاحتفالات، وقد قال بعضُ مَن حضرها وكتب عنها: هي مفاسد لا موالد. ومن أعظم ما يَرِدُ فيها قولهم: "يا أكرمَ الخلقِ، ما لي مَن ألوذ به"، ويُردِّدون فيها البُرْدَةَ كقول:
فإنَّ من جُودِك الدُّنيا وضَرَّتَها *** ومن عُلُومِك علمَ اللَّوحِ والقَلَمِ
إذن يردِّدون الشِّركَ، يا سبحان الله!! عظيمة هذه القضية، وهذا المولد إنَّما حدث في الأزمنة المُتأخِّرة، وكثيرٌ ممن يحتفل بمولد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هو في الحقيقة لا يُتابع سُنَّةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك.
فمن كمال شفقة نبينا -صلى الله عليه وسلم- على أُمَّته أنَّه حذَّرها من الإطراء في حقِّه، وحذَّرها من الغُلُوِّ، وحذَّرها من التَّنطُّع، فإذن جاءت عندنا ثلاث عبارات: "الإطراء، والغُلُو، والتَّنطُّع"، وكلها معانيها قريبة من بعضها، وتدور على هذه القضية وهي النَّهي عن الغُلُو.
وكل هذه القضايا التي وردت من الغُلُوِّ وغيره هي في حقيقتها بدعٌ لم ترد، مثل بدعة المولد، فلم تُعرف عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، وبدعة البناء على القبور، بل هي مما نهى عنه، وصرف العبادة للقبور، وغيرها، فكلُّ هذه من الشِّركيَّات التي يُسمُّونها بدعًا حقيقيَّةً.
وهناك بدعٌ إضافيَّةٌ: والبدع الإضافيَّة هي أن يكون الشيءُ مشروعًا كعبادةٍ ما، لكن نضع للعبادة وقتًا مُعيَّنًا، كذكر الله سبحانه وقول الإنسان: "سبحان الله". فهذا مشروعٌ، لكنَّك تزيد على غير الهيئة المشروعة التي وردت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأن تقول للناس: سبِّحوا ألفًا، أو كبِّروا ألفًا، أو تكبير جماعي، أو تسبيح جماعي. فكلُّ هذا لم يرد، وهذا يُسمِّيه أهلُ العلم البدع الإضافيَّة، وهو في أصله مشروعٌ لكن أُضيفت إليه بدعٌ.
بهذه العُجالة نكون قد انتهينا من هذا الباب، وننتقل إلى سببٍ آخر من أسباب الشِّرك، ومن أسباب وقوع الشِّرك في هذه الأُمَّة.
{يقول السائلُ: عرفنا حكمَ البناء على القبور، فكيف بغرس شجرةٍ مثلًا على القبر؟ فنرى في بعض البلاد أن الناس يقومون بعد دفن الميت بغرس شجرةٍ صغيرةٍ من ناحية الرأس، وكذلك من ناحية القدم}.
هذا لم يرد عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، وهي من البدع، لكن يجب علينا دائمًا أن نعرف ما البدع التي يجب إنكارها والتشديد فيها، فيجب إنكارُ جميع البدع، لكن هناك بدعٌ شركيَّةٌ، فنجد في بعض المجتمعات الآن بدعًا شركيَّةً، كالكفر بالله -عز وجل- وعبادة القبور من دون الله، ثم نقع في هذه القضايا، أو ندخل مع الناس في إشكالاتٍ كبيرةٍ في هذه القضايا؟! دع الناسَ يقبلون الحقَّ في القضايا الكُبرى، لكن مثل هذا العمل عمومًا لا يجوز، ولا يصحُّ فعلُه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بقبرين وقال: «إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ». ثم أخذ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جريدتين وشَقَّهما ووضعهما على القبرين، وقال: «لَعَلَّهُمَا تُبَرِّدَانِ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».
فهذا خاصٌّ بالرسول -صلى الله عليه وسلم- فمَن الذي أخبرك أنَّ صاحبك يُعذَّب؟ فلو قلنا لإنسانٍ: هل تريد أن يُعَذَّب صاحبُك؟ قال: لا. لكنَّهم هم جعلوها من هذا الباب.
{أحيانًا يضعونها للمعرفة، حتى يُظنُّ أنَّ هذا قبر فلان}.
قضية المعرفة شيءٌ آخر، أن يعرف القبرَ حتى يأتي إليه هذه قضية أخرى، أمَّا مسألة أن يزرع شجرةً أو يضع شجرًا أخضرَ عليه، فكلُّ هذا لم يرد عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- بل إنَّ بعضَهم يأتي إلى القبر ببرسيمٍ معه حتى يضعه على الميت، وهذا من المخالفة لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
نأخذ الباب الثاني الآن: باب ما جاء في السِّحْر.
ما علاقة السِّحْر بباب التَّوحيد؟
السِّحر كما يُعرِّفه بعضُ الفقهاء أو غيرُهم هو عَزَائِم ورُقًى وعُقَد، ما علاقته بالتَّوحيد؟
سنجد من خلال ما كُتب أو من خلال المُتابعة الميدانِيَّة لبعض السَّحرة ومعرفة أخبارهم أنَّه لا بُدَّ فيه من شرطٍ واحدٍ وهو عبادة الشَّيطان –الشِّرك- أن يشرك بالله، فلا بُدَّ فيه من ذلك، فيُهِين المُصحفَ، ولذلك تأمَّل معي حينما يُمسَك ساحرٌ، أو يُقبَض على ساحرٍ، والحمد لله هذه من الخصائص الجميلة في بلاد المملكة العربية السعودية -بحمد الله- أنَّ السَّحرة يُمنعون ويُعاقبون، وقد كان هذا موجودًا في كثيرٍ من البلاد، حتى الغربيين كانوا يُشدِّدون على السَّحرة، لكن مع هذا الانفتاح تركوا هذا الأمرَ كلَّه.
سنجد أنَّ السَّاحِرَ في أيِّ مكانٍ لا بُدَّ أن يستهِين بالمُصحف، طيب ما علاقة المصحف بسحره؟ لماذا يستهين بالمصحف؟ لماذا يضع المصحفَ في قدميه وفي نعليه؟ لماذا يضع المصحفَ في الحمَّام؟ لماذا يكتب الآيات بالنَّجاسة؟ لماذا يأتي في الآية ويُكرِّرها بالتَّحريف؟ فبعض السَّحرة نطق: ﴿كهيعص﴾ فقال: كككككـ، وضع عشرة حروف، فقيل له: لماذا؟ ما تتوقعون الجواب؟
{إرضاءً للشَّيطان}.
إرضاءً للشَّيطان لماذا؟
{كي يُساعده}.
هو يُريد تحريفَ كتاب الله، قال: اليهود كفروا بحرفٍ واحدٍ، فاليهود قيل لهم: "حِطَّة"، فقالوا: "حنطة"، وزادوا حرفًا واحدًا. أمَّا هذا فقد زاد كم حرف؟ يقول: نحن نزيد عشرة حروف.
فلذلك باب ما جاء في السِّحر بابٌ عظيمٌ، ففعلًا الساحِرُ لا يكون ساحرًا حتى يُشرك بالله رب العالمين ويتقرَّب إلى الشَّياطين، وأقرب شيءٍ للشَّيطان كما أخبر الله -عز وجل- في كثيرٍ من مواضع القرآن، كقصَّة الشَّيطان مع أبينا آدمَ، وقد حذَّرنا منه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27]، فحذَّرنا منه غاية التَّحذير، ومع ذلك كثيرٌ من بني آدم يُتابعون الشَّيطان.
(باب ما جاء في السِّحر:
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 102]، وقال تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51]، قال عمرُ: "الجِبْتُ: السحر، والطَّاغوت: الشَّيطان".
وقال جابر: "الطَّواغيت: كُهَّانٌ كان ينزل عليهم الشَّيطانُ في كلِّ حيٍّ واحدٌ".
وعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قالوا: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ».
وعن جُندب مرفوعًا: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ». رواه التِّرمذيُّ وقال: الصَّحيح أنَّه موقوفٌ.
وفي صحيح البخاري عن بَجَالَة بن عَبْدَة، قال: كتب عمرُ بن الخطَّاب أن: اقتلوا كلَّ ساحِرٍ وساحِرةٍ. قال: فقتلنا ثلاثَ سَوَاحِر.
وصحَّ عن حفصةَ -رضي الله عنها- أنَّها أمرت بقتل جاريةٍ لها سحرتها، فقُتِلَت، وكذلك صحَّ عن جُندب. قال أحمدُ: عن ثلاثةٍ من أصحاب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم).
أي صحَّ عن ثلاثةٍ من أصحاب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قتل السَّاحِر.
السِّحر كما يُعرَّف في اللُّغة هو: كلُّ ما خَفِيَ ولَطُفَ سببُه. فإذن السِّحرُ من وسائل الشرك، فلا يكون الساحرُ ساحرًا حتى يقع في عبادة غير الله -سبحانه وتعالى- ولذلك عرَّفوا السِّحرَ بأنَّه: عبارةٌ عن عزائمَ ورُقًى، أي عزائم على الشَّيطان وعُقَد ورُقًى تُؤثِّر في بدن المسحور بالقتل أو المرض أو الإخلال بعقله أو التَّفريق بين الزَّوجين أو غير ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4]، فالسَّاحر يعقد العُقَدَ بالخيط ثم ينفث فيها من ريقه، ويستعين بالشَّيطان، ويُؤثِّر هذا بإذن الله في المسحور إمَّا قتلًا أو مرضًا، بإذن الله الكوني القدري، وإذا لم يُقدِّر اللهُ هذا فإنَّه لا يكون، ولذلك فإنَّ الإنسانَ إذا حافظ على ذكر الله -سبحانه وتعالى- وأذكار الصَّباح والمساء، فإنَّها لا تضُرُّه بإذن الله -عز وجل- كما قال الله: ﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [البقرة: 102]، أي إذن الله القدري الكوني، وهناك الإذن الشَّرعي وهو: شرع الله -سبحانه وتعالى.
فإذن السحر كما قال أهلُ العلم نوعين:
السِّحر الحقيقي وهو: الذي يكون فيه تقرُّبٌ للشيطان، لماذا يُطيع الشَّيطانُ السَّاحِرَ؟
{لأنَّه يُشرك بالله}.
لأنَّه يُشرك، فالشَّيطان له شرطٌ وهو أن يُشرك بالله رب العالمين، هذا شرط الشيطان، فلا يُطيعه حتى يُشرك بالله رب العالمين.
النوع الثاني: سِحْر تَخْيلِي، ليس له حقيقةٌ، فيُخيَّل إلى الناس، كما قال الله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 116]، فسحروا الأعين: فهو قضية تخيل، كأن يأتي واحدٌ ويظهر لك أنَّه يقطع الرأسَ ويرده، ويطعن نفسَه بالسَّيف وغير ذلك من هذه الأمور، فهذا سحرٌ تخيلي، قال تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: 66]، فيحشونها ببعض المواد حتى يُخَيَّل للناس أنَّها تسعى، وهذا غير صحيحٍ.
أمَّا السِّحر الحقيقي فهو: كما قال الله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4] فدلَّ على أنَّه حقيقيٌّ.
تكلم المؤلفُ هنا عن قضيتين؛ عن حكم السِّحر وحكم السَّاحر نفسه.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 102]، اشترى ماذا؟ اشترى السِّحرَ، مَن الذين علموا؟ اليهود؛ لأنَّ سياق الآيات كلها في خبر اليهود، فاليهود إذا جاءهم كتابٌ من الله مُصَدِّقٌ لما معهم، كالقرآن مُبيِّنٌ ومُوضِّحٌ، ومُهَيمِنٌ على هذه الكتب، نبذوه وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ [البقرة: 102]، فالشَّياطين ادَّعت أنَّ سليمانَ كان ساحرًا ووضع كتب السحر، فتبعهم اليهودُ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ يدلُّ على أنَّ السِّحرَ كفرٌ، لكن سليمانَ -عليه الصلاة والسلام- نبيٌّ ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾.
وأيضًا الدليلُ الثاني في آية البقرة: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾، إذن هذا دليلٌ على أنَّ السِّحرَ كفرٌ.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي ما له نصيبٌ في الآخرة، والذي ليس له نصيبٌ في الآخرة يكون كافرًا؛ لأنَّ المؤمنَ المُوحِّدَ وإن كان صاحبَ معصيةٍ فإن مصيرَه إلى الجنَّة، يُعَذَّب بذنوبه ومعصيته، ومصيره إلى رحمة الله -عز وجل- في ذلك.
الدليل الثاني قوله تبارك وتعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51]، قال عمرُ: "الجبت: هو السحر"، وأيضًا الآية عن اليهود، قال: "الجِبْت هو: السحر". فاليهود يؤمنون بالسِّحر كما مرَّ في الآية السَّابقة.
"والطَّاغوت: الشَّيطان". وهذا الحديثُ علَّقه الإمامُ البخاريُّ، وهو حديثٌ حسنٌ.
فالطَّاغوت مُشتقٌّ من الطُّغيان ومُجاوزة الحدِّ، فاليهود يُؤمنون بالجِبْت: وهو السحر والشَّيطان، فهم يُتابعونه، ولذلك فإنَّ السحرَ مُرتبطٌ بالشَّيطان.
وقد كتب بعضُ المؤلِّفين في السحر أنَّه تكون هناك عقودًا بين السَّاحر والشَّيطان، فيتعاقدان على أن يُقدِّم الساحرُ العبادةَ للشَّيطان، ويُفسد، بل إنَّ الشَّياطين أحيانًا تشترط على بعض السَّحرة أنَّه لا بُدَّ أن يُفسد، حتى مع الشرك لا بُدَّ أن يُفسد في الأرض، فإذا لم يُفسد تتخلى عنه الشَّياطينُ وتتركه، حتى إنَّ بعضَهم كان يقوم ببعض الأعمال للإفساد، إمَّا بصرف رجلٍ عن امرأته أو كذا. فقيل له: لماذا مثل هذه الأعمال؟ قال: الشَّياطينُ أخبرتني: إمَّا أن تُفسد أو تتركه وتتخلى عنه، حتى إنَّه يقوم ببعض الأعمال ببخسٍ في ذلك.
(وقال جابرٌ -رضي الله عنه: "الطَّواغيت: كُهَّانٌ كان ينزل عليهم الشَّيطانُ في كلِّ حيٍّ واحدٌ")، كان العرب في الجاهلية تنزل عليهم الشياطينُ لتتلاعبَ بهم، كما مرَّ معنا فيما أخبرت به الشياطينُ في سورة الجنِّ، فكان في كلِّ حيٍّ طاغوتٌ ينزل عليه الشَّيطانُ ويُخبره ببعض المُغَيَّبات.
السَّاحِرُ والكاهن كيف يُخبرون الناسَ بالمُغَيَّبات؟ عن طريق سؤال الجنِّ، فيسأل الجنَّ فيُخبرونه بهذه المُغَيَّبات، وإمَّا أن يُخبروه بشيءٍ مفقودٍ أو بأيِّ شيءٍ إن كان عندهم علمٌ، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يكون لديهم معلوماتٌ في ذلك، وأحيانًا يُجيبون بعباراتٍ مُوهِمَةٍ.
والجِنُّ عندها قدرةٌ على الحركة والبحث، وأحيانًا تجد بعضَ السَّحرة أو غيرَهم يطلب شيئًا من أثر هذا الإنسانِ، فيقول: أعطني ثوبَه، أو غُتْرَتَه، أو طاقِيَّتَه، أو غير ذلك، لماذا؟ لأنَّ الجنَّ لا تتعرَّف على الإنسان إلا عن طريق الرَّائحة، فليس عندهم علمُ غيبٍ ولا غير ذلك، وإنَّما عن طريق الرَّائحة يُفرِّقون بين الناس ويصلون إلى هذا الإنسان، فإذا كانوا يذكرون اللهَ فإنَّ الجنَّ لا تدخل البيتَ، وهو في حفظ الله ورعايته.
ولذلك فإنَّ إخبارَ الكُهَّان ببعض المُغَيَّبات في مقدور الجنِّ، وليست بمعجزاتٍ ولا كرامات، إنَّما هي في مقدور الجنِّ، ففي مقدورهم أنَّهم يتنقَّلون بسرعةٍ من هذا المكان إلى ذلك، وفي مقدورهم أنَّهم يرون في بعض الأشياء.
وكلُّ إنسانٍ له قرينٌ كما أخبرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فإنَّ أفعالَ الجنِّ ليست خارجَ قدرة الجنِّ والإنس، فأفعالهم في مقدور الجنِّ والإنس، فإذا كان هذا الجنيُّ يعملها فهناك جنيٌّ آخر يستطيع أن يفعلها أيضًا.
ولا يُمكن أن تكون مثل أعمال الأنبياء أو كرامات الأولياء التي أخبرنا الله -عز وجل- بها.
ولذلك فإنَّ السَّاحِرَ إذا تقرَّب إلى الجنِّ بالعبادة وصرف العبادةَ لغير الله -سبحانه وتعالى- فإنَّهم يُعطونه بعضَ المعلومات، وأيضًا هم يُؤذُونه ويتسَلَّطُون عليه.
والشَّياطين كما أخبر اللهُ -عز وجل- وكما أقسم الشيطان على نفسه: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82]، فهذا عمل إبليس.
نتوقَّف في نصف هذا الباب؛ لأنَّ الوقتَ لن يُمكننا من الإكمال، لكن -إن شاء الله- نُواصل في اللِّقاء القادم يوم غدٍ -بمشيئة الله.
فنتوقَّف عند هذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وشكر الله لكم متابعتكم وحضوركم، وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله تعالى.
تعليق