رابط المحاضرة:
http://www.youtube.com/watch?v=c4Fra-_mjI4
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الرُّسُل والنَّبيين، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
نُرحِّب بكم في هذا اللِّقاء المُتجَدِّد في مقرر العقيدة واحد في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، فأهلًا وسهلًا بالجميع.
توقَّفنا في اللِّقاء الماضي في باب التَّوكُّل على الله -عز وجل- وذكرنا بعضَ الآيات في هذا الباب، وتكلَّمنا على بعض الآيات، وبقي بعضُ الآيات في هذا الباب نُكملها بمشيئة الله -تبارك وتعالى.
وباب التَّوكُّل بابٌ عظيمٌ، والتَّوكُّل هو نصف الدين كما قال بعضُ أهل العلم، فقد قال الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، فجعل الله -عز وجل- التَّوكُّل شرطًا في الإيمان، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، فهذا حصرٌ، فالتَّوكُّل هنا شرطٌ في الإيمان.
مرَّ معنا بعضُ الآيات، والتَّوكُّل لا يُنافي فعلَ الأسباب، وقد شرحنا هذا كما مرَّ معنا في اللِّقاء الماضي.
فإذن نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو سيد المُتوكِّلين -عليه الصَّلاة والسَّلام- ومع ذلك فعلَ الأسباب، فلَبِسَ الدِّرْعَين في الحرب، وأمر بإطفاء السِّراج، وأمر بنفض الفِراش، وفعل كلَّ هذه الأعمال -عليه الصلاة والسلام.
ومرَّت معنا الآيةُ الأولى، والآيةُ الثانية، وبقيت بقيَّةُ النصوص في الباب.
والكلام في مسألة التَّوكُّل كثيرٌ وعظيمٌ، وقضية التَّوكُّل مرتبطةٌ بقضية التَّوحيد، فنُفات الصِّفات لا يمكن أن يتوكَّلوا على الله -سبحانه وتعالى- فالذي ينفي علمَ الرب، وحكمَته، وقدرَته، وإرادَته؛ لا يمكن أن يتوكَّل على الله، فليس عنده عملٌ أو اعتقادٌ صحيحٌ مُرتبطٌ بقضية التَّوكُّل.
فإذن التَّوكُّل من الأبواب العظيمة في باب التَّوحيد.
نقرأ النصوص التي مرَّ معنا بعضُها في المرة الماضية؛ لترتبط في الذهن بإذن الله تعالى.
(بسم الله والصَّلاة على رسول الله، باب قول الله تعالى: أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]).
جعل المؤلفُ عنوانَ الباب آيةً من كتاب الله، وهذا من تعظيم السَّلف لنصوص الكتاب والسُّنَّة، وأنَّهم يلتزمون بنصوص الكتاب والسُّنَّة كما هي، فجعل المؤلفُ الآيةَ هي عنوان الباب التزامًا منه بنصوص الكتاب والسُّنَّة.
(وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]، وقوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيمُ -عليه الصلاة والسَّلام- حين أُلْقِي في النار، وقالها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]").
إذن هذه هي النُّصوص الواردة في هذا الباب، وتوقَّفنا في اللِّقاء الماضي عند هذه الآية، قول الله -تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2- 4].
فإذن هذه خمس صفاتٍ، وجاءت أداةُ الحصر: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾.
فالصِّفة الأولى: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
والصِّفة الثَّانية: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾.
والصِّفة الثالثة: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، وهذا محلُّ الشَّاهد.
والرَّابعة: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾.
والخامسة: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، فهذا دلَّت عليه الصِّفات العظيمة، وكلُّ صفةٍ تحتاج إلى شرحٍ وكلامٍ عليها، فمَن أراد الاستزادةَ فليرجع إلى كلام الشيخ محمد في شرح هذه الآيات.
الدليل الثاني في هذا الباب -باب التوكل- قول الله -تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُنادَ في القرآن باسمه -عليه الصلاة والسلام- وإنَّما يُنادى بالنبي، والرسول؛ تشريفًا وتكريمًا له -عليه الصلاة والسلام: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، أمَّا عند الخبر فيُذكر باسمه -عليه الصلاة والسلام: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 40]، فإذن عند الخبر يُذكر باسمه -عليه الصلاة والسلام- أمَّا عند النِّداء فتشريفًا وتكريمًا له -عليه الصلاة والسلام- يُنادى بـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ و﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ -صلى الله عليه وسلم.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كرَّمه ربُّه ورفع درجتَه، وبيَّن فضلَه -سبحانه وتعالى- فلا يحتاج الغُلُوَّ فيه، ولذلك فإنَّ مَن غلا في الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن يعلم أنَّ النبي ليس بحاجةٍ إلى غلوهم، بل نهانا عن الغُلُوِّ حيث قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ». فلا يجوز الغُلُوُّ والزِّيادةُ عن المشروع.
ولذلك فإنَّ كلَّ مَن غلا في النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أو الأولياء، أو آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنَّما هم تركوا الثَّابتَ الذي شرعه اللهُ وبيَّنه، وفعلوا غُلُوًّا باطلًا مُحَرَّمًا نهانا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عنه.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ أي كافيك الله -سبحانه وتعالى- والمراد: أنَّ الله يُخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوصف الرِّسالة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ أي الله سيكفيك.
﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الرَّاجح هنا في تفسير هذه الآية أنَّ الله كافيك وكافي مَن اتَّبعك من المؤمنين، وبعضُهم ذهب إلى القول بأنَّ الله كافيك بمَن اتَّبعك من المؤمنين، والرَّاجح منها -كما قلنا- أنَّ الله كافيك وكافي أيضًا مَن اتَّبعك من المؤمنين.
ولذلك فإنَّ الاعتمادَ على الله وحده يكفي، وهذا لا يُنافي فعلَ الأسباب. أُكرِّر: أنَّ هذا لا يُنافي فعلَ الأسباب، لكن الاعتمادَ يكون على الله -سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ أي الله هو كافيك وحافظك وناصرك ومُؤيِّدك.
الدَّليل الرَّابع: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] أي هو كافيه، فمَن توكَّل على الله فالله كافيه، ومَن كفاه الله فهو الرَّابحُ والمُفلحُ، وسيتمُّ أمرُه بإذن الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ فالإنسان يتوكل على الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي كافيه في ذلك.
الحديث الرَّابع أو الحديث الأخير في هذا الباب: عن ابن عباس -رضي الله عنهما أي عن ابن عباس وعن والده العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" أي هذه الكلمة قالها مَن؟ "قالها إبراهيمُ -عليه الصَّلاة والسَّلام"، وإبراهيم نشأ في قومٍ وثنيين يعبدون الكواكب، ويتقرَّبون إليها، ويذبحون إليها، فكسر الأصنامَ التي يعبدونها في القصة التي ذكرها الله -عز وجل- فلمَّا سألوه: مَن فعل هذا؟ قال: فعله كبيرهم لعلهم إليه يرجعون. فرأوا أن ينصروا آلهتهم بوضع نارٍ كبيرةٍ جدًّا ثم يرمون إبراهيمَ -عليه الصلاة والسَّلام- فيها، فقال هذه الكلمة، فكفاه الله، فقال الله للنَّار: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء: 69]، ولو كانت بردًا فقط لقتله البردُ، لكن قال: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، فجعل اللهُ كيدَهم الأقل وأبطل عملهم، وحمى إبراهيمَ خليله -عليه الصلاة والسلام.
قال: "حسبنا الله" أي كافينا الله، "ونِعْم الوكيل" توكَّل على الله -سبحانه وتعالى.
أيضًا قالها نبينا -صلى الله عليه وسلم- بعدما أُصِيبَ مَن أُصِيبَ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أُحُد، حتى إنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يجمع في القبر الواحدِ الاثنين والثلاثة من شدَّة الجِراح التي أصابت المسلمين والأذى الذي حصل للمسلمين بسبب مُخالفتهم لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فكما تعلمون أنَّ الأمر في أُحُدٍ كان للمسلمين في أول المعركة، فلمَّا رأى الرُّماةُ النَّصرَ قد نزل نزلوا ليجمعوا الغنائمَ وتركوا الجبلَ، وخالفوا أمرَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فنزلوا من هذا الجبل، فانظر ماذا حصل! حصلت هذه المعركة، وقُتِلَ مَن قُتِلَ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكرمهم الله بالشَّهادة، وأُصيب الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وأُصِيبَ من أصحابه في ذلك، فكيف بحال كثيرٍ من المسلمين اليوم بمعصيتهم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فليحذر الإنسانُ دائمًا من المعصية.
فجاء الخبرُ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ قريشًا أرادت العودة مرَّةً ثانيةً، قالوا: ما فعلنا شيئًا، مجرد أننا قتلنا بعضَهم، وأُصِيبَ مَن أُصِيبَ من المسلمين، وبقي بقيَّتُهم يعودون كما كانوا، فلنرجع إليهم مرَّةً أخرى. فبلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، أي خافوا منهم، فقال نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه: "حسبنا اللهُ ونِعْم الوكيل"، ثم خرج النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ونادى أن يخرج معه مَن كان قاتل في أُحُدٍ، فخرج إلى حمراء الأسد، وبقي فيها ثلاثًا، وقذف اللهُ الرُّعبَ في قلوب أهل قريشٍ؛ فهربوا إلى مكَّة، فانقلب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ [آل عمران: 172]، أصابهم القرح في أُحُدٍ. ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ [آل عمران: 172- 174]، انقلبوا بنعمةٍ وهي أنَّ الله -عز وجل- كَبَتَ عدوَّهم، سواء مَن كان في المدينة أو مَن كان خارجها، كبتهم الله، وأنزل في قلوبهم الخوفَ والرُّعبَ من المسلمين.
﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ أي لم يُصيبهم شيءٌ في هذه المعركة، في هذه الغزوة، غزوة حمراء الأسد، ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾، كما أخبرنا الله -عز وجل- عن هذه القصة العظيمة في سورة آل عمران.
فهذا من توكُّل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن توكُّل الخليل إبراهيم، فالخليلان محمد وإبراهيم -عليهما الصَّلاة والسَّلام- كلٌّ منهما قال هذه الكلمة.
ولذلك فإنَّ مَن توكَّل على الله كفاه وأيَّده ونصره، فيعتمد الإنسانُ على الله -سبحانه وتعالى- في كلِّ الأحوال، وما يفعل مع الناس إنَّما هو مجرد أسبابٍ، فأفعال الإنسان في اكتساب الرِّزق إنَّما هي أسباب، فإذا فعل الإنسانُ هذه الأسباب فإن الرِّزقَ قد يحصل وقد لا يحصل، لكنَّه يتوكَّل على الله ويربط القلبَ بالله -سبحانه وتعالى- فيحرص الإنسانُ على ذلك غاية الحرص.
الباب الذي معنا بعد هذا الباب هو: (باب من الإيمان الصَّبر على أقدار الله -عز وجل).
وقد مرَّ معنا في كتاب التوحيد أبوابٌ عظيمةٌ، كباب المحبَّة، وهذا من العبادات العظيمة، والخوف والرَّجاء بعده، وأخذنا باب التوكل، والآن باب الصَّبر على أقدار الله -عز وجل- فهي عبادات عظيمةٌ جدًّا، وبعض المسلمين يقع منهم زَلَلٌ في هذه الأبواب العظيمة التي يجب على الإنسانِ معرفتها والحرص عليها.
(باب من الإيمان الصَّبر على أقدار الله -عز وجل).
(بسم الله الرحمن الرحيم، باب من الإيمان بالله الصَّبرُ على أقدار الله، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11]، قال علقمة: "هو الرجل تُصِيبه المصيبةُ فيعلم أنَّها من عند الله، فيرضى ويُسَلِّم"، وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هِمَا بِهِمَا كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ». ولهما عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ». وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَومًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ». حسَّنه التِّرمذيُّ).
إذن نحن أمام باب الصَّبر على أقدار الله -عز وجل- وباب الصبر بابٌ عظيمٌ، كما جاء عن عليٍّ -رضي الله عنه- في البخاريِّ: "الصبر من الدين بمنزلة الرَّأس من الجسدِ، فلا إيمانَ لمَن لا صبرَ له".
وقال الإمامُ أحمد -رحمه الله: "وجدتُ الصَّبرَ في أن الله ذكر الصبر في القرآن في تسعين موضعًا". ذكره الله -عز وجل- في تسعين موضعًا.
وكما جاء عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عمر وغيره أنَّه قال: "وجدنا خيرَ أمورنا في الصَّبر".
فالصبر بابٌ عظيمٌ يحتاجه المسلمُ في كلِّ الأحوال، وكم من المسلمين مَن وقع في أمورٍ كبيرةٍ بسبب عدم صبره، وعدم معرفته لهذا الباب العظيم، فالإنسان عليه بالصبر.
وكما تعلمون فإنَّ الصبر على أقدار الله من مُكَمِّلات الإيمان، والسَّخط على قدر الله من نواقض الإيمان، أو من مُنقصات الإيمان، فالإنسان يحرص على هذا الباب العظيم.
عدم الصبر ينقص التَّوحيدَ، والصبر يُكمل التَّوحيدَ.
والصَّبر كما يُقَسِّمه أهلُ العلم عدَّةَ أقسامٍ، لكن المؤلفَ أراد هنا قسمًا مُحدَّدًا وهو الصَّبر على أقدار الله -سبحانه وتعالى- فيُقسِّم أهلُ العلم الصبرَ على طاعة الله -سبحانه وتعالى- فلا بُدَّ للإنسان أن يقوم بهذا كما قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [القلم: 48]، فالله أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأمر المؤمنين بالصَّبر على طاعة الله، فيصبر الإنسانُ على طاعة ربه -سبحانه وتعالى- ويقوم بأمر الله كما أمر الله -عز وجل- وهذا يحتاج إلى الصَّبر.
وقد تكون سعادةُ الإنسان في حرصه على طاعة الله، لا يحتاج إلى صبرٍ، وإنَّما يصل إلى أن ترغب نفسُه في هذه القضايا لا يشعر هنا أنَّه يصبر، بل يجد أن هذه العبادات من الأمور الأساسية لديه.
فهنا قد لا يكون الصبرُ على طاعة الله عند بعض الناس، لماذا؟ لأنَّ العبادةَ أصبحت عنده من الأشياء ومن القضايا الضَّرورية لنفسه، فلا يستطيع أن يتخلَّى عنها.
النوع الثاني من الصبر: الصبر عن معصية الله: وكم من الناس مَن هم بحاجة إلى هذا النوع من الصبر، كالصَّبر عن المشاهد المُحرَّمة، والصَّبر عن المكاسب المُحرَّمة، والصَّبر عن المجالس الباطلة، والصبر عن هذه الأشياء، فقد فُتِحَ البابُ للناس اليوم فأصبحوا يُشاهدون هذه المشاهد المُحَرَّمة والصور المُحَرَّمة، ويُشاهدون هذه المكاسب المليارية، وكم من الناس لا يستطيع الصبرَ عن هذه القضايا، وهذا أمرٌ خطيرٌ جدًّا.
فالصَّبر عن معصية الله -عز وجل- من أنواع الصبر.
النوع الثالث: الصبر على أقدار الله المُؤلمة، فما قدَّره اللهُ للعبد من رزقٍ، وخيرٍ، وصحةٍ، وعافيةٍ، فهذه تُوافق هوى النَّفس، ولذلك أمر اللهُ -عز وجل- رسولَه بقوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [القلم: 48]، وقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، فأمر الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على أقدار الله -عز وجل- المُؤلمة.
إذن هذه ثلاثة أنواعٍ من الصبر: صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ على أقدار الله -سبحانه وتعالى- وستأتينا فضائل الصبر على أقدار الله -عز وجل- في هذا الباب بمشيئة الله.
والناس لهم مراتب في مسألة الصبر على أقدار الله، فمن الناس مَن يتسَخَّط، فإذا وقع القدرُ تَسَخَّط، إمَّا بشقِّ الجيب، والجَيبُ هو هذا، فيشق جيبَه، ويقطعه، ومنها التَّسَخُّط بلطم الخدود ونفش الشَّعر، وغير ذلك من الأعمال المُحَرَّمة.
أيضًا من الناس مَن يصبر، فإذا وقع المقدورُ صبر واحتسب، وهناك درجة أعلى من ذلك وهي الرضا، فيرضى بقدر الله وقضائه، وهناك درجة أعلى وهي الشكر: فيشكر الله على قضائه وقدره.
إذن الناس مراتب، منهم مَن يتسَخَّط، ومنهم مَن يصبر، ومنهم مَن يرضى، ومنهم ما هو فوق ذلك.
والقدر كما تعلمون أحد أركان الإيمان السِّتة، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». فهو في ذلك.
ذكر المؤلفُ هذه الآية الأولى، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾، يؤمن بماذا؟ كما قال الله تعالى هذه الآية في سورة التغابن: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11]، إذن هذه الآية في الصبر على أقدار الله المؤلمة.
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ﴾ أي جميع المصائب، جميع ما أصابك من مصيبة فهي قدر الله: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ أي بقضائه وتقديره، بإذن الله الكوني القدري، فأذن الله وقدَّر -سبحانه وتعالى- في ذلك.
﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ﴾ أي يُسلِّم ويرضى بالقضاء والقدر، ماذا تكون ثمرته؟
{يهدِ قلبه}.
يهدِ قلبه، مَن يرضى ويُسَلِّم بقضاء الله وقدره، فإن النتيجة والثمرة في هذه الآية: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
فإذن هذه الآية فيها أن المصائب كلَّها بقضاء الله وقدره، وفيها: أنَّ الرضا من خصال الإيمان، وفيها: أن ثمرة الرضا هداية القلب، فثمرة الرضا أن الله -سبحانه وتعالى- يهدِ قلبه.
قال علقمةُ النَّخعيُّ وهو من التابعين من تلاميذ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في هذه الآية: "هو الرجل تُصيبه المصيبةُ فيعلم أنَّها من عند الله فيرضى ويُسلِّم". لله -سبحانه وتعالى- ويرضى بقضاء الله وقدره، ولا يلزم أن يرضى بالمقدور، لكن يرضى بالمُقَدَّر الذي قدَّره اللهُ في ذلك.
أمَّا إذا أصابته مصيبةٌ وبكى، فإنَّ البكاء لا يُنافي الرضا، وعند الناس خلطٌ هنا، فدمع العين والحزن والتَّألم لا يُنافي الرضا بالقضاء والقدر، فيجوز البكاءُ والتَّألمُ لما حصل، لكن هذا لا يُنافي الرضا والتَّسليم لقدر الله -عز وجل- كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثِ صحيح البخاري ومسلم: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ». فإذن بكاء الإنسان لا يُنافي الرِّضا والتَّسليم للقضاء والقدر.
وبعض الناس يُشَنِّع على مَن يبكي، وهذا خطأٌ، فالبكاء ليس له علاقةٌ بالرِّضا، فالرِّضا عملٌ قلبيٌّ، وأحيانًا تدلُّ على عدم الرضا بعضُ الأفعال، كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلمٍ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمَا كُفْرٌ»، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا أنَّ هذه الصِّفات ستكون في الناس حتى ولو كانوا مسلمين، فهي في المسلم وفي الكافر، ولذلك قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمَا كُفْرٌ»، كفر ماذا؟ كفر أصغر أم أكبر؟
{الكفر الأصغر}.
لماذا قلنا الأصغر؟
{لأنَّه يحصل من المسلم أيضًا، ولا يُخرج من المِلَّة}.
لا يُخرج من المِلَّة، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»، فإذا عُرِّف الكُفْرُ فإنَّه يكون الكفر الأكبر، أيضًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ»، فإذا جاء الكفرُ بالألف واللام فالمراد به الكفر الأكبر، أمَّا إذا جاء مُنَكَّرًا هنا فيراد به الأصغر.
«الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ»: إذن الصِّفة الأولى لهم هي الطَّعن في الأنساب، هذه من التي تبقى في المسلين، ولا يلزم من هذه أن تكون صفات كفرٍ، أو أنَّها من خصال الكفر، أي يكفرون، بل هم يظلون على إسلامهم، لكن يقل إسلامُهم، ولا يُخرجهم ذلك من الملة.
إذن العيب الأول أو الصِّفة الأولى هي الطَّعن في الأنساب، والكلام في أنساب الناس وعيبها، وهذا مما حرَّمه الله -عز وجل- على المسلم.
أو الانتفاء من نسبه: فبعض الناس ينتفي من نسبه ويترك نسبَه المعروف إلى نسبٍ آخر، وقد جاء فيه الوعيدُ.
الخصلة الثانية: النِّياحَة على المَيِّت، مثل نوح الحمام، وهو البكاء المُتعدِّي في ذلك، فجاء النَّهي عنها، ويفسرها الحديث الذي بعدهما، وهو حديث ابن مسعود -رضي الله عنه.
هذا الحديث الأول أخرجه مسلم، والحديث الثاني أيضًا في صحيح البخاري ومسلم، حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا، أي مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ودلَّ على هذه الأفعال، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»، إذن هذه ثلاثة أفعال تبرأ منها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهذا يدلُّ على أنَّها من كبائر الذنوب، لماذا؟ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ مِنَّا»، أي براءة النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفعل الدَّال على أنَّ هذه الأفعال من كبائر الذنوب؛ لتبرئ النبي -صلى الله عليه وسلم- منها.
هذه الأفعال الثلاثة يجمعها دائمًا أنَّها تكون عند المصائب.
قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ». أي جزعًا، وهذا مُشاهدٌ عند بعض الناس فيضرب الواحدُ منهم خَدَّيه، ويكثر في النساء أكثر ضرب الخدود، فيضربن خدودهن جزعًا من المصيبة.
«وَشَقَّ الْجُيُوبَ» يشق الثوبَ هكذا حزنًا.
«وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» دعوى الجاهلية أنَّه إذا مات مَيِّتُهم قالوا: وا عضداه. أي أن هذا هو الذي يُعاضِدُني. وا نصيراه، وا كذا...، فهذه من دعوى الجاهلية.
فهذه الأفعال الثلاثة وكلها جزعٌ عند المصائب، كلها من كبائر الذُّنوب، فليحذر الإنسانُ منها، فهذه كلها مُخالفة لقضية مهمة وهي: عدم الصبر، وعدم الصبر مُنافٍ لكمال الإيمان، فينقص الإيمان عند العبد.
الحديث الذي بعده في هذا الباب: حديث أنسٍ -رضي الله عنه- وأخرجه التِّرمذيُّ، وهو حديثٌ صحيحٌ، هو والحديث الذي بعده كلاهما أخرجهما التِّرمذيُّ عن أنسٍ -رضي الله عنه.
فعن أنسٍ أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
«إِذَا أَرَادَ» أي علامة إرادة الله العبد بالخير، إذا أراد له الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدُّنيا، والمسلم الذي يُصاب بمرضٍ أو بعاهةٍ أو يُقعده المرضُ على الفراش في حاجةٍ إلى سماع مثل هذه الأخبار النبويَّة ليطمئن قلبُه، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا»، ولذلك تعجيلها يكون خيرًا له؛ لأنَّ هذا البلاء وهذه العقوبة تزول عنه.
«وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» من أشدِّ العقوبات ما يكون بالدِّين، لأن العقوبات الحِسيَّة ينتبه لها الناسُ، فبعض الناس تجده يُعاقب بالتَّهاون في الواجب، فلا يُحافظ على الصلاة إطلاقًا، أو لا يُحافظ على الصلاة في جماعةٍ، فهذه عقوبة من الله -سبحانه وتعالى.
ومنها: عدم الغيرة على حُرُمات الله: فيرى المُنكرَ ويُشاهد الناسَ تفعله ولا يُغَيِّر شيئًا، ولا يُنكر شيئًا، فهو مُتَبَلِّد الإحساس، ميت الإحساس، فهذا عقوبةٌ من الله -سبحانه وتعالى- وهو عدم القيام بالأمر.
كل هذا من المصائب التي يُعاقب بها الإنسانُ، ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة: 49]، ولذلك فإنَّ أشد المصائب وأشد العقوبات ما يُصاب به قلبُ الإنسانِ، حتى لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، وهذا من الخطورة بمكانٍ.
إذن من العقوبة ما يكون حِسِّيًّا، إمَّا بنقصٍ في المال، أو في الولد، أو في الجسد، أو في غير ذلك، فهنا يشعر بها.
لكن الخطرَ الأكبرَ ألا يشعر الإنسانُ بذلك وتجده أحيانًا يفرح بالمعصية، فيفرح أنَّه لم يُصَلِّ مع المسلمين، ويفرح أنَّه شاهد هذه المناظر المُحَرَّمة، ويُسارع إليها، فهذه من العقوبة التي يُؤخذ بها العبدُ.
فإذن هنا بُشرى من نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن الله إذا أراد بعبدهِ خيرًا عجَّل له العقوبةَ في الدُّنيا، كل ما يُصيبُ المؤمنَ حتى الشَّوكة، فكلُّ أمر المؤمن خير، حتى الشوكة الشيء البسيط إذا أصابتك، فإنَّك تُؤجر عليها يوم القيامة، فإذن أمر المؤمن كله خير في ذلك.
«وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فيُحاسب على هذه الذُّنوب، أمَّا إذا أصابته المصيبةُ فإن الله يُكفِّر عنه من ذنوبه بهذه المصائب، والأحاديث في ذلك كثيرةٌ.
«حَتَّى يُوَافِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يوم القيامة: يوم الحساب، ويوم الجزاء، ويوم النُّشور.
فإذا أصابت الإنسانَ المصائبُ فإنَّها تُعتبر تكفيرًا لسيئاته، وتعجيلًا لعقوبته في الدُّنيا، وذلك خيرٌ له من تأخيرها في الآخرة، فقد تكون المصائبُ أكبرَ من المعائبِ؛ ليصل المرءُ بصبره إلى درجات الصَّابرين، والصبر له هذه المنزلة العالية، فقد يبتلي الله -عز وجل- بعضَ العباد ليرفع درجاتهم ويُعلي منزلتهم في ذلك.
الحديث الثاني عن أنس أيضًا، فكلاهما عن أنسٍ، وكلاهما أخرجهما الترمذيُّ، وكلاهما صحيحٌ، فإذن عن أنس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ» أي أنَّ عظمَ الجزاء عند الله مع عظم الابتلاء والامتحان، «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمُ» فيُبتلى الإنسانُ بقدر إيمانه كما جاء في الحديث، إمَّا بالأمراض، أو فقد الأهل، أو بما يُقدَّر عليهم في ذلك.
«فَمَنْ رَضِيَ» مَن رضي بالقضاء وبقدر الله وقضائه «فَلَهُ الرِّضَا» من الله -سبحانه وتعالى- «وَمَنْ سَخِطَ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ» نعوذ بالله من ذلك.
وفي هذا الحديث إثبات المحبة والسَّخط والرِّضا لله -عز وجل- وأنَّها من الصِّفات الفعليَّة المتعلِّقة بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- فالله يُحبُّ العبدَ عند وجود سبب المحبَّة، ويُبغضه عند وجود سبب البُغْضِ، ولا يُحبُّه ولا يُبغضه في الأزل كما تقول بعضُ الطَّوائف، بل إنَّه -سبحانه وتعالى- يُحبُّه عند وجود سبب المحبة، ويُبغضه عند سبب البُغْض، فهذا من أجر الصَّبر على أقدار الله -عز وجل- المُؤلمة، فيعرف الإنسانُ فضلَ الله وإحسانَه إليه في هذا الباب العظيم، وباب الصَّبر بابٌ عظيمٌ، حَرِيٌّ بالإنسان أن يتعلَّم هذا الباب ويتفَقَّه فيه.
{إذا لم يَبْتَلِ اللهُ العبدَ، هل يجوز الاعتقادُ بأنَّ الله لا يُحبُّه؟}
الإنسان يسأل الله العافية، ولذلك في أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- وأذكار الصباح والمساء أن العبدَ يسأل اللهَ العافيةَ في دينه وفي دنياه وفي آخرته، فيسأل اللهَ العبدُ العافية دائمًا، فإنَّه لا يعلم هل يصبر أم لا يصبر، لكن هناك من الناس من يُصيبهم اللهُ -عز وجل- ويُقدِّر عليهم المصائب، ومنهم مَن يُعافيه ويكون في فضلِ الله وإحسانِه -سبحانه وتعالى- وأمر العبد المؤمن كلُّه خيرٌ، حتى القضايا اليسيرة التي لا يظُنُّ العبدُ أنَّ له فيها أجرًا إذا صبر فله أجرٌ كالشَّوكة، فكم تعرَّض الإنسانُ وهو في طريقه لذلك، فلا بُدَّ أن تُصيبه شَوكةٌ أو حجرٌ أو شيءٌ من ذلك ويكون له فيها أجرٌ، فما بالك بما فوقها، فيسأل الله دائمًا العبدُ العافيةَ.
ننتقل الآن إلى الباب الثالث في هذا الدرس، وهو باب قول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ».
{بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلفُ -رحمه الله تعالى- باب قول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ». في الصَّحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ». ولمسلمٍ: «وَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ»}.
«اللَّهُمَّ» أي يا الله، والمؤلفُ هنا ذكر -كما جاء في الحديث- «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ»، هل هذا للحصر أم للتَّمثيل؟ هل هناك أمثلة أخرى؟
{تعليق المشيئة بالدُّعاء دائمًا}.
مثل؟
{كالدُّعاء بالتَّوفيق، كأن يقول: وفَّقك الله إن شاء الله}.
نعم، هذه أمثلةٌ كثيرةٌ، وليس المرادُ هنا هذا الدعاء فقط، دعاء المغفرة، فذكر المغفرة والرحمة على سبيل التَّمثيل، فمن الناس مَن يأتي في المناسبات مُهَنِّئًا لأخيه فيقول: اللهم بارك للمبروك إن شاء الله.
«لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ» يعزم المسألة، فلماذا يربطها بالمشيئة؟ فليدعُ، فهذا دعاء، فأنت تقول له دعاء، تدعو الله له بالبركة، تدعو له بالمغفرة، تدعو له بالرحمة، يأتي يُعزِّي فيقول: اللهم اغفر له إن شاء الله. فلتعزم المسألة، كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
«اللَّهُمَّ»: أصلها يا الله، أصلها ياء النداء، وحُذفت الياء وعُوِّضَ عنها بالميم؛ ليكون لفظ الجلالة أولًا فقال: اللَّهُمَّ، أي قُدِّم لفظ الجلالة "الله" والميم عُوِّضَت بدل الياء، فأصبحت اللَّهُمَّ اغفر لي. والمغفرة معناها: ستر الذُّنوب والتَّجاوز عنها، فالمِغْفَر هو الذي يستر الرأسَ، وهو يُوضع في الحروب ليستر الرأسَ، ولذلك (اغفر لي) فيها النَّجاة، و(ارحمني) فيها حصول المطلوب، فمطلوب العبد هو رحمة ربه -سبحانه وتعالى- والمغفرة فيها النَّجاة، أي أن يتجاوز الله عن سيئاته وعن ذنوبه وعن معاصيه في ذلك.
ولذلك فهذا الباب العظيم بابٌ يتعلَّق بالتَّوحيد، ويتعلَّق بالربوبية، فإن الله -سبحانه وتعالى- لا مُكْرِهَ له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فحينما يقول العبدُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ» فالله لا مُكْرِهَ له، فلماذا تُعلِّقها بالمشيئة؟!
أيضًا هناك قضيةٌ ثانيةٌ مُتعلِّقةٌ بقضية التَّوحيد، وهي استغناء العبد عن ربه، انظر دِقَّة المؤلف والنُّصوص النَّبويَّة، فالمؤلف هنا -رحمه الله- كان دقيقًا في تأليفه، عظيمًا وجليلاً وبديعًا في هذا التَّأليف، كذلك عظمة النُّصوص، نصوص الكتاب والسُّنة، فإذا تعلَّق بها الإنسانُ عَظُمت مكانتُه، والكتاب إذا ارتبط بها عظمت مكانته، وانظر مكانة كتب التَّفسير في الأُمَّة؛ لأنَّها ارتبطت بتفسير كتاب الله وشروح الأحاديث، فانظر منزلتها، فهذا الكتاب كان عظيمًا وجليلاً ونافعًا بحمد الله -تبارك وتعالى- لما ارتبط بالنُّصوص.
انظر هذا النص، كم يحتاجه الناسُ في ليلهم ونهارهم، ولذلك هذا من آداب الدعاء، ومما يتعلق بمسألة التَّوحيد، كأن العبد مستغنٍ عن ربه، أو كأن الله له مُكره، أو أنَّه يُعطي -سبحانه وتعالى- مُكرهًا في ذلك.
فأيضًا هذا من أدب الدُّعاء، فالله -عز وجل- قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وأيضًا هذا يدخل فيه حسنُ الظَّنِّ بالله -سبحانه وتعالى.
وفي الصَّحيح: أي في صحيح البخاري ومسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ» يدخل فيها أيضًا: (اللَّهُمَّ عَافِني، اللَّهُمَّ ارزُقني) وكل هذه الأدعية، سواء دعاء لك أو لغيرك، فإنَّك تعزم المسألة، «لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ»: فاللام هنا لام الأمر، يأمرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تعزم المسألةَ، أي تكون جادًّا في هذه المسألة، «فَإِنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ» لأنَّ المشيئة هنا كأنَّها تردد.
«الْمَسْأَلَةَ»: أي السؤال والدعاء الذي يدعوه العبد.
(ولمسلم): أي في صحيح مسلم، «وَلْيُعْظِمَ الرَّغْبَةَ»: يُعظِم الرَّغبة إلى الله والحاجة إلى الله سبحانه، يُلِحُّ في الدُّعاء إلى الله، فيُكثر، ويُكرِّر الدُّعاء، ويُقدِّم بين يدي الدُّعاء تعظيم الرب والصلاة على نبينا -صلى الله عليه وسلم.
«فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ يُعْطِيهِ»: الرب -سبحانه وتعالى- كريم، جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: لَوْ أَنَّ الإِنْسَ وَالْجِنَّ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ، فَأَعْطَاهُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَ اللهِ إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْمَاءَ. فلو أخذت إبرةً كبيرةً ثم أدخلتها الماء ثم أخرجتها، ماذا تُخرج معك؟ قطرة.
"لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَ اللهِ" فخزائنه ممتلئة، ونفقته بالليل والنَّهار سبحانه.
«لا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ» يُعطي الدُّنيا ويُعطي الآخرة، فعنده جنَّة عرضها السَّماوات والأرض -سبحانه وتعالى- ولذلك على العبد أن يكون شديدَ الرَّغبة فيما عند الله -سبحانه وتعالى- شديد التَّعلُّق بالله، شديد اللُّجوء إليه، شديد الانكسار بين يدي ربه -سبحانه وتعالى- فالعبادة هي: الذُّل والانكسار.
هناك موانع للدُّعاء ينبغي للإنسان أن يتعلَّمها ويعرفها، مثل: الدُّعاء بإثمٍ، والدُّعاء بقطيعةِ رحمٍ، والدُّعاء بما لا يمكن شرعًا أو قدرًا، والتَّناقض في الدُّعاء.
فيجب على الإنسان أن يعرف موانعَ الدُّعاء وشروطه، والأدعية النَّبوية يحرص الإنسانُ عليها في ذلك؛ ليكون قريبًا من الإجابة، فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- حَيِيٌّ كريمٌ يستحي أن يرد عبدَه إذا رفع إليه يده، فيحرص الإنسانُ على الأدعية النبوية.
عندنا الباب الأخير في هذا وهو (باب مَن سَبَّ الدَّهر فقد آذى الله -سبحانه وتعالى).
وهذا بابٌ عظيمٌ يكثر وجوده الآن، فنجد بعضَ الشُّعراء وبعضَ الناس يقول: أهلكنا الدَّهرُ. وفرَّق بيننا. وهذا عادةً يكون في قصائد الغرام وغيرها مع ما في بعضها من فُحشٍ وفسقٍ، فتجد فيها أذًى لله وسَبًّا للدَّهر وعبارات في ذلك.
قال: (باب مَن سَبَّ الدَّهر فقد آذى الله -سبحانه وتعالى) وجه كونه يتأذى؛ لأنَّ السَّبَّ يكون مُتوجِّهًا إلى الله -سبحانه وتعالى- لأنَّه هو المُتَصَرِّف.
الدَّهر: هو الزَّمان، مثلًا نحن في هذه الساعة في هذا المكان الآن، نُعَلِّم كتابَ الله وسُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنَّما نأخذ هذه الآيات من كتاب الله وسُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهذه نعمةٌ من الله أنعم بها علينا، وفضلٌ تفضَّل الله به علينا، فهذه من المِنَن والنِّعَم أن يُنْعِمَ اللهُ عليك فتُعلِّم إخوانَك المسلمين ما جاء عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو الواجب على كلِّ مسلمٍ، فيجب أن يُبلِّغ عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا يكون داعيةً لأحدٍ من البشر، وإنَّما هو مُبلِّغٌ عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما في كتاب الله، وكما ثبت عن رسوله -صلى الله عليه وسلم.
فنحن الآن في بُرهةٍ من الدَّهر، فليحرص الإنسانُ على هذه النِّعَم، فلماذا تسُبُّ الدَّهرَ؟ وأنت الذي عملت المعصية فيه؟ أنت الذي أضعته، أنت الذي جعلته حسرةً عليك، فالزمن إذا ضيَّعه الإنسانُ يكون حسرةً عليه يوم القيامة.
فإذن سَبُّ الدَّهر ذكر الشيخ محمد بن عثيمين هنا أنَّه ينقسم إلى عدَّة أقسامٍ: فإذا كان المتحدثُ يقصد الخبرَ فيقول: والله هذا اليوم بارد أو هذا اليوم حار. فهذا مجرد خبرٍ لا إشكالَ فيه.
الثاني: أن يسُبَّ الدَّهرَ على أنَّه الفاعلُ، فيعتقد أنَّ الدَّهر هو الذي يصرف الأمورَ كما يقوله الدَّهريَّة، فينسبونها إليه، فهذا يعتقد أن هناك إلهٌ مع الله، فهذا كفرٌ مُخرِجٌ من المِلَّة، أن يعتقد أن هناك مُتَصَرِّفٌ كما يعتقد المشركون، كما سيأتي في الآية الأولى في هذا الباب.
الثالث: أن يسُبَّ الدَّهرَ لا لاعتقاد أنَّه الفاعل، بل يعتقد أنَّ الله هو الفاعلُ لكن يسُبُّه، فهذا هو المُحَرَّم هنا، لا يصل إلى درجة الشِّرك، فالدَّهر بيد الله -عز وجل- يُصرِّفه كيف يشاء، الليل والنَّهار يُصرِّفه الله -سبحانه وتعالى.
الآية الأولى في هذا الباب قوله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]، نسبة الحوادث إلى الدَّهر، ومَن نسبها إلى الدَّهر فسوف يسُبُّه، لذلك هؤلاء المشركون لا يعتقدون بالبعث والنُّشور، والله -عز وجل- بيَّن هذه القضية في كتابه بيانًا كافيًا شافيًا في ذلك، وقال: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: 78]، فحال الإنسان عجيبٌ في هذا، يقول: لا يمكن أن نُبعث. طيب أنت ماذا كنت من قبل؟ لم تكن شيئًا، مجرد نُطْفَة، والإعادة أسهل من البداية، ولذلك فإن البدء أصعب فيها، فأنت خُلقت من لا شيءٍ، فكيف تصعب إعادتك مرَّةً أخرى؟
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 78، 79]، ولولا أن الحياة فيها بعثٌ ونشورٌ لكانت الحياة عبثًا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، تعالى الله عن ذلك.
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ ينكرون الآخرة، ﴿نَمُوتُ وَنحْيَا﴾، هكذا يعيش الإنسان حتى يهرم ويموت وتُصيبه الحوادث فيموت ويهلك وينتهي: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ فسبب الموت طول الحياة أو مصائب الدهر التي تقع وحوادث الدهر، ﴿وَمَا لَهُم بذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ فليس عندهم علمٌ، وليس عندهم دليلٌ، وليس عندهم حُجَّةٌ، ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ فهي مجرد أوهام وخيالات وضعوها في أذهانهم في ذلك، فهنا قالوا: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنحْيَا﴾.
الحديث الأخير في هذا الباب: (قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصَّحيح في البخاري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»، وفي روايةٍ: «لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ».
ذهب بعضُ العلماء -مثل ابن حزم وغيره- إلى أنَّ الدهرَ من أسماء الله، وليس كذلك، فالدهر ليس من أسماء الله -تبارك وتعالى.
«يُؤْذِينِي» فالله يتأذَّى، لكنَّه لا يتضرَّر -سبحانه وتعالى- كما قال الله تعالى ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 176].
وهذا حديثٌ قدسيٌّ، قال الله تعالى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ» فسر هذا الأذى بسَبِّ الدَّهر، قال: «وَأَنَا الدَّهْرُ» أي: مُدَبِّرُه، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، انظروا ما ترون في الكون حولنا، ما حولنا من تداول الأيام، فكانوا ملوكًا، وكانوا أمراءً، وكانوا كذا، ثم تحوَّلت أمورُهم إلى غير ذلك، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾.
«أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» انظروا: الليل يطول فترةً ويقصر فترةً، والنَّهار كذلك، فهذا من أمر الله -سبحانه وتعالى.
ننتهي بذلك من هذا الباب لانتهاء الوقت، وله شرحٌ أكثر من ذلك لعلنا نأتي إليه، وتعودون فيه إلى المرجع الدراسي.
ننتهي إلى هذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وإلى لقاءٍ قادمٍ بإذن الله -تبارك وتعالى- وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
تعليق