رابط المحاضرة:
http://www.youtube.com/watch?v=L3kAFcmcn64
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الرسل والنبيين، اللَّهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
نرحب بكم في هذا اللقاء المُتجدِّد في مقرر العقيدة في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا، فحيى الله الإخوة والأخوات المشاهدين، وحيى الله الإخوة الحضور، فحيَّاكم الله وأهلًا وسهلًا بالجميع.
توقفنا في المحاضرة الماضية عند الكلام عما يتعلق ببعض الأبواب المتعلقة بالشرك الأصغر، فتكلمنا عن: الرُّقى، والتَّمائم، والتِّوَلَة، وحكمها في كتاب الله، وفي سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكأن القارئ الآن أو المستمع لنا أو الدارس معنا سيقول: هناك قضايا أعظم من هذه القضايا أين هي؟ كصرف العبادة للمقبورين، وصرف العبادة لغير الله -عز وجل- أين هي في كتاب الله؟
نبدأ هذا اليوم في هذه القضايا والكلام على هذه المسائل، فسيكون معنا اليوم بإذن الله -عز وجل- الكلام على: التبرك بالأشجار والأحجار وغيرها، والذبح لغير الله -عز وجل- والنذر لغير الله.
معنا هذا اليوم "باب مَن تَبرَّكَ بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما".
{(باب مَن تبرَّك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما، وقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19]، عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حُنين، ونحن حُدَثَاءُ عهدٍ بكفرٍ، وللمشركين سِدْرَةٌ يعكفون عندها ويَنُوطُونَ بها أسلحتهم، يُقال لها ذات أنواطٍ، فمررنا بسِدْرَةٍ، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». رواه الترمذي وصحَّحه)}.
هذا (باب مَن تبرَّك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما) أي أنَّه طلب البركة من هذا الشجر، أو من هذا الحجر، أو من هذا القبر، أو من غيرهما من الأشياء، وهذا كان معروفًا في الجاهلية، ولذلك استدلَّ المؤلفُ -رحمه الله تعالى- بهذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19].
العُزَّى: هي ثلاث ثمراتٍ، كانوا يضعون بناء وبجواره ثلاث شجرات يتبركون بها، فكذلك حكم التبرك بهذه الأشجار والأحجار ونحوهما.
البركة جاءت في كتاب الله -عز وجل- فالله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1] فالقرآن مبارك، كلام الله -سبحانه وتعالى- فما معنى البركة؟
البركة تأتي بمعنى طلب البركة أن يكون بالكثرة والثبوت والاستمرار، ولذلك هذا القرآن ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص: 29]، فكتاب الله تعالى مُباركٌ، هذا القرآن العظيم، عظم خيره، وكثر ودام وثبت.
أخبرنا الرب -سبحانه وتعالى- أنَّه بارك بعضَ الأماكن، مثل: مكة والمدينة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمتُ المَدِينةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وإِنِّي دَعَوتُ فِي صَاعِهَا ومُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ».
أيضًا حول بيت المقدس مبارك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِلشَّامِ» لأيِّ شيءٍ ذلك؟ قال: «إِنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيهِ».
فإذن هناك بعض الأماكن أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى باركها، هل نحن نُبارك من عند أنفسنا أم هذه البركة مُتعدية؟ نأخذ من تراب مكة وتراب المدينة، أم هي بركة لمَن أقام فيها ولازمها؟ لمَن أقام فيها ولازمها، كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليس معنى هذه البركة أننا إذا أتينا إلى تراب المدينة أو مكة نأخذ من ذلك، فهذا غير مشروعٍ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أقاموا في هذه الأماكن المباركة، فأقاموا في مكة، وأقاموا في المدينة، ولم يتبركوا بشجرها ولا بحجرها، ولا بترابها، ولا بغيره.
أيضًا بارك الله -عز وجل- المساجد، والمساجد بيوت الله، والمسجد الحرام له فضيلة في الصلاة فيه، والمسجد النبوي، ومسجد بيت المقدس، كل هذه الأماكن مباركة.
أيضًا من الأوقات التي باركها الله: شهر رمضان، وليلة القدر، وهذه الأوقات التي باركها الله -عز وجل- وبيَّنها في كتابه هي التي نقول إنها مباركة، ولا تتعدى هذه البركة إلى بعض الممارسات الباطلة، مثل: الذين يأخذون الشجرة، ويأكلون التراب، أو غير ذلك. وسنجد أن هناك طوائف كثيرةٌ يتبركون ببعض الأشياء، ويقعون في مثل هذه الأشياء.
أيضًا البركة في وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي شعره، وفي ريقه، وعرقه، كل ذلك خاصٌّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز أن يقول أحدٌ: فلان مبارك. لا يجوز ذلك لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصالحين، لماذا؟ لأن الأصل في العبادات التوقف، أمَّا المعاملات فالأصل فيها الإباحة، ولذلك فأيُّ قول بأن هذا مبارك، أو هذه الشجرة مباركة، ما الدليل على ذلك؟ وكل هذا مما نهى الله -عز وجل- عنه، وهذه سنن الأمم السابقة.
فإذن هناك أشياء ثبتت بركتها، وهذه البركة هي بلزومها والصبر والإقامة فيها، في مكة والمدينة، وفضائلهما.
أيضًا صلاة الجماعة فيها بركة، لماذا؟ لأنها تضاعف بها الحسنات، فصلاة الرجل مع الجماعة تزيد عن صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجةً، فإذن هناك بعض الأعمال التي باركها الله -عز وجل- في ذلك.
بركة المسلم بركة عمله، فبركة العمل أن يعمل الإنسانُ بطاعة الله، ويعمل بما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
إذن هل المؤلف يريد هذا الباب أم يريد بابًا آخر؟ باب التبرك بالأشجار والأحجار التي لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه شيءٌ من هذه القضايا، فأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ساروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وجاهدوا معه ولم يثبت أنَّهم توقفوا في مكانٍ صلى فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالوا مبارك، ولذلك ثبت في الآثار أن الناس كانوا مع عمر بن الخطاب فإذا هم يتسابقون فقال: "ما للناس؟" قالوا: إنهم يصلون في مكانٍ صلى فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم تتبع الآثار". وقال: "مَن أدركته الصلاةُ فليُصَلِّ، وإلا فليَمْضِ".
وجاء أيضًا عن عمر -رضي الله عنه- أن الناس كانوا يأتون إلى الشجرة التي بايع عندها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حُنين يتبركون بها، فأمر بقطعها. وجاء أيضًا عن ابن سيرين وغيره: أنَّها عَمِيت عليهم فلا يدرون أين هذه الشجرة التي بايع تحتها الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فإذن نحن نتكلم عن هذه القضية التي هي التبرك.
قوله -تبارك وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19، 20] هذه ثلاثة أصناف، ثم قال (الآيات) يريد الآيات التي بعدها: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 21، 22].
فيقول الرب -سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم﴾ [الواقعة: 58] هل رأيتم هذه الحقيرة الذليلة التي يعبدونها ﴿اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 20]، اللات هذا رجلٌ كان يَلُتُّ السَّويق للحجاج، أي يُطعم الحجاج.
والسَّويق هو بُرٌّ يُطبخ في حبِّه، ثم بعد ذلك يُطحن، ثم يُوضع عليه الماء، فيكون سريعًا جدًّا للمسافر.
فهذا الرجل كان يَلُتُّ السَّويق، ويضعه بالسَّمن، ويُطعم الحُجَّاج، فهو يقوم بعملٍ صالحٍ، ومع ذلك هل نفعهم ذلك أنَّهم يعبدونه من دون الله؟ لا، ولذلك قال: (اللات رجلٌ كان يلُتُّ السَّويق للحجاج)، أي يُطعم الحجاج، فكان رجلًا صالحًا، ومع ذلك هل أجاز الرب -سبحانه وتعالى- عبادته؟ لا لم يُجز الرب -سبحانه وتعالى- عبادته ولو كان صالحًا، فلا تجوز عبادة لا الصالحين ولا غيرهم، لا نبيَّ ولا مَلَك ولا صالح ولا ولي ولا غيرهم.
كان رجلًا يَلُتُّ السَّويق للحجاج، وهو في الطَّائف، والذي يقرأ تاريخ ابن كثير -رحمه الله تعالى- سيجد أن ابن كثير يذكر الأماكن التي كان يزورها الناس قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى قال: "كان للعرب أماكن يزورونها ويقصدونها، كان عندهم الكعبة، وعندهم الكعبة اليمانية، وعندهم أماكن أخرى يحجون إليها ويذهبون إليها في الجاهلية". الكعبة اليمانية وذو الخُلصَة، وهدمها النبي -صلى الله عليه وسلم.
وحينما يتأمل الإنسانُ اليوم واقعَ العالم الإسلامي -للأسف الشديد- يجد أن هذه الأماكن عندهم نفس القضايا أماكن يحجُّونها من دون الله -عز وجل- ويذهبون إليها.
(العُزَّى) كانت لقريش، وكانت قرب مكة تعبدها قريش ومَن معها، فكان عندهم بناء، وهذا البناء كان مستورًا عليه بستائر، وكان عندها ثلاث ثمرات، والثمر هو نوعٌ من الطَّرح، لكنَّه ليس طويلًا، ولا يكون كبيرًا، فكانوا يتبرَّكون بهذه الثَّمرات الثلاث حولها، فكان عندها بناء.
(مناة الثالثة) هذه بجهة المدينة، كانوا يحرمون للحج من عندها، فهي صنمٌ آخر.
فهذه الأصنام ما بين رجلٍ صالحٍ، أو شجرٍ، أو حجارةٍ، وكلها تُعبد من دون الله -عز وجل.
ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 20] أي الثالثة الحقيرة التي تعبدونها أيُّها المشركون.
﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى﴾ [النجم: 21] لأنَّ المشركين قالوا: الملائكة بنات الله. وهم إذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ حزينًا مُتجَهِّمًا، وقالوا: لنا الذكر.
﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 22] هذه القسمة جائرة في ذلك.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [النجم: 23] أنتم سميتموها آلهةً، وإلا فهي ليست آلهة.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [النجم: 23] فليس عندهم يقين في ذلك. ﴿وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23].
وُجِدَ أيضًا ما يتعلق بالتَّبرك ببعض الأوقات، كالتبرك بالمولد، فيجعلونه في ربيع الأول ويقولون: هذا مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومولد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت فيه تاريخ، وأقرب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحبهم إليه محبةً صادقةً كانوا يقفون أمام رسول الله والرماح في أجسادهم، وحب الصحابة للرسول -صلى الله عليه وسلم- مشهور، ومع ذلك لم يحتفلوا بمولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهذا من التبرك الممنوع، غير المشروع، الذي طرحه مثل هؤلاء الأقوام.
فهذه ثلاثة أصنام أخبرنا الله -عز وجل- بها، وقاسها بما يكون من الأشجار والأحجار وغيرها، فالأشجار والأحجار التي يتعبد بها جهال المسلمين، أو يقع فيها بعضُ جُهَّال المسلمين من ذلك.
فهم يعتقدون أنَّ هذه الأصنام تنفع وتضر، فكذلك هؤلاء الذين يتبرَّكون بالشجر، أو بالحجر يعتقدون أنَّه ينفع من دون -عز وجل.
الحديث الثاني: عن أبي واقدٍ الليثي، وأبو واقد الليثي هذا خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، وحنين هي المعركة المشهورة التي كانت بعد فتح مكة، فحينما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكةَ جمعت بعضُ قبائل العرب للرسول -صلى الله عليه وسلم- جمعًا عظيمًا، فخرج إليهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- باثني عشر ألفًا من المسلمين، منهم عشرة آلاف ممن قدم معه في فتح مكة، وألفان من أهل مكة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وقد أعجبتهم الكثرة، وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلةٍ. وكانت كما أخبر الله -عز وجل- خبرهم في القرآن العظيم.
قال أبو واقدٍ الليثي: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن حُدَثَاءُ عهدٍ) لماذا يقول هذا الكلام (نحن حُدَثَاء عَهدٍ بكُفْرٍ)؟ أي أسلمنا قريبًا، وكأنَّه يعتذر لما قالوا، ولما وقع منهم، وكأن هذا اعتذارٌ. فيريد أن يقول: نحن وقع منا هذا الأمر بسبب أن عهدنا حديثٌ بالكفر. فكانت عندهم بعض مُعتقدات الكفار، ومُعتقدات الكفار أنَّهم يتبرَّكون بالأشجار، ويتبرَّكون بالأحجار، ولذلك مَن وقع فيها من المسلمين فهو مُشابهٌ للكفار، فالأولى بالمسلم أن يقرأ ما كان من أخبار الجاهلية، فإذا قرأت أخبار الجاهلية ثم قارنت بينها وبين ما يقع لبعض المسلمين اليوم ستجد نفس الحكم ونفس القضية.
قال: (وللمشركين سِدْرَةٌ) السِّدْرة هي من شجر الطلح، أو شجر السدر يفرقون بينهم، فهي شجرة كبيرة.
قال: (وللمشركين سدرة يعكفون عندها) العُكُوف هو البقاء المستمر، فهم يبقون عند هذه الشجرة، لماذا؟ لأنَّهم يعتقدون أن هذه الشجرة مباركة، فيجلسون عندها يتبرَّكون بها.
(ويَنُوطُون بها أسلحتهم) ما معنى (يَنُوطُون)؟ يُعلِّقون أسلحتهم فيها، لماذا؟ لأنهم يرجون بركتها، فيقولون: إن البركة تنزل من هذه الشجرة في هذا السلاح.
(يقال لها: ذات أنواطٍ) لأنَّها ذات معاليق يعلقون فيها.
قال: (فمررنا بسدرةٍ) مرَّ هؤلاء الصحابة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسدرةٍ أُخرى قريبة من سدرة هؤلاء، أو شبيهة بها.
(فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ) اجعل لنا شجرةً نتبرَّك بها، ونُعلِّق عليها أسلحتنا حتى تكون فيها بركةٌ كما كانت لهم في ذلك.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ» مُتَعَجِّبًا، ومُستَعْظِمًا قولهم، يقول هذا الأمر الذي طلبتموه عظيم، هذا الأمر الذي تذكرونه عظيم، أي ما ينبغي لكم، ولا يجوز لكم، فالإسلام لا يجوز فيه هذا، ولذلك قال: «اللهُ أَكْبَرُ».
«إِنَّهَا السُّنَنُ» أي هي طرق الأمم السابقة، فهذه هي الطرق التي سلكتها الأمم السابقة، وهي التي ستسلكها هذه الأمة كما مرَّ معنا في خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البُرقاني وغيره أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أنَّ طوائف من هذه الأمة سيُتابعون ما كان من الأمم السابقة.
«لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ستتبعون نفسَ طريقة أولئك الأقوام.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ».
انظر قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أولًا: «اللهُ أَكْبَرُ» تعجُّبٌ واستعظامٌ للأمر، ثم قال: «إِنَّهَا السُّنَنُ» يحذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن هذه الأمة ستكون على سُنن الأمم السَّابقة، فحذر من ذلك.
ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» يُقسم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الذي نفسي بيده حياةً وموتًا وتدبيرًا، وهو خالقي -سبحانه وتعالى- فأقسم بالله الذي نفسه بيده أنهم قالوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى، ماذا قال بنو إسرائيل؟ قالوا: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138]، فبنو إسرائيل لما أنجاهم الله -عز وجل- من البحر، كان الأصل أن يشكروا الله ويخلصوا له العبادة، لكن الذي حدث أنهم قالوا: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾.
فهذه سُنن الأمم السابقة، فالأصل في الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمةٍ أن يُخلص العبادة لله رب العالمين.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». رواه الترمذي وصحَّحه، والحديث صحيحٌ.
فإذن أغلظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهى عن مُشابهة الأمم السَّابقة، وعن مشابهة المشركين في هذا التَّبرُّك بهذه الأشجار أو هذه الأحجار أو غيرها، وهذه من القضايا التي وقعت في هذه الأمة، فقد ذكر ابنُ وضَّاحٍ المالكي -رحمه الله- في كتابه أنَّه وُجِدَ في زمنه أناسٌ يتبرَّكون بعينٍ ما، فقام إليها قبل الفجر ثم دفنها، وأذَّن عليها الفجر وأنهى أمرها.
ويوجد في كثير من بلاد المسلمين -للأسف الشديد- مثل هذه الأمور، فكنا قبل الحلقة يُحدِّثنا أخانا الكريم أنَّ في بلادهم شجرةً يتبرَّكون بها، فهذه بعض الصور الموجودة في عالمنا الإسلامي، ولو دخلنا على بعض المواقف سنجد أنَّ هناك شجرة لآدم، وشجرة فيها دم الولي فلان، وأشياء من العجائب.
فأين المسلمون من كتاب الله؟ ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ أخبرنا يا أخي ما في بلدك؟
{عندنا شجرةٌ كبيرةٌ مُعمِّرةٌ في بلدنا يعكف الناسُ عليها}.
هذه بعض الصور التي وُجدت في بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولذا جاء النهي عن ذلك، ولذلك فحري بالمسلم أن يتتبع حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعرف خطورة هذا الأمر الباطل، وهذا مُنتشر، فبعضهم يقول: تربة الحسين مثلًا مباركة، كم آخذ منها؟ قال: تأخذ منها هذا القدر، فتأكل التراب. كيف هذا وقد أنعم الله عليك: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 70] فكيف يأكل التراب؟ فبعضهم يأكل التراب، وبعضهم يأكل الحصى، وبعضهم يأكل غير ذلك، من أين هذا؟ فهذا شيءٌ لا يثبت.
بينما نجد -للأسف الشديد- أن بعضهم يترك البيت الحرام الكعبة خلفه، وهو آتٍ من بلادٍ بعيدةٍ، ويذهب إلى هذا المكان أو غير ذلك، ويأخذ منه هذا التراب، أو يأخذ منه هذه الأشياء، هذا من الشرك -نعوذ بالله من الخذلان- وفي أعظم البلاد وأفضل البلاد، فيحذر الإنسانُ دائمًا من هذه القضايا.
نأتي إلى الباب الذي بعد هذا الباب وهو: (باب ما جاء في الذبح لغير الله) الذبح -كما تعلمون يا إخواني- عبادة يتقرب بها الإنسانُ إلى ربه -سبحانه وتعالى- كذبح الأضحية، وذبح الهدي، والعقيقة، والذبيحة لإكرام ضيفه، وليطعم أهله، وكل ذلك يذكر الإنسان اسم الله عليه، وهذه الذبيحة يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- فهل يجوز صرف هذه العبادة لغير الله؟ نقرأ النصوص.
{(باب ما جاء في الذبح لغير الله، وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].
وعن طارق بن شهابٍ أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ في ذُبَابٍ، ودَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ في ذُبابٍ». قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مَرَّ رجُلانِ عَلَى قَومٍ لهم صَنَمٌ، لا يَجُوزُه أَحَدٌ حتَّى يُقَرِّبَ له شَيئًا، فقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيسَ عِنْدِي شَيءٌ أُقَرِّبُه. قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابًا. فقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلوا سَبِيلَهُ، فَدَخلَ النَّارَ، وقالُوا للآخَرِ: قَرِّبْ. فقال: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأحدٍ شَيئًا دُونَ الله -عز وجل- فضَرَبُوا عُنُقَه؛ فدَخَلَ الجَنَّةَ». رواه أحمد.
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "حدَّثني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلماتٍ: «لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغَيرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنَ وَالِدَيهِ، لَعَنَ اللهُ مَن آوَى مُحدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ»". رواه مسلم)}.
(باب ما جاء في الذبح لغير الله) الذبح لغير الله -عز وجل- حكمه ماذا؟ الذبح عبادة، فصرف هذه العبادة لغير الله ما يكون حكمه؟
{شرك أكبر}.
إذن لماذا لم يذكره المؤلفُ؟ لماذا لم يقل: بابٌ من الشِّرك الذبح لغير الله؟
{لأنَّه واردٌ، لو استنبطت استنباطًا من الآيات الكريمة، نرى أن المسلم الحقيقي لا يذبح لغير الله تعالى، فالذبح لغير الله يُعتبر شركٌ أكبرُ}.
وكأنَّ المؤلف -رحمه الله- أراد للباحث والطالب الحق أنَّ يجد الحكمَ بنفسه واضحًا في هذه الآيات.
فالذبح لغير الله تقرُّبٌ وعبادةٌ لغير الله -عز وجل- ويكون أيضًا ذبح لغير الله فرحًا وإكرامًا، لكنَّه يكون باسم الله -عز وجل- فلابُدَّ أن يُسمِّي الإنسانُ في ذلك.
وفي الأمور العادية يذبح الإنسان إمَّا ليأكل اللحم، أو لإكرام ضيفه أو غير ذلك، وقد يذكر أهلُ العلم بعضَ الحالات الأخرى وهي: مَن يذبح للسُّلطان، من باب التَّقرُّب والتَّعظيم، فيذبح له عند نزوله ثم يتركه، هذا يدخل أيضًا في هذا الباب؛ لأنَّه من باب التَّعظيم في ذلك.
أمَّا المسألة الكبرى (باب ما جاء في الذبح) هنا الذين يذبحون للأصنام، فيأتون بذبيحةٍ إلى هذا الصنم، ويُنزلونها ويذبحونها عنده، وهذه القضية موجودةٌ في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فبعضهم يُسافر لمدة شهرٍ ومعه بهيمة ليُقرِّبها لغير الله -عز وجل.
وقد ذكر بعضُهم قصَّةً حقيقيةً جميلةً جدًّا قرأتها قديمًا: أنَّ رجلاً كان ممن يعتقد في القبور، ويذهب إليها، ولم يرزقه الله الولدَ، فلمَّا رزقه الله ولدًا نذر أن يذبح عند قبر البدوي ذبيحةً، ثم وهو في طريقه إلى قبر البدوي زار أحدَ أقاربه فنصحه وبيَّن له أنَّ هذا من الشرك، فخرج مُغضبًا من عنده بخروفه وولده، وذهب إلى قبر البدوي، وذبح الخروف، فلمَّا ذبح الخروف أخذ من اللَّحمة ورجع بها إلى بلده، وكانت اللحمة قد دخلها العفنُ، فأطعمها ولده فأُصِيبَ بمرضٍ ثم مات هذا الولد بسبب هذه اللحمة المُحرَّمة، ثم رجع هذا الرجل إلى قريبه يسأله ويقول: أين حقيقة التَّوحيد؟ علمني حقيقة التَّوحيد، فهذه القبور لا تنفع ولا تضر من دون الله. قصة جميلة ومؤثرة نشرت قديمًا، نشرها أحد الإخوة المصريين جزاه الله خيرًا.
فالذبح لغير الله موجودٌ -للأسف الشديد- في بعض بلاد المسلمين، وأحيانًا يكون فيها كثيرٌ من التَّلاعب، فذكروا في بعض زوار القبور أنَّه يأتي عند القبر شخصٌ ويكون عنده خروفٌ واحدٌ، فيأتي شخصٌ ويشتريه لأجل أن يذبحه، ويستلم النقودَ منه، ثم يأت الثاني ويشتريه، ثم يأتي الثالث ويشتريه، ثم يأتي الرابع، فيُباع هذا الخروف إلى خمسة أو ستة أو عشرة أو مئة ويأخذون أموالهم، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ [التوبة: 34].
وقول الله تعالى –وهذا هو الدليل الأول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي﴾ [الأنعام: 162]، الصلاة في اللغة هي الدعاء، وأيضًا هي الصلاة المعروفة، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ النسك: هو الذبح، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ أي كل عباداتي لله رب العالمين ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ صلاتي ونُسكي هذا توحيد ماذا؟
{توحيد الألوهية}.
إذن توحيد الألوهية ﴿صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾، أمَّا ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ فهو توحيد الربوبية، ﴿للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾، فإذن النُّسك عبادةٌ، لا يجوز صرفها لغير الله -سبحانه وتعالى- وهذا وجه الدلالة في الآية، فإذن هي عبادة لله رب العالمين لا يجوز أن نصرفها لغير الله تعالى.
﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾ تأكيد على هذه القضية.
﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي أول المُبادرين من هذه الأمة، أو أول المبادرين لهذا الأمر، القائمين بهذا الأمر، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى أول مَن يُبادر لذلك فيُخلص هذه العبادات لله، وهذا واجبٌ على كلِّ مسلمٍ.
﴿قُلْ﴾ يا محمد، أي إعلان عام، ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وبهذا يجب على كل مسلم ألا يصرف شيئًا من عبادته لغير الله -سبحانه وتعالى- فلا يذبح لغير الله، ولا يتقرَّب لقبرٍ، ولا لصنمٍ، ولا لوليٍّ، ولا لنبيٍّ، ولا لغيره، فلا يذبح لغير الله -سبحانه وتعالى.
وقول الله -تبارك وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] أمرٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]، الكوثر هو نهرٌ عظيمٌ في الجنة أعطاه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فلما كان له هذه المنزلة العظيمة، والمنزلة السامقة العالية، قال الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] أي النحر عبادة، ويتقرَّب بها كما في الآية السابقة ﴿فَصَلِّ﴾ الصلاة المعروفة ﴿وَانْحَرْ﴾ الذبح لله -سبحانه وتعالى- والنحر يكون للإبل، والذبح يكون لغيرها.
هنا يتقرب الإنسان بالنسك، بالأضاحي، والهدي، والهدي يكون للمُتمتع والقَارِن، والمُفرِد أيضًا فهو في حقِّه سُنَّة، وغيرها أيضًا من دم الجُبْرَان، فكل ذلك من الأمور المشروعة للعبد أن يتقرَّب بها لله رب العالمين، وكذلك العقيقة التي تذبح عن المولود يوم سابعه، أو في غيره، فكل هذا من العبادات التي يتقرب بها العبدُ لله رب العالمين.
الآيات السابقة كلها دلَّت على أن الذبح عبادة، فهل يجوز صرف هذه العبادة لغير الله؟ هل يجوز أن نذبح لقبرٍ أو لغيره؟ هذا هو المُحرَّم، وهو من الشرك أن نصرف العبادة لغير الله تعالى.
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "حدَّثني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلماتٍ" أي بأربع جملٍ، «لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ». اللَّعنُ: هو الطَّرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وانظر هنا لما قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23] بدأ بأعظم الحقوق، وهو توحيد الله، وهنا بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعظم الذنوب وهو الذبح لغير الله؛ لأنَّه شركٌ ولعنٌ لمَن ذبح لغير الله تعالى، فهو طردٌ وإبعادٌ من رحمة الله، استحقَّ عليه صاحبه هذا الوعيد الشديد.
مَن ذبح لغير الله سواءً ذبح بعيرًا أو بقرةً أو دجاجةً أو عصفورًا، فعلى المسلم ألا يذبح شيئًا لغير الله، فلا يتقرَّب بأيِّ شيءٍ لغير الله -سبحانه وتعالى.
الثاني في هذا الحديث: قال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيهِ» هل الإنسان يلعن والديه مباشرةً؟
{نعم يا دكتور}.
كيف؟
{مثلًا إذا لعنتَ والدَ أحدٍ فيلعن والديك}.
نعم هذا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ؛ فيَسُبُّ أَبَاهُ وأُمَّهُ» فيكون الإنسانُ سببًا في لعن والديه، فإذن هذا يستحق اللعن، لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فيحذر الإنسانُ من أن يكون سببًا في ذلك لوالديه، وكما أن القريب أشد في البر، فكذلك يكون في الإثم أشد، فحقُّه في البر أعظم، وكذلك حقُّه في التعدي عليه ولعنه يكون أشد وأكثر، وإن كان لا يجوز لعن مسلمٍ أصلًا، فلا يجوز للمسلم أن يلعن إخوانه المسلمين.
«لَعَنَ اللهُ مَن آوَى مُحْدِثًا» آواه أي نصره وساعده، أو أنَّه ضمن له السَّكن أو المكان، والمُحْدِثُ ما هو؟ عندنا أكثر من معنى للمُحْدِث: فهو المُبتدع الذي يدعو إلى بدعةٍ، فلعن الله من آواه، فالذي يأوي هذا ويُناصره ويُساعده ملعونٌ على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشخص يدعو إلى بدعته، أو إلى ضلالته، كمن يدعو إلى القبور، ويدعو إلى الشرك، ويدعو إلى الضلالة، ويدعو إلى أيِّ بدعةٍ كانت، فهذا يكون ملعونًا على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من معاني المحدث: من يُحدث حدثًا، كمن يقوم بسرقةٍ، أو يُفسد في بلدٍ، ويفجر، ويقتل من المسلمين، ويُخلُّ بالأمن، فهذا أيضًا يدخل في ذلك، فلا يؤوى ولا يُنصر بأيِّ حالٍ كان، فإذن يدخل في هذه النوعية، وأشدهما المُحدِث في الدين، المُبتدع في الدين، ولذلك نجد أن أثر الإحداث بالبدع يمتد ويكون له جذورٌ، أو تكون لها امتدادات كثيرةٌ على الأجيال القادمة.
الجملة الرابعة: «لعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأرضِ» ومنار الأرض هو علاماتها، العلامات التي في الأرض، والحدود التي بين هذا وهذا، فهذا ملك فلان وهذا ملك فلان وبينهما طريق، أو حد، أو علامات، مَن غيَّر هذه العلامات فهو ملعونٌ على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا مثل أن آتي إلى هذا الطريق وأمشي مع هذا الطريق فيُقال الرياض هنا على اليمين، فتأتي إليه وتضع السهم بالعكس وتقول: الرياض اتجاه اليسار، يجوز هذا؟ فآتي أنا مسكينٌ لا أعرف الطريق فأذهب يسارًا فماذا يكون؟ فهذا يدخل في تغيير العلامات.
إذن لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأصناف الأربعة: الأول: مَن ذبح لغير الله، وهو أشدهم لأنَّه شركٌ. الثاني: مَن لعن والديه. الثالث: مَن آوى مُحدِثًا، فهو لم يُحدث وإنَّما آواه وناصره. الرابع: مَن غيَّر منار الأرض.
ففي هذا دلالةٌ كافيةٌ على المنع أو تحريم الذبح لغير الله -سبحانه وتعالى.
تأتي هذه القصة العظيمة التي رواها طارق بن شهاب، فحديث علي -رضي الله عنه- رواه الإمام مسلم، فهو في صحيح الإمام مسلم، والحديث الثاني: حديث طارق بن شهاب، هو صحيحٌ موقوفٌ على سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وفي هذه القصة موقف عظيم.
عن طارق بن شهاب قال: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «دَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ فِي ذُبَابَةٍ» أي بسبب ذبابة، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مَرَّ رَجُلانَ علَى قَومٍ لهُم صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ مِن دُونِ الله تعالى، لا يَجُوزُهُ أَحَدٌ» أي لا يتجاوز أحدٌ مكانَ صنمهم حتى يُقرِّب له شيئًا، أي يُقدِّم له شيئًا يتقرَّب به له.
«فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيسَ عِنْدِي شَيءٌ أُقَرِّبُه» ما عندي شيءٌ، «قَالُوا: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابَةً» والمقصود هنا هو الاستجابة، أي قرِّب ولو شيئًا يسيرًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله، فدخل النار، لماذا؟ لأنَّه قرَّب لغير الله -عز وجل- فصرف العبادة لغير الله -سبحانه وتعالى.
«وَقَالُوا للآخر: قَرِّبْ. قَالَ: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ شَيئًا دُونَ اللهِ -عز وجل- فَضَربُوا عُنُقَه فَدَخَلَ الجَنَّةَ». رواه الإمام أحمد، وسنده صحيح إلى سلمان الفارسي.
فإذن هذه القصة العظيمة فيها بيانُ أنَّ من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله الذبح، فلا يجوز أن يصرف لغير الله -عز وجل- وكم من الناس مَن يدفع ماله ليكون هذا المال وبالًا عليه، فإنَّه صرفه لغير الله -سبحانه وتعالى- وذبح وقرَّب لغير الله تعالى.
فلا يجوز للمسلم أن يصرف هذه العبادة سواءً الذبح، أو النذر، أو غيرها من العبادات كلها، لغير الله رب العالمين، فلا يصرف شيئًا من هذه العبادات لغير الله -عز وجل.
نأخذ هذا الباب بعده وهو بابٌ مُتعلِّقٌ بهذا الباب: (باب لا يذبح بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله -عز وجل) وهذا حقيقة من أفضل الترتيب للمؤلف -رحمه الله تعالى- فإنَّه لما ذكر أنَّ الذبح مُحرَّمٌ جاء هنا هذا الباب حتى لا يذبح الإنسانُ في أماكن يُذبح فيها لغير الله -عز وجل.
{(باب لا يُذبح لله بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله، وقول الله تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ [التوبة: 108].
عن ثابت بن الضَّحَّاك -رضي الله عنه- قال: "نذر رجلٌ أن ينحر إبلًا بِبَوَانَة، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قال: لا. قال: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِن أَعْيَادِهِم؟» قالوا: لا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أَوفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ الله، ولا فِيما لا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ». رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما")}.
إذن هذه الآية الأولى (باب لا يُذبح بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله) هذا الذي يذبح الآن يذبح لله، لكنَّه ذبح في مكانٍ يُذبح فيه للأصنام، يُذبح فيه للقبور، فلا يجوز هنا أن يصرف الإنسانُ العبادةَ لغير الله -سبحانه وتعالى- فلا يجوز أيضًا أن يُشارك المشركين في مكانهم، ولا في موقفهم، ولا في عبادتهم، فلا يُشاركهم بأيِّ شيءٍ من هذه الأمور، ولذا جاء هذا الباب في هذا المكان من أحسن التَّرتيب، ومن أبدع الترتيب، ولذلك أُمِرَ المسلمُ ألا يُوافق المشركين بأيِّ حالٍ، فلا يُوافقهم في لباسٍ، ولا يُوافقهم في عيدٍ؛ لأنَّ المُشاركة الظاهرة سيكون لها أثرٌ على الموافقة الباطنة في ذلك.
قوله -تبارك وتعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ [التوبة: 108] هذا يتعلَّق بمسجد الضِّرار، والذي أخبرنا الله -عز وجل- خبره في سورة التوبة: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 107، 108]. فقصة هذا المسجد أنه كان هناك رجلًا يُقال له أبو عامر الراهب، كان يترهب في الجاهلية، أي يُسوِّي نفسه عابدًا، ويلبس الثياب الخشنة، فلما بُعِثَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- شَرِقَ بالإسلام، وحارب الإسلام كل المُحاربة، حتى أنَّه قاتل المسلمين في أُحدٍ، وهو الذي حفر الحُفرَ التي وقع في إحداها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسُمِّي بعد ذلك بأبي عامر الفاسق، فكان يُسمِّي نفسه الراهب، وحينما يئس العربُ من محاربة الإسلام بعد انتصار الإسلام، ذهب أبو عامر هذا إلى قيصر وطلب منه النصرة، ثم مات هناك، وأمر المنافقين في المدينة أن يبنوا مسجدًا بجوار مسجد قباء؛ لأجل أن يجتمعوا فيه، ويأتي رسوله إليهم هناك، ويرصدوا فيه لمحاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ولما بنوا المسجد أرادوا أن يأخذوا الموافقة من رسول الله فقالوا: نريد أن تصلي فيه يا رسول الله قبل أن تسافر. فقال: «أَنَا عَلَى سَفَرٍ». فلمَّا رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصل إلى المدينة نزل عليه الوحي بهذه الآية: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ [التوبة: 108]، فأرسل إليه اثنين من أصحابه، فأحرقوا ذلك المسجد، ولا يزال مزبلةً، ولذلك فكلُّ مسجدٍ بُنِيَ على قبرٍ فإنَّما هو مسجد ضِرارٍ، لا يُقام فيه، وهو ضرار، يضر بالمسلمين، ويفرق المسلمين، وهو دعوة إلى الضلالة.
انظر هنا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- ألا يقم في هذا المسجد أبدًا، لماذا؟ لأنَّه أُسس على هذا الباطل، وأُسس للمنافقين، فكذلك المكان الذي يكون فيه المشركون يذبحون لأصنامهم، ويذبحون لآلهتهم، لا يجوز للمسلمين أن يكونوا في هذا المكان.
إذن لما كان مسجد ضرارٍ اتُّخذ للمعاصي فكان ضرارًا وكفرًا وتفريقًا، فدلَّ على أن كلَّ مكانٍ يُعصى فيه الله -عز وجل- لا يُقام فيه، فهذا مسجد للصلاة، ومع ذلك نهى الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن القيام فيه.
ثابت بن الضحاك يذكر هذه القصة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ رجلًا نذر أن ينحر إبلًا، أي جمالًا ينحرها في مكانٍ يُقال له بوانة، وبوانة هذه في أقرب الأقوال أنَّها قريبة من منطقة ينبع، بين أملج وينبع.
فنذر هذا الرجل أن ينحر إبلًا ببوانة، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- ما سبب تخصيص هذا المكان، فقال: «هَلْ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ؟» وهو ما يُعبد من دون الله، سواءً كان شجرًا أو حجرًا أو قبرًا أو غيره، قالوا: لا يا رسول الله. قال: «هَلْ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الجَاهِلِيَّةِ؟» قالوا: لا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أَوفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّه لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلا فِيمَا لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما، أي شرط الصحيحين، فالحديث صحيح.
إذن أَذِنَ له النبي -صلى الله عليه وسلم- فلو كان فيها وثنٌ هل سيأذن النبي -صلى الله عليه وسلم؟ ولو كان فيها عيدٌ من أعياد المشركين فهل سيأذن؟ ولذلك إذا كان هذا المكان فيه اجتماع المشركين فيذبحون فيه فلا يذبح فيه المسلم، ولو كان ذبح لله -سبحانه وتعالى- فلا تجوز هذه الذَّبيحة في هذا المكان.
أيضًا لو كانت عند قبرٍ، فلا يجوز أن يذبح، ولا يجوز أن يدعو عند هذا القبر، وإنما يكون فيما شرع الله -عز وجل- ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَوفِ بِنَذْرِكَ». ثم قال: «فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ الله» فإذا نذر الإنسانُ نذرَ معصيةٍ فلا يَفِ به، وسيأتي لنا الكلام في الباب القادم -إن شاء الله- عن النذر في ذلك.
لفظ الجاهلية -كما تعلمون- جاء فيه عدة أحاديث لكن لفظ الجاهلية بشكلٍ عامٍّ زال ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالجاهلية بشكل عام انتهت ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيكون معنا -إن شاء الله- في اللقاء القادم الكلام على النذر لغير الله -عز وجل.
الأسئلة:
{هل يجوز الحلف بالمصحف أو بستين حزبًا أو ثلاثين جزءًا؟}
الحالف بالمصحف أراد القرآنَ كلام الله، ولذلك فيجوز الحلف بالقرآن الكريم، فالقرآن كلام الله، ولذلك جاء في الحديث: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ» فيستعيذ الإنسانُ بكلام الله، فالقرآن كلام الله -سبحانه وتعالى.
{هل يجوز القول أن ابن حجر العسقلاني أشعري بسبب أخطائه في باب الأسماء والصفات؟}
هذا سؤالٌ تكرَّر كثيرًا في هذا الباب، ونحن عندما ندرس المذهب الأشعري سنجد أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأشعرية الكُلَّابِيَّة، ونحن نضع الميزان الذي نقيس به هؤلاء وهو كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالأشعرية الكُلَّابِيَّة عندهم تأويل في الصفات الذاتية، في صفات الأبعاد، وبعض الصفات الذاتية على اختلاف بينهم، لكن لا يوجد عندهم نصوص في رد نصوص الكتاب والسنة، وهؤلاء سماهم أهل العلم الأشعرية الكلابية لأنَّهم على منهج ابن كُلَّاب، وهم يردون على الفرق الضَّالة كالمعتزلة، والفلاسفة، ويردون المنطق والفلسفة، فهؤلاء الأشعرية الكلابية.
القسم الثاني: الأشعرية المعتزلة، كالجويني ومَن وافقه، وهؤلاء زادوا على ما مضى من علم الكلام ونفي الصفات الفعلية وغيرها زادوا ردَّ أحاديث الآحاد وتأويل صفة العلو والاستواء بتأويل المعتزلة، وأخذوا بأقوال موافقة للمعتزلة في بعض المواقف، فهؤلاء هم الأشعرية المعتزلة.
الصنف الثالث: الأشعرية المُتفلسِفَة، ومنهم الغزالي والرازي، وهؤلاء هم الذين قالوا أن نصوص الكتاب والسنة لا تُفيد اليقين، بل قال بعضُهم كما في شرح أمِّ البراهين وغيرها: "من أصول الكفر عندنا الأخذ بظاهر نصوص الكتاب والسنة في الأسماء والصِّفات". فهؤلاء أعرضوا إعراضًا تامًّا عن نصوص الكتاب والسنة.
فإذا قلنا أن ابن حجر -رحمه الله- والنووي وغيرهم من الأشاعرة فنقول أنهم تأثروا بالأشعرية الكُلَّابِيَّة الأولى، أمَّا الأشعرية المتأخرة المتفلسفة كالغزالي والرازي والأشعرية الموجودة اليوم، فهؤلاء لم يتأثر بهم ابن حجر، وهو من أبعد الناس عنهم، وهو يرد عليهم في كتابه، وله أقوال في الرد على هؤلاء، فإذن يجب أن نُفرِّق حتى نكون على بيِّنةٍ في ذلك.
{تقول: التبرك بالمساجد مثل السيدة زينب، والسيدة نفيسة}.
كل المساجد التي بنيت على قبور لا يجوز الصلاة فيها، ولا يجوز القيام فيها، والعكوف فيها، فهذه مساجد ضِرار كما مرَّ معنا، وهذه المساجد إنَّما بناها العُبيديين الرافضة الباطنية، الذين كفَّرهم علماءُ المسلمين، فلا يجوز القيام فيها.
{تقول: بعض الأفعال والأقوال التي هي من الشرك كالحلف بفلانٍ، أو ببعض الأولياء، يفعله البعض ليس بقصد الشرك، لكن أصبح ذلك عندهم من العادة التي جرت على ألسنتهم وتعودوا عليها}.
لا يكون من الشرك، لكنَّه يكون من شرك الألفاظ، والشرك الأصغر، وتكلمنا عليه فيما مضى، أمَّا إذا كان مقصودهم الحلف بفلان وغيره، فهذا يكون من الشرك الأكبر.
{يقول: ما حكم مَن ذبح لغير الله مُكرهًا؟ ما الفرق بينه وبين ما جاء في الحديث المذكور الذي ذبح ذبابًا؟}
الذي ذبح الذباب كما جاء في هذا الحديث فعل ذلك من باب التخلص منهم، لكن يظهر أنه لم يرد التخلص، أما إذا كان مُكرهًا فإنه يدخل في قول الله -عز وجل: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، فالمكره لا يُؤاخذ في هذا، وقد قال بعضُ الصحابة ما هو أشد من ذلك، فالمقصود أنَّه إذا كان مُكرهًا لا يدخل في هذا الباب، لكن في الحديث الذي مر أراد من باب التَّخلُّص، فإمَّا أن يكون التخلص غير مقبول في شرعهم، أو أنَّه فعل ذلك مُوافقًا لهم من باب أنَّهم لما ألزموه بذلك التزم به.
أمَّا مَن ذبح لغير الله وفعل فعلًا شركيًّا مُكرهًا على ذلك، فإنَّه لا يقع في هذا الأمر، ولا يدخل في هذا الباب.
{يقول: نحن قلنا أن الحلف بغير الله شركٌ أصغر لما فيه من التعظيم للمخلوق، فإذا قال الحالف أنَّه لا يقصد التعظيم، وأنَّه من باب التَّعوُّد، فهل يكون ذلك من الشرك؟}
لا، هو شركٌ أصغر؛ لأنَّه شرك ألفاظٍ، وقد مرَّ معنا، وكما قلنا أنَّ الشرك أمره خطيرٌ، فإن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، ولذلك اختلف أهلُ العلم في الشرك الأصغر، والراجح من الأقوال: أنَّه لا يُغفر، ويُحاسب عليه العبدُ يوم القيامة، فيحذر الإنسان من الشرك قليله وكثيره في ذلك، ويحذر غاية الحذر، ويتجنب ذلك.
يكون معنا -إن شاء الله- في اللقاء القادم باب النذر لغير الله -عز وجل- وهو مما مر معنا في هذا اليوم.
{يقول: ما الفرق بين الإيواء والإيجار؟ كأن استجار كافر مثلًا بمسلمٍ}.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6]، فالإجارة أو العهد الذي يعطيه المسلمون للكافر في أن يدخل البلد، فهذا يُسمَّى المُستَأْمَن، فهذا المُسْتَأْمَنُ له حكمه في الشرع الإسلامي، ويُعطى الأمان الذي أذن فيه، أمَّا المُحدِثُ فهو الذي ابتدع في هذا الدين، أو أنَّه أفسد في بلاد المسلمين، أو فعل شيئًا من هذه الأفعال، فهذا له حكمه، أمَّا هذا الكافر الذي التزم بأحكام المسلمين، والتزم بما تعاهد مع المسلمين عليه، فإنَّه يكون في أمانٍ، وقد حذَّرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- من التَّعرُّض له بأيِّ شيءٍ، فلا يُتعرَّض له، ويُحفظ له ماله وعرضه، ويتعبد بدينه لكنَّه لا يُظهر هذا الدين بين المسلمين، ولا يتعرَّض أيضًا لدين المسلمين بسَبٍّ أو بغير ذلك، فهناك فرقٌ بينهما.
لعلنا نتوقف عند هذا القدر، ونسأل الله تعالى أن يُوفِّقنا وإيَّاكم جميعًا للعلم النافع والعمل الصالح، ويُوفِّقنا لما يُحبُّ ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
http://www.youtube.com/watch?v=L3kAFcmcn64
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الرسل والنبيين، اللَّهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
نرحب بكم في هذا اللقاء المُتجدِّد في مقرر العقيدة في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا، فحيى الله الإخوة والأخوات المشاهدين، وحيى الله الإخوة الحضور، فحيَّاكم الله وأهلًا وسهلًا بالجميع.
توقفنا في المحاضرة الماضية عند الكلام عما يتعلق ببعض الأبواب المتعلقة بالشرك الأصغر، فتكلمنا عن: الرُّقى، والتَّمائم، والتِّوَلَة، وحكمها في كتاب الله، وفي سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكأن القارئ الآن أو المستمع لنا أو الدارس معنا سيقول: هناك قضايا أعظم من هذه القضايا أين هي؟ كصرف العبادة للمقبورين، وصرف العبادة لغير الله -عز وجل- أين هي في كتاب الله؟
نبدأ هذا اليوم في هذه القضايا والكلام على هذه المسائل، فسيكون معنا اليوم بإذن الله -عز وجل- الكلام على: التبرك بالأشجار والأحجار وغيرها، والذبح لغير الله -عز وجل- والنذر لغير الله.
معنا هذا اليوم "باب مَن تَبرَّكَ بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما".
{(باب مَن تبرَّك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما، وقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19]، عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حُنين، ونحن حُدَثَاءُ عهدٍ بكفرٍ، وللمشركين سِدْرَةٌ يعكفون عندها ويَنُوطُونَ بها أسلحتهم، يُقال لها ذات أنواطٍ، فمررنا بسِدْرَةٍ، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». رواه الترمذي وصحَّحه)}.
هذا (باب مَن تبرَّك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما) أي أنَّه طلب البركة من هذا الشجر، أو من هذا الحجر، أو من هذا القبر، أو من غيرهما من الأشياء، وهذا كان معروفًا في الجاهلية، ولذلك استدلَّ المؤلفُ -رحمه الله تعالى- بهذه الآية: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19].
العُزَّى: هي ثلاث ثمراتٍ، كانوا يضعون بناء وبجواره ثلاث شجرات يتبركون بها، فكذلك حكم التبرك بهذه الأشجار والأحجار ونحوهما.
البركة جاءت في كتاب الله -عز وجل- فالله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1] فالقرآن مبارك، كلام الله -سبحانه وتعالى- فما معنى البركة؟
البركة تأتي بمعنى طلب البركة أن يكون بالكثرة والثبوت والاستمرار، ولذلك هذا القرآن ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص: 29]، فكتاب الله تعالى مُباركٌ، هذا القرآن العظيم، عظم خيره، وكثر ودام وثبت.
أخبرنا الرب -سبحانه وتعالى- أنَّه بارك بعضَ الأماكن، مثل: مكة والمدينة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمتُ المَدِينةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وإِنِّي دَعَوتُ فِي صَاعِهَا ومُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ».
أيضًا حول بيت المقدس مبارك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِلشَّامِ» لأيِّ شيءٍ ذلك؟ قال: «إِنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيهِ».
فإذن هناك بعض الأماكن أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى باركها، هل نحن نُبارك من عند أنفسنا أم هذه البركة مُتعدية؟ نأخذ من تراب مكة وتراب المدينة، أم هي بركة لمَن أقام فيها ولازمها؟ لمَن أقام فيها ولازمها، كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليس معنى هذه البركة أننا إذا أتينا إلى تراب المدينة أو مكة نأخذ من ذلك، فهذا غير مشروعٍ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أقاموا في هذه الأماكن المباركة، فأقاموا في مكة، وأقاموا في المدينة، ولم يتبركوا بشجرها ولا بحجرها، ولا بترابها، ولا بغيره.
أيضًا بارك الله -عز وجل- المساجد، والمساجد بيوت الله، والمسجد الحرام له فضيلة في الصلاة فيه، والمسجد النبوي، ومسجد بيت المقدس، كل هذه الأماكن مباركة.
أيضًا من الأوقات التي باركها الله: شهر رمضان، وليلة القدر، وهذه الأوقات التي باركها الله -عز وجل- وبيَّنها في كتابه هي التي نقول إنها مباركة، ولا تتعدى هذه البركة إلى بعض الممارسات الباطلة، مثل: الذين يأخذون الشجرة، ويأكلون التراب، أو غير ذلك. وسنجد أن هناك طوائف كثيرةٌ يتبركون ببعض الأشياء، ويقعون في مثل هذه الأشياء.
أيضًا البركة في وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي شعره، وفي ريقه، وعرقه، كل ذلك خاصٌّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز أن يقول أحدٌ: فلان مبارك. لا يجوز ذلك لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصالحين، لماذا؟ لأن الأصل في العبادات التوقف، أمَّا المعاملات فالأصل فيها الإباحة، ولذلك فأيُّ قول بأن هذا مبارك، أو هذه الشجرة مباركة، ما الدليل على ذلك؟ وكل هذا مما نهى الله -عز وجل- عنه، وهذه سنن الأمم السابقة.
فإذن هناك أشياء ثبتت بركتها، وهذه البركة هي بلزومها والصبر والإقامة فيها، في مكة والمدينة، وفضائلهما.
أيضًا صلاة الجماعة فيها بركة، لماذا؟ لأنها تضاعف بها الحسنات، فصلاة الرجل مع الجماعة تزيد عن صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجةً، فإذن هناك بعض الأعمال التي باركها الله -عز وجل- في ذلك.
بركة المسلم بركة عمله، فبركة العمل أن يعمل الإنسانُ بطاعة الله، ويعمل بما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم.
إذن هل المؤلف يريد هذا الباب أم يريد بابًا آخر؟ باب التبرك بالأشجار والأحجار التي لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه شيءٌ من هذه القضايا، فأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ساروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وجاهدوا معه ولم يثبت أنَّهم توقفوا في مكانٍ صلى فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالوا مبارك، ولذلك ثبت في الآثار أن الناس كانوا مع عمر بن الخطاب فإذا هم يتسابقون فقال: "ما للناس؟" قالوا: إنهم يصلون في مكانٍ صلى فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّما أهلك مَن كان قبلكم تتبع الآثار". وقال: "مَن أدركته الصلاةُ فليُصَلِّ، وإلا فليَمْضِ".
وجاء أيضًا عن عمر -رضي الله عنه- أن الناس كانوا يأتون إلى الشجرة التي بايع عندها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حُنين يتبركون بها، فأمر بقطعها. وجاء أيضًا عن ابن سيرين وغيره: أنَّها عَمِيت عليهم فلا يدرون أين هذه الشجرة التي بايع تحتها الرسول -صلى الله عليه وسلم.
فإذن نحن نتكلم عن هذه القضية التي هي التبرك.
قوله -تبارك وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19، 20] هذه ثلاثة أصناف، ثم قال (الآيات) يريد الآيات التي بعدها: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 21، 22].
فيقول الرب -سبحانه وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم﴾ [الواقعة: 58] هل رأيتم هذه الحقيرة الذليلة التي يعبدونها ﴿اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 20]، اللات هذا رجلٌ كان يَلُتُّ السَّويق للحجاج، أي يُطعم الحجاج.
والسَّويق هو بُرٌّ يُطبخ في حبِّه، ثم بعد ذلك يُطحن، ثم يُوضع عليه الماء، فيكون سريعًا جدًّا للمسافر.
فهذا الرجل كان يَلُتُّ السَّويق، ويضعه بالسَّمن، ويُطعم الحُجَّاج، فهو يقوم بعملٍ صالحٍ، ومع ذلك هل نفعهم ذلك أنَّهم يعبدونه من دون الله؟ لا، ولذلك قال: (اللات رجلٌ كان يلُتُّ السَّويق للحجاج)، أي يُطعم الحجاج، فكان رجلًا صالحًا، ومع ذلك هل أجاز الرب -سبحانه وتعالى- عبادته؟ لا لم يُجز الرب -سبحانه وتعالى- عبادته ولو كان صالحًا، فلا تجوز عبادة لا الصالحين ولا غيرهم، لا نبيَّ ولا مَلَك ولا صالح ولا ولي ولا غيرهم.
كان رجلًا يَلُتُّ السَّويق للحجاج، وهو في الطَّائف، والذي يقرأ تاريخ ابن كثير -رحمه الله تعالى- سيجد أن ابن كثير يذكر الأماكن التي كان يزورها الناس قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى قال: "كان للعرب أماكن يزورونها ويقصدونها، كان عندهم الكعبة، وعندهم الكعبة اليمانية، وعندهم أماكن أخرى يحجون إليها ويذهبون إليها في الجاهلية". الكعبة اليمانية وذو الخُلصَة، وهدمها النبي -صلى الله عليه وسلم.
وحينما يتأمل الإنسانُ اليوم واقعَ العالم الإسلامي -للأسف الشديد- يجد أن هذه الأماكن عندهم نفس القضايا أماكن يحجُّونها من دون الله -عز وجل- ويذهبون إليها.
(العُزَّى) كانت لقريش، وكانت قرب مكة تعبدها قريش ومَن معها، فكان عندهم بناء، وهذا البناء كان مستورًا عليه بستائر، وكان عندها ثلاث ثمرات، والثمر هو نوعٌ من الطَّرح، لكنَّه ليس طويلًا، ولا يكون كبيرًا، فكانوا يتبرَّكون بهذه الثَّمرات الثلاث حولها، فكان عندها بناء.
(مناة الثالثة) هذه بجهة المدينة، كانوا يحرمون للحج من عندها، فهي صنمٌ آخر.
فهذه الأصنام ما بين رجلٍ صالحٍ، أو شجرٍ، أو حجارةٍ، وكلها تُعبد من دون الله -عز وجل.
ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 20] أي الثالثة الحقيرة التي تعبدونها أيُّها المشركون.
﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى﴾ [النجم: 21] لأنَّ المشركين قالوا: الملائكة بنات الله. وهم إذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ حزينًا مُتجَهِّمًا، وقالوا: لنا الذكر.
﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم: 22] هذه القسمة جائرة في ذلك.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [النجم: 23] أنتم سميتموها آلهةً، وإلا فهي ليست آلهة.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [النجم: 23] فليس عندهم يقين في ذلك. ﴿وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23].
وُجِدَ أيضًا ما يتعلق بالتَّبرك ببعض الأوقات، كالتبرك بالمولد، فيجعلونه في ربيع الأول ويقولون: هذا مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومولد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت فيه تاريخ، وأقرب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحبهم إليه محبةً صادقةً كانوا يقفون أمام رسول الله والرماح في أجسادهم، وحب الصحابة للرسول -صلى الله عليه وسلم- مشهور، ومع ذلك لم يحتفلوا بمولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهذا من التبرك الممنوع، غير المشروع، الذي طرحه مثل هؤلاء الأقوام.
فهذه ثلاثة أصنام أخبرنا الله -عز وجل- بها، وقاسها بما يكون من الأشجار والأحجار وغيرها، فالأشجار والأحجار التي يتعبد بها جهال المسلمين، أو يقع فيها بعضُ جُهَّال المسلمين من ذلك.
فهم يعتقدون أنَّ هذه الأصنام تنفع وتضر، فكذلك هؤلاء الذين يتبرَّكون بالشجر، أو بالحجر يعتقدون أنَّه ينفع من دون -عز وجل.
الحديث الثاني: عن أبي واقدٍ الليثي، وأبو واقد الليثي هذا خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، وحنين هي المعركة المشهورة التي كانت بعد فتح مكة، فحينما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكةَ جمعت بعضُ قبائل العرب للرسول -صلى الله عليه وسلم- جمعًا عظيمًا، فخرج إليهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- باثني عشر ألفًا من المسلمين، منهم عشرة آلاف ممن قدم معه في فتح مكة، وألفان من أهل مكة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وقد أعجبتهم الكثرة، وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلةٍ. وكانت كما أخبر الله -عز وجل- خبرهم في القرآن العظيم.
قال أبو واقدٍ الليثي: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن حُدَثَاءُ عهدٍ) لماذا يقول هذا الكلام (نحن حُدَثَاء عَهدٍ بكُفْرٍ)؟ أي أسلمنا قريبًا، وكأنَّه يعتذر لما قالوا، ولما وقع منهم، وكأن هذا اعتذارٌ. فيريد أن يقول: نحن وقع منا هذا الأمر بسبب أن عهدنا حديثٌ بالكفر. فكانت عندهم بعض مُعتقدات الكفار، ومُعتقدات الكفار أنَّهم يتبرَّكون بالأشجار، ويتبرَّكون بالأحجار، ولذلك مَن وقع فيها من المسلمين فهو مُشابهٌ للكفار، فالأولى بالمسلم أن يقرأ ما كان من أخبار الجاهلية، فإذا قرأت أخبار الجاهلية ثم قارنت بينها وبين ما يقع لبعض المسلمين اليوم ستجد نفس الحكم ونفس القضية.
قال: (وللمشركين سِدْرَةٌ) السِّدْرة هي من شجر الطلح، أو شجر السدر يفرقون بينهم، فهي شجرة كبيرة.
قال: (وللمشركين سدرة يعكفون عندها) العُكُوف هو البقاء المستمر، فهم يبقون عند هذه الشجرة، لماذا؟ لأنَّهم يعتقدون أن هذه الشجرة مباركة، فيجلسون عندها يتبرَّكون بها.
(ويَنُوطُون بها أسلحتهم) ما معنى (يَنُوطُون)؟ يُعلِّقون أسلحتهم فيها، لماذا؟ لأنهم يرجون بركتها، فيقولون: إن البركة تنزل من هذه الشجرة في هذا السلاح.
(يقال لها: ذات أنواطٍ) لأنَّها ذات معاليق يعلقون فيها.
قال: (فمررنا بسدرةٍ) مرَّ هؤلاء الصحابة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسدرةٍ أُخرى قريبة من سدرة هؤلاء، أو شبيهة بها.
(فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ) اجعل لنا شجرةً نتبرَّك بها، ونُعلِّق عليها أسلحتنا حتى تكون فيها بركةٌ كما كانت لهم في ذلك.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ» مُتَعَجِّبًا، ومُستَعْظِمًا قولهم، يقول هذا الأمر الذي طلبتموه عظيم، هذا الأمر الذي تذكرونه عظيم، أي ما ينبغي لكم، ولا يجوز لكم، فالإسلام لا يجوز فيه هذا، ولذلك قال: «اللهُ أَكْبَرُ».
«إِنَّهَا السُّنَنُ» أي هي طرق الأمم السابقة، فهذه هي الطرق التي سلكتها الأمم السابقة، وهي التي ستسلكها هذه الأمة كما مرَّ معنا في خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البُرقاني وغيره أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أنَّ طوائف من هذه الأمة سيُتابعون ما كان من الأمم السابقة.
«لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ستتبعون نفسَ طريقة أولئك الأقوام.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ».
انظر قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أولًا: «اللهُ أَكْبَرُ» تعجُّبٌ واستعظامٌ للأمر، ثم قال: «إِنَّهَا السُّنَنُ» يحذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن هذه الأمة ستكون على سُنن الأمم السَّابقة، فحذر من ذلك.
ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» يُقسم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الذي نفسي بيده حياةً وموتًا وتدبيرًا، وهو خالقي -سبحانه وتعالى- فأقسم بالله الذي نفسه بيده أنهم قالوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى، ماذا قال بنو إسرائيل؟ قالوا: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138]، فبنو إسرائيل لما أنجاهم الله -عز وجل- من البحر، كان الأصل أن يشكروا الله ويخلصوا له العبادة، لكن الذي حدث أنهم قالوا: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾.
فهذه سُنن الأمم السابقة، فالأصل في الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمةٍ أن يُخلص العبادة لله رب العالمين.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». رواه الترمذي وصحَّحه، والحديث صحيحٌ.
فإذن أغلظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهى عن مُشابهة الأمم السَّابقة، وعن مشابهة المشركين في هذا التَّبرُّك بهذه الأشجار أو هذه الأحجار أو غيرها، وهذه من القضايا التي وقعت في هذه الأمة، فقد ذكر ابنُ وضَّاحٍ المالكي -رحمه الله- في كتابه أنَّه وُجِدَ في زمنه أناسٌ يتبرَّكون بعينٍ ما، فقام إليها قبل الفجر ثم دفنها، وأذَّن عليها الفجر وأنهى أمرها.
ويوجد في كثير من بلاد المسلمين -للأسف الشديد- مثل هذه الأمور، فكنا قبل الحلقة يُحدِّثنا أخانا الكريم أنَّ في بلادهم شجرةً يتبرَّكون بها، فهذه بعض الصور الموجودة في عالمنا الإسلامي، ولو دخلنا على بعض المواقف سنجد أنَّ هناك شجرة لآدم، وشجرة فيها دم الولي فلان، وأشياء من العجائب.
فأين المسلمون من كتاب الله؟ ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ أخبرنا يا أخي ما في بلدك؟
{عندنا شجرةٌ كبيرةٌ مُعمِّرةٌ في بلدنا يعكف الناسُ عليها}.
هذه بعض الصور التي وُجدت في بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولذا جاء النهي عن ذلك، ولذلك فحري بالمسلم أن يتتبع حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعرف خطورة هذا الأمر الباطل، وهذا مُنتشر، فبعضهم يقول: تربة الحسين مثلًا مباركة، كم آخذ منها؟ قال: تأخذ منها هذا القدر، فتأكل التراب. كيف هذا وقد أنعم الله عليك: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 70] فكيف يأكل التراب؟ فبعضهم يأكل التراب، وبعضهم يأكل الحصى، وبعضهم يأكل غير ذلك، من أين هذا؟ فهذا شيءٌ لا يثبت.
بينما نجد -للأسف الشديد- أن بعضهم يترك البيت الحرام الكعبة خلفه، وهو آتٍ من بلادٍ بعيدةٍ، ويذهب إلى هذا المكان أو غير ذلك، ويأخذ منه هذا التراب، أو يأخذ منه هذه الأشياء، هذا من الشرك -نعوذ بالله من الخذلان- وفي أعظم البلاد وأفضل البلاد، فيحذر الإنسانُ دائمًا من هذه القضايا.
نأتي إلى الباب الذي بعد هذا الباب وهو: (باب ما جاء في الذبح لغير الله) الذبح -كما تعلمون يا إخواني- عبادة يتقرب بها الإنسانُ إلى ربه -سبحانه وتعالى- كذبح الأضحية، وذبح الهدي، والعقيقة، والذبيحة لإكرام ضيفه، وليطعم أهله، وكل ذلك يذكر الإنسان اسم الله عليه، وهذه الذبيحة يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- فهل يجوز صرف هذه العبادة لغير الله؟ نقرأ النصوص.
{(باب ما جاء في الذبح لغير الله، وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].
وعن طارق بن شهابٍ أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ في ذُبَابٍ، ودَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ في ذُبابٍ». قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مَرَّ رجُلانِ عَلَى قَومٍ لهم صَنَمٌ، لا يَجُوزُه أَحَدٌ حتَّى يُقَرِّبَ له شَيئًا، فقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيسَ عِنْدِي شَيءٌ أُقَرِّبُه. قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابًا. فقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلوا سَبِيلَهُ، فَدَخلَ النَّارَ، وقالُوا للآخَرِ: قَرِّبْ. فقال: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ لأحدٍ شَيئًا دُونَ الله -عز وجل- فضَرَبُوا عُنُقَه؛ فدَخَلَ الجَنَّةَ». رواه أحمد.
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "حدَّثني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلماتٍ: «لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغَيرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنَ وَالِدَيهِ، لَعَنَ اللهُ مَن آوَى مُحدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ»". رواه مسلم)}.
(باب ما جاء في الذبح لغير الله) الذبح لغير الله -عز وجل- حكمه ماذا؟ الذبح عبادة، فصرف هذه العبادة لغير الله ما يكون حكمه؟
{شرك أكبر}.
إذن لماذا لم يذكره المؤلفُ؟ لماذا لم يقل: بابٌ من الشِّرك الذبح لغير الله؟
{لأنَّه واردٌ، لو استنبطت استنباطًا من الآيات الكريمة، نرى أن المسلم الحقيقي لا يذبح لغير الله تعالى، فالذبح لغير الله يُعتبر شركٌ أكبرُ}.
وكأنَّ المؤلف -رحمه الله- أراد للباحث والطالب الحق أنَّ يجد الحكمَ بنفسه واضحًا في هذه الآيات.
فالذبح لغير الله تقرُّبٌ وعبادةٌ لغير الله -عز وجل- ويكون أيضًا ذبح لغير الله فرحًا وإكرامًا، لكنَّه يكون باسم الله -عز وجل- فلابُدَّ أن يُسمِّي الإنسانُ في ذلك.
وفي الأمور العادية يذبح الإنسان إمَّا ليأكل اللحم، أو لإكرام ضيفه أو غير ذلك، وقد يذكر أهلُ العلم بعضَ الحالات الأخرى وهي: مَن يذبح للسُّلطان، من باب التَّقرُّب والتَّعظيم، فيذبح له عند نزوله ثم يتركه، هذا يدخل أيضًا في هذا الباب؛ لأنَّه من باب التَّعظيم في ذلك.
أمَّا المسألة الكبرى (باب ما جاء في الذبح) هنا الذين يذبحون للأصنام، فيأتون بذبيحةٍ إلى هذا الصنم، ويُنزلونها ويذبحونها عنده، وهذه القضية موجودةٌ في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فبعضهم يُسافر لمدة شهرٍ ومعه بهيمة ليُقرِّبها لغير الله -عز وجل.
وقد ذكر بعضُهم قصَّةً حقيقيةً جميلةً جدًّا قرأتها قديمًا: أنَّ رجلاً كان ممن يعتقد في القبور، ويذهب إليها، ولم يرزقه الله الولدَ، فلمَّا رزقه الله ولدًا نذر أن يذبح عند قبر البدوي ذبيحةً، ثم وهو في طريقه إلى قبر البدوي زار أحدَ أقاربه فنصحه وبيَّن له أنَّ هذا من الشرك، فخرج مُغضبًا من عنده بخروفه وولده، وذهب إلى قبر البدوي، وذبح الخروف، فلمَّا ذبح الخروف أخذ من اللَّحمة ورجع بها إلى بلده، وكانت اللحمة قد دخلها العفنُ، فأطعمها ولده فأُصِيبَ بمرضٍ ثم مات هذا الولد بسبب هذه اللحمة المُحرَّمة، ثم رجع هذا الرجل إلى قريبه يسأله ويقول: أين حقيقة التَّوحيد؟ علمني حقيقة التَّوحيد، فهذه القبور لا تنفع ولا تضر من دون الله. قصة جميلة ومؤثرة نشرت قديمًا، نشرها أحد الإخوة المصريين جزاه الله خيرًا.
فالذبح لغير الله موجودٌ -للأسف الشديد- في بعض بلاد المسلمين، وأحيانًا يكون فيها كثيرٌ من التَّلاعب، فذكروا في بعض زوار القبور أنَّه يأتي عند القبر شخصٌ ويكون عنده خروفٌ واحدٌ، فيأتي شخصٌ ويشتريه لأجل أن يذبحه، ويستلم النقودَ منه، ثم يأت الثاني ويشتريه، ثم يأتي الثالث ويشتريه، ثم يأتي الرابع، فيُباع هذا الخروف إلى خمسة أو ستة أو عشرة أو مئة ويأخذون أموالهم، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ [التوبة: 34].
وقول الله تعالى –وهذا هو الدليل الأول: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي﴾ [الأنعام: 162]، الصلاة في اللغة هي الدعاء، وأيضًا هي الصلاة المعروفة، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ النسك: هو الذبح، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ أي كل عباداتي لله رب العالمين ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ صلاتي ونُسكي هذا توحيد ماذا؟
{توحيد الألوهية}.
إذن توحيد الألوهية ﴿صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾، أمَّا ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ فهو توحيد الربوبية، ﴿للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾، فإذن النُّسك عبادةٌ، لا يجوز صرفها لغير الله -سبحانه وتعالى- وهذا وجه الدلالة في الآية، فإذن هي عبادة لله رب العالمين لا يجوز أن نصرفها لغير الله تعالى.
﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾ تأكيد على هذه القضية.
﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي أول المُبادرين من هذه الأمة، أو أول المبادرين لهذا الأمر، القائمين بهذا الأمر، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى أول مَن يُبادر لذلك فيُخلص هذه العبادات لله، وهذا واجبٌ على كلِّ مسلمٍ.
﴿قُلْ﴾ يا محمد، أي إعلان عام، ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وبهذا يجب على كل مسلم ألا يصرف شيئًا من عبادته لغير الله -سبحانه وتعالى- فلا يذبح لغير الله، ولا يتقرَّب لقبرٍ، ولا لصنمٍ، ولا لوليٍّ، ولا لنبيٍّ، ولا لغيره، فلا يذبح لغير الله -سبحانه وتعالى.
وقول الله -تبارك وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] أمرٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]، الكوثر هو نهرٌ عظيمٌ في الجنة أعطاه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فلما كان له هذه المنزلة العظيمة، والمنزلة السامقة العالية، قال الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] أي النحر عبادة، ويتقرَّب بها كما في الآية السابقة ﴿فَصَلِّ﴾ الصلاة المعروفة ﴿وَانْحَرْ﴾ الذبح لله -سبحانه وتعالى- والنحر يكون للإبل، والذبح يكون لغيرها.
هنا يتقرب الإنسان بالنسك، بالأضاحي، والهدي، والهدي يكون للمُتمتع والقَارِن، والمُفرِد أيضًا فهو في حقِّه سُنَّة، وغيرها أيضًا من دم الجُبْرَان، فكل ذلك من الأمور المشروعة للعبد أن يتقرَّب بها لله رب العالمين، وكذلك العقيقة التي تذبح عن المولود يوم سابعه، أو في غيره، فكل هذا من العبادات التي يتقرب بها العبدُ لله رب العالمين.
الآيات السابقة كلها دلَّت على أن الذبح عبادة، فهل يجوز صرف هذه العبادة لغير الله؟ هل يجوز أن نذبح لقبرٍ أو لغيره؟ هذا هو المُحرَّم، وهو من الشرك أن نصرف العبادة لغير الله تعالى.
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "حدَّثني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلماتٍ" أي بأربع جملٍ، «لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ». اللَّعنُ: هو الطَّرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وانظر هنا لما قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23] بدأ بأعظم الحقوق، وهو توحيد الله، وهنا بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعظم الذنوب وهو الذبح لغير الله؛ لأنَّه شركٌ ولعنٌ لمَن ذبح لغير الله تعالى، فهو طردٌ وإبعادٌ من رحمة الله، استحقَّ عليه صاحبه هذا الوعيد الشديد.
مَن ذبح لغير الله سواءً ذبح بعيرًا أو بقرةً أو دجاجةً أو عصفورًا، فعلى المسلم ألا يذبح شيئًا لغير الله، فلا يتقرَّب بأيِّ شيءٍ لغير الله -سبحانه وتعالى.
الثاني في هذا الحديث: قال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيهِ» هل الإنسان يلعن والديه مباشرةً؟
{نعم يا دكتور}.
كيف؟
{مثلًا إذا لعنتَ والدَ أحدٍ فيلعن والديك}.
نعم هذا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ؛ فيَسُبُّ أَبَاهُ وأُمَّهُ» فيكون الإنسانُ سببًا في لعن والديه، فإذن هذا يستحق اللعن، لعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فيحذر الإنسانُ من أن يكون سببًا في ذلك لوالديه، وكما أن القريب أشد في البر، فكذلك يكون في الإثم أشد، فحقُّه في البر أعظم، وكذلك حقُّه في التعدي عليه ولعنه يكون أشد وأكثر، وإن كان لا يجوز لعن مسلمٍ أصلًا، فلا يجوز للمسلم أن يلعن إخوانه المسلمين.
«لَعَنَ اللهُ مَن آوَى مُحْدِثًا» آواه أي نصره وساعده، أو أنَّه ضمن له السَّكن أو المكان، والمُحْدِثُ ما هو؟ عندنا أكثر من معنى للمُحْدِث: فهو المُبتدع الذي يدعو إلى بدعةٍ، فلعن الله من آواه، فالذي يأوي هذا ويُناصره ويُساعده ملعونٌ على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشخص يدعو إلى بدعته، أو إلى ضلالته، كمن يدعو إلى القبور، ويدعو إلى الشرك، ويدعو إلى الضلالة، ويدعو إلى أيِّ بدعةٍ كانت، فهذا يكون ملعونًا على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من معاني المحدث: من يُحدث حدثًا، كمن يقوم بسرقةٍ، أو يُفسد في بلدٍ، ويفجر، ويقتل من المسلمين، ويُخلُّ بالأمن، فهذا أيضًا يدخل في ذلك، فلا يؤوى ولا يُنصر بأيِّ حالٍ كان، فإذن يدخل في هذه النوعية، وأشدهما المُحدِث في الدين، المُبتدع في الدين، ولذلك نجد أن أثر الإحداث بالبدع يمتد ويكون له جذورٌ، أو تكون لها امتدادات كثيرةٌ على الأجيال القادمة.
الجملة الرابعة: «لعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأرضِ» ومنار الأرض هو علاماتها، العلامات التي في الأرض، والحدود التي بين هذا وهذا، فهذا ملك فلان وهذا ملك فلان وبينهما طريق، أو حد، أو علامات، مَن غيَّر هذه العلامات فهو ملعونٌ على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا مثل أن آتي إلى هذا الطريق وأمشي مع هذا الطريق فيُقال الرياض هنا على اليمين، فتأتي إليه وتضع السهم بالعكس وتقول: الرياض اتجاه اليسار، يجوز هذا؟ فآتي أنا مسكينٌ لا أعرف الطريق فأذهب يسارًا فماذا يكون؟ فهذا يدخل في تغيير العلامات.
إذن لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأصناف الأربعة: الأول: مَن ذبح لغير الله، وهو أشدهم لأنَّه شركٌ. الثاني: مَن لعن والديه. الثالث: مَن آوى مُحدِثًا، فهو لم يُحدث وإنَّما آواه وناصره. الرابع: مَن غيَّر منار الأرض.
ففي هذا دلالةٌ كافيةٌ على المنع أو تحريم الذبح لغير الله -سبحانه وتعالى.
تأتي هذه القصة العظيمة التي رواها طارق بن شهاب، فحديث علي -رضي الله عنه- رواه الإمام مسلم، فهو في صحيح الإمام مسلم، والحديث الثاني: حديث طارق بن شهاب، هو صحيحٌ موقوفٌ على سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وفي هذه القصة موقف عظيم.
عن طارق بن شهاب قال: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «دَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ فِي ذُبَابَةٍ» أي بسبب ذبابة، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مَرَّ رَجُلانَ علَى قَومٍ لهُم صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ مِن دُونِ الله تعالى، لا يَجُوزُهُ أَحَدٌ» أي لا يتجاوز أحدٌ مكانَ صنمهم حتى يُقرِّب له شيئًا، أي يُقدِّم له شيئًا يتقرَّب به له.
«فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيسَ عِنْدِي شَيءٌ أُقَرِّبُه» ما عندي شيءٌ، «قَالُوا: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابَةً» والمقصود هنا هو الاستجابة، أي قرِّب ولو شيئًا يسيرًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله، فدخل النار، لماذا؟ لأنَّه قرَّب لغير الله -عز وجل- فصرف العبادة لغير الله -سبحانه وتعالى.
«وَقَالُوا للآخر: قَرِّبْ. قَالَ: مَا كُنْتُ لأُقَرِّبَ شَيئًا دُونَ اللهِ -عز وجل- فَضَربُوا عُنُقَه فَدَخَلَ الجَنَّةَ». رواه الإمام أحمد، وسنده صحيح إلى سلمان الفارسي.
فإذن هذه القصة العظيمة فيها بيانُ أنَّ من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله الذبح، فلا يجوز أن يصرف لغير الله -عز وجل- وكم من الناس مَن يدفع ماله ليكون هذا المال وبالًا عليه، فإنَّه صرفه لغير الله -سبحانه وتعالى- وذبح وقرَّب لغير الله تعالى.
فلا يجوز للمسلم أن يصرف هذه العبادة سواءً الذبح، أو النذر، أو غيرها من العبادات كلها، لغير الله رب العالمين، فلا يصرف شيئًا من هذه العبادات لغير الله -عز وجل.
نأخذ هذا الباب بعده وهو بابٌ مُتعلِّقٌ بهذا الباب: (باب لا يذبح بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله -عز وجل) وهذا حقيقة من أفضل الترتيب للمؤلف -رحمه الله تعالى- فإنَّه لما ذكر أنَّ الذبح مُحرَّمٌ جاء هنا هذا الباب حتى لا يذبح الإنسانُ في أماكن يُذبح فيها لغير الله -عز وجل.
{(باب لا يُذبح لله بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله، وقول الله تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ [التوبة: 108].
عن ثابت بن الضَّحَّاك -رضي الله عنه- قال: "نذر رجلٌ أن ينحر إبلًا بِبَوَانَة، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قال: لا. قال: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِن أَعْيَادِهِم؟» قالوا: لا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أَوفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ الله، ولا فِيما لا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ». رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما")}.
إذن هذه الآية الأولى (باب لا يُذبح بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله) هذا الذي يذبح الآن يذبح لله، لكنَّه ذبح في مكانٍ يُذبح فيه للأصنام، يُذبح فيه للقبور، فلا يجوز هنا أن يصرف الإنسانُ العبادةَ لغير الله -سبحانه وتعالى- فلا يجوز أيضًا أن يُشارك المشركين في مكانهم، ولا في موقفهم، ولا في عبادتهم، فلا يُشاركهم بأيِّ شيءٍ من هذه الأمور، ولذا جاء هذا الباب في هذا المكان من أحسن التَّرتيب، ومن أبدع الترتيب، ولذلك أُمِرَ المسلمُ ألا يُوافق المشركين بأيِّ حالٍ، فلا يُوافقهم في لباسٍ، ولا يُوافقهم في عيدٍ؛ لأنَّ المُشاركة الظاهرة سيكون لها أثرٌ على الموافقة الباطنة في ذلك.
قوله -تبارك وتعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ [التوبة: 108] هذا يتعلَّق بمسجد الضِّرار، والذي أخبرنا الله -عز وجل- خبره في سورة التوبة: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 107، 108]. فقصة هذا المسجد أنه كان هناك رجلًا يُقال له أبو عامر الراهب، كان يترهب في الجاهلية، أي يُسوِّي نفسه عابدًا، ويلبس الثياب الخشنة، فلما بُعِثَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- شَرِقَ بالإسلام، وحارب الإسلام كل المُحاربة، حتى أنَّه قاتل المسلمين في أُحدٍ، وهو الذي حفر الحُفرَ التي وقع في إحداها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسُمِّي بعد ذلك بأبي عامر الفاسق، فكان يُسمِّي نفسه الراهب، وحينما يئس العربُ من محاربة الإسلام بعد انتصار الإسلام، ذهب أبو عامر هذا إلى قيصر وطلب منه النصرة، ثم مات هناك، وأمر المنافقين في المدينة أن يبنوا مسجدًا بجوار مسجد قباء؛ لأجل أن يجتمعوا فيه، ويأتي رسوله إليهم هناك، ويرصدوا فيه لمحاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
ولما بنوا المسجد أرادوا أن يأخذوا الموافقة من رسول الله فقالوا: نريد أن تصلي فيه يا رسول الله قبل أن تسافر. فقال: «أَنَا عَلَى سَفَرٍ». فلمَّا رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصل إلى المدينة نزل عليه الوحي بهذه الآية: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ [التوبة: 108]، فأرسل إليه اثنين من أصحابه، فأحرقوا ذلك المسجد، ولا يزال مزبلةً، ولذلك فكلُّ مسجدٍ بُنِيَ على قبرٍ فإنَّما هو مسجد ضِرارٍ، لا يُقام فيه، وهو ضرار، يضر بالمسلمين، ويفرق المسلمين، وهو دعوة إلى الضلالة.
انظر هنا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- ألا يقم في هذا المسجد أبدًا، لماذا؟ لأنَّه أُسس على هذا الباطل، وأُسس للمنافقين، فكذلك المكان الذي يكون فيه المشركون يذبحون لأصنامهم، ويذبحون لآلهتهم، لا يجوز للمسلمين أن يكونوا في هذا المكان.
إذن لما كان مسجد ضرارٍ اتُّخذ للمعاصي فكان ضرارًا وكفرًا وتفريقًا، فدلَّ على أن كلَّ مكانٍ يُعصى فيه الله -عز وجل- لا يُقام فيه، فهذا مسجد للصلاة، ومع ذلك نهى الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن القيام فيه.
ثابت بن الضحاك يذكر هذه القصة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ رجلًا نذر أن ينحر إبلًا، أي جمالًا ينحرها في مكانٍ يُقال له بوانة، وبوانة هذه في أقرب الأقوال أنَّها قريبة من منطقة ينبع، بين أملج وينبع.
فنذر هذا الرجل أن ينحر إبلًا ببوانة، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- ما سبب تخصيص هذا المكان، فقال: «هَلْ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوثَانِ الجَاهِلِيَّةِ؟» وهو ما يُعبد من دون الله، سواءً كان شجرًا أو حجرًا أو قبرًا أو غيره، قالوا: لا يا رسول الله. قال: «هَلْ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الجَاهِلِيَّةِ؟» قالوا: لا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أَوفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّه لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلا فِيمَا لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما، أي شرط الصحيحين، فالحديث صحيح.
إذن أَذِنَ له النبي -صلى الله عليه وسلم- فلو كان فيها وثنٌ هل سيأذن النبي -صلى الله عليه وسلم؟ ولو كان فيها عيدٌ من أعياد المشركين فهل سيأذن؟ ولذلك إذا كان هذا المكان فيه اجتماع المشركين فيذبحون فيه فلا يذبح فيه المسلم، ولو كان ذبح لله -سبحانه وتعالى- فلا تجوز هذه الذَّبيحة في هذا المكان.
أيضًا لو كانت عند قبرٍ، فلا يجوز أن يذبح، ولا يجوز أن يدعو عند هذا القبر، وإنما يكون فيما شرع الله -عز وجل- ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَوفِ بِنَذْرِكَ». ثم قال: «فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ الله» فإذا نذر الإنسانُ نذرَ معصيةٍ فلا يَفِ به، وسيأتي لنا الكلام في الباب القادم -إن شاء الله- عن النذر في ذلك.
لفظ الجاهلية -كما تعلمون- جاء فيه عدة أحاديث لكن لفظ الجاهلية بشكلٍ عامٍّ زال ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالجاهلية بشكل عام انتهت ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيكون معنا -إن شاء الله- في اللقاء القادم الكلام على النذر لغير الله -عز وجل.
الأسئلة:
{هل يجوز الحلف بالمصحف أو بستين حزبًا أو ثلاثين جزءًا؟}
الحالف بالمصحف أراد القرآنَ كلام الله، ولذلك فيجوز الحلف بالقرآن الكريم، فالقرآن كلام الله، ولذلك جاء في الحديث: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ» فيستعيذ الإنسانُ بكلام الله، فالقرآن كلام الله -سبحانه وتعالى.
{هل يجوز القول أن ابن حجر العسقلاني أشعري بسبب أخطائه في باب الأسماء والصفات؟}
هذا سؤالٌ تكرَّر كثيرًا في هذا الباب، ونحن عندما ندرس المذهب الأشعري سنجد أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأشعرية الكُلَّابِيَّة، ونحن نضع الميزان الذي نقيس به هؤلاء وهو كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالأشعرية الكُلَّابِيَّة عندهم تأويل في الصفات الذاتية، في صفات الأبعاد، وبعض الصفات الذاتية على اختلاف بينهم، لكن لا يوجد عندهم نصوص في رد نصوص الكتاب والسنة، وهؤلاء سماهم أهل العلم الأشعرية الكلابية لأنَّهم على منهج ابن كُلَّاب، وهم يردون على الفرق الضَّالة كالمعتزلة، والفلاسفة، ويردون المنطق والفلسفة، فهؤلاء الأشعرية الكلابية.
القسم الثاني: الأشعرية المعتزلة، كالجويني ومَن وافقه، وهؤلاء زادوا على ما مضى من علم الكلام ونفي الصفات الفعلية وغيرها زادوا ردَّ أحاديث الآحاد وتأويل صفة العلو والاستواء بتأويل المعتزلة، وأخذوا بأقوال موافقة للمعتزلة في بعض المواقف، فهؤلاء هم الأشعرية المعتزلة.
الصنف الثالث: الأشعرية المُتفلسِفَة، ومنهم الغزالي والرازي، وهؤلاء هم الذين قالوا أن نصوص الكتاب والسنة لا تُفيد اليقين، بل قال بعضُهم كما في شرح أمِّ البراهين وغيرها: "من أصول الكفر عندنا الأخذ بظاهر نصوص الكتاب والسنة في الأسماء والصِّفات". فهؤلاء أعرضوا إعراضًا تامًّا عن نصوص الكتاب والسنة.
فإذا قلنا أن ابن حجر -رحمه الله- والنووي وغيرهم من الأشاعرة فنقول أنهم تأثروا بالأشعرية الكُلَّابِيَّة الأولى، أمَّا الأشعرية المتأخرة المتفلسفة كالغزالي والرازي والأشعرية الموجودة اليوم، فهؤلاء لم يتأثر بهم ابن حجر، وهو من أبعد الناس عنهم، وهو يرد عليهم في كتابه، وله أقوال في الرد على هؤلاء، فإذن يجب أن نُفرِّق حتى نكون على بيِّنةٍ في ذلك.
{تقول: التبرك بالمساجد مثل السيدة زينب، والسيدة نفيسة}.
كل المساجد التي بنيت على قبور لا يجوز الصلاة فيها، ولا يجوز القيام فيها، والعكوف فيها، فهذه مساجد ضِرار كما مرَّ معنا، وهذه المساجد إنَّما بناها العُبيديين الرافضة الباطنية، الذين كفَّرهم علماءُ المسلمين، فلا يجوز القيام فيها.
{تقول: بعض الأفعال والأقوال التي هي من الشرك كالحلف بفلانٍ، أو ببعض الأولياء، يفعله البعض ليس بقصد الشرك، لكن أصبح ذلك عندهم من العادة التي جرت على ألسنتهم وتعودوا عليها}.
لا يكون من الشرك، لكنَّه يكون من شرك الألفاظ، والشرك الأصغر، وتكلمنا عليه فيما مضى، أمَّا إذا كان مقصودهم الحلف بفلان وغيره، فهذا يكون من الشرك الأكبر.
{يقول: ما حكم مَن ذبح لغير الله مُكرهًا؟ ما الفرق بينه وبين ما جاء في الحديث المذكور الذي ذبح ذبابًا؟}
الذي ذبح الذباب كما جاء في هذا الحديث فعل ذلك من باب التخلص منهم، لكن يظهر أنه لم يرد التخلص، أما إذا كان مُكرهًا فإنه يدخل في قول الله -عز وجل: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، فالمكره لا يُؤاخذ في هذا، وقد قال بعضُ الصحابة ما هو أشد من ذلك، فالمقصود أنَّه إذا كان مُكرهًا لا يدخل في هذا الباب، لكن في الحديث الذي مر أراد من باب التَّخلُّص، فإمَّا أن يكون التخلص غير مقبول في شرعهم، أو أنَّه فعل ذلك مُوافقًا لهم من باب أنَّهم لما ألزموه بذلك التزم به.
أمَّا مَن ذبح لغير الله وفعل فعلًا شركيًّا مُكرهًا على ذلك، فإنَّه لا يقع في هذا الأمر، ولا يدخل في هذا الباب.
{يقول: نحن قلنا أن الحلف بغير الله شركٌ أصغر لما فيه من التعظيم للمخلوق، فإذا قال الحالف أنَّه لا يقصد التعظيم، وأنَّه من باب التَّعوُّد، فهل يكون ذلك من الشرك؟}
لا، هو شركٌ أصغر؛ لأنَّه شرك ألفاظٍ، وقد مرَّ معنا، وكما قلنا أنَّ الشرك أمره خطيرٌ، فإن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، ولذلك اختلف أهلُ العلم في الشرك الأصغر، والراجح من الأقوال: أنَّه لا يُغفر، ويُحاسب عليه العبدُ يوم القيامة، فيحذر الإنسان من الشرك قليله وكثيره في ذلك، ويحذر غاية الحذر، ويتجنب ذلك.
يكون معنا -إن شاء الله- في اللقاء القادم باب النذر لغير الله -عز وجل- وهو مما مر معنا في هذا اليوم.
{يقول: ما الفرق بين الإيواء والإيجار؟ كأن استجار كافر مثلًا بمسلمٍ}.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6]، فالإجارة أو العهد الذي يعطيه المسلمون للكافر في أن يدخل البلد، فهذا يُسمَّى المُستَأْمَن، فهذا المُسْتَأْمَنُ له حكمه في الشرع الإسلامي، ويُعطى الأمان الذي أذن فيه، أمَّا المُحدِثُ فهو الذي ابتدع في هذا الدين، أو أنَّه أفسد في بلاد المسلمين، أو فعل شيئًا من هذه الأفعال، فهذا له حكمه، أمَّا هذا الكافر الذي التزم بأحكام المسلمين، والتزم بما تعاهد مع المسلمين عليه، فإنَّه يكون في أمانٍ، وقد حذَّرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- من التَّعرُّض له بأيِّ شيءٍ، فلا يُتعرَّض له، ويُحفظ له ماله وعرضه، ويتعبد بدينه لكنَّه لا يُظهر هذا الدين بين المسلمين، ولا يتعرَّض أيضًا لدين المسلمين بسَبٍّ أو بغير ذلك، فهناك فرقٌ بينهما.
لعلنا نتوقف عند هذا القدر، ونسأل الله تعالى أن يُوفِّقنا وإيَّاكم جميعًا للعلم النافع والعمل الصالح، ويُوفِّقنا لما يُحبُّ ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
تعليق