رابط المحاضرة:
http://www.youtube.com/watch?v=zEhpcurraPE
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الرسل والنبيين، اللَّهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا، نرحب بكم في هذا اللقاء المُتجدِّد في الأكاديمية الإسلاميَّة المفتوحة في مقرر العقيدة واحد، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بالإخوة المُتابعين، وبالإخوة الحضور، فحيَّاكم الله تعالى.
نُواصل ما كنا نتكلم عنه في اللقاء الماضي، وأيضًا من حق الحضور أو المشاهدين ألا نضيع أيَّ شيءٍ من أسئلتهم، ولذلك فإن الأسئلة التي لم نذكرها في اللقاء الماضي سنذكرها اليوم بمشيئة الله -عز وجل- لأنَّ بعضها تُعتبر كالمراجعة لبعض المسائل التي تمر معنا اليوم بمشيئة الله -تعالى- والأسئلة المتعلقة بأبواب ستكون في محاضرات قادمة نؤجلها إلى اللقاء المناسب لها بمشيئة الله، لكن أغلب الأسئلة ستُطرح هذا اليوم، فحياكم الله وأهلًا وسهلًا.
توقفنا في اللقاء الماضي عند باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، أي بعض هذه الأمة وليس كلها، وسيأتي -إن شاء الله- في آخر الحديث الذي سنذكره اليوم البشرى بأن طائفة من هذه الأمة على الحق منصورةً، لا يضرهم مَن خالفهم، وأنَّ هذا الحقَّ باقٍ إلى يوم القيامة بحمد الله -تبارك وتعالى.
أخذنا في اللقاء الماضي حديث ثوبان في صحيح الإمام مسلم، ثم تأتي هذه الزيادة التي توقفنا عندها والتي رواها البرقاني في صحيحه، وهي أيضًا صحيحة على شرط الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- هذه الإضافة إضافة عظيمة، مَن يقرأها لنا من الإخوان؟
{ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأئمَّة المُضِلِّين، وإِذَا وَقَعَ عَلَيهم السَّيفُ لَم يُرفَعْ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، ولا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلحقَ حَيٌّ من أُمَّتي بالمُشرِكِين، وحتَّى تَعبُدَ فِئةٌ من أُمَّتي الأَوْثَانَ، وإِنَّه سيكُونُ في أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاثُونَ، كُلُّهم يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ، وأَنَا خَاتَمُ النَّبيينَ، لا نَبِيَّ بَعْدِي، ولا تَزَالُ طَائفةٌ من أُمَّتي على الحَقِّ مَنْصُورَةً، لا يَضُرُّهم مَن خَذَلَهُم، ولا مَن خَالَفَهُم حتَّى يَأْتِي أمرُ اللهِ -تبارك وتعالى»}.
رواه البرقاني، والحديث صحيحٌ، وهذه الزيادة أصلها في مسلم، وأيضًا هذه الزيادة: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي» وردت في أحاديث أخرى في صحيح الإمام مسلم.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم: «وإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأئِمَّة المُضِلِّين». هؤلاء الأئمة يكونون ممن يدَّعي العلمَ، مثل بعض مَن يدعي العلمَ إمَّا مُتعمِّمًا أو غير ذلك، ثم يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويذكر هذه الدَّعاوى الباطلة، فمثل هذا يكون من الأئمَّة المُضلين، كالجهم بن صفوان الذي جاء بنفي الصِّفات، فهو من الأئمَّة المُضلين الذين بنوا القبورَ، مثل: بعض أئمَّة الدولة العُبَيدِيَّة، والدولة البُوَيْهِيَّة، فهم الذين بنوا القبور التي في العراق، أو التي في مصر، أو في غيرها، وهؤلاء من الأئمة المضلين.
فإذن عرفنا الأئمَّة المضلين الذين يدعون إلى دعواتٍ باطلةٍ في ذلك، فليحذر الإنسانُ منها، ويحرص أيضًا؛ لأنَّه سيكون هناك أئمَّة مُضلين، فليس كلُّ مَن ادَّعى أنَّه من العلماء يُصَدَّق، فلابُدَّ أن نقيس دعوتَه بالكتاب والسُّنة، هل هو موافق لهما؟ هل هو متَّفقٌ معهما؟ مثل الحديث الذي سأل أكثرُ من أحد أخٍ عنه وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «يَئِسَ الشَّيطَانُ أن يَعْبُدَه المُصَلُّون في جَزِيرَةِ العَرَبِ»، فهذا ظنُّ إبليس كما ذكر بعضُ الإخوة، وقالوا أنَّه وُجِدَ في الجزيرة العربية قبل دعوة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وقيام الدولة السعودية في عهدها الأول والثاني والثالث، قالوا: وُجِدَ بعضُ مظاهر الشرك، فأزالها الله -عز وجل- بفضله ومنته ورحمته بعباده المؤمنين.
أليس هذا الواقع يُناقض هذا الحديث، لا شكَّ أنَّ هذا ظن الشَّيطان، أمَّا خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصَّادق المَصْدُوق فهو كما ترونه تحته خط الآن واضح أمامكم: «وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ» هذا خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك ظنُّ الشَّيطان لما رأى إقبال المسلمين.
أيضًا قال بعضُ أهل العلم في هذا الحديث: «يَئِسَ الشَّيطَانُ أن يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ» قالوا: الحديث يتعلَّق بالمُصَلِّين، فالشَّيطان يُحَرِّشُ بينهم، هذا وقع كثيرًا، وقع في زماننا هذا، فنجد بعضَ الفضلاء والأخيار، أهل التوحيد، وأهل الإيمان ينزغ بينهم الشيطان فيكون بينهم شيءٌ من الخُصومات في قضايا لا تستحقُّ كلَّ هذه الخصومة، ووُجِدَ أيضًا قبل ذلك في عهد الخلافة الرَّاشدة، وهو ما حدث بعد استشهاد عثمان -رضي الله عنه- فقد حدثت وقعة الجمل، ووقعة صفين، وكلها تقوم على قضية واحدة هي: كيفية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم تقم في مُنازعة علي -رضي الله عنه- بالخلافة ولا في غيرها، وإنَّما كانت في قضية كيفية الاقتصاص من قتلة عثمان -رضي الله عنه- فرأى عليٌّ ومَن معه أنَّهم ينبغي أن يتأنُّوا في الاقتصاص منهم، ورأى معاويةُ ومَن معه أنَّه لابُدَّ من الاستعجال في الاقتصاص منهم، ورأى كلٌّ من: عائشة وطلحة والزبير الإصلاح بين الطَّرفين، فالقضية هي قضية اجتهادٍ بينهم، ومع ذلك وقع تحريشُ الشَّيطان بينهم -رضي الله عنهم أجمعين.
أيضًا قصة الإمام البخاري -رحمه الله- فإنَّه حصل بينه وبين بعض المعاصرين له شيءٌ من النزاع، وشيءٌ من الكلام في قضايا لما تبحث عنها تجد أنَّ الحقَّ معه -رحمه الله- بل لما تُفصِّل القولَ تجد أنَّ الطرفين كلاهما قال حقًّا، ولم يقل باطلًا.
فإذن النزاع أحيانًا يكون بين المُصلِّين، أهل التوحيد، ولذلك جاء الحديث في المصلين، فهو لا يتعلَّق بالذين يعبدون الأوثانَ ويعبدون القبورَ من دون الله -عز وجل- فهذه قضية أرجو أن تكون واضحةً، هذا القول قويٌّ ذكره بعضُ أهل العلم.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنَّما أَخَافُ على أُمَّتِي الأئمَّة المُضِلِّين» وقال: «وإِذَا وَقَعَ السَّيفُ لم يُرفَعْ إلى يَومِ القِيَامَةِ»، «إِذَا وَقَعَ السَّيفُ» يعني الاقتتال بين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- «لم يُرفَعْ إلى يَومِ القِيَامَةِ»، وفعلًا حدث ذلك، فانظروا معركة الجمل، فهي أول معركة بين مَن يشهد أن لا إله إلا الله، وإنَّما كلهم لم يأتِ لقتالٍ، لا علي -رضي الله عنه- ولا طلحة، ولا الزبير، وإنما جاء طلحة والزُّبير وعائشة -رضي الله عنهم أجمعين- للإصلاح بين المسلمين، وللإصلاح بين الطرفين: الذين يرون سرعة الاقتصاص، والذين يرون تأخر الاقتصاص في ذلك، فجاءوا إلى هذا الأمر وأرادوا أن يصلحوا بينهما، لكن كان قدر الله مقدورًا، وحصلت المعركة التي لم يُقتل فيها إلا أقل من مئة شخصٍ، لكن كان وقعها كبيرًا، لماذا؟ لأنَّه أول اقتتالٍ بين المسلمين، وكان عثمان -رضي الله عنه- قبل استشهاده قد حذَّرهم وقال: "والله إن قتلتموني لا تقاتلون بعدي عدوًا أبدًا". وفعلًا وقع ما أخبر به عثمان -رضي الله عنه.
الشاهد في الحديث: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «ولا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحقَ حيٌّ من أُمَّتِي بالمُشْرِكِينَ» حي: جماعة، أو طائفة، أو بلد، حتى يلحقوا بالمشركين، هذا اللُّحوق هل هو حسي أو معنوي؟ هل هو حسي أي أنَّهم يلحقون بآرائهم وأفكارهم ومُساندتهم ونصرتهم للمشركين؟ أو هو معنوي؟
{معنوي}.
يعني مجرد آراء، أم لحوق حسي؟ لعله وقع هذا، ووقع هذا، ونجد أنَّ الذين دعوا إلى الشرك الأكبر المُخرج من المِلَّة عندهم أيضًا مُساندة للكفار بكل ما تعنيه الكلمة، فمثلاً ذكرت أنا أن بعض الطرق الصوفية كانوا يُناصرون الاستعمار، ويتبجَّحون بذلك، ويخطبون ويقولون: نحن نصرناهم. وكانوا أيضًا قبل أن يذهبوا إلى مكة للحج يتوجهون إلى قبر شيخهم ويعبدونه من دون الله -عز وجل- فهذا موجود لديهم، وهم فعلًا نصروا الكفار بأنفسهم، وأيضًا عبدوا الأوثان من دون الله -عز وجل- فوقع عندهم الأمران جميعًا.
«حتَّى يَلْحقَ حَيٌّ» يعني ليس طائفةً قليلةً، وإنَّما هم كُثُر، لكن هل هم كل الأمة؟
{ليسوا كل الأمة}.
ليسوا كلَّ الأمة، وإنَّما هم بعض هذه الأمة، ولذلك فيهم كثرة.
قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحقَ حَيٌّ من أُمَّتِي» وقال -عليه الصلاة والسلام: «وحتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ من أُمَّتِي» يعني جماعات «الأَوثَانَ» وسبق أن عرَّفنا الأوثان وهي كل ما يُعبد من دون الله -عز وجل.
أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه سيكون في أُمَّته كذَّابون يدَّعون النُّبوة، وهؤلاء وُجدوا في تاريخ الأمة، منهم مَن ادَّعى النُّبوة صراحةً، ومنهم مَن زعم أنَّه أفضل من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مثل: ابن عربي الذي قال أنَّه يأخذ من اللوح المحفوظ، وأنَّه خاتم الأولياء وهو أفضل من خاتم الأنبياء، وله أقواله المشهورة في ذلك في الخصوص والفتوحات وفي غيرها، ومع ذلك هذا القول كفرٌ ومُخرجٌ من الملة، وهو ادعاء النبوة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم.
ولذلك ادَّعت طوائفُ أنَّهم في أتباعهم أو في مَتْبُوعِيهِم سواءً أئمَّة أو أولياء أو غيرهم أنَّهم يصلون إلى العصمة، فمنهم مَن قال أنَّه معصومٌ، ومنهم مَن قال أنَّه محفوظٌ، لكنَّه لا يستطيع أن يُصرِّح بمثل هذه العبارات، قالوا: الولي محفوظٌ. ومرادهم أنَّه معصوم مثل الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«وأنَّه سيَكُونُ في أُمَّتِي كذَّابُونَ، كُلُّهم يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ» وقد وُجِدَ في تاريخ الأُمَّة مثل ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«وأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ» خاتم الأنبياء هو محمد -صلى الله عليه وسلم- «لا نَبِيَّ بَعْدِي» ولذلك لما جاء ابنُ عربي وادَّعى النبوة قال: "هذه قاصمة ظهور الأولياء خاتم الأنبياء".
«لا نَبِيَّ بَعْدِي» تأكيدٌ أنه لا نبي بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم.
قال -صلى الله عليه وسلم: «ولا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي على الحَقِّ مَنْصُورةً، لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم» طائفة منصورة، منصورة بماذا؟ بالحجة أم بالقوة والسنان أي السيف؟
{الحجة}.
أو كلاهما، قد يكون النصرُ بهذا، وقد يكون النصرُ بهذا، ولذلك انظر الناس يَقْبَلُون قولَ التَّوحيد من الموحدين السَّلفيين ممن كانوا على منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالناس يقبلونه، لماذا؟ لأنَّ هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«لا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي على الحَقِّ مَنْصُورَةً» ولذلك حجتها ظاهرة وقويَّةٌ وبيِّنةٌ وبارزةٌ في ذلك، ولذلك نجد النُّصرةَ لهم.
«لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم» لا يضر هذه الطائفة مَن خذلهم، وهذا دليلٌ على أنَّه سيُوجد مَن يخذلهم، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم، ولا مَن خَالَفَهُم» سيُوجد مَن يُخالفهم، وسيوجد مَن يخذلهم، ويُثَبِّطهم عن الدَّعوة إلى الله، ويُثَبِّطهم عن الحقِّ، ويُثَبِّطهم عن بيان الحقِّ، فمع ذلك هذا موجودٌ، لكنَّهم قائمون بأمر الله، لا هؤلاء يضرونهم، ولا يُؤثِّرون عليهم حتى يأتي أمر الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة وتقوم الساعة.
هذا الحديث رواه البرقاني، وأيضًا رواه أبو داود وابن ماجه، وهو بإسنادٍ صحيحٍ.
ونحن اليوم سنأخذ البابَ المُتعَلِّق بهذا الحديث، وهو باب ما جاء في الرياء، باب الرياء تكلَّمنا عنه في اللقاء الماضي، لكن كان الكلامُ فيه في باب الخوف من الشرك، فهناك تكلمنا عنه، وقلنا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد البشر الرؤوف الرحيم بأُمَّته كان يخاف على أمته الوقوع في الشرك، ولذلك خاف عليهم الرياء، وهو الشرك الأصغر.
جاءت هنا بعض الأسئلة التي ذكرها بعضُ زملائكم نذكرها بعد قليلٍ -إن شاء الله- بعدما نقرأ هذه النصوص.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في الرياء، وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 110] الآية}.
ودلالته في الآية بقية الآية ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو﴾ لذلك المؤلف إذا قال (الآية) فهو يريد ما بعدها: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فالمُرائي مُشركٌ، أشرك بعبادة ربه.
{عن أبي هريرة مرفوعًا}.
مرفوعًا يعني عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
{قال الله تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ». رواه مسلم}.
من الأسئلة التي طرحها بعضُ الإخوة هذا السؤال: نعلم خطر الرياء، نعلم أن الرياء خطر، وأن الرياء في هذه الخطورة، لكن أحيانًا يحس الإنسانُ أنَّه غيرُ مخلصٍ، يترقب نظرَ الناس، فما العلاج في ذلك؟
أيضًا من الأسئلة أحيانًا يقول: أتَّهم نفسي بالنِّفاق والرِّياء، وأخاف منهما خوفًا شديدًا.
أيضًا منهم مَن سأل فقال: الخوف من الرياء قد يدفع بعضَ الناس إلى التَّكاسل، فيأتيه الشيطان فيقول له: أنت ما خرجت تُدرِّسُ للناس هنا إلا حبًّا في الظُّهور، وتريد البُرُوزَ، وتريد كذا.
فيأتي الشيطانُ من هذه الأبواب كلها، ولذلك فالإنسان بحاجة دائمًا إلى أن يُراجع نفسه كل يوم، وكل لحظة، فكل يوم تعمل عملًا يجب أن تُراجع نفسك وتصلح هذه النية وتُجاهد نفسك أن تكون نيتك صالحةً وخالصةً لله رب العالمين، عليك أن تُجاهد نفسَك كلَّ يومٍ وتُجدِّد هذه القضيَّة.
أمَّا أن يدعوه للتكاسل، فهذا من تلاعب الشيطان بالإنسان، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ» يعني الإنسانُ يعمل عملًا صالحًا فيسعد بذلك، كأن يكون سعى في بناء مسجدٍ، وساعد المسلمين فيه، أو علم إخوانه المسلمين، فعلمهم توحيد الله، أو علمهم الدين، أو علمهم ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يسعد بذلك؟ ألا يسعد أنَّه يتعاون مع إخوانه المسلمين؟ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئتُه فَذَلِكَ المُؤْمِنُ» الذي يُسَرُّ أنَّه يتعلم مع إخوانه، أو أنَّه علَّم إخوانه، أو أنَّه ألقى فيهم كلمةً ووعظهم، وذكر لهم أحاديثَ الرسول، وعلمهم القرآن، وعلمهم السُّنة، ووعظهم في ذلك، هذا سرته حسنتُه، فهذا يشهد له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد.
وأيضًا سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عمَّا يأتي الإنسانَ أحيانًا من ثناء الناس عليه في عملٍ ما، فقال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ» لكن على المسلم ألا يغتر بذلك.
أمَّا أن يتَّهم الإنسانُ نفسَه دائمًا ويخاف، فكما جاء ومَرَّ معنا أثرُ ابن أبي مُلَيْكَة حيث قال: "أدركتُ ثلاثينَ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسه". فيجب على الإنسان أن يخشى النفاق على نفسه، لكن لا يصل إلى حالة مرضية، فالإنسان يجب عليه أن يحرص من ذلك، وينتبه إلى هذه القضية، ويقف مع نفسه، ولا يصل إلى هذا، أما إذا كان عنده جانب وسوسة، فهذا له كلامٌ آخر، فعليه أن يحرص من هذه القضية.
فأمَّا أن المؤمن يُسَرُّ بحسنته فهذا -بحمد الله- نعمة وفضل من الله -عز وجل.
أحد الإخوة يسأل عن قضية التعزيز:
فمثلًا لو حفظ فلانٌ من الناس اليوم متنَ الحديث، وفلان اجتهد في المراجعة والدرس، ماذا نقول له؟ هذا نُثني عليه ونشكره.
وقضية التَّعزيز يجب أيضًا أن نُراعي فيها هذا الجانب، فالإنسان قد يوجد عنده شيء من الغرور، فيجب أن تُعالج القضية، والمُربِّي يكون حاذقًا في ذلك، وأيضًا يجب أن يكون بحقٍّ وبعدلٍ.
وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدد من الصحابة وأخبر بفضائلهم، فقال مثلًا في معاذ –رضي الله عنه: «أَعْلَمُكُم بِالحَلالِ وَالحَرَامِ مُعَاذٌ»، وجاء أيضًا في خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أنه: «سَيفُ اللهِ المَسْلُولُ»، وفي عمر بن الخطاب: «لا يَرَاهُ الشَّيطَانُ في فَجٍّ إلا سَلَكَ فَجًّا آخَر»، وفي عبد الله بن عمر: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصلِّي من اللَّيلِ».
فإذن هذا من التَّحفيز، ولا يضر -إن شاء الله- لكن على الإنسان أن يُراعي هذا الجانب مراعاةً واضحةً، وتكون الأمورُ واضحةً عند الإنسان في هذه القضية.
والإنسان يحتاج في هذه القضية أن يُراجع نفسه بشكلٍ يوميٍّ، وبشكل دقيقٍ في جميع أعماله، أمَّا أن يصل إلى مرحلة الوسوسة فهذا مرضٌ، ومن أهداف الشيطان التَّحزين، أي أن يُحزِّن الإنسانَ ويتلاعب به كما جاء في الحديث: أنَّ رجلًا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إني رأيتُ رؤيا أنَّ رأسي قُطِعَ وأني أسعى وراءه. فقال: «لا تُخْبِرْ بتَلاعُبِ الشَّيطَانِ بِكَ» إذا كان الشيطان يتلاعب بك فلا تخبر به أحدًا.
(باب ما جاء في الرياء) أي باب ما جاء في حكم الرياء، والأحاديث الدالة على بيان حكم الرياء، وما يتعلق بالرياء.
(وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ [الكهف: 110]) يبين الله تعالى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- بشرٌ مثلنا، لكنَّه اختصَّ بالوحي، فهو معصومٌ -عليه الصلاة والسلام.
قال: (﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾) أي أنَّه يُوحى إليه -عليه الصلاة والسلام- أن يأمرنا أن نعبد إلهًا واحدًا لا نشرك به غيره، لا في الرياء ولا في غير الرياء، لا في عبادة قبر أو في عبادة كذا، ولا في غير ذلك.
(﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾) مَن كان يرجو لقاء الله -عز وجل- وذلك اليوم العظيم والمشهد العظيم يوم القيامة: (﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾).
ما شروط العمل الصالح؟
{الإخلاص والمتابعة}.
الإخلاص والمتابعة، إذن العمل الصالح ما يحتاج لقضية: ﴿ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ لكن جاءت لتأكيد القضية، انظروا كل ما جاء الأمر بالعبادة جاء النهي عما يضادها، وهو الشرك، فجاء الأمر: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
فهذه الآية دلَّت على العمل الصالح، وألا يشرك الإنسانُ، لا في الشرك الأصغر، ولا في الشرك الأكبر.
وقد جاء في حديثٍ أخرى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام البخاري: «مَن رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ، ومَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ» أي أنَّ يعمل الإنسان عمله لأجل الناس، كما هو حال المنافقين الذين لا يذكرون الله إلا قليلاً، ويصلون مع المسلمين؛ ليراهم المسلمون.
فـ«مَن سَمَّعَ» أي: مَن عمل أو قال هذا القول من أجل أن يسمعه الناس، «سَمَّع اللهُ بِهِ»، و«مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ» أي مَن عمل لغير الله -عز وجل.
وكنا قد ذكرنا لكم في المرة الماضية أنَّ الرياء يتلخَّص في أنَّه يكون في عمل الإنسان، إذا كان أصلًا عمله قام على الرياء، يعني صلى الصلاةَ لأجل أن يراه الناس، فهذا عملُه باطلًا، والثاني: صلى صلاته لله -عز وجل- لكن في الركعة الثانية من هذه الصلاة دخل الناسُ المسجدَ، فأراد أن يُحسِّن صلاتَه -وهذا ما ذكرناه في المرة الماضية، وسنذكر صورًا جديدةً أخرى- فحسَّن صلاته في هذا الأمر لحضور الناس، فإن استرسل معه الرياء وتواصل، أي كانت ركعته الثانية كلها رياءً حتى يُسلِّم؛ فهذا تكون صلاتُه باطلةً، أمَّا إذا صلى لله، ثم لما أتى الشَّيطانُ إليه ووسوس، فدافع الشَّيطانَ؛ فإن هذا لا يضره -إن شاء الله تعالى- ويكون سَلِمَ من الشَّيطان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَن أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَها، مَا لَمْ تَعْمَلْ أو تَتَكَلَّمْ».
إذن عندنا ثلاث حالات: الحالة الأولى: رياءٌ كله باطلٌ، والثانية: دخلها الرياءُ فأفسدها، والثالثة: أنَّه دافعه، فهذا لا يضره -إن شاء الله تعالى.
الحالة الرابعة: أن يكون العملُ مُنفصلًا، مثل إنسان معه مئة ريال، فتبرع بخمسين ريال وهو مُخلصٌ لله، وحينما جاء ليتبرع بالخمسين ريال الآخرى قال: أريد حظ نفسي. فهو يُرائي الناس بها، فهذا يكون الجزء الأول من عمله صالحًا، والجزء الثاني غير صالح؛ لأنَّ العمل مُنفصلٌ بعضه عن بعضٍ.
أمَّا إذا أراد إنسانٌ أن يتصدَّق وأظهر صدقته أمام الناس ليحثهم على الصدقة، فتقدم وتصدق، وأعلن صدقته أمام الناس؛ ليكون قدوةً في الخير، فما حكمه؟
{هذا مستحب}.
هذا جيد، أن يتقدم الإنسان ليكون قدوةً صالحةً فهذا جيدٌ، ولذلك أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عثمان لما تصدق، أو كما ورد: رجلٌ جاء وتصدق عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقةٍ كبيرةٍ، حتى أن يده عجزت عن حمل ذلك الكيس من الذهب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُها، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بِهَا». فـ«مَن سَنَّ سُنَّةً حسنةً» أي عمل عملاً وأظهره للناس ليكون سنةً حسنةً، فهذه سُنةٌ حسنةٌ يُرجى له ثوابها، ولا يضره إعلان ذلك في هذا الأمر.
قوله -تبارك وتعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ اللِّقاء هو لقاء عام للناس: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6] ملاقٍ ربه يوم القيامة، ملاقٍ حسابه، ومجازى بما عمل، ولقاء المؤمنين الرحمة والرضا، نسأل الله تعالى من فضله.
الحديث الثاني حديث قدسي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال الله تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً» هنا قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً» ما معنى عَمِلَ؟ هي نكرة في سياق الشرط، أي كل عمل وأي عمل يكون من الإنسان «أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكْتُه وشِرْكَهُ» رواه الإمام مسلم.
ولذلك لما قلنا أنَّ الإنسانَ إذا صلى الصلاة لله، لكنَّه راءى الناسَ مع الله؛ فقد بطلت هذه الصلاةُ، ولما تصدق وهو يُرائي الناسَ أيضًا بطلت هذه الصدقة، لماذا؟ لأنَّه أشرك معه غيره، وهذا من غِنى الرب -سبحانه وتعالى- فهو الغني -سبحانه وتعالى- بغناه، ولذلك قال: «أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّرْكِ» فهو -سبحانه وتعالى- غنيٌّ، وبعض الشركاء لا يستطيع أن يستغني عن شريكه، لكن الرب -تبارك وتعالى- أغنى الشركاء عن الشرك «تَرَكْتُه وشِرْكَهُ».
وفي هذا أيضًا بيان عِظَم حقِّ الرب -سبحانه وتعالى- فلا يجوز لأحدٍ أن يُشرك مع الله تعالى أحدًا؛ لأنَّ التَّوحيد وإخلاص العبودية حقُّ الرب -سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن يُشرك معه أحدٌ أبدًا.
الحديث الثالث: حديث أبي سعيد الخدري، وقد مرَّ معنا، لكن مر معنا في باب الخوف من الشرك مختصر، فعن أبي سعيدٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ألا أُخْبِرُكُم بِمَا هو أَخْوَفُ عَلَيكُم عِندِي من المَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قالوا: بلى. قال: «الشِّرْكُ الخَفِيُّ، يقُومُ الرَّجُلُ فيُصَلِّي، فيُزَيِّنُ صَلاتَهُ لِمَا يَرَى من نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَيهِ». رواه الإمامُ أحمد، وإسناده حسنٌ.
إذن هذا الحديث هو حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَخْوَفُ عَلَيكُم عِنْدِي مِن المَسِيحِ الدَّجَّالِ» فتنة المسيح الدجال فتنة عظيمة، حذَّر منها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فما من نبيٍّ إلا حذَّر أُمَّتَه منها، ولذلك فإن فتنة المسيح الدجال عظيمة.
وقيل عنه (مسيح) لأن عينه ممسوحة، و(دَجَّال) لكثرة كذبه، ولذلك يتعوَّذ الإنسانُ منه في كلِّ صلاةٍ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإنسانَ يتعوَّذ فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ القَبْرِ، وفِتْنَةِ المَحْيَى والمَمَاتِ، وفِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ» فيتعوَّذ من فتنة المسيح الدجال.
قال: «الشِّركُ الخَفِيُّ» وهو من الشرك الأصغر، وقد يكون عملُ الإنسان كله مراءَةً ليس لله -عز وجل- فينتقل إلى النِّفاق، أعاذنا الله وإيَّاكم منه.
هناك جوانب أخرى خفيَّة في الشرك الخفي ذكرها بعضُ أهل العلم، مثلًا: الناس يحبون العالم المتابع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبدءونه بالسلام، ويبشون له، ويوسِّعون له الطريق، ويُكرمونه إذا زارهم، أو إذا جاءهم، فيحب بعض مَن كان عنده علمٌ هذه الأمور ويتعوَّد عليها، ويرى أنَّها حقٌّ له دائمًا، أن يتساهل معه الناس في البيع والشراء، وفي غير ذلك، ويقول: لأنني أنا عالم أو طالب علم، أو أني داعٍ إلى الخير. وكأنه يريد أجرته من الناس، وهذا مسلكٌ دقيقٌ وعظيمٌ وجليلٌ في هذا، فليحذر الإنسانُ من جميع المسالك في ذلك.
كيف نُعالج الرياء؟
نعالج الرياء بتعظيم الرب -سبحانه وتعالى- بصفاته وأسمائه، فأنت تعلم عظمة الرب وإحاطته بك -سبحانه وتعالى- فربك عظيم محيط بك -سبحانه وتعالى- تيقَّن العبد عبوديته لله رب العالمين، وأنه خاضعٌ لله، مملوك لله -سبحانه وتعالى.
أيضًا من مُعالجته: مشاهدة مِنَنِ الله -تبارك وتعالى- عليه، فمن الذي أعطاك البصر؟ من الذي أعطاك السمع؟ من الذي أعطاك العقل؟ جعل لك البصر والسمع والفؤاد، وجعلك تعقل، كم من الناس لهم سمع وبصر وهم لا يعقلون.
الإكثار من العبادات غير المشاهدة، أن الإنسان يكثر من العبادات غير المشاهدة، أي يُصلِّي في جوف الليل والناس نيام، فما أحد يُشاهده، فيحرص الإنسان عليها، فإن هذه فيها تربية للنفس في ذلك، ولا يضر العبادات الظاهرة فيها.
أيضًا أُأَكِّد وأُكرِّر القضية التي ذكرها بعضُ الإخوة وهي أنَّ الشيطان إمَّا يمنعهم من العمل الصالح أو أنَّه يمنعهم من الدعوة إلى الخير، أو المشاركة في الخير بسبب أنه يقول لأحدهم: أنت تُرائي في ذلك. فليحذر الإنسان من هذا، ويكون مُتوازِنًا، ويتذكر الموت.
القضية السادسة هي من أهمها: معرفة الرياء ومداخله، فيعرف الإنسان الرياء ومداخل الرياء، ومداخل الشيطان عليه حتى يكون الإنسانُ على بيِّنةٍ في ذلك.
بهذا نكون قد انتهينا من باب ما جاء في الرياء، وما يتعلَّق بهذا الباب، ويكون عندنا -إن شاء الله- هذا الباب: باب قول الله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، ونحن نريد أن ندخل في هذا الباب، لكن قبل ذلك نرى إن كانت هناك أسئلة للإخوة، أو أنه لا يوجد.
{يقول السائلُ: ذكرتم أنَّ الشِّركَ الأكبرَ مُحبِطٌ للعمل، فإذا تاب الإنسانُ من الشرك الأكبر هل يُثاب على أعماله الصالحة السابقة؟}.
جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيرٍ» فإذا كان الإنسانُ قد تاب فإن الله -عز وجل- يتوب عليه، ويُبدِّل سيئاته حسنات، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.
{يقول السائلُ: في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأمم من يتبع اليهود والنصارى، قد يقول البعضُ أن الناس في هذه الأيام تنوروا وتبصروا فلا يمكن أن يتبعوا الأممَ السَّابقة في ذلك، فبماذا نرد عليهم؟}.
في الواقع نعرف سيرة اليهود والنصارى سواءً، وهي موجودة في كتاب الله، فما نحتاج أن نتلمس يمينًا أو يسارًا، فهي موجودة في كتاب الله، ثم نُطبِّقها على الواقع المُعاش، ففي الواقع المُعاش عندنا سنجدها كثيرة للأسف الشديد، وذكرنا أمس عدة أمثلة لهذه القضية، فقضية أنَّهم عرفوا أو تَنَوَّروا، إنَّما يكون التنوير بكتاب الله -تعالى- وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأي نورٍ في هذه الأرض لم يأت عن الله أو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس فيه كذلك.
{يقول السائلُ: هناك مَن يزعم أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- نورٌ، وليس ببشرٍ، ويستدل بهذه الآية: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110] فيقول أن "ما" هنا نافية، فكيف نرد عليهم؟}.
الحديث الذي ذكره هؤلاء في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نور، هذا حديث من ثلاث صفحات، حديث موضوع ذكره ابنُ عربي في ذلك، والغريب في هؤلاء أنَّهم يُنكرون صفة النور لله -عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35] فينكرون صفة النور لله، ويقولون النبي -صلى الله عليه وسلم- نور، فهذه الأحاديث موضوعة، وليس فيها شيءٌ ثابتٌ عن الرسول، بل مكذوبة، وقد جاء فيها التَّشديد في ذلك.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] قال ابن عباس في الآية: "الأندادُ هو الشرك، أخفى من دَبِيبِ النَّمل على صَفَاةٍ سَوداء، في ظُلمة اللَّيل". وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كُلَيبة هذا لأتانا اللُّصوص، ولولا البَطُّ في الدار لأتى اللُّصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئتَ. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانًا، هذا كله به شركٌ)}.
هذا قول ابن عباس -وإسناده جيِّد إلى ابن عباس- تفسير لهذه الآية، والآية ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] وهي في سورة القرآن، قوله -تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: 21، 22] فأمرهم بالعبادة، واستدلَّ عليهم بتوحيد الربوبية، وأمرهم بالعبادة، فجاء هذا البيان لهذه الآية ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] أي لا تجعل لله شبيهًا.
وهنا الحديث الذي ذكره ابن عباس -رحمه الله تعالى- هو في شرك الألفاظ، فلا تجعل لله ندًا في كلامك وعباراتك، لا تجعل لله ندًا، فما بالك في عبادتك، انظروا كيف كان الاستدلال في هذه القضية، فإذا كان الإنسانُ يَحْرُمَ عليه أن يجعل لله شبيهًا ومثيلًا في كلامه، وفي عباراته، فهل يجوز له أن يجعل لله ندًّا وشبيهًا ومثيلًا في صلاته؟ وفي صيامه؟ وفي صدقته؟ وفي نذره؟ هل يكون ذلك؟ لا يمكن أبدًا أن يكون ذلك.
وهذا الباب هو في الشرك الأصغر، والآية في الشرك الأكبر، لكن ابن عباس -رحمه الله- استدل بها على الشرك الأصغر، وهذا منهج السلف -رحمهم الله- وسيأتي لنا -إن شاء الله- في أبواب أخرى استدلال أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر.
ولذلك من تحقيق التَّوحيد أنَّ الإنسان يحترز من الألفاظ، فالشرك في الألفاظ وإن لم يقصد المعنى لا يجوز، فإنَّه لا يجوز له هذه الألفاظ، وعليه أن يتجنبها، وهذا معنى دقيق، وأمر من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ليكون الإنسان حذرًا في هذا الجانب، بعيدًا عن كلِّ ما يكون في ذلك، فكما أن الله -تعالى- استدل عليهم بالربوبية: ﴿خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21] لِمَ تجعلوا لله ندًّا في ربوبيته، فلا تجعلوا له ندًّا في ألوهيته وعبادته -سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس في تفسير الآية: "الأنداد هو الشرك الخفي". كيف يكون خفيًّا؟ وصفه ابنُ عباس بأنَّه خفيٌّ، أخفى من دَبِيبِ النَّملة، دبيب النملة هو مشي النملة، والنمل حينما يسير على صفاةٍ -الصَّفاة هي الحجر الأسود الأملس- هل يكون له صوت؟
{لا يكون لها صوت}.
نملة على حجر أسود في ليلة ظلماء على صفا أملس، هل يكون لها صوت؟ لا يكون لها صوتٌ، فكذلك الشرك الخفي فهو أخفى من ذلك، ولذلك يقع فيه كثير من المسلمين، وانظر قوله: (وحياتي، وحياتك) وغيرها من العبارات، فهي شرك خفي، وقع عند بعض المسلمين، وهو من الشرك الأصغر في ذلك.
قال: "أن تقول: والله وحياتك". فتُقسم بالله وحياتك، انظر أنت تعظم مَن؟ تعظم الله، وهذا أيضًا يقول: وحياتك، الواو هنا حرف قسم، وكأنه يقسم بالله، ويقسم أيضًا بحياته تسوية بين الله وحياته، والصواب أن يقول: والله. ويجوز للإنسان -كما سيأتي- أن يقول: لولا الله ثم هذا الكلب لأتانا اللصوص.
يقول: (والله وحياتك يا فلان) هذا القسم فيه تسوية بين الله وحياة فلان، فلذلك لا يجوز فيها، وأيضًا قول الإنسان: "وحياتي" يُقسم بها، وسيأتينا الحديث في القسم بها.
وأن تقول: (لولا كُلَيبَةُ -الكُلَيبَة تصغير للكلبة- هذا لأتانا اللصوص)، لماذا؟ لأن الكلب إذا جاء الناس الأغراب ينبح ويُصوِّت، فينتبه الناسُ، فلذلك الصواب أن تقول: لولا الله ثم كليبة هذا، لماذا؟ لأن "ثم" للتَّراخي، أمَّا الواو فهي للترتيب والتَّسوية بينهما، فتقول: لولا الله ثم كُلَيبَة هذا لأتانا اللصوص.
(ولولا البط في الدار) والبط إذا رأى شخصًا يكون له صوتٌ، فينتبه مَن في الدار، ولذلك يُقال: لولا الله -سبحانه وتعالى- ثم البط لأتى اللصوص.
"وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت" وإنَّما الصواب كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تقول: «مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئتَ» لا تقل: ما شاء الله وشئتَ.
وأيضًا قول الرجل: (لولا الله وفلان) تقول: لولا الله ثم فلان ساعدنا على هذا العمل ما كنا استطعنا، لا تُسَوِّي بين الله وفلان، فهذا من الشرك الأصغر.
قال: (لا تجعل فيها فلانًا هذا كله من الشرك) رواه ابن أبي حاتم، وإسناده جيد عن ابن عباس.
فإذن هذا خفيٌّ، كما وصفه ابنُ عباس ترجمان القرآن -رحمه الله تعالى- ولذلك جاء في الأثر: "أن الإنسان يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم"؛ لأن الإنسان لا يقع في ذلك.
أمَّا إذا اعتقد الإنسانُ أن هذا المحلوف به عظيم، عظمته مثل عظمة الله -عز وجل- فماذا يكون هذا؟ أصغر أم أكبر؟
{يصير شركًا أكبر}.
إذا كان يرى أن هذا الذي أقسم به عظمته مثل عظمة الله -عز وجل- وأنه في نفسه مثل عظمة الرب -تبارك وتعالى- هذا يكون شركًا أكبر، أمَّا إذا كان من اللسان ولا يقصد هذه المعاني فهذا شرك أصغر، فلذلك ينبغي للإنسان أن يتجنب هذه العبارات، والقسم بحياتي، والنبي، وغيرها، فلا يجوز للإنسان أن يُقسم إلا بالله -عز وجل.
الحديث الذي بعده في هذا الباب هو حديث عمر بن الخطاب، والصواب أنه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَد كَفَرَ أو أَشْرَكَ». والحديث رواه الترمذيُّ وحسَّنه، وصحَّحه الحاكمُ، وصحَّحه أيضًا الألبانيُّ.
«مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ الله» الحلف دائمًا يكون بمُعَظَّمٍ، هذا يكون شركًا أصغر أم أكبر؟ إذا أراد مجردَ اليمين، مثل قوله: وحياتي، والنعمة، والنبي وغيرها؛ فهذا يكون شركًا أصغر، أمَّا إذا أراد أن يُعظِّمه بمثل الله -سبحانه وتعالى- هذا يكون شركًا أكبر مخرج، فلذلك هذا الحديث في الصحيح ثابت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ الله» المراد بالحلف هو التأكيد، وماذا يُؤكَّد به؟ يؤكد بعظيمٍ أو يؤكد بغير عظيم؟ لابُدَّ أن يُؤكَّد بعظيمٍ، فإذا أكَّدت بالرب -سبحانه وتعالى- فهنا يكون الإنسانُ في ذلك. «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أو أَشْرَكَ»، فالإنسان يحذر أن يحلف بغير الله -عز وجل- ولا يُكثر من الأيمان؛ فإن الله نهى عن ذلك فقال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89] فالإنسان يحفظ أيمانه، ولا يكثر من الأيمان سواءً في ذلك.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه: "لئن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا". هذا الخبر عن ابن مسعود يدل على ماذا؟ هذا رواه عبد الرزاق، ورواه الطبراني، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"، وقال الهيثمي: رواته رواة الصحيح في ذلك.
هذا الحديث -حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لئن أحلف بالله كاذبًا" أليس الكذبُ كبيرةً من كبائر الذنوب؟
{بلى}.
والحلف بغير الله؟
{الكذب كبيرة من كبائر الذنوب، والحلف بغير الله شرك}.
إذن فابن مسعود عنده مُوازنة بين قضيتين: الأولى الكذب، والثانية الشرك.
إذن: أيُّهما أخطر على الإنسان؟ الشرك، ولذلك قال: "لئن أحلف بالله كاذبًا"، مع أن الحالف بغير الله كاذب أيضًا؛ لأنَّه عَظَّمَ غير الله -سبحانه وتعالى- تعظيم الرب -سبحانه وتعالى- ولذلك جاء عن ابن مسعود هذا الأثر -رضي الله عنه- فابن مسعود قال: "لئن أحلف الله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغير الله تعالى صادقًا".
وكم من الناس اليوم -نعوذ بالله- مَن تغلغل الشركُ في أذهانهم، نجد أن بعض المسلمين لا يَصْدُق إلا إذا حلف بغير الله، أمَّا إذا حلف بالله يكذب، ويرى تجاوز ذلك، وهذا واقعٌ للأسف الشديد عند بعض المسلمين، وهذا من تأصُّل الضلالة في نفوس بعض هؤلاء، والواجب أن ندعو هذا الإنسانَ إلى أن يحلف بالله، ولا نُعينه على الشرك ونقول له: احلف بغير الله -سبحانه وتعالى.
نجد أن الربَّ -سبحانه وتعالى- أقسم بالشمس قال: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: 1]، وأقسم بالليل فقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل : 1] وغيرها من الآيات، ماذا يكون هذا القسم؟ أليس قسمًا من الرب -سبحانه وتعالى؟
{الخلق لا يحقُّ لهم إلا القسم بالله تعالى، أمَّا الله فيحلف بما شاء من مخلوقاته}.
قسم الرب -سبحانه وتعالى- بهذه الآيات العظيمة دليلٌ على عظمته، وكمال قدرته -سبحانه وتعالى- فهذا الخلق العظيم، وهذه الشمس العظيمة التي بها حياة هذا الكون، وهذه المخلوقات العظيمة فيها تعظيم الرب -سبحانه وتعالى.
فلله -عز وجل- أن يُقسِمَ بما شاء من خلقه، أمَّا المعبود المربوب فلا يُقسم إلا بالله رب العالمين، وفي قسم الرب -سبحانه وتعالى- بهذا بيان لعظمتها، وقدرته -سبحانه وتعالى.
يأتينا هنا قضية أخرى: حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقسم بغير الله، حديث: «أَفْلَحَ وأَبِيهِ» رواه الإمام مسلم.
{قد تكون من عادات العرب}.
هذا الحديث اختلفت فيه الآراءُ، وكما تعلمون هذا الحديث رواه الإمام البخاري، ورواه غيره أيضًا، هذا الحديث له روايتان: رواية: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»، وهذه تتفق مع الحديث الذي مرَّ معنا، وقد جاءت لهذه اللفظة تسع روايات، منها ما رواه الإمام البخاري وغيره وهي سبع روايات عن طريق الإمام مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- فهذه رواها البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم، وروايتان من طريق إسماعيل بن جعفر، إذن الحديث عندنا برواية صحيحةٍ: «أَفْلَحَ إن صَدَقَ».
أمَّا رواية: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ» فقد جاءت في أربع روايات، اثنتان منها عند مسلم، وأبو داود رواية، والدارمي رواية، وكلها عن إسماعيل بن جعفر.
إذن عندنا رواية الإمام مالك ليس فيها «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ» ورواية إسماعيل بن جعفر فيها: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ»، فقد وافق إسماعيل بن جعفر الإمام مالك في رواية وخالفه في رواية أخرى، فنكون مع مَن؟ مع الإمام أم مع غيره؟
لا شكَّ أننا نكون مع الإمام مالك، ولذلك فإن منهج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أنَّه قدَّم رواية الإمام مالك على رواية إسماعيل بن جعفر، وكأنه يقول: هذه رواية الإمام مالك أسلم من العيوب، وهي الصحيحة، وأن الرواية الأخرى شاذة.
ولذلك ذهب الإمام ابن عبد البر من المالكية -رحمه الله- إلى أن هذه الرواية شاذة، وهذا ما رجَّحه الشيخُ ابنُ باز -رحمه الله تعالى- والشيخ الألباني، وغيرهم من جماعة المسلمين، ولا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه حلف بغير الله، بل ثبت عنه النهي عن الحلف بالآباء.
وهذه الرواية تكلم فيها كثيرٌ من الناس، وهناك بحث جميل جدًّا في مجلة الدراسات العقدية التي تصدرها جمعية العقيدة، تناول هذا الحديث «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ»، فتناول الحديث بدراسة حديثية عقدية جميلة جدًّا توسعت في هذا الباب.
فإذن لا يصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف بغير الله -تبارك وتعالى.
سيأتي لنا حديث حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ». وهذا ما مرَّ معنا في الحديث السابق، رواه أبو داود بسند صحيحٍ، فهذا الحديث إسناده صحيح.
أيضًا جاء عن إبراهيم النَّخعي -وإبراهيم النخعي من تلاميذ عبد الله بن مسعود وهو يُؤيِّد ما مرَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- "أنَّه يكره" فيُروى عن تلاميذ ابن مسعود: "أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك، ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".
هذا قول أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتابعين من بعدهم، أنَّهم كانوا حريصين جدًّا على مجانبة الشرك في الألفاظ، وفي الأقوال، وفي الأفعال، وفي كل هذه القضايا، ولذلك لم تظهر عندهم إلا هذه العبارات فنبَّهوا عليها، أمَّا أفعال الشرك والبناء على القبور، وعبادتها من دون الله -عز وجل- فلم يظهر في الأمة إلا في القرون المتأخرة بعد القرن السابع الهجري وما بعده، أمَّا بعد ذلك فهي قليلة نادرة وُجدت عند الشيعة، وبناها بعض الملوك الظلمة في القرن الثالث مثل: ملوك الدولة البُوَيهِيَّة والدولة العُبَيدِيَّة.
فالبناء على القبور وعبادتها من دون الله تأخَّر كثيرًا في هذه الأمة، ولذلك فإن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يتكلموا في هذه القضية؛ لأنَّها لم تقع في أزمنتهم، لكن تكلموا على ما هو دونها، فالذي يقول: "لا تقول: لولا الله وفلان"، هل سيُجيز أن يعبد الإنسانُ القبر من دون الله؟ أو يدعوه من دون الله؟ معاذ الله -عز وجل- وهذه أحاديث واضحة دالة على هذه القضية العظيمة.
فيقول الإنسان: ما شاء الله ثم شئت، وهذا دليلٌ على أنَّ العبد له مشيئة، لكن ضمن مشيئة الرب -سبحانه وتعالى- وهذا ردٌّ على الجبرية الذين يرون أن الإنسان مُجبَرٌ على أفعاله، بل الإنسان له قدرة أن يقول ويفعل وينتهي عن هذا العمل أو يأتي إلى هذا العمل.
فإذا قال الإنسانُ هذه العبارات السابقة فهذا من شرك الألفاظ.
ونتوقف عند هذا القدر في هذا الباب وسيكون لقاؤنا الأسبوع القادم -بمشيئة الله- يوم الجمعة ويوم السبت من الثامنة إلى التاسعة، ولنا لقاء يوم الثلاثاء من الرابعة إلى الخامسة في الأصول الافتراضية، فنرحب بالجميع في ذلك، ونطرح -إن شاء الله- جميعَ الأسئلة ونُعالجها.
وعندنا في الأبواب -إن شاء الله- باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، وباب ما جاء في الرُّقى والتَّمائم، وباب مَن تبرَّك بشجرةٍ أو حجرٍ أو نحوهما، وباب ما جاء في الذَّبح لغير الله، وباب لا يُذبح بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله، فهذه ستكون معنا في اللقاء القادم بمشيئة الله -تبارك وتعالى- ونتوقف عند هذا الحد.
ونسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق والسَّداد، وإلى لقاء مُتجدِّدٍ، وشكر الله لكم على متابعتكم وحضوركم، وشكر الله للإخوة على مُتابعتهم، ولقاءنا -إن شاء الله- كما ذكرتُ لكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
http://www.youtube.com/watch?v=zEhpcurraPE
تفريغ المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الرسل والنبيين، اللَّهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وسلِّم تسليمًا كثيرًا، نرحب بكم في هذا اللقاء المُتجدِّد في الأكاديمية الإسلاميَّة المفتوحة في مقرر العقيدة واحد، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بالإخوة المُتابعين، وبالإخوة الحضور، فحيَّاكم الله تعالى.
نُواصل ما كنا نتكلم عنه في اللقاء الماضي، وأيضًا من حق الحضور أو المشاهدين ألا نضيع أيَّ شيءٍ من أسئلتهم، ولذلك فإن الأسئلة التي لم نذكرها في اللقاء الماضي سنذكرها اليوم بمشيئة الله -عز وجل- لأنَّ بعضها تُعتبر كالمراجعة لبعض المسائل التي تمر معنا اليوم بمشيئة الله -تعالى- والأسئلة المتعلقة بأبواب ستكون في محاضرات قادمة نؤجلها إلى اللقاء المناسب لها بمشيئة الله، لكن أغلب الأسئلة ستُطرح هذا اليوم، فحياكم الله وأهلًا وسهلًا.
توقفنا في اللقاء الماضي عند باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، أي بعض هذه الأمة وليس كلها، وسيأتي -إن شاء الله- في آخر الحديث الذي سنذكره اليوم البشرى بأن طائفة من هذه الأمة على الحق منصورةً، لا يضرهم مَن خالفهم، وأنَّ هذا الحقَّ باقٍ إلى يوم القيامة بحمد الله -تبارك وتعالى.
أخذنا في اللقاء الماضي حديث ثوبان في صحيح الإمام مسلم، ثم تأتي هذه الزيادة التي توقفنا عندها والتي رواها البرقاني في صحيحه، وهي أيضًا صحيحة على شرط الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- هذه الإضافة إضافة عظيمة، مَن يقرأها لنا من الإخوان؟
{ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأئمَّة المُضِلِّين، وإِذَا وَقَعَ عَلَيهم السَّيفُ لَم يُرفَعْ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، ولا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلحقَ حَيٌّ من أُمَّتي بالمُشرِكِين، وحتَّى تَعبُدَ فِئةٌ من أُمَّتي الأَوْثَانَ، وإِنَّه سيكُونُ في أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاثُونَ، كُلُّهم يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ، وأَنَا خَاتَمُ النَّبيينَ، لا نَبِيَّ بَعْدِي، ولا تَزَالُ طَائفةٌ من أُمَّتي على الحَقِّ مَنْصُورَةً، لا يَضُرُّهم مَن خَذَلَهُم، ولا مَن خَالَفَهُم حتَّى يَأْتِي أمرُ اللهِ -تبارك وتعالى»}.
رواه البرقاني، والحديث صحيحٌ، وهذه الزيادة أصلها في مسلم، وأيضًا هذه الزيادة: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي» وردت في أحاديث أخرى في صحيح الإمام مسلم.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم: «وإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأئِمَّة المُضِلِّين». هؤلاء الأئمة يكونون ممن يدَّعي العلمَ، مثل بعض مَن يدعي العلمَ إمَّا مُتعمِّمًا أو غير ذلك، ثم يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويذكر هذه الدَّعاوى الباطلة، فمثل هذا يكون من الأئمَّة المُضلين، كالجهم بن صفوان الذي جاء بنفي الصِّفات، فهو من الأئمَّة المُضلين الذين بنوا القبورَ، مثل: بعض أئمَّة الدولة العُبَيدِيَّة، والدولة البُوَيْهِيَّة، فهم الذين بنوا القبور التي في العراق، أو التي في مصر، أو في غيرها، وهؤلاء من الأئمة المضلين.
فإذن عرفنا الأئمَّة المضلين الذين يدعون إلى دعواتٍ باطلةٍ في ذلك، فليحذر الإنسانُ منها، ويحرص أيضًا؛ لأنَّه سيكون هناك أئمَّة مُضلين، فليس كلُّ مَن ادَّعى أنَّه من العلماء يُصَدَّق، فلابُدَّ أن نقيس دعوتَه بالكتاب والسُّنة، هل هو موافق لهما؟ هل هو متَّفقٌ معهما؟ مثل الحديث الذي سأل أكثرُ من أحد أخٍ عنه وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «يَئِسَ الشَّيطَانُ أن يَعْبُدَه المُصَلُّون في جَزِيرَةِ العَرَبِ»، فهذا ظنُّ إبليس كما ذكر بعضُ الإخوة، وقالوا أنَّه وُجِدَ في الجزيرة العربية قبل دعوة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وقيام الدولة السعودية في عهدها الأول والثاني والثالث، قالوا: وُجِدَ بعضُ مظاهر الشرك، فأزالها الله -عز وجل- بفضله ومنته ورحمته بعباده المؤمنين.
أليس هذا الواقع يُناقض هذا الحديث، لا شكَّ أنَّ هذا ظن الشَّيطان، أمَّا خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصَّادق المَصْدُوق فهو كما ترونه تحته خط الآن واضح أمامكم: «وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ» هذا خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك ظنُّ الشَّيطان لما رأى إقبال المسلمين.
أيضًا قال بعضُ أهل العلم في هذا الحديث: «يَئِسَ الشَّيطَانُ أن يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ» قالوا: الحديث يتعلَّق بالمُصَلِّين، فالشَّيطان يُحَرِّشُ بينهم، هذا وقع كثيرًا، وقع في زماننا هذا، فنجد بعضَ الفضلاء والأخيار، أهل التوحيد، وأهل الإيمان ينزغ بينهم الشيطان فيكون بينهم شيءٌ من الخُصومات في قضايا لا تستحقُّ كلَّ هذه الخصومة، ووُجِدَ أيضًا قبل ذلك في عهد الخلافة الرَّاشدة، وهو ما حدث بعد استشهاد عثمان -رضي الله عنه- فقد حدثت وقعة الجمل، ووقعة صفين، وكلها تقوم على قضية واحدة هي: كيفية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم تقم في مُنازعة علي -رضي الله عنه- بالخلافة ولا في غيرها، وإنَّما كانت في قضية كيفية الاقتصاص من قتلة عثمان -رضي الله عنه- فرأى عليٌّ ومَن معه أنَّهم ينبغي أن يتأنُّوا في الاقتصاص منهم، ورأى معاويةُ ومَن معه أنَّه لابُدَّ من الاستعجال في الاقتصاص منهم، ورأى كلٌّ من: عائشة وطلحة والزبير الإصلاح بين الطَّرفين، فالقضية هي قضية اجتهادٍ بينهم، ومع ذلك وقع تحريشُ الشَّيطان بينهم -رضي الله عنهم أجمعين.
أيضًا قصة الإمام البخاري -رحمه الله- فإنَّه حصل بينه وبين بعض المعاصرين له شيءٌ من النزاع، وشيءٌ من الكلام في قضايا لما تبحث عنها تجد أنَّ الحقَّ معه -رحمه الله- بل لما تُفصِّل القولَ تجد أنَّ الطرفين كلاهما قال حقًّا، ولم يقل باطلًا.
فإذن النزاع أحيانًا يكون بين المُصلِّين، أهل التوحيد، ولذلك جاء الحديث في المصلين، فهو لا يتعلَّق بالذين يعبدون الأوثانَ ويعبدون القبورَ من دون الله -عز وجل- فهذه قضية أرجو أن تكون واضحةً، هذا القول قويٌّ ذكره بعضُ أهل العلم.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنَّما أَخَافُ على أُمَّتِي الأئمَّة المُضِلِّين» وقال: «وإِذَا وَقَعَ السَّيفُ لم يُرفَعْ إلى يَومِ القِيَامَةِ»، «إِذَا وَقَعَ السَّيفُ» يعني الاقتتال بين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- «لم يُرفَعْ إلى يَومِ القِيَامَةِ»، وفعلًا حدث ذلك، فانظروا معركة الجمل، فهي أول معركة بين مَن يشهد أن لا إله إلا الله، وإنَّما كلهم لم يأتِ لقتالٍ، لا علي -رضي الله عنه- ولا طلحة، ولا الزبير، وإنما جاء طلحة والزُّبير وعائشة -رضي الله عنهم أجمعين- للإصلاح بين المسلمين، وللإصلاح بين الطرفين: الذين يرون سرعة الاقتصاص، والذين يرون تأخر الاقتصاص في ذلك، فجاءوا إلى هذا الأمر وأرادوا أن يصلحوا بينهما، لكن كان قدر الله مقدورًا، وحصلت المعركة التي لم يُقتل فيها إلا أقل من مئة شخصٍ، لكن كان وقعها كبيرًا، لماذا؟ لأنَّه أول اقتتالٍ بين المسلمين، وكان عثمان -رضي الله عنه- قبل استشهاده قد حذَّرهم وقال: "والله إن قتلتموني لا تقاتلون بعدي عدوًا أبدًا". وفعلًا وقع ما أخبر به عثمان -رضي الله عنه.
الشاهد في الحديث: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «ولا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحقَ حيٌّ من أُمَّتِي بالمُشْرِكِينَ» حي: جماعة، أو طائفة، أو بلد، حتى يلحقوا بالمشركين، هذا اللُّحوق هل هو حسي أو معنوي؟ هل هو حسي أي أنَّهم يلحقون بآرائهم وأفكارهم ومُساندتهم ونصرتهم للمشركين؟ أو هو معنوي؟
{معنوي}.
يعني مجرد آراء، أم لحوق حسي؟ لعله وقع هذا، ووقع هذا، ونجد أنَّ الذين دعوا إلى الشرك الأكبر المُخرج من المِلَّة عندهم أيضًا مُساندة للكفار بكل ما تعنيه الكلمة، فمثلاً ذكرت أنا أن بعض الطرق الصوفية كانوا يُناصرون الاستعمار، ويتبجَّحون بذلك، ويخطبون ويقولون: نحن نصرناهم. وكانوا أيضًا قبل أن يذهبوا إلى مكة للحج يتوجهون إلى قبر شيخهم ويعبدونه من دون الله -عز وجل- فهذا موجود لديهم، وهم فعلًا نصروا الكفار بأنفسهم، وأيضًا عبدوا الأوثان من دون الله -عز وجل- فوقع عندهم الأمران جميعًا.
«حتَّى يَلْحقَ حَيٌّ» يعني ليس طائفةً قليلةً، وإنَّما هم كُثُر، لكن هل هم كل الأمة؟
{ليسوا كل الأمة}.
ليسوا كلَّ الأمة، وإنَّما هم بعض هذه الأمة، ولذلك فيهم كثرة.
قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحقَ حَيٌّ من أُمَّتِي» وقال -عليه الصلاة والسلام: «وحتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ من أُمَّتِي» يعني جماعات «الأَوثَانَ» وسبق أن عرَّفنا الأوثان وهي كل ما يُعبد من دون الله -عز وجل.
أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه سيكون في أُمَّته كذَّابون يدَّعون النُّبوة، وهؤلاء وُجدوا في تاريخ الأمة، منهم مَن ادَّعى النُّبوة صراحةً، ومنهم مَن زعم أنَّه أفضل من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مثل: ابن عربي الذي قال أنَّه يأخذ من اللوح المحفوظ، وأنَّه خاتم الأولياء وهو أفضل من خاتم الأنبياء، وله أقواله المشهورة في ذلك في الخصوص والفتوحات وفي غيرها، ومع ذلك هذا القول كفرٌ ومُخرجٌ من الملة، وهو ادعاء النبوة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم.
ولذلك ادَّعت طوائفُ أنَّهم في أتباعهم أو في مَتْبُوعِيهِم سواءً أئمَّة أو أولياء أو غيرهم أنَّهم يصلون إلى العصمة، فمنهم مَن قال أنَّه معصومٌ، ومنهم مَن قال أنَّه محفوظٌ، لكنَّه لا يستطيع أن يُصرِّح بمثل هذه العبارات، قالوا: الولي محفوظٌ. ومرادهم أنَّه معصوم مثل الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«وأنَّه سيَكُونُ في أُمَّتِي كذَّابُونَ، كُلُّهم يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ» وقد وُجِدَ في تاريخ الأُمَّة مثل ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«وأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ» خاتم الأنبياء هو محمد -صلى الله عليه وسلم- «لا نَبِيَّ بَعْدِي» ولذلك لما جاء ابنُ عربي وادَّعى النبوة قال: "هذه قاصمة ظهور الأولياء خاتم الأنبياء".
«لا نَبِيَّ بَعْدِي» تأكيدٌ أنه لا نبي بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم.
قال -صلى الله عليه وسلم: «ولا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي على الحَقِّ مَنْصُورةً، لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم» طائفة منصورة، منصورة بماذا؟ بالحجة أم بالقوة والسنان أي السيف؟
{الحجة}.
أو كلاهما، قد يكون النصرُ بهذا، وقد يكون النصرُ بهذا، ولذلك انظر الناس يَقْبَلُون قولَ التَّوحيد من الموحدين السَّلفيين ممن كانوا على منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالناس يقبلونه، لماذا؟ لأنَّ هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«لا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي على الحَقِّ مَنْصُورَةً» ولذلك حجتها ظاهرة وقويَّةٌ وبيِّنةٌ وبارزةٌ في ذلك، ولذلك نجد النُّصرةَ لهم.
«لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم» لا يضر هذه الطائفة مَن خذلهم، وهذا دليلٌ على أنَّه سيُوجد مَن يخذلهم، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم، ولا مَن خَالَفَهُم» سيُوجد مَن يُخالفهم، وسيوجد مَن يخذلهم، ويُثَبِّطهم عن الدَّعوة إلى الله، ويُثَبِّطهم عن الحقِّ، ويُثَبِّطهم عن بيان الحقِّ، فمع ذلك هذا موجودٌ، لكنَّهم قائمون بأمر الله، لا هؤلاء يضرونهم، ولا يُؤثِّرون عليهم حتى يأتي أمر الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة وتقوم الساعة.
هذا الحديث رواه البرقاني، وأيضًا رواه أبو داود وابن ماجه، وهو بإسنادٍ صحيحٍ.
ونحن اليوم سنأخذ البابَ المُتعَلِّق بهذا الحديث، وهو باب ما جاء في الرياء، باب الرياء تكلَّمنا عنه في اللقاء الماضي، لكن كان الكلامُ فيه في باب الخوف من الشرك، فهناك تكلمنا عنه، وقلنا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد البشر الرؤوف الرحيم بأُمَّته كان يخاف على أمته الوقوع في الشرك، ولذلك خاف عليهم الرياء، وهو الشرك الأصغر.
جاءت هنا بعض الأسئلة التي ذكرها بعضُ زملائكم نذكرها بعد قليلٍ -إن شاء الله- بعدما نقرأ هذه النصوص.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في الرياء، وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 110] الآية}.
ودلالته في الآية بقية الآية ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو﴾ لذلك المؤلف إذا قال (الآية) فهو يريد ما بعدها: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فالمُرائي مُشركٌ، أشرك بعبادة ربه.
{عن أبي هريرة مرفوعًا}.
مرفوعًا يعني عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
{قال الله تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ». رواه مسلم}.
من الأسئلة التي طرحها بعضُ الإخوة هذا السؤال: نعلم خطر الرياء، نعلم أن الرياء خطر، وأن الرياء في هذه الخطورة، لكن أحيانًا يحس الإنسانُ أنَّه غيرُ مخلصٍ، يترقب نظرَ الناس، فما العلاج في ذلك؟
أيضًا من الأسئلة أحيانًا يقول: أتَّهم نفسي بالنِّفاق والرِّياء، وأخاف منهما خوفًا شديدًا.
أيضًا منهم مَن سأل فقال: الخوف من الرياء قد يدفع بعضَ الناس إلى التَّكاسل، فيأتيه الشيطان فيقول له: أنت ما خرجت تُدرِّسُ للناس هنا إلا حبًّا في الظُّهور، وتريد البُرُوزَ، وتريد كذا.
فيأتي الشيطانُ من هذه الأبواب كلها، ولذلك فالإنسان بحاجة دائمًا إلى أن يُراجع نفسه كل يوم، وكل لحظة، فكل يوم تعمل عملًا يجب أن تُراجع نفسك وتصلح هذه النية وتُجاهد نفسك أن تكون نيتك صالحةً وخالصةً لله رب العالمين، عليك أن تُجاهد نفسَك كلَّ يومٍ وتُجدِّد هذه القضيَّة.
أمَّا أن يدعوه للتكاسل، فهذا من تلاعب الشيطان بالإنسان، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ» يعني الإنسانُ يعمل عملًا صالحًا فيسعد بذلك، كأن يكون سعى في بناء مسجدٍ، وساعد المسلمين فيه، أو علم إخوانه المسلمين، فعلمهم توحيد الله، أو علمهم الدين، أو علمهم ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يسعد بذلك؟ ألا يسعد أنَّه يتعاون مع إخوانه المسلمين؟ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئتُه فَذَلِكَ المُؤْمِنُ» الذي يُسَرُّ أنَّه يتعلم مع إخوانه، أو أنَّه علَّم إخوانه، أو أنَّه ألقى فيهم كلمةً ووعظهم، وذكر لهم أحاديثَ الرسول، وعلمهم القرآن، وعلمهم السُّنة، ووعظهم في ذلك، هذا سرته حسنتُه، فهذا يشهد له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد.
وأيضًا سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عمَّا يأتي الإنسانَ أحيانًا من ثناء الناس عليه في عملٍ ما، فقال: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ» لكن على المسلم ألا يغتر بذلك.
أمَّا أن يتَّهم الإنسانُ نفسَه دائمًا ويخاف، فكما جاء ومَرَّ معنا أثرُ ابن أبي مُلَيْكَة حيث قال: "أدركتُ ثلاثينَ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسه". فيجب على الإنسان أن يخشى النفاق على نفسه، لكن لا يصل إلى حالة مرضية، فالإنسان يجب عليه أن يحرص من ذلك، وينتبه إلى هذه القضية، ويقف مع نفسه، ولا يصل إلى هذا، أما إذا كان عنده جانب وسوسة، فهذا له كلامٌ آخر، فعليه أن يحرص من هذه القضية.
فأمَّا أن المؤمن يُسَرُّ بحسنته فهذا -بحمد الله- نعمة وفضل من الله -عز وجل.
أحد الإخوة يسأل عن قضية التعزيز:
فمثلًا لو حفظ فلانٌ من الناس اليوم متنَ الحديث، وفلان اجتهد في المراجعة والدرس، ماذا نقول له؟ هذا نُثني عليه ونشكره.
وقضية التَّعزيز يجب أيضًا أن نُراعي فيها هذا الجانب، فالإنسان قد يوجد عنده شيء من الغرور، فيجب أن تُعالج القضية، والمُربِّي يكون حاذقًا في ذلك، وأيضًا يجب أن يكون بحقٍّ وبعدلٍ.
وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدد من الصحابة وأخبر بفضائلهم، فقال مثلًا في معاذ –رضي الله عنه: «أَعْلَمُكُم بِالحَلالِ وَالحَرَامِ مُعَاذٌ»، وجاء أيضًا في خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أنه: «سَيفُ اللهِ المَسْلُولُ»، وفي عمر بن الخطاب: «لا يَرَاهُ الشَّيطَانُ في فَجٍّ إلا سَلَكَ فَجًّا آخَر»، وفي عبد الله بن عمر: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصلِّي من اللَّيلِ».
فإذن هذا من التَّحفيز، ولا يضر -إن شاء الله- لكن على الإنسان أن يُراعي هذا الجانب مراعاةً واضحةً، وتكون الأمورُ واضحةً عند الإنسان في هذه القضية.
والإنسان يحتاج في هذه القضية أن يُراجع نفسه بشكلٍ يوميٍّ، وبشكل دقيقٍ في جميع أعماله، أمَّا أن يصل إلى مرحلة الوسوسة فهذا مرضٌ، ومن أهداف الشيطان التَّحزين، أي أن يُحزِّن الإنسانَ ويتلاعب به كما جاء في الحديث: أنَّ رجلًا جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إني رأيتُ رؤيا أنَّ رأسي قُطِعَ وأني أسعى وراءه. فقال: «لا تُخْبِرْ بتَلاعُبِ الشَّيطَانِ بِكَ» إذا كان الشيطان يتلاعب بك فلا تخبر به أحدًا.
(باب ما جاء في الرياء) أي باب ما جاء في حكم الرياء، والأحاديث الدالة على بيان حكم الرياء، وما يتعلق بالرياء.
(وقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ [الكهف: 110]) يبين الله تعالى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- بشرٌ مثلنا، لكنَّه اختصَّ بالوحي، فهو معصومٌ -عليه الصلاة والسلام.
قال: (﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾) أي أنَّه يُوحى إليه -عليه الصلاة والسلام- أن يأمرنا أن نعبد إلهًا واحدًا لا نشرك به غيره، لا في الرياء ولا في غير الرياء، لا في عبادة قبر أو في عبادة كذا، ولا في غير ذلك.
(﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾) مَن كان يرجو لقاء الله -عز وجل- وذلك اليوم العظيم والمشهد العظيم يوم القيامة: (﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾).
ما شروط العمل الصالح؟
{الإخلاص والمتابعة}.
الإخلاص والمتابعة، إذن العمل الصالح ما يحتاج لقضية: ﴿ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ لكن جاءت لتأكيد القضية، انظروا كل ما جاء الأمر بالعبادة جاء النهي عما يضادها، وهو الشرك، فجاء الأمر: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
فهذه الآية دلَّت على العمل الصالح، وألا يشرك الإنسانُ، لا في الشرك الأصغر، ولا في الشرك الأكبر.
وقد جاء في حديثٍ أخرى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام البخاري: «مَن رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ، ومَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ» أي أنَّ يعمل الإنسان عمله لأجل الناس، كما هو حال المنافقين الذين لا يذكرون الله إلا قليلاً، ويصلون مع المسلمين؛ ليراهم المسلمون.
فـ«مَن سَمَّعَ» أي: مَن عمل أو قال هذا القول من أجل أن يسمعه الناس، «سَمَّع اللهُ بِهِ»، و«مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ» أي مَن عمل لغير الله -عز وجل.
وكنا قد ذكرنا لكم في المرة الماضية أنَّ الرياء يتلخَّص في أنَّه يكون في عمل الإنسان، إذا كان أصلًا عمله قام على الرياء، يعني صلى الصلاةَ لأجل أن يراه الناس، فهذا عملُه باطلًا، والثاني: صلى صلاته لله -عز وجل- لكن في الركعة الثانية من هذه الصلاة دخل الناسُ المسجدَ، فأراد أن يُحسِّن صلاتَه -وهذا ما ذكرناه في المرة الماضية، وسنذكر صورًا جديدةً أخرى- فحسَّن صلاته في هذا الأمر لحضور الناس، فإن استرسل معه الرياء وتواصل، أي كانت ركعته الثانية كلها رياءً حتى يُسلِّم؛ فهذا تكون صلاتُه باطلةً، أمَّا إذا صلى لله، ثم لما أتى الشَّيطانُ إليه ووسوس، فدافع الشَّيطانَ؛ فإن هذا لا يضره -إن شاء الله تعالى- ويكون سَلِمَ من الشَّيطان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَن أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَها، مَا لَمْ تَعْمَلْ أو تَتَكَلَّمْ».
إذن عندنا ثلاث حالات: الحالة الأولى: رياءٌ كله باطلٌ، والثانية: دخلها الرياءُ فأفسدها، والثالثة: أنَّه دافعه، فهذا لا يضره -إن شاء الله تعالى.
الحالة الرابعة: أن يكون العملُ مُنفصلًا، مثل إنسان معه مئة ريال، فتبرع بخمسين ريال وهو مُخلصٌ لله، وحينما جاء ليتبرع بالخمسين ريال الآخرى قال: أريد حظ نفسي. فهو يُرائي الناس بها، فهذا يكون الجزء الأول من عمله صالحًا، والجزء الثاني غير صالح؛ لأنَّ العمل مُنفصلٌ بعضه عن بعضٍ.
أمَّا إذا أراد إنسانٌ أن يتصدَّق وأظهر صدقته أمام الناس ليحثهم على الصدقة، فتقدم وتصدق، وأعلن صدقته أمام الناس؛ ليكون قدوةً في الخير، فما حكمه؟
{هذا مستحب}.
هذا جيد، أن يتقدم الإنسان ليكون قدوةً صالحةً فهذا جيدٌ، ولذلك أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عثمان لما تصدق، أو كما ورد: رجلٌ جاء وتصدق عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقةٍ كبيرةٍ، حتى أن يده عجزت عن حمل ذلك الكيس من الذهب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُها، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بِهَا». فـ«مَن سَنَّ سُنَّةً حسنةً» أي عمل عملاً وأظهره للناس ليكون سنةً حسنةً، فهذه سُنةٌ حسنةٌ يُرجى له ثوابها، ولا يضره إعلان ذلك في هذا الأمر.
قوله -تبارك وتعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ اللِّقاء هو لقاء عام للناس: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6] ملاقٍ ربه يوم القيامة، ملاقٍ حسابه، ومجازى بما عمل، ولقاء المؤمنين الرحمة والرضا، نسأل الله تعالى من فضله.
الحديث الثاني حديث قدسي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال الله تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً» هنا قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً» ما معنى عَمِلَ؟ هي نكرة في سياق الشرط، أي كل عمل وأي عمل يكون من الإنسان «أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكْتُه وشِرْكَهُ» رواه الإمام مسلم.
ولذلك لما قلنا أنَّ الإنسانَ إذا صلى الصلاة لله، لكنَّه راءى الناسَ مع الله؛ فقد بطلت هذه الصلاةُ، ولما تصدق وهو يُرائي الناسَ أيضًا بطلت هذه الصدقة، لماذا؟ لأنَّه أشرك معه غيره، وهذا من غِنى الرب -سبحانه وتعالى- فهو الغني -سبحانه وتعالى- بغناه، ولذلك قال: «أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّرْكِ» فهو -سبحانه وتعالى- غنيٌّ، وبعض الشركاء لا يستطيع أن يستغني عن شريكه، لكن الرب -تبارك وتعالى- أغنى الشركاء عن الشرك «تَرَكْتُه وشِرْكَهُ».
وفي هذا أيضًا بيان عِظَم حقِّ الرب -سبحانه وتعالى- فلا يجوز لأحدٍ أن يُشرك مع الله تعالى أحدًا؛ لأنَّ التَّوحيد وإخلاص العبودية حقُّ الرب -سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن يُشرك معه أحدٌ أبدًا.
الحديث الثالث: حديث أبي سعيد الخدري، وقد مرَّ معنا، لكن مر معنا في باب الخوف من الشرك مختصر، فعن أبي سعيدٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ألا أُخْبِرُكُم بِمَا هو أَخْوَفُ عَلَيكُم عِندِي من المَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قالوا: بلى. قال: «الشِّرْكُ الخَفِيُّ، يقُومُ الرَّجُلُ فيُصَلِّي، فيُزَيِّنُ صَلاتَهُ لِمَا يَرَى من نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَيهِ». رواه الإمامُ أحمد، وإسناده حسنٌ.
إذن هذا الحديث هو حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَخْوَفُ عَلَيكُم عِنْدِي مِن المَسِيحِ الدَّجَّالِ» فتنة المسيح الدجال فتنة عظيمة، حذَّر منها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فما من نبيٍّ إلا حذَّر أُمَّتَه منها، ولذلك فإن فتنة المسيح الدجال عظيمة.
وقيل عنه (مسيح) لأن عينه ممسوحة، و(دَجَّال) لكثرة كذبه، ولذلك يتعوَّذ الإنسانُ منه في كلِّ صلاةٍ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإنسانَ يتعوَّذ فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ القَبْرِ، وفِتْنَةِ المَحْيَى والمَمَاتِ، وفِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ» فيتعوَّذ من فتنة المسيح الدجال.
قال: «الشِّركُ الخَفِيُّ» وهو من الشرك الأصغر، وقد يكون عملُ الإنسان كله مراءَةً ليس لله -عز وجل- فينتقل إلى النِّفاق، أعاذنا الله وإيَّاكم منه.
هناك جوانب أخرى خفيَّة في الشرك الخفي ذكرها بعضُ أهل العلم، مثلًا: الناس يحبون العالم المتابع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبدءونه بالسلام، ويبشون له، ويوسِّعون له الطريق، ويُكرمونه إذا زارهم، أو إذا جاءهم، فيحب بعض مَن كان عنده علمٌ هذه الأمور ويتعوَّد عليها، ويرى أنَّها حقٌّ له دائمًا، أن يتساهل معه الناس في البيع والشراء، وفي غير ذلك، ويقول: لأنني أنا عالم أو طالب علم، أو أني داعٍ إلى الخير. وكأنه يريد أجرته من الناس، وهذا مسلكٌ دقيقٌ وعظيمٌ وجليلٌ في هذا، فليحذر الإنسانُ من جميع المسالك في ذلك.
كيف نُعالج الرياء؟
نعالج الرياء بتعظيم الرب -سبحانه وتعالى- بصفاته وأسمائه، فأنت تعلم عظمة الرب وإحاطته بك -سبحانه وتعالى- فربك عظيم محيط بك -سبحانه وتعالى- تيقَّن العبد عبوديته لله رب العالمين، وأنه خاضعٌ لله، مملوك لله -سبحانه وتعالى.
أيضًا من مُعالجته: مشاهدة مِنَنِ الله -تبارك وتعالى- عليه، فمن الذي أعطاك البصر؟ من الذي أعطاك السمع؟ من الذي أعطاك العقل؟ جعل لك البصر والسمع والفؤاد، وجعلك تعقل، كم من الناس لهم سمع وبصر وهم لا يعقلون.
الإكثار من العبادات غير المشاهدة، أن الإنسان يكثر من العبادات غير المشاهدة، أي يُصلِّي في جوف الليل والناس نيام، فما أحد يُشاهده، فيحرص الإنسان عليها، فإن هذه فيها تربية للنفس في ذلك، ولا يضر العبادات الظاهرة فيها.
أيضًا أُأَكِّد وأُكرِّر القضية التي ذكرها بعضُ الإخوة وهي أنَّ الشيطان إمَّا يمنعهم من العمل الصالح أو أنَّه يمنعهم من الدعوة إلى الخير، أو المشاركة في الخير بسبب أنه يقول لأحدهم: أنت تُرائي في ذلك. فليحذر الإنسان من هذا، ويكون مُتوازِنًا، ويتذكر الموت.
القضية السادسة هي من أهمها: معرفة الرياء ومداخله، فيعرف الإنسان الرياء ومداخل الرياء، ومداخل الشيطان عليه حتى يكون الإنسانُ على بيِّنةٍ في ذلك.
بهذا نكون قد انتهينا من باب ما جاء في الرياء، وما يتعلَّق بهذا الباب، ويكون عندنا -إن شاء الله- هذا الباب: باب قول الله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، ونحن نريد أن ندخل في هذا الباب، لكن قبل ذلك نرى إن كانت هناك أسئلة للإخوة، أو أنه لا يوجد.
{يقول السائلُ: ذكرتم أنَّ الشِّركَ الأكبرَ مُحبِطٌ للعمل، فإذا تاب الإنسانُ من الشرك الأكبر هل يُثاب على أعماله الصالحة السابقة؟}.
جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيرٍ» فإذا كان الإنسانُ قد تاب فإن الله -عز وجل- يتوب عليه، ويُبدِّل سيئاته حسنات، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.
{يقول السائلُ: في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأمم من يتبع اليهود والنصارى، قد يقول البعضُ أن الناس في هذه الأيام تنوروا وتبصروا فلا يمكن أن يتبعوا الأممَ السَّابقة في ذلك، فبماذا نرد عليهم؟}.
في الواقع نعرف سيرة اليهود والنصارى سواءً، وهي موجودة في كتاب الله، فما نحتاج أن نتلمس يمينًا أو يسارًا، فهي موجودة في كتاب الله، ثم نُطبِّقها على الواقع المُعاش، ففي الواقع المُعاش عندنا سنجدها كثيرة للأسف الشديد، وذكرنا أمس عدة أمثلة لهذه القضية، فقضية أنَّهم عرفوا أو تَنَوَّروا، إنَّما يكون التنوير بكتاب الله -تعالى- وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأي نورٍ في هذه الأرض لم يأت عن الله أو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس فيه كذلك.
{يقول السائلُ: هناك مَن يزعم أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- نورٌ، وليس ببشرٍ، ويستدل بهذه الآية: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110] فيقول أن "ما" هنا نافية، فكيف نرد عليهم؟}.
الحديث الذي ذكره هؤلاء في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نور، هذا حديث من ثلاث صفحات، حديث موضوع ذكره ابنُ عربي في ذلك، والغريب في هؤلاء أنَّهم يُنكرون صفة النور لله -عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35] فينكرون صفة النور لله، ويقولون النبي -صلى الله عليه وسلم- نور، فهذه الأحاديث موضوعة، وليس فيها شيءٌ ثابتٌ عن الرسول، بل مكذوبة، وقد جاء فيها التَّشديد في ذلك.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] قال ابن عباس في الآية: "الأندادُ هو الشرك، أخفى من دَبِيبِ النَّمل على صَفَاةٍ سَوداء، في ظُلمة اللَّيل". وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كُلَيبة هذا لأتانا اللُّصوص، ولولا البَطُّ في الدار لأتى اللُّصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئتَ. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانًا، هذا كله به شركٌ)}.
هذا قول ابن عباس -وإسناده جيِّد إلى ابن عباس- تفسير لهذه الآية، والآية ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] وهي في سورة القرآن، قوله -تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: 21، 22] فأمرهم بالعبادة، واستدلَّ عليهم بتوحيد الربوبية، وأمرهم بالعبادة، فجاء هذا البيان لهذه الآية ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] أي لا تجعل لله شبيهًا.
وهنا الحديث الذي ذكره ابن عباس -رحمه الله تعالى- هو في شرك الألفاظ، فلا تجعل لله ندًا في كلامك وعباراتك، لا تجعل لله ندًا، فما بالك في عبادتك، انظروا كيف كان الاستدلال في هذه القضية، فإذا كان الإنسانُ يَحْرُمَ عليه أن يجعل لله شبيهًا ومثيلًا في كلامه، وفي عباراته، فهل يجوز له أن يجعل لله ندًّا وشبيهًا ومثيلًا في صلاته؟ وفي صيامه؟ وفي صدقته؟ وفي نذره؟ هل يكون ذلك؟ لا يمكن أبدًا أن يكون ذلك.
وهذا الباب هو في الشرك الأصغر، والآية في الشرك الأكبر، لكن ابن عباس -رحمه الله- استدل بها على الشرك الأصغر، وهذا منهج السلف -رحمهم الله- وسيأتي لنا -إن شاء الله- في أبواب أخرى استدلال أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر.
ولذلك من تحقيق التَّوحيد أنَّ الإنسان يحترز من الألفاظ، فالشرك في الألفاظ وإن لم يقصد المعنى لا يجوز، فإنَّه لا يجوز له هذه الألفاظ، وعليه أن يتجنبها، وهذا معنى دقيق، وأمر من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ليكون الإنسان حذرًا في هذا الجانب، بعيدًا عن كلِّ ما يكون في ذلك، فكما أن الله -تعالى- استدل عليهم بالربوبية: ﴿خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21] لِمَ تجعلوا لله ندًّا في ربوبيته، فلا تجعلوا له ندًّا في ألوهيته وعبادته -سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس في تفسير الآية: "الأنداد هو الشرك الخفي". كيف يكون خفيًّا؟ وصفه ابنُ عباس بأنَّه خفيٌّ، أخفى من دَبِيبِ النَّملة، دبيب النملة هو مشي النملة، والنمل حينما يسير على صفاةٍ -الصَّفاة هي الحجر الأسود الأملس- هل يكون له صوت؟
{لا يكون لها صوت}.
نملة على حجر أسود في ليلة ظلماء على صفا أملس، هل يكون لها صوت؟ لا يكون لها صوتٌ، فكذلك الشرك الخفي فهو أخفى من ذلك، ولذلك يقع فيه كثير من المسلمين، وانظر قوله: (وحياتي، وحياتك) وغيرها من العبارات، فهي شرك خفي، وقع عند بعض المسلمين، وهو من الشرك الأصغر في ذلك.
قال: "أن تقول: والله وحياتك". فتُقسم بالله وحياتك، انظر أنت تعظم مَن؟ تعظم الله، وهذا أيضًا يقول: وحياتك، الواو هنا حرف قسم، وكأنه يقسم بالله، ويقسم أيضًا بحياته تسوية بين الله وحياته، والصواب أن يقول: والله. ويجوز للإنسان -كما سيأتي- أن يقول: لولا الله ثم هذا الكلب لأتانا اللصوص.
يقول: (والله وحياتك يا فلان) هذا القسم فيه تسوية بين الله وحياة فلان، فلذلك لا يجوز فيها، وأيضًا قول الإنسان: "وحياتي" يُقسم بها، وسيأتينا الحديث في القسم بها.
وأن تقول: (لولا كُلَيبَةُ -الكُلَيبَة تصغير للكلبة- هذا لأتانا اللصوص)، لماذا؟ لأن الكلب إذا جاء الناس الأغراب ينبح ويُصوِّت، فينتبه الناسُ، فلذلك الصواب أن تقول: لولا الله ثم كليبة هذا، لماذا؟ لأن "ثم" للتَّراخي، أمَّا الواو فهي للترتيب والتَّسوية بينهما، فتقول: لولا الله ثم كُلَيبَة هذا لأتانا اللصوص.
(ولولا البط في الدار) والبط إذا رأى شخصًا يكون له صوتٌ، فينتبه مَن في الدار، ولذلك يُقال: لولا الله -سبحانه وتعالى- ثم البط لأتى اللصوص.
"وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت" وإنَّما الصواب كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تقول: «مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئتَ» لا تقل: ما شاء الله وشئتَ.
وأيضًا قول الرجل: (لولا الله وفلان) تقول: لولا الله ثم فلان ساعدنا على هذا العمل ما كنا استطعنا، لا تُسَوِّي بين الله وفلان، فهذا من الشرك الأصغر.
قال: (لا تجعل فيها فلانًا هذا كله من الشرك) رواه ابن أبي حاتم، وإسناده جيد عن ابن عباس.
فإذن هذا خفيٌّ، كما وصفه ابنُ عباس ترجمان القرآن -رحمه الله تعالى- ولذلك جاء في الأثر: "أن الإنسان يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم"؛ لأن الإنسان لا يقع في ذلك.
أمَّا إذا اعتقد الإنسانُ أن هذا المحلوف به عظيم، عظمته مثل عظمة الله -عز وجل- فماذا يكون هذا؟ أصغر أم أكبر؟
{يصير شركًا أكبر}.
إذا كان يرى أن هذا الذي أقسم به عظمته مثل عظمة الله -عز وجل- وأنه في نفسه مثل عظمة الرب -تبارك وتعالى- هذا يكون شركًا أكبر، أمَّا إذا كان من اللسان ولا يقصد هذه المعاني فهذا شرك أصغر، فلذلك ينبغي للإنسان أن يتجنب هذه العبارات، والقسم بحياتي، والنبي، وغيرها، فلا يجوز للإنسان أن يُقسم إلا بالله -عز وجل.
الحديث الذي بعده في هذا الباب هو حديث عمر بن الخطاب، والصواب أنه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَد كَفَرَ أو أَشْرَكَ». والحديث رواه الترمذيُّ وحسَّنه، وصحَّحه الحاكمُ، وصحَّحه أيضًا الألبانيُّ.
«مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ الله» الحلف دائمًا يكون بمُعَظَّمٍ، هذا يكون شركًا أصغر أم أكبر؟ إذا أراد مجردَ اليمين، مثل قوله: وحياتي، والنعمة، والنبي وغيرها؛ فهذا يكون شركًا أصغر، أمَّا إذا أراد أن يُعظِّمه بمثل الله -سبحانه وتعالى- هذا يكون شركًا أكبر مخرج، فلذلك هذا الحديث في الصحيح ثابت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم.
«مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ الله» المراد بالحلف هو التأكيد، وماذا يُؤكَّد به؟ يؤكد بعظيمٍ أو يؤكد بغير عظيم؟ لابُدَّ أن يُؤكَّد بعظيمٍ، فإذا أكَّدت بالرب -سبحانه وتعالى- فهنا يكون الإنسانُ في ذلك. «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أو أَشْرَكَ»، فالإنسان يحذر أن يحلف بغير الله -عز وجل- ولا يُكثر من الأيمان؛ فإن الله نهى عن ذلك فقال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89] فالإنسان يحفظ أيمانه، ولا يكثر من الأيمان سواءً في ذلك.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه: "لئن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا". هذا الخبر عن ابن مسعود يدل على ماذا؟ هذا رواه عبد الرزاق، ورواه الطبراني، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"، وقال الهيثمي: رواته رواة الصحيح في ذلك.
هذا الحديث -حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لئن أحلف بالله كاذبًا" أليس الكذبُ كبيرةً من كبائر الذنوب؟
{بلى}.
والحلف بغير الله؟
{الكذب كبيرة من كبائر الذنوب، والحلف بغير الله شرك}.
إذن فابن مسعود عنده مُوازنة بين قضيتين: الأولى الكذب، والثانية الشرك.
إذن: أيُّهما أخطر على الإنسان؟ الشرك، ولذلك قال: "لئن أحلف بالله كاذبًا"، مع أن الحالف بغير الله كاذب أيضًا؛ لأنَّه عَظَّمَ غير الله -سبحانه وتعالى- تعظيم الرب -سبحانه وتعالى- ولذلك جاء عن ابن مسعود هذا الأثر -رضي الله عنه- فابن مسعود قال: "لئن أحلف الله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغير الله تعالى صادقًا".
وكم من الناس اليوم -نعوذ بالله- مَن تغلغل الشركُ في أذهانهم، نجد أن بعض المسلمين لا يَصْدُق إلا إذا حلف بغير الله، أمَّا إذا حلف بالله يكذب، ويرى تجاوز ذلك، وهذا واقعٌ للأسف الشديد عند بعض المسلمين، وهذا من تأصُّل الضلالة في نفوس بعض هؤلاء، والواجب أن ندعو هذا الإنسانَ إلى أن يحلف بالله، ولا نُعينه على الشرك ونقول له: احلف بغير الله -سبحانه وتعالى.
نجد أن الربَّ -سبحانه وتعالى- أقسم بالشمس قال: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: 1]، وأقسم بالليل فقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل : 1] وغيرها من الآيات، ماذا يكون هذا القسم؟ أليس قسمًا من الرب -سبحانه وتعالى؟
{الخلق لا يحقُّ لهم إلا القسم بالله تعالى، أمَّا الله فيحلف بما شاء من مخلوقاته}.
قسم الرب -سبحانه وتعالى- بهذه الآيات العظيمة دليلٌ على عظمته، وكمال قدرته -سبحانه وتعالى- فهذا الخلق العظيم، وهذه الشمس العظيمة التي بها حياة هذا الكون، وهذه المخلوقات العظيمة فيها تعظيم الرب -سبحانه وتعالى.
فلله -عز وجل- أن يُقسِمَ بما شاء من خلقه، أمَّا المعبود المربوب فلا يُقسم إلا بالله رب العالمين، وفي قسم الرب -سبحانه وتعالى- بهذا بيان لعظمتها، وقدرته -سبحانه وتعالى.
يأتينا هنا قضية أخرى: حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقسم بغير الله، حديث: «أَفْلَحَ وأَبِيهِ» رواه الإمام مسلم.
{قد تكون من عادات العرب}.
هذا الحديث اختلفت فيه الآراءُ، وكما تعلمون هذا الحديث رواه الإمام البخاري، ورواه غيره أيضًا، هذا الحديث له روايتان: رواية: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»، وهذه تتفق مع الحديث الذي مرَّ معنا، وقد جاءت لهذه اللفظة تسع روايات، منها ما رواه الإمام البخاري وغيره وهي سبع روايات عن طريق الإمام مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- فهذه رواها البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم، وروايتان من طريق إسماعيل بن جعفر، إذن الحديث عندنا برواية صحيحةٍ: «أَفْلَحَ إن صَدَقَ».
أمَّا رواية: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ» فقد جاءت في أربع روايات، اثنتان منها عند مسلم، وأبو داود رواية، والدارمي رواية، وكلها عن إسماعيل بن جعفر.
إذن عندنا رواية الإمام مالك ليس فيها «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ» ورواية إسماعيل بن جعفر فيها: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ»، فقد وافق إسماعيل بن جعفر الإمام مالك في رواية وخالفه في رواية أخرى، فنكون مع مَن؟ مع الإمام أم مع غيره؟
لا شكَّ أننا نكون مع الإمام مالك، ولذلك فإن منهج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أنَّه قدَّم رواية الإمام مالك على رواية إسماعيل بن جعفر، وكأنه يقول: هذه رواية الإمام مالك أسلم من العيوب، وهي الصحيحة، وأن الرواية الأخرى شاذة.
ولذلك ذهب الإمام ابن عبد البر من المالكية -رحمه الله- إلى أن هذه الرواية شاذة، وهذا ما رجَّحه الشيخُ ابنُ باز -رحمه الله تعالى- والشيخ الألباني، وغيرهم من جماعة المسلمين، ولا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه حلف بغير الله، بل ثبت عنه النهي عن الحلف بالآباء.
وهذه الرواية تكلم فيها كثيرٌ من الناس، وهناك بحث جميل جدًّا في مجلة الدراسات العقدية التي تصدرها جمعية العقيدة، تناول هذا الحديث «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ»، فتناول الحديث بدراسة حديثية عقدية جميلة جدًّا توسعت في هذا الباب.
فإذن لا يصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف بغير الله -تبارك وتعالى.
سيأتي لنا حديث حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ». وهذا ما مرَّ معنا في الحديث السابق، رواه أبو داود بسند صحيحٍ، فهذا الحديث إسناده صحيح.
أيضًا جاء عن إبراهيم النَّخعي -وإبراهيم النخعي من تلاميذ عبد الله بن مسعود وهو يُؤيِّد ما مرَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- "أنَّه يكره" فيُروى عن تلاميذ ابن مسعود: "أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك، ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".
هذا قول أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتابعين من بعدهم، أنَّهم كانوا حريصين جدًّا على مجانبة الشرك في الألفاظ، وفي الأقوال، وفي الأفعال، وفي كل هذه القضايا، ولذلك لم تظهر عندهم إلا هذه العبارات فنبَّهوا عليها، أمَّا أفعال الشرك والبناء على القبور، وعبادتها من دون الله -عز وجل- فلم يظهر في الأمة إلا في القرون المتأخرة بعد القرن السابع الهجري وما بعده، أمَّا بعد ذلك فهي قليلة نادرة وُجدت عند الشيعة، وبناها بعض الملوك الظلمة في القرن الثالث مثل: ملوك الدولة البُوَيهِيَّة والدولة العُبَيدِيَّة.
فالبناء على القبور وعبادتها من دون الله تأخَّر كثيرًا في هذه الأمة، ولذلك فإن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يتكلموا في هذه القضية؛ لأنَّها لم تقع في أزمنتهم، لكن تكلموا على ما هو دونها، فالذي يقول: "لا تقول: لولا الله وفلان"، هل سيُجيز أن يعبد الإنسانُ القبر من دون الله؟ أو يدعوه من دون الله؟ معاذ الله -عز وجل- وهذه أحاديث واضحة دالة على هذه القضية العظيمة.
فيقول الإنسان: ما شاء الله ثم شئت، وهذا دليلٌ على أنَّ العبد له مشيئة، لكن ضمن مشيئة الرب -سبحانه وتعالى- وهذا ردٌّ على الجبرية الذين يرون أن الإنسان مُجبَرٌ على أفعاله، بل الإنسان له قدرة أن يقول ويفعل وينتهي عن هذا العمل أو يأتي إلى هذا العمل.
فإذا قال الإنسانُ هذه العبارات السابقة فهذا من شرك الألفاظ.
ونتوقف عند هذا القدر في هذا الباب وسيكون لقاؤنا الأسبوع القادم -بمشيئة الله- يوم الجمعة ويوم السبت من الثامنة إلى التاسعة، ولنا لقاء يوم الثلاثاء من الرابعة إلى الخامسة في الأصول الافتراضية، فنرحب بالجميع في ذلك، ونطرح -إن شاء الله- جميعَ الأسئلة ونُعالجها.
وعندنا في الأبواب -إن شاء الله- باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، وباب ما جاء في الرُّقى والتَّمائم، وباب مَن تبرَّك بشجرةٍ أو حجرٍ أو نحوهما، وباب ما جاء في الذَّبح لغير الله، وباب لا يُذبح بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله، فهذه ستكون معنا في اللقاء القادم بمشيئة الله -تبارك وتعالى- ونتوقف عند هذا الحد.
ونسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق والسَّداد، وإلى لقاء مُتجدِّدٍ، وشكر الله لكم على متابعتكم وحضوركم، وشكر الله للإخوة على مُتابعتهم، ولقاءنا -إن شاء الله- كما ذكرتُ لكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تعليق