الفرق بين الشرعـي والشركـي في التوسل والتبرك:
أولاً: التوسـل:
1- جاء في ”الدرر السنية“([1]): «ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم فقد كفر، لأن هذا كفر عابدي الأصنام.
ثم يقول: والشفاعة التي أثبتها اللهُ ورسوله هي الشفاعة الصادرة عمن أذن له لمن وحَّدَه، والشفاعة التي نفاها اللهُ الشركية التي يظنها المشركون فيُعَامَلُون بنقيض قصدهم ويفوز بها الموحدون، فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وقد سأله من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه»، فجعل أعظم الأسباب التي ينال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما اعتقده المشركون ـ أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله ـ فقلب النبيّ صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن اللهُ للشافع أن يشفع فيه.
ومن جهل المشرك اعتقاده إن اتخذ من دون الله شفيعًا أن يشفع له وينفعه كما يكون عند خواص الملوك والولاة ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رَضِيَ قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الثاني: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)([2])، وبقى فصل ثالث: وهو أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول، وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون. ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها؛
فالأول: أنه لا شفاعة إلا بإذنه.
والثاني: أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله.
والثالث: أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله.
وقد قطع سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعًا يعلم من تأمله وعرفه، أن من اتخذ من دون الله وليًا أو شفيعًا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا، فقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ( 23 ) ) . ([3]).
فالمشرك إنَّما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا لمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا كان معينًا وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربع نفيًا مرتبًا منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشرك والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية برهانًا ونورًا وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.
والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.
ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمّه ووقع فيه وأقره ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا والبدعة سنة والسنة بدعة ويبدع الرجل بتجريد التوحيد ومتابعة الرسول ومفارقة أهل الهوي والبدع». أهـ.
2- وجاء في مجموعة الرسائل والمسائل : «”فصل“، وأما قول القائل: الثالث: أنه قد ورد في حديث الضرير قوله: يا محمد، وفي ”الجامع الكبير“، وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال: «يا عباد الله أحبسوا»، فهذا دعاء ونداء لغير الله.
يقول: بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب لم يأمر اللهُ به ولا رسوله، ولا فعله أحدٌ من الصحابة، ولا التابعين، ولا فعله أحدٌ من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ـ بعد موته ـ ولا قال أحدٌ: أن الصحابة استغاثوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته. ولو كان هذا جائزًا، أو مشروعًا لفعلوه، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد كان عندهم من قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صحابي ولا دعاه ولا استغاث ولا استنصر به.
ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه وحينئذ فلا يخلو إما: أن يكون دعاء الموتى والغائبين أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل أو لا يكون. فإن كان أفضل فكيف خفي علمًا وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟، فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علمًا وعملاً بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علمًا وعملاً. وهذان الحديثان اللذين أوردهما السائل إما: أن يكون الصحابة الذين رووهما وسمعوهما من النبيّ صلى الله عليه وسلم جاهلين بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون، وإما أن يكون الصحابة علموهما علمًا وزهدوا فيهما عملاً مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وكلاهما محال، بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره وأحرص الناس على كل خير وهم الذين نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين فضلاً عن استحبابه والأمر به؟!
والمضطرب يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعًا لا سيما الدعاء فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملاً صالحًا لفعلوه.
فهذه سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريق جميع الصحابة والتابعين. هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسَّحوا بها فضلاً عن أن يسألوها حوائجهم، فمن كان عنده في هذا أثر أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه.
نعم، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون بكثير من المختلقات والحكايات المكذوبات، حتى لقد صنَّف في ذلك عدة مصنَّفات ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التمويهات والحكايات المخترعات والأحاديث المكذوبات.
يقول بعد كلام يؤكد فيه وجوب اتباع المحكم من القرآن، وفهم المتشابه في إطاره، واتباع السلف في الفهم والعمل، حتى لا يستدل بكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يظن أنه أمر به، أو أباحه، أو أجازه، على ما نهى عنه، ويستدل بأمره على نهيه.
الوجه الرابع: أن هذا الحديث: «يا عباد الله أحبسوا»، لا يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن من رواته معروف بن حسان وهو منكر الحديث، قاله ابن عديّ.
الوجه الخامس: أن يقال: إن صحَّ الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر، ومعناه أن الإنسان إذا انفلتت دابته وعجز عنها فقد جعل اللهُ عبادًا من عباده الصالحين من صالحي الجن أو من الملائكة، أو ممن لا يعلم من جنده سواه: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)([5])، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن لله عبادًا قد وكلهم بهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة ونادى صاحبها كما أمره به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حبسوا عليه دابته، فإن هؤلاء عباد الله أحياء، وقد جعل اللهُ لهم قدرة علي ذلك كما جعل للإنس فهو ينادي مَنْ يسمع ويعين بنفسه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟ بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقـدر عليه: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)([6])، وكمـا في قولـه تعالـى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)([7]).
إلى أن يقـول: وأما حديث الأعمى فالجـواب عليه من وجـوه:
الوجه الأول: أن الحديث إذا شذَّ عن قواعد الشرع لا يعمل به.
الوجه الثاني: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما كلهم عن عثمان بن حنيف ولم يذكروا فيه هذه اللفظة، أعني: «يا محمد». إلى أن يقول: وساقه الترمذي رحمه الله بسياق قريب من هذا ونص الدعاء فيه: «اللهم إنِّي أسألك وأتوجه إليك بنبيِّك محمد نبيّ الرحمة إنِّي توجهتُ بك إلى ربِّي في حاجتي هذه لتقضى اللهم فشفعه فيّ»، فيقول هذا لفظه بحروفه وفي نسخة أخرى: «إني توجهت به إلى ربِّي»، وليست هذه اللفظة في الحديث في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: «يا محمد» التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون.
الوجه الثالث: أن يقال على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة رضى الله عنهم فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دلالة فيبقى أن يقال ما معناه؟ فنقول: ذكر العلماء في معناه قولين أحدهما: أنه توسل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فيدل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته إلاَّ أن التوسل ليس فيه دعاء له ولا استغاثة به وإنما سؤال الله بجاهه، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد العز بن عبد السلام في فتاويه فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أما التوسل به صلى الله عليه وسلم فجائز إن صح الحديث فيه. يعني حديث الأعمى.
إلى أن يقول: الثاني: ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر رضى الله عنه استسقي بالعباس فقال: «اللهم إنَّا كنَّا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنَّا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا» فيسقون.
إلى أن يقول: فدلَّ الحديث على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو اللهَ وأن يسأله قبول شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم ودعُوا هُمُ الله تعالى أيضًا، وقوله: «يا محمد: إني توجهت بك إلى ربِّي»، خطاب لحاضر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه أو يبغضه أو يخاطبه وهذا كثير. فهذا كله يُبيِّن أن معنى التوسل والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم هو التوسل والتوجه بدعائه وبدعاء العبَّاس ودعاء مَنْ توسلوا به وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه. انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية.
ثم يقـول عن التوسـل المشـروع أنـه:
1) التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات.
2) التوسل بالأعمال الصالحة.
3) التوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم.
4) التوسل إلى الله بإيماننا بالرسل ومحبتهم وطاعتهم.
أما التوسل بالذات([8]) بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك، ويستثنى من ذلك التوسل بذات النبيّ على قول ابن عبد السلام إنْ صحَّ حديث الأعمى، ولا يجوز الإقسام بالمخلوق على الله عمومًا.
إلى أن يقول([9]): نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما قوله في حديث أبي سعيد: «أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا»، فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به سبحانه والتوجه به والتسبب به، ولو قُدِّر أنه قسمٌ لكان قسمًا بما هو من صفاته فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح: «أعوذُ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك»، والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نصَّ عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة. فاستعاذ بعفوه ومعافاته من عقوبته مع أنه لا يستعاذ بمخلوق كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لا يسأل المخلوق، ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته.
إلى أن يقول: وأما قول بعض الناس أسألك بالله وبالرحم، فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة وتقتضي أن يصل الإنسان به قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس من باب الإقسام ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب.
وينقل عن ابن القيم قـوله في ”إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان“: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور
أنواع: النوع الأول أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته وهؤلاء من جنس عبَّاد الأصنام.
النوع الثاني: أن يسأل الله به وهو بدعة إجماعًا. النوع الثالث: أن يظن الدعاء عنده مستجابًا أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك فهذا أيضًا من المنكر إجماعًا». انتهى.
ثانيًـا: التبـرك:
يقول الإمام الشاطبي([10]) بعد ذكر نصوص التبرك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم: «فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعًا في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يُتبرك بفضل وضوئه ويُتدلك بنخامته ويُستشفى بآثاره كلها ويُرجى نحو مما كان في آثار المتبوع صلى الله عليه وسلم إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله وهو أن الصحابة رضى الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحدٍ منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضى الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنهما وهو كان أفضل الأمة بعده ثم كذلك عثمان ثم عليّ ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم فهو إذًا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء. وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه صلى الله عليه وسلم كان نورًا كله في ظاهره وباطنه فمن التمس فيه نورًا وجده على أي جهة التمسه. بخلاف غيره من الأمة ـ وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته، ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصًا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك. فعلى هذا المَأْخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.
الثاني:
أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب سد الذرائع خوفًا من أن يجعل ذلك سنة ـ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار ـ والنهي عن ذلك أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه وهذا التبرك هو أصل العبادة ولأجله قطع عمر رضى الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية ـ حسبما ذكره أهل السير ـ فخاف عمر رضى الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم. ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته حتى ادعوا فيه الإلهية تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار فقد يخفي أمرها لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله فربما ادعيت الولاية لمن ليس بوليّ أو ادعاها هو لنفسه أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة أو من باب السحر أو الخواص أو غير ذلك والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بمن لا قدوة فيه ـ وهو الضلال البعيد ـ إلى غير ذلك من المفاسد، فتركوا العمل بما تقدم وإن كان له أصل بما يلزم عليه من الفساد في الدين. وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لأمته أنموذجًا منها ما لم يدل دليل على الاختصاص إلا أن الوجه الأول أيضًا راجح من جهة أخرى وهو إطباقهم على الترك؛ إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده أو عملوا به ولو في بعض الأحوال إما وقوفًا على أصل المشروعية وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع.
وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدثني رجلٌ من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم لما تفعلون هذا ؟ قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذِ جاره» فإذا صحَّ هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه، وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله». انتهى.
ويجدر هنا ذكر بعض الضوابـط إذا صحَّ التبرك لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- لا يتبرك بحائط، ولا بحجر([11])، ولا شجر، ولا عين ماء، ولا بقبر.
2- لا يطلب من الأشياء المتبرك بها ما لا يقدر عليه إلا الله، وفعل هذا شركٌ أعظم.
3-ولا يصرف للأشياء المتبرك بها ما هو حق خالص لله، كالذبح، والنذر، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وفعل هذا شركٌ أعظم.
4-لا يتخذ الأشياء المتبرك بها تمائم، أو تعاليق، وفعل هذا شركٌ أصغر، فعن عمران بن حصين رضى الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صُفِر. فقال: «ما هذه؟». قال: من الواهنة. فقال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنَّك لو متَّ وهي عليك ما أفلحتَ أبدًا»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تعلق تميمة فلا أتمَّ اللهُ له، ومَنْ تعلق ودعة فلا ودع الله له»، وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك»، وعنه صلى الله عليه وسلم: «أن الرقى والتمائم والتولة شركٌ» رواه أحمد وأبو داود، وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضى الله عنه: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً: «أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت»، وعنه صلى الله عليه وسلم: «من تعلق شيئًا وُكِّلَ إليه»، ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)([12]).
5-ألا يتخذ الأشياء المتبرك بها وسيلة له عند الله، ولا واسطة، ولابد أن يفصل التبرك عن الدعاء، أي أن يدعو الله بما شاء منفصلاً عن التبرك.
6- ألا تشدَّ الرحال إلى تلك الأشياء.
7- ألا تتخذ هذه الأشياء للتبرك على وجه كلي وتوضع للناس ليقصدها العامة لذلك.
8- ألا تكون ذريعة لإخفاء الشرك الأعظم، أو الأصغر في التبرك المباح.
9- ألا تكون ذريعة تفضي إلى شرك أصغر، أو أعظم.
10- ألا تتخذ سنة فتشعر بالوجوب، أو الندب، أو أنها من التكاليف الشرعية المطلوبة.
11- ألا يعتمد عليها في ترك الأسباب لجهاد العدو وعمارة الأرض.
12- الترك أولى كما قال الشاطبي، وأن يتحرى ما هو الآكَدْ والأحرى من وظائف التكليف.
13-التبرك استعمال للشيء فيما يستعمل فيه، وليس توجهًا ولا طلبًا من الشيء، أو توسلاً به، أو إقسامًا به على الله، والتوسل إنما يكون بحبك للمتبرك به في الله عزَّ وجل كطاعة، وعمل صالح من أعمالك تتقرب به إلى الله كما مرَّ في التوسل.
14-حتى في الرقى فإن الاستغناء بالخالق عزَّ وجلّ عن غيره ترفعًا عن السؤال والأسباب أفضل: «لا يرقون ولا يسترقون»، «لا تسألوا الناس شيئًا»، «وعلى ربِّهم يتوكلون» عبارات من أحاديث صحيحة.
15-التبرك عاطفة، وحب، واحتفاظ، أو استعمال لبعض متعلقات المحبوب في الله عزَّ وجلّ ولحبِّ ما كان عليه من القيام بأمر الله ولا يخرج عن هذا.
يقول الإمام الشاطبي في سد الذرائع([13]): «خرَّج الطبري عن مدرك بن عمران قال: كتب رجلٌ إلى عمر رضى الله عنه: فادع الله لي. فكتب إليه عمر رضى الله عنه: إنِّي لستُ بنبيٍّ ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك.
إلى أن يقول: وروى عن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه أنه لما قدم الشام أتاه رجلٌ فقال: استغفر لي. فقال: غفر اللهُ لك. ثم أتاه آخر فقال: استغفر لي. فقال: لا غفر اللهُ لك ولا لذاك. أنبيٌّ أنا؟ ونحوه عن زيد بن وهب أن رجلاً قال لحذيفة رضى الله عنه: استغفر لي. فقال: لا غفر اللهُ لك. ثم قال: هذا يذهب إلى نسائه فيقول استغفر لي حذيفة. أترضين أن أدعو الله أن تكن مثل حذيفة، فدلَّ هذا على أنه وقع في قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حتى يخرج عن أصله بقوله بعد ما دعا على الرجل: هذا يذهب إلى نسائه فيقول كذا، أي فيأتي نساؤه لمثلها ويشتهر الأمر حتى يُتخذ سنة ويُعتقد في حذيفة ما لا يحبه هو لنفسه وذلك يخرج المشروع عن كونه مشروعًا ويؤدي إلى التشيع واعتقاد أكثر مما يحتاج إليه». إلى آخر ما ذكر.
ويقول الشاطبي([14]) في ذلك في تتبع الآثار لسد الذرائع أيضًا: «أخرج الطحاوي وابن وضَّاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال: وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها: «ألمْ ترَ كيفَ فعلَ ربُّك» و«لإيلاف قريش»، ثم رأى ناسًا يذهبون مذهبًا فقال: أين يذهب هؤلاء؟. قالوا: يأتون مسجدًا هاهنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا يتتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلَّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمَّدها». إلى آخر ما ذكر في ذلك.
أما التبرك الشركـي
فقد مرَّ ذكره مرارًا ونشير إليه إشارات سريعة([15]):
«وأيضًا فإنَّ من تبرك بحجر، أو شجر، أو مسح على قبر، أو قبة يتبرك بهم فقد اتخذهم آلهة، ثم يذكر قصة ذات أنواط وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة». إلى آخر ما ذكر.
ويقول([16]): فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب، حتى قال هؤلاء الجهلة ممن ينتسب إلى العلم والفقه قبلتنا من أمَّها لا يكفر. فلا إله إلا الله، نفيٌّ وإثبات الإلهية كلها لله: فمن قصد شيئًا من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبيّ مرسل لجلب نفع وكشف ضرٍّ فقد اتخذه إلهًا من دون الله؛ مكذب بلا إله إلا الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
فإن قال هذا المشرك: لم أقصد إلا التبرك؛ وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضرّ. فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت كما أخبر الله عنهم أنهم لما جاوزوا البحر: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ )([17]).
ثم يذكر حديث ذات أنواط، وقوله عز وجل: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى)([18])، وفي الصحيح عن ابن عباس وغيره: كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره». إلى آخر ما ذكر.
وينقل الشيخ سليمان بن سحمان عن ”فتح المجيد“ بشرح كتاب التوحيد([19]): «قوله: باب ”من تبرك بشجر، أو حجر، أو نحوهما“، كبقعة، أو قبر، ونحو ذلك، أي: فهو مشرك، قوله: وقول الله عز وجل: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) ، ومطابقة الآية للترجمة من جهة أن عبَّاد هذه الأوثان إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه ويؤملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات وبالأشجار والأحجار كالعزى ومناة من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان. فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عبَّاد الأوثان فيما كانوا يفعلون معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك. فاللهُ المستعان.
ثم يذكر التبرك بالسدرة من فعل المشركين. يقول: قلت ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها». انتهى.
أقـول: وتدبر مثل هذا في التبرك عن ابن القيم وابن أبي شامة محدث الشام عن العيون والأشجار التي تقبل النذر.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ([20]): «وأيضًا فإنَّ من تبرَّك بحجر، أو شجر، أو مسح على قبر، أو قبة، يتبرك بهم فقد اتخذهم آلهة.
يقول الشارح يعني بالتبرك المنافي للتوحيد، بخلاف التبرك بآثار النبيّ ونخامته ودم حجامته وتبرك الشافعي بقميص الإمام أحمد، وكل هذا يراد به ذكرى الحب كالمعهود من عشَّاق الحسان». انتهى.
وفي كتاب ”شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور“ الصادر عن دار الإفتاء السعودية: «يعتمد على توهين أسانيد الأحاديث التي يحتج بها المخالفون ممن يجمعون هذه النوادر لإباحة شرك القبوريين. والحق أن المتون نفسها ليس فيها حجة لهم على تقدير ثبوت بعض الأحاديث مع القطع بضعف الأخرى، وكل ما ساقه المخالفون ليس في محل النزاع وبغض النظر عن مناقشة الاستدلالات فهذه يمكن الرجوع إليها في الكتاب المذكور، فهناك قاعدة مهمة جدًا ذكرها الإمام الشاطبي في ”الموافقات“([21]) في العمل القليل، أو النادر، عن صحابي لم يستمر هو عليه، ولم يقع من غيرهن والعمل المخالف له معمول به دائمًا أو أكثريًا، فإن هذا العمل يكون كقضايا الأعيان، وقضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها في نفسها، وإمكان ألا تكون مخالفة للعمل المستمر». إلى آخر ما ذكر
.
روابط الموضوعات السابقة
الكلام الشافى الكافى فى موضوع التبرك
التبرك المشروع بالنبى صل الله عليه وسلم وما خلف من آثار
قطع السبيل على قياس التبرك بالنبى على غيره
تعليق