نقد قصة بلال وشد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
للشيخ علي بن إبراهيم حشيش
في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم، حتي يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص حيث يتخذون منها دليلا على شد الرحال إلى القبور والتوسل بالموتى وتمريغ الوجه على قبورهم. ونحن لا نذكر أسماء هؤلاء الخطباء ولا الوعاظ ولا القصاص لأننا نقدم نموذجا صالحا للنقد العلمي النزيه القائم على البحث والالتزام بالقواعد العلمية الصحيحة الذي به نبين للناس حقيقة هذه القصة فالأشخاص زائلون والقصة تذكر كل حين.
أولا: متن القصة:
عن أبي الدرداء قال: لما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفتح بيت المقدس وصار إلى الجابية سأله بلال أن يقره بالشام ففعل ذلك، فقال: وأخي أبو رويحة الذي آخى بيني وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل دارنا في خولان فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم: قد أتيناكم خاطبين، وقد كنا كافرين فهدانا الله، ومملوكين فأعتقنا الله وفقيرين فأغنانا الله فإن تزوجونا فالحمد لله وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله فزوجوهما.
ثم أن بلالا رأى في منامه النبي صلىالله عليه وسلم وهو يقول له: "ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال فانتبه حزينا وجلا خائفا فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلىالله عليه وسلم في المسجد ففعل، فَعَلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر ارتجت المدينة فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها، فلما أن قال أشهد أن محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن؛ وقالوا: بعث رسول الله صلىالله عليه وسلم فما رؤى يومٌ أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم" إه.
ثانيا: التخريج:
أخرج هذه القصة الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" في ترجمة بلال وأيضا في ترجمة: إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء الأنصاري بإسناده عنه قال: قال حدثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: "فذكر قصة قدوم بلال إلى الشام في عهد عمر ثم قدومه لقبر النبي صلى الله عليه وسلم كذا في "الصارم المنكي" ص (228) لابن عبد الهادي رحمه الله.
ثالثا: التحقيق:
قلت: وهذا إسناد واه قال فيه الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم" ص (230) "هو أثر غريب منكر وإسناده مجهول وفيه انقطاع" أه.
قلت: وإلى القارئ الكريم البيان:
1 إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء:
قال الحافظ ابن عبد الهادي: "هذا شيخ لم يعرف بثقة وأمانة ولا ضبط وعدالة، بل هو مجهول غير معروف بالنقل ولا مشهور بالرواية ولم يرو عنه غير محمد بن الفيض روى عنه هذا الأثر المنكر" أه.
قلت: وأورده الذهبي في "الميزان" (64/1) ترجمه (205) وقال: "فيه جهالة حدث عنه محمد بن الفيض الغساني" أه.
قلت: وأورده الحافظ ابن حجر في "اللسان" (107/1) ترجمه (321) وقال: "إبراهيم بن محمد بن سليمان بن أبي الدرداء: فيه جهالة حدث عنه محمد بن الفيض الغساني".
قلت: وبذلك وافق الحافظ ابن حجر في "اللسان" الذهبي في "الميزان".
ثم قال الحافظ ابن حجر في "اللسان" (107/1): "ترجم له ابن عساكر، ثم ساق من روايته عن أبيه، عن جده عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، في قصة "رحيل بلال إلى الشام" وفي قصة "مجيئه إلى المدينة وأذانه بها، وارتجاج المدينة بالبكاء لأجل ذلك، وهي قصة بيِّنة الوضع" أه.
2 سليمان بن بلال: هو مجهول العين: ومجهول العين هو من ذكر اسمه ولكن لم يرو عنه إلا راو واحد، وحكم روايته عدم القبول إلا إذا وثق.
قلت: لكنه لم يوثقه أحد من أهل الجرح والتعديل حيث قال الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم" ص (232).
قلت: وقول الحافظ ابن حجر في "اللسان" (107/1): "هي قصة بينة الوضع" تؤيده القرائن التي في القصة.
رابعا: القرائن التي تبين أن القصة واهية:
القرينة الأولى:
قوله: "فأتى قبر رسول الله صلىالله عليه وسلم وجعل يبكي عنده".
وهذا باطل لأن أصحابه صلي الله عليه وسلم دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها التي كانت تجاور المسجد وكان حرص الصحابة شديدا على أن يظل قبره عليه الصلاة والسلام خارج المسجد في كل توسعة تمت بمسجده الشريف... حدث هذا في عصر عمر رضي الله عنه فلقد حرص حينما وسع المسجد في عام 17ه على أن تكون توسعة المسجد من جميع الجهات إلا من الجهة الشرقية التي يقع فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيته فلم يمسها حتى لا يدخل القبر داخل المسجد الشريف.
ونفس هذا الحرص تم أيضا في عهد عثمان رضي الله عنه حينما وسع المسجد في عام 24ه وسنوضح هذا بالتفصيل في موضعه.
وهذه القصة المنكرة يدعي واضعها أنها حدثت لبلال في عهد عمر وكأن القبر ظاهر كسائر القبور يمكن لكل أحد أن يأتيه.
ألم يعلم أن القبر في عهد عمر كان في حجرة عائشة رضي الله عنها وبيتها الذي لا يجوز لأحد أن يدخله إلا بإذن منها؟.
وليرجع هؤلاء القصاص والوعاظ إلى ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (93/3): فقد ثبت أنه لما طعن عمر رضي الله عنه أمر ابنه عبد الله رضي الله عنه أن يذهب إلى عائشة رضي الله عنها ويقول لها:
"إن عمر يقول لك: إن كان لا يضرك ولا يضيق عليك فإني أحب أن أدفن مع صاحبيَّ فقالت: إن ذلك لا يضرني ولا يضيق عليَّ، قال: فادفنوني معهما" أه.
قلت: وبالبحث في "التواريخ والوفيات" بالنسبة للصحابي الجليل بلال بن رباح:
1 فقد ذكره الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" (769/186/3) قال: "بلال بن رباح القرضي التيمي أبو عبد الله ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو عبد الكريم ويقال أبو عمرو المؤذن مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو ابن حمامة وهي أمه وكانت مولاة لبعض بني جُمْع قديم الإسلام والهجرة شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن دمشق قال البخاري مات بالشام: زمن عمر.
وقال أبو زُرْعَة الدمشقي: قبره بدمشق.
قال الذُّهلي عن يحىى بن بكير: مات بدمشق في طاعون عمواس سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة.
وقال الواقدي وعمرو بن علي: مات بدمشق سنة عشرين وهو ابن بضع وستين سنة" أه.
قلت: لذلك قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" (110/1):
"مات بالشام سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، وقيل سنة عشرين وله بضع وستون سنة" أه.
2 قلت: وهذه الأقوال في تاريخ وفاة بلال لا تخرج عن قول الإمام البخاري: "مات بالشام: زمن عمر".
3 تاريخ وفاة عمر رضي الله عنه:
قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" (54/2):
عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قُرْط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين مشهور جمّ المناقب استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وولى الخلافة عشر سنين ونصفا" أه.
قلت: نستنتج من ذلك أن وفاة عمر رضي الله عنه سنة ثلاث وعشرين وبالمقارنة بين الأقوال في تاريخ وفاة بلال رضي الله عنه وبين تاريخ وفاة عمر رضي الله عنه يتبين حقيقة ما قاله أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري: "مات بالشام زمن عمر".
والقبر في عهد عمر كان في حجرة عائشة رضي الله عنها وبيتها الذي لا يجوز لأحد أن يدخله إلا بإذن منها" كما بينا آنفا.
وإن تعجب فعجب فعلهم، كيف سولت لهؤلاء الوضاعين أنفسهم بأن جعلوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه خارج حجرة عائشة رضي الله عنها وخارج بيتها يأتيه من قصد القبر من الصحابة كبلال الصحابي الجليل ليبكي عنده ويمرغ وجهه عليه.
القرينة الثانية:
قوله "ويمرغ وجهه عليه" فليتق الله هؤلاء الوضاعون فإن بلالا رضي الله عنه لم يكن من أولئك الجهلة الذين لا يقفون عند حدود الشرع إذا رأوا القبور فيفعلون عندها ما لا يجوز من الشركيات والوثنيات كتلمس القبر والتمسح به والتمرغ عليه.
القرينة الثالثة:
قوله: "خرجت العواتق من خدورهن" فما علاقة ذلك بسماع الشهادة الأخرى؟
من أجل ذلك جزم الحافظ ابن حجر بأن القصة موضوعة، والحافظ ابن عبد الهادي أنه أثر غريب منكر، والحافظ المزي في "تهذيب الكمال" في تر جمة بلال أشار إلى ضعفها وكذلك الحافظ ابن كثير في "البداية" (102/2).
فائدة هامة: "حديث شد الرحال ودرء الشبهات"
"لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".
الحديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
هناك شبهة يتعلق بها القبوريون لشد الرحال إلى القبور.
ولقد انتشرت هذه الشبهة واشتهرت حتى نشرت جريدة اللواء الإسلامي في عددها (278) في الصفحة (7) تحت عنوان "أنت تسأل والإسلام يجيب" لأحد الدكاترة قال:
"أما حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد..." إلخ ذلك وارد في خصوص المساجد والمساجد غير المشاهد وقبر الرسول يعتبر مشهدًا وهو غير المسجد".
كذلك أخذ بهذه الشبهة بعض المؤلفين في كتابه "هل من الشرك التوسل بالأنبياء والأولياء" ص (67) الفصل الخامس "حكم السفر لزيارة الصالحين والأولياء" قال: "أما المانعون الذين يحرمون السفر لزيارة الأولياء والصالحين فقالوا أن ذلك ممنوع بنص الحديث واستدلوا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى".
قلت ثم ردَّ على هذا المنع فقال:
"وهذا استثناء مفرغ ومعناه أي لا تشد الرحال إلى مسجد إلا إلى هذه المساجد الثلاثة... ثم يقول وهذا أولى لكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
ولقد نبَّه الشيخ الألباني رحمه الله على هذه الشبهة الناتجة عن التأويل الباطل لهذا الحديث الصحيح فقال في "الضعيفة" (64/1).
تنبيه:
يظن كثير من الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحا نحوه من السلفيين يمنع من زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وافتراء وليست أول فرية على ابن تيمية رحمه الله تعالى وعليهم وكل من له اطلاع على كتب ابن تيمية يعلم أنه يقول بمشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم واستحبابها إذا لم يقترن بها شيء من المخالفات والبدع مثل شد الرحال والسفر إليها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
والمستثنى منه في هذا الحديث ليس هو المساجد فقط كما يظن كثيرون بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه سواء كان مسجدا أو قبرا أو غير ذلك بدليل ما رواه أبو هريرة قال (في حديث له): "فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال من أين أقبلت؟ فقلت من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح.
فهذا دليل صريح على أن الصحابة فهموا الحديث على عمومه، ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لزيارة قبر ما، فهم سلف ابن تيمية في هذه المسألة، فمن طعن فيه فإنما يطعن في السلف الصالح رضي الله عنهم ورحم الله من قال:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
قلت: وهذا الفهم الصحيح للحديث وتفسير المستثنى منه في الحديث بحديث آخر يبين فهم الصحابة للحديث ذكره الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الفقيه الحنبلي المقرئ المحدث الناقد النحوي الجبل الراسخ في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ص(24) وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية يدافع فيه عن شيخه حيث اتهمه السبكي بتحريم زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث فرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله صلىالله عليه وسلم وبين البدعية التي لم يشرعها".
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.
نقله ا/عبد الله المسلم
تعليق