سماحة الشيخ :عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه أما بعد،
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليُعبد وحده لا شريك له ، وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه كما قال سبحانه :
" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " سورة الذاريات الآية 56
وقال سبحانه :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" سورة البقرة 21
وقال عز وجل :" كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ " سورة هود الآية 1
" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ "سورة هود الآية 2
وقال تعالى :
" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .." سورة النحل آية36 .
وقال سبحانه :
* وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * سورة الأنبياء 25
فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له ، وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما ،
كما تدل على أنه عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها ، والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته
بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله ، وإخلاص له في العمل ،
وتصديق بكل ما أخبر به ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو
معنى لا إله إلا الله ، فإن معناها لا معبود حق إلا الله ،
فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يجب أن يكون لله وحده ، وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات ،
ولقوله عز وجل :
* وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ * سورة البينة آية 5 ،
وقوله عز وجل :
* وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * سورة الجن الآية 18
وقوله سبحانه :
* ..ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * سورة فاطر الآية 13و14
وقال تعالى :
* وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ * سورة الأحقاف الآية 5و6
وقال عز وجل :
* وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * سورة المؤمنون آية 117
فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه ، وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم ، ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له ، وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل ، ونفى الفلاح عن أهله ،كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعاء غيره ، وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب لداعيه إلى يوم القيامة ، وأنه غافل عن دعائه إياه ، وأنه يوم القيامة ينكر عبادته إياه ، ويتبرأ منها ، ويعاديه عليها ، فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه ، وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم ،
وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة ، وأن العبادة لله وحده ، ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل :
* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ * سورة لقمان الآية 30
وذكر سبحانه في مواضع أخرى في كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة ،
وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم كما قال عز وجل :
* اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا *سورة الطلاق الآية 12
وقال تعالى : * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ *سورة الجاثية الآية 21 و 22.
فالواجب على كل ذي لب أن ينظر فيما خلق له ، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده ، وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة
وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها ،
لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وخلاصة دعوتهم ، ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومقتضى هذا الإيمان تصديقه - صلى الله عليه وسلم - في أخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه ، وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام . . .
وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا ، لا يصح إسلامها ، ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله ،
وإخلاص العبادة له عز وجل ، ومتابعة رسولها - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم الخروج عن شريعته ،
وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده ، وأخبر أنه دينه كما في قوله عز وجل :
* الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا * سورة المائدة الآية 3
وقوله عز وجل : * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ * سورة آل عمران الآية 19.
وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران :
أحدهما : أن لا يعبد إلا الله وحده ، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله .
الثاني : أن لا يعبد إلا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -
فالأول يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله ، ويعلم به أن المعبود هو الله وحده ،
والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء ، ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا،
كما قال الله عز وجل :
* ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ *سورة الجاثية الآية 18
* إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا * سورة الجاثية الآية 19
وقال سبحانه :
* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *سورة النساء آية 55
وقال تعالى : * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * سورة المائدة الآية 50
وقال عز وجل :
* وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *سورة المائدة الآية 44
* وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *سورة المائدة الآية 47
وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله ، وترشد الأمة حكومة وشعبا إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به ، والحذر مما يخالفه ، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها ، وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه ، ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله ، وينفذوا حكمه في عباده ، ويخلصوا له القول والعمل ، ويقفوا عند حدوده التي حدها لعباده ، وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعز في الدنيا والآخرة ، كما يفوز بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب ، والعز الغابر
كما قال سبحانه :
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * سورة محمد آية7
وقال عز وجل : * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ *سورة الأنفال الآية 29
وقال سبحانه : * ..وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ.. *سورة الحج الآية 40و41
ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين وأخبر أن الكفار لا يألون المسلمين خبالا ، وأنهم يودون عنتهم ، قال بعد ذلك :
* وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * سورة آل عمران الآية 120 .
وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون ، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق ،
وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ ، وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين .
رحم الله فضيلة الشيخ ابن باز ونسأل الله أن ينفعنا بعلمه
ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. آمين
المصدر :
العدد الثانى من مجلة البحوث الاسلامية
تعليق