تحقيق قول القبوريون أن طاعة علمائهم بصرف العبادة لغير الله لا تكون شركا إلا فى الأعتقاد ( 1 )
حين النقاش مع عباد القبور فى أن ما يصرفونه من توسل وأستغاثة بالمقبورين هى عبادات ينبغى ألا تصرف إلا لله وحده وان هذا يوقعهم تحت طائلة الإشراك بالله .. كان ردهم أن ما يفعلونه ليس بقصد العبادة وإنا التبرك بهؤلاء الصالحين المقبورين .. وبذلك أخرجوا العبادة عن معناها الشرعى .
والشيخ عبد المجيد الشاذلى يبحث هذه القضية من الناحية الأصولية ليبين الحكم الشرعى فيها :
..............................
تلبيس المرجئة بخصوص طاعة الأحبار والرهبان وتفسيرها بالطاعة في الاعتقاد، وقد وقعوا في عدة سقطات في هذه القضية:
• السقطة الأولى:
أن الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك ينعكسان، بمعنى: أن ما لا يتحقق الإيمان بالله ـ وهو الحق ـ إلا به لا يتحقق الإيمان بالباطل ومن ثَمَّ الكفر إلا به، وأن ما لا تتحقق عبادة الله إلا به لا تتحقق عبادة الشياطين والطواغيت والأصنام والملائكة والبشر والأحبار والرهبان والجنّ وظواهر الطبيعة إلا به. وهذه سقطة كبيرة حيث يعكس المعترض على تقرير عقيدة التوحيد في كتاب ”حد الاسلام“.
أقـول: يعكس أي قضيـة فيها خروج عن دين الله بالكفـر والشرك ـ والعياذ بالله ـ إلى ما يتحقق به الإيمان، وهذا أمر لا يصح أن يخطئ فيه صبيان الكتاتيب، لأن الإيمان لا يتحقق إلا: بالإقرار، والتصديق بخبر الله، والإلتزام بشرع الله. فلا يصح أن نقول أن الكفر لا يتحقق إلا إذا انضاف الإلتزام بالشرائع الكفرية إلى الإقرار بصحتها والتصديق بخبرها، لأن الكفر يتحقق بمجرد الشك، أو التكذيب، أو الجحد منفردًا، أو الامتناع عن القبول والرد منفردًا، وقد قال العلماء: أن من تكلم بالإيمان ولم يمض فيه عزيمة لا يؤمن، ومن تكلم بالكفر ولم يمض فيه عزيمة كفر بذلك، فالأمر لا ينعكس أبدًا. فقد قرر الكاتب في اعتراضه قضية الانعكاس هذه مرارًا وهي خطأ فاحش، فوقع في نفس الخطأ عندما قاس عبادة غير الله على عبادة الله عزَّ وجلّ، وأن ما لا يتحقق الإيمان أو العبادة إلا به إذا كان لله عزَّ وجلّ لا يتحقق الكفر إلا به إذا كان لغير الله عزَّ وجلّ وهو خطأ فاحش، فالمشركون أقروا بأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تهدي، وإنما يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، وسميت عبادتهم لها عبادة، فهل إذا فعل المسلم ذلك مع الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا تسمى عبادته له عبادة؟!.
وكما قلنا أن الأمر لا ينعكس بين الإيمان والكفر، فهو كذلك لا ينعكس بين الإسلام والشرك، فكما قال العلماء: أن من تكلم بالإيمان ولم يمض فيه عزيمة لا يكون مسلمًا، ومن تكلم بالكفر ولم يمض فيه عزيمة كفر بذلك. والمفروض على حسب قاعدة الانعكاس ألا يكفر إلا بإمضاء العزيمة فيه. وهو خطأ فَعُلِمَ بطلان هذه القاعدة. فعبادة الله عزَّ وجلّ لابد فيها من الحب والخوف والرجاء والتعظيم والطاعة، وعبادة غير الله تقع بواحد من ذلك فقط، فيكون الشرك في الحب، أو في الطاعة، أو في التعظيم، أو في صرف حق الله الخالص إلى غيره، أو في مطلق القصد.
• السقطة الثانية:
قولهم عن آية التوبة في طاعة الأحبار والرهبان: أنها تحكي عن انحراف قوم، وليست قاعدة مقررة لأصل من أصول الدين.
ونقـول: الآية في معرض التقرير لأصل الدين لأنها دخلت في جميع التفاسير في تفسير آية آل عمران: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)([1])، وهي الآية التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه بها إلى الإسلام، فهي داخلة في صلب عقيدة التوحيد، وآية آل عمران في توحيد العبادة الذي هو مستلزم لتوحيد الاعتقاد وقوله: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا ) عطف للخاص على العام في النهي عن شرك العبادة، فآية التوبة والحديث المفسِّر لها في بيان شرك العبادة، وليس شرك الاعتقاد في طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، وهكذا ذكرها العلماء دومًا في الاستدلال على شرك الطاعة، أو على شرك الانقياد، أو شرك العبادة المنافي لحقيقة الإسلام، وليس في بيان شرك الاعتقاد، أو فساد الاعتقاد المنافي لحقيقة الإيمان. ودائمًا حقيقة الإيمان بمعناه الخاص هي: تصديق الخبر والمُخْبِر، وحقيقة الإسلام بمعناه الخاص: قبول الحكم، والإسلام مستلزم للإيمان والإيمان مستلزم للإسلام، ومن حيث استلزام الإيمان للإسلام واستلزام الإسلام للإيمان دخل الإسلام في معنى الإيمان عند الإطلاق، فشمل معنى الإيمان تصديق الخبر وقبول الحكم، فقبول الحكم من غير الله شرك ينافي حقيقة الإسلام أي: ينافي إفراد الله عزَّ وجلّ بالطاعة والعبادة، وليس تكذيبًا ينافي حقيقة الإيمان بمعناه الخاص وهو لا ينافي حقيقة الإيمان إلا من حيث دخول حقيقة الإسلام في حقيقة الإيمان لاستلزامها إياها، وعندئذٍ يكون المعنى الشرعي للإيمان هو: إذعان لحكم المخبر وقبوله.
يقول القسطلاني عن الإيمان الذي هو ملاك الأمر كله، وبه تقبل وتصح الأعمال، وهو أول ما يجب على المكلف يقول عنه: «هو لغةً: التصديق، وهو كما قاله التفتازاني: إذعان لحكم المُخْبِر وقبوله، فليس حقيقة التصديق أن تقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المُخْبِر من غير إذعان أو قبول لذلك، بل لابد فيه من الإذعان والقبول بحيث يقع عليه اسم التسليم، على ما صرَّح به الإمام الغزالي. والإسلام لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان وذلك حقيقة التصديق كما سبق. قال تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)([2])، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإيمان: تصديق القلب، ومفهوم الإسلام: أعمال الجوارح». أهـ.
فقبول حكم غير الله: ترك لحكم الله، وردّ له، وبديل عنه ورغبة عن شرع الله إلى غيره، أو عَدْله به، فإذا خوطب أحد بذلك وأُلزم به هل يرضى بذلك ويتابع عليه ولا حرج عليه في ذلك إذا كان اعتقاده صحيحًا؟! أم لابد أن يرفض ولا يقبل، وإذا عجز عن ردِّ ذلك عن نفسه للاستضعاف فهل ينشرح صدره بذلك ويركن ويستكين؟! أم هل يكره بقلبه ويعتزل من أكرهه على ذلك ولا يشايعه بالعمل؟!. فالقضية قضية القبول الذي هو معنى العبادة، والإسلام لله وحده أو لغيره معه، أو من دونه، وليست قضية الاعتقاد، وهذا هو معنى شرك العبادة، وشرك الطاعة في آية التوبة وحديث عديّ بن حاتم المفسِّر لها، فالإسلام والعبادة معناهما: قبول الأحكام والإذعان، أو كما قال القسطلاني: معناهما: الانقياد والخضوع الذي لا يتحقق إلا بقبول الأحكام. والإذعان والإسلام والعبادة لابد وأن يكون لله وحده، كما قال ابن تيمية: «من استسلم لله ولغيره فهو مشرك ومن ردَّ الاستسلام فهو مستكبر وكلاهما كافر. والإسلام لله وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده».
وإذا كان الإسلام والطاعة لابد أن يكونا لله وحده، فالقبول للأحكام والإذعان لابد وأن يكون لله وحده، فمن قبل الأحكام من غيره فهو مشرك في العبادة والإسلام، ولذلك وجب على من خوطب بأحكام بديلة عن شرع الله أن يرفض ولا يتابع على التبديل، فإذا لم يسعه رد ذلك عن نفسه للاستضعاف فليكره بقلبه ويعتزل المكرِه ولا يشايعه بالعمل، وبهذا يتحقق الرفض في أدنى درجاته وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. ومن هذا يتضح أن قول العلماء عمن أطاع في معصية، واعتقاده ثابت في التحريم والتحليل الذي جاء به الشرع أنه لا يكفر، تمييزًا له عمن أطاع في التبديل بقبول الأحكام البديلة عن شرع الله، والمعصية لا يكفر مرتكبها إلا إذا استحل بتغير الاعتقاد، أو بالامتناع عن قبول حكم الله بالتحريم، وقبول حكم غيره البديل عن حكمه امتناع عن حكمه أو عدل به وكلاهما كفرٌ والعياذ بالله بأي منها وبه يتحقق الاستحلال.
والتشريع أمر منفصل عن المعصية قد تقترن به وقد تنفصل عنه، ويكون نفس التشريع هو الممنوع حتى لو لم تقترن به معصية، فإذا كان شوب تشريع فإن اتباعه بدعة، وإذا كان تشريعًا مطلقًا فإن الإتيان به أو قبوله من الغير والرضى به والمتابعة على ذلك كفرٌ يخرج عن الملة بالشرك في العبادة والإسلام.
يقول الإمام الشاطبي ([3]): «ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد، لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى ولابد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها كانت اقتضاءًا أو تخييرًا، فإن التخيير في التعبدات إلزام كما أن الاقتضاء إلزام حسبما تقرر برهانه في كتاب ”الموافقات“ وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صحّ دخوله في العاديات كالعبادات وإلا فلا.
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبيّن ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي وضع المكوس في معاملات الناس فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتًا ما أو في حالة ما لنيل حطام الدنيا على هيئة غصب الغاصب وسرقة السارق وقطع القاطع للطريق وما أشبه ذلك أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائمًا أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك. فأما الثاني فظاهر أنه بدعة إذ هو تشريع زائد وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة والدِّيات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعدين بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلاشك لأنه شرع مستدرك وسنٌّ في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم. ونظر من جهة كونها اختراعًا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت، كما يؤخذون بسائر التكاليف. فاجتمع فيها نهيان: نهيٌّ عن المعصية، ونهيٌّ عن البدعة. وليس ذلك موجودًا في البدع في القسم الأول ـ العبادات ـ وإنما يوجد به النهيّ من جهة كونها تشريعًا موضوعًا على الناس أمر وجوب أو ندب إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية بل نفس التشريع هو نفس الممنوع». أهـ.
وواضح الآن أن طاعة الأحبار والرهبان أو غيرهم، قد يكون فيها وجهان وقد يكون فيها وجه واحد. وجهان من حيث هي معصية، وتشريع مطلق بديل عن شرع الله، ووجه واحد من حيث هي تشريع مطلق بديل عن شرع الله فقط، ولا يكون فيه جهة أخرى يكون بها معصية. فمن حيث هي معصية فقط فإن مرتكب المعصية لا يكفر إلا بتغير الاعتقاد، أو بالامتناع عن قبول حكم الله: إما بالتحريم، أو الوجوب استحلالاً، أو إباءً من قبول الفرائض، فمن وقع في المعصية فقط ولم يقبل الشرع البديل فهذا شأنه.
وقد لا يكون فيها معصية بل يكون نفس التشريع هو نفس الممنوع، فمن هذا الوجه فإن قبول التشريع المطلق البديل عن شرع الله كفر يخرج عن الملة، وقد يقع في الوجهين فيكون للمعصية حكمها، ولقبول الشرع البديل حكمه.
•وبهذا تتبيَّن السقطة الثالثة للمرجئة في هذا الموضوع وهي: عدم قدرتهم على تمييز وصف المعصية من وصف المتابعة على التبديل إذا تداخلا في فعل واحد، وظنهم أن المتابعة على التبديل معصية لا يكفر صاحبها إلا بالاستحلال شأن سائر المعاصي، وعدم إدراكهم أنها من الشرك الذي يكفر مرتكبه. قال البخاري: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر مرتكبها إلا بالشرك.
حين النقاش مع عباد القبور فى أن ما يصرفونه من توسل وأستغاثة بالمقبورين هى عبادات ينبغى ألا تصرف إلا لله وحده وان هذا يوقعهم تحت طائلة الإشراك بالله .. كان ردهم أن ما يفعلونه ليس بقصد العبادة وإنا التبرك بهؤلاء الصالحين المقبورين .. وبذلك أخرجوا العبادة عن معناها الشرعى .
والشيخ عبد المجيد الشاذلى يبحث هذه القضية من الناحية الأصولية ليبين الحكم الشرعى فيها :
..............................
تلبيس المرجئة بخصوص طاعة الأحبار والرهبان وتفسيرها بالطاعة في الاعتقاد، وقد وقعوا في عدة سقطات في هذه القضية:
• السقطة الأولى:
أن الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك ينعكسان، بمعنى: أن ما لا يتحقق الإيمان بالله ـ وهو الحق ـ إلا به لا يتحقق الإيمان بالباطل ومن ثَمَّ الكفر إلا به، وأن ما لا تتحقق عبادة الله إلا به لا تتحقق عبادة الشياطين والطواغيت والأصنام والملائكة والبشر والأحبار والرهبان والجنّ وظواهر الطبيعة إلا به. وهذه سقطة كبيرة حيث يعكس المعترض على تقرير عقيدة التوحيد في كتاب ”حد الاسلام“.
أقـول: يعكس أي قضيـة فيها خروج عن دين الله بالكفـر والشرك ـ والعياذ بالله ـ إلى ما يتحقق به الإيمان، وهذا أمر لا يصح أن يخطئ فيه صبيان الكتاتيب، لأن الإيمان لا يتحقق إلا: بالإقرار، والتصديق بخبر الله، والإلتزام بشرع الله. فلا يصح أن نقول أن الكفر لا يتحقق إلا إذا انضاف الإلتزام بالشرائع الكفرية إلى الإقرار بصحتها والتصديق بخبرها، لأن الكفر يتحقق بمجرد الشك، أو التكذيب، أو الجحد منفردًا، أو الامتناع عن القبول والرد منفردًا، وقد قال العلماء: أن من تكلم بالإيمان ولم يمض فيه عزيمة لا يؤمن، ومن تكلم بالكفر ولم يمض فيه عزيمة كفر بذلك، فالأمر لا ينعكس أبدًا. فقد قرر الكاتب في اعتراضه قضية الانعكاس هذه مرارًا وهي خطأ فاحش، فوقع في نفس الخطأ عندما قاس عبادة غير الله على عبادة الله عزَّ وجلّ، وأن ما لا يتحقق الإيمان أو العبادة إلا به إذا كان لله عزَّ وجلّ لا يتحقق الكفر إلا به إذا كان لغير الله عزَّ وجلّ وهو خطأ فاحش، فالمشركون أقروا بأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تهدي، وإنما يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، وسميت عبادتهم لها عبادة، فهل إذا فعل المسلم ذلك مع الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا تسمى عبادته له عبادة؟!.
وكما قلنا أن الأمر لا ينعكس بين الإيمان والكفر، فهو كذلك لا ينعكس بين الإسلام والشرك، فكما قال العلماء: أن من تكلم بالإيمان ولم يمض فيه عزيمة لا يكون مسلمًا، ومن تكلم بالكفر ولم يمض فيه عزيمة كفر بذلك. والمفروض على حسب قاعدة الانعكاس ألا يكفر إلا بإمضاء العزيمة فيه. وهو خطأ فَعُلِمَ بطلان هذه القاعدة. فعبادة الله عزَّ وجلّ لابد فيها من الحب والخوف والرجاء والتعظيم والطاعة، وعبادة غير الله تقع بواحد من ذلك فقط، فيكون الشرك في الحب، أو في الطاعة، أو في التعظيم، أو في صرف حق الله الخالص إلى غيره، أو في مطلق القصد.
• السقطة الثانية:
قولهم عن آية التوبة في طاعة الأحبار والرهبان: أنها تحكي عن انحراف قوم، وليست قاعدة مقررة لأصل من أصول الدين.
ونقـول: الآية في معرض التقرير لأصل الدين لأنها دخلت في جميع التفاسير في تفسير آية آل عمران: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)([1])، وهي الآية التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه بها إلى الإسلام، فهي داخلة في صلب عقيدة التوحيد، وآية آل عمران في توحيد العبادة الذي هو مستلزم لتوحيد الاعتقاد وقوله: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا ) عطف للخاص على العام في النهي عن شرك العبادة، فآية التوبة والحديث المفسِّر لها في بيان شرك العبادة، وليس شرك الاعتقاد في طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم، وهكذا ذكرها العلماء دومًا في الاستدلال على شرك الطاعة، أو على شرك الانقياد، أو شرك العبادة المنافي لحقيقة الإسلام، وليس في بيان شرك الاعتقاد، أو فساد الاعتقاد المنافي لحقيقة الإيمان. ودائمًا حقيقة الإيمان بمعناه الخاص هي: تصديق الخبر والمُخْبِر، وحقيقة الإسلام بمعناه الخاص: قبول الحكم، والإسلام مستلزم للإيمان والإيمان مستلزم للإسلام، ومن حيث استلزام الإيمان للإسلام واستلزام الإسلام للإيمان دخل الإسلام في معنى الإيمان عند الإطلاق، فشمل معنى الإيمان تصديق الخبر وقبول الحكم، فقبول الحكم من غير الله شرك ينافي حقيقة الإسلام أي: ينافي إفراد الله عزَّ وجلّ بالطاعة والعبادة، وليس تكذيبًا ينافي حقيقة الإيمان بمعناه الخاص وهو لا ينافي حقيقة الإيمان إلا من حيث دخول حقيقة الإسلام في حقيقة الإيمان لاستلزامها إياها، وعندئذٍ يكون المعنى الشرعي للإيمان هو: إذعان لحكم المخبر وقبوله.
يقول القسطلاني عن الإيمان الذي هو ملاك الأمر كله، وبه تقبل وتصح الأعمال، وهو أول ما يجب على المكلف يقول عنه: «هو لغةً: التصديق، وهو كما قاله التفتازاني: إذعان لحكم المُخْبِر وقبوله، فليس حقيقة التصديق أن تقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المُخْبِر من غير إذعان أو قبول لذلك، بل لابد فيه من الإذعان والقبول بحيث يقع عليه اسم التسليم، على ما صرَّح به الإمام الغزالي. والإسلام لغةً: الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول الأحكام والإذعان وذلك حقيقة التصديق كما سبق. قال تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)([2])، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام فهما متحدان في التصديق وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإيمان: تصديق القلب، ومفهوم الإسلام: أعمال الجوارح». أهـ.
فقبول حكم غير الله: ترك لحكم الله، وردّ له، وبديل عنه ورغبة عن شرع الله إلى غيره، أو عَدْله به، فإذا خوطب أحد بذلك وأُلزم به هل يرضى بذلك ويتابع عليه ولا حرج عليه في ذلك إذا كان اعتقاده صحيحًا؟! أم لابد أن يرفض ولا يقبل، وإذا عجز عن ردِّ ذلك عن نفسه للاستضعاف فهل ينشرح صدره بذلك ويركن ويستكين؟! أم هل يكره بقلبه ويعتزل من أكرهه على ذلك ولا يشايعه بالعمل؟!. فالقضية قضية القبول الذي هو معنى العبادة، والإسلام لله وحده أو لغيره معه، أو من دونه، وليست قضية الاعتقاد، وهذا هو معنى شرك العبادة، وشرك الطاعة في آية التوبة وحديث عديّ بن حاتم المفسِّر لها، فالإسلام والعبادة معناهما: قبول الأحكام والإذعان، أو كما قال القسطلاني: معناهما: الانقياد والخضوع الذي لا يتحقق إلا بقبول الأحكام. والإذعان والإسلام والعبادة لابد وأن يكون لله وحده، كما قال ابن تيمية: «من استسلم لله ولغيره فهو مشرك ومن ردَّ الاستسلام فهو مستكبر وكلاهما كافر. والإسلام لله وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده».
وإذا كان الإسلام والطاعة لابد أن يكونا لله وحده، فالقبول للأحكام والإذعان لابد وأن يكون لله وحده، فمن قبل الأحكام من غيره فهو مشرك في العبادة والإسلام، ولذلك وجب على من خوطب بأحكام بديلة عن شرع الله أن يرفض ولا يتابع على التبديل، فإذا لم يسعه رد ذلك عن نفسه للاستضعاف فليكره بقلبه ويعتزل المكرِه ولا يشايعه بالعمل، وبهذا يتحقق الرفض في أدنى درجاته وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. ومن هذا يتضح أن قول العلماء عمن أطاع في معصية، واعتقاده ثابت في التحريم والتحليل الذي جاء به الشرع أنه لا يكفر، تمييزًا له عمن أطاع في التبديل بقبول الأحكام البديلة عن شرع الله، والمعصية لا يكفر مرتكبها إلا إذا استحل بتغير الاعتقاد، أو بالامتناع عن قبول حكم الله بالتحريم، وقبول حكم غيره البديل عن حكمه امتناع عن حكمه أو عدل به وكلاهما كفرٌ والعياذ بالله بأي منها وبه يتحقق الاستحلال.
والتشريع أمر منفصل عن المعصية قد تقترن به وقد تنفصل عنه، ويكون نفس التشريع هو الممنوع حتى لو لم تقترن به معصية، فإذا كان شوب تشريع فإن اتباعه بدعة، وإذا كان تشريعًا مطلقًا فإن الإتيان به أو قبوله من الغير والرضى به والمتابعة على ذلك كفرٌ يخرج عن الملة بالشرك في العبادة والإسلام.
يقول الإمام الشاطبي ([3]): «ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد، لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى ولابد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها كانت اقتضاءًا أو تخييرًا، فإن التخيير في التعبدات إلزام كما أن الاقتضاء إلزام حسبما تقرر برهانه في كتاب ”الموافقات“ وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صحّ دخوله في العاديات كالعبادات وإلا فلا.
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبيّن ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي وضع المكوس في معاملات الناس فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتًا ما أو في حالة ما لنيل حطام الدنيا على هيئة غصب الغاصب وسرقة السارق وقطع القاطع للطريق وما أشبه ذلك أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائمًا أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك. فأما الثاني فظاهر أنه بدعة إذ هو تشريع زائد وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة والدِّيات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعدين بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلاشك لأنه شرع مستدرك وسنٌّ في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم. ونظر من جهة كونها اختراعًا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت، كما يؤخذون بسائر التكاليف. فاجتمع فيها نهيان: نهيٌّ عن المعصية، ونهيٌّ عن البدعة. وليس ذلك موجودًا في البدع في القسم الأول ـ العبادات ـ وإنما يوجد به النهيّ من جهة كونها تشريعًا موضوعًا على الناس أمر وجوب أو ندب إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية بل نفس التشريع هو نفس الممنوع». أهـ.
وواضح الآن أن طاعة الأحبار والرهبان أو غيرهم، قد يكون فيها وجهان وقد يكون فيها وجه واحد. وجهان من حيث هي معصية، وتشريع مطلق بديل عن شرع الله، ووجه واحد من حيث هي تشريع مطلق بديل عن شرع الله فقط، ولا يكون فيه جهة أخرى يكون بها معصية. فمن حيث هي معصية فقط فإن مرتكب المعصية لا يكفر إلا بتغير الاعتقاد، أو بالامتناع عن قبول حكم الله: إما بالتحريم، أو الوجوب استحلالاً، أو إباءً من قبول الفرائض، فمن وقع في المعصية فقط ولم يقبل الشرع البديل فهذا شأنه.
وقد لا يكون فيها معصية بل يكون نفس التشريع هو نفس الممنوع، فمن هذا الوجه فإن قبول التشريع المطلق البديل عن شرع الله كفر يخرج عن الملة، وقد يقع في الوجهين فيكون للمعصية حكمها، ولقبول الشرع البديل حكمه.
•وبهذا تتبيَّن السقطة الثالثة للمرجئة في هذا الموضوع وهي: عدم قدرتهم على تمييز وصف المعصية من وصف المتابعة على التبديل إذا تداخلا في فعل واحد، وظنهم أن المتابعة على التبديل معصية لا يكفر صاحبها إلا بالاستحلال شأن سائر المعاصي، وعدم إدراكهم أنها من الشرك الذي يكفر مرتكبه. قال البخاري: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر مرتكبها إلا بالشرك.
تعليق