قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (14/176)
" ......ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت " الصوفية والتصوف " . وقالوا : إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام .
وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .
و " الصواب " أنهم مجتهدون في طاعة اللّه، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة اللّه، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب .
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه .
............................................
ثم يكمل رحمه الله فيقول :
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم : كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشائخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق . مثل : الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره . كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في " طبقات الصوفية " وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد " انتهى
.............................................
لكن ما يتكلم عنه شيخ الإسلام عن شيوخ التصوف القدماء كالجنيد والتسترى وأمثالهما شئ ، وهذه الطوائف التى تصرف العبادة لفير الله شئ آخر ، وسوف نذكر المزيد فى هذا الجانب بإذن الله
............................................
دلالة لفظ الصوفية عند شيخ الإسلام أنه صار مجملا يجب التحقيق عند إطلاقه
ومما ذهب إليه شيخ الإسلام أن لفظ التصوف قد صار لفظًا مجملاً، يدخل فيه من هو صِدِّيق ومن هو زنديق، فمن صَدَّق الرسولَ فيما أخبر وأطاعه فيما أمر صار صدِّيقًا، ومن أعرض عن خبره وأمره حتى أخبر بنقيض ما أَخْبرَ وأمَرَ بخلاف ما أَمَر صار زنديقًا، وهذا حال أهل البدع الذي ينتسبون إلى الصوفية كالقائلين بوحدة الوجود ويسمون ذلك تصوفًا، فإنهم ليسوا من الصوفية الحقيقيين أهل الزهد والورع، وإنما دخلاء عليهم، لذلك وجب معرفة قصد المتكلم الذي يحاول الانتماء للتصوف، أهو على تصوف المتقدمين أم المتأخرين؟.
مراتب الصوفية عند ابن تيمية :
في بيان شيخ الإسلام لمراتب الصوفية أنهم ثلاث مراتب: صوفية حقائق، وصوفية أرزاق، وصوفية رسم.
الأولى: صوفية الحقائق، وهم أهل الزهد والوارع.
الثانية: صوفية الأرزاق، وأما صوفية الأرزاق فهم الذين تم عمل الأوقاف لهم، ولم يشترط لهم العلماء أن يكونوا من أهل الحقائق لأنهم قليلون، فضلا عن أن أهل الحقائق لا يلتزمون بالتواجد في هذه الأوقاف.
الثالثة: صوفية الرسم، وهم الذين اقتصروا على اللباس والآداب الوضعية، فهؤلاء بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.
وكما هو واضح: فإن شيخ الإسلام يفرق بين هذه المراتب بعضها البعض، فأعلاها المرتبة الأولى وهم أهل الحقائق، وأدناها أهل الرسم الذين يحاولون التشبه بأهل الحقائق، أهل الزهد والأخلاق، وليسوا منهم.
كما أن الواضح من كلام شيخ الإسلام أنه يقر الصنفين الأول والثاني دون الثالث، وإقراره للصنف الثاني ليس معناه جواز ترك العمل والعكوف للعبادة فحسب، فقد رد هذا المبدأ حينما نفى أن يكون أصل الصوفية هم أهل الصفة كما مر معنا.
أنواع التصوف عند ابن تيمية من حيث الاعتقاد:
تعرض شيخ الإسلام لعقيدة الصوفية، فذكر منهم من كان على عقيدة السلف كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، ثم بين أنه حينما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة
ويقول شيخ الإسلام tفى التفريق بين التصوف والفلسفة: "وأما ابن عربي وابن سبعين وغيرهما ونحوهما فحقائقهم فلسفية غيَّروا عبارتها وأخرجوها في قالب التصوف أخذوا مُخَّ الفلسفة فَكَسوه لِحاءَ الشريعة. ولا يكتفي بذلك في كلامه على ابن عربي وابن سبعين، بل يصفهما بأنهما من ملاحدة الصوفية، وذلك لقولهم بالحلول والإتحاد.
وبذلك يكون تقسيم شيخ الإسلام للصوفية أنهم ثلاثة أنواع:
الأولى: صوفية أهل الحديث، وهم الصوفية الأوائل كالجنيد والفضيل، وبالطبع فهم من تلقوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-وصحابته.
الثانية: صوفية أهل الكلام، كالغزالي.
الثالثة: صوفية الفلاسفة، كالحلاج وابن عربي، والتلمساني.
واستدراكا على ما لم يراه شيخ الإسلام بعد تقدم الزمان صار هناك نوعا رابعا وهو الصوفية الطرقية التي تكثر في العالم الإسلامي، وهي غالبا ما تستقي من الأنواع السابقة، إلا أنها تضيف بدعا إليها في باب التعبد، وقد تصل للشركيات المخرجة من ملة الإسلام.
كلام الشيخ في تقيد علم الصوفية بالكتاب والسنة :
كان شيخ الإسلام دائما ما يذكر تقيد علم الصوفية بالكتاب والسنة، وكان يستشهد بكلام الشيخ أبي سليمان الداراني في عدم قبول ما يقع في قلبه إلا بشاهدين هما الكتاب والسنة، وكان يستشهد بقول أبي القاسم الجنيد رحمه الله عليه أن علم الصوفية مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في التصوف ولا يقتدى به، وينقل عن أبي عثمان النيسابوري قوله أن من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا، نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا، نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: ﴿ وإن تطيعوه تهتدوا ﴾. وقول أبو عمر بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.[21]
فليس كل من انتسب للتصوف صار قوله هو قول الصوفية، فما كان موافقا للكتاب والسنة فهو مقبول، وإلا فهو مردود، لأن الهداية كلها في نصوص الوحي، فالمعتبر عن العارفين بالله المذكوريين في كون معيار الولاية الشرعية هو لزوم الكتاب والسنة، لذلك أبان شيخ الإسلام أن الصوفية المعيارية هي ما تقيدت بالكتاب والسنة، والمراد بالمعيارية ما يقاس عليه غيرها، والتي تؤدي لمنهج السلف، وأن من خالف ذلك فهو ضال زنديق ليس من أهل الطريق، لأنه ما من سالك للطريق يستغنى عما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يخالفه في أمره[22]، ومن زعم حصول العلم بغير هذا الطريق فهو عندهم ضال زنديق، لأنه لا يجوز قط أن يستغني سالك عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم[23].
وقد نقل شيخ الإسلام أمر الصوفية بالعلم، والحكم بزندقة من أنكر سبيله، فإن كبار ْمَشَايِخ الصُّوفِيَّة أوصوا به[24]، اتفقوا على وجوب تعلم العلم الشرعي والنظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات، وأنهم أعظم تجردًا من أهل الكلام والفقه.
وقد أنكر شيخ الإسلام قول بعضهم أن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا[25].
وقد ذكر شيخ الإسلام عن السري السقطي أن واحداً منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يجلس عنده، ولهذا أوصى سهل التستري الصوفية ألا يفارقوا المحبرة والأوراق لطلب العلك، لأن مفارقتهم زندقة، وذكر الشيخ قول الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن[26].
موقف شيخ الإسلام من أعلام التصوف وعلومهم :
الموقف الأول: توثيق المتقدمين وتجريح المتأخرين من الصوفية
كان من منهج شيخ الإسلام التفريق بين متقدمي الصوفية ومتأخريهم، فالمتقدمين منهم أهل علم وورع وتقوى، بخلاف المتأخرين الذين أدخلوا الفلسفة في التصوف وحاولوا الجمع بيتهما، فكان شيخ الإسلام دائما ما يذكر المتقدمين ويترضى عنهم، ويذكر المتأخرين ويتبرأ منهم، وذكر أنه وإن ادعى أحد الصوفية أن ابن عربي واحد منهم، فهو من صوفية الملاحدة الفلاسفة، وليس من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكون من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد، وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم، وحينما ذكر هؤلاء العلماء قال: "رضوان الله عليهم أجمعين"[28]، وهذا دليل على رضى شيخ الإسلام عن عقيدة الأوائل، وعدم رميهم بالبدعة، أو تعميم الأحكام مثلما شاع في المناهضين للتصوف جملة وتفصيلا.
وكان موقف شيخ الإسلام من توثيق متقدمي الصوفية مما أثار دهشة الشيخ محمد جميل غازي حينما قدم لكتاب شيخ الإسلام "الصوفية والفقراء"، فاستنكر أشياء عليه كقوله أنهم يريدون مقام الصديقية [29]، وراح يعمم في الأحكام ويكيل لهم الأوصاف بالزندقة، والقول بالحلول والاتحاد، ووصفهم بأنهم أهل المروق والفرقة والبدعة.
ورغم إنصاف شيخ الإسلام للمتقدمين، إلا أنه كان شديدا في الإنكار على المتأخرين، فقد كان مناهضا لابن سبعين وأمثاله ممن يكسون كلامهم بعبارات الصوفية والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار وإن شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وعمرو بن عثمان الشبلي والجنيد وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي كانوا من أعظم الناس تكفيرا لهؤلاء.]
كما كان شيخ الإسلام يذكر جوانب من تعظيم الصوفية الأوائل للشعائر بخلاف المتأخرين الذين حاولوا التحلل من الواجبات واستحلوا المحرمات كالتلمساني، وأظهر أن مذهب الأوائل يخللف هذا المذهب وأنهم كانو أعظمهم نكيراً عليه وعلى أهله، فكان علماء الصوفية المشهورين كالفضيل وأبي سليمان الداراني والجنيد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وابن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع.]
والإنصاف مع المخالف لا يعني التمييع، وهذه القاعدة موجهة لمن يحاول الذب عن عقيدة السلف، وذلك بالشدة على أهل البدع، فبالرغم من أن الشدة على أهل البدع أمر محمود في الدين لأنه من الجهاد باللسان، لكن شتان ثم شتان بين تتبع المسائل ودراستها والتحقيق فيها، وبين من سلك مسلك الحكام المجملة، فكلام شيخ الإسلام في مدح الصوفية ليس معناه إذابة الفوارق بين الصوفية ككل، وبين أهل السنة، وهذا ما يستغله بعض متأخري الصوفية حينما يستدلون بأقوال شيخ الإسلام في الصوفية المتقدمين على أنه مدح للصوفية ككل، بل للأوائل منهم الذين كانوا على عقيدة السلف الصالح.
والإنصاف مع المخالف لا يعني ( التمييع ) ، وهذه القاعدة موجهة لمن يحاول الذب عن عقيدة السلف، وذلك بالشدة على أهل البدع، فبالرغم من أن الشدة على أهل البدع أمر محمود في الدين لأنه من الجهاد باللسان، لكن شتان ثم شتان بين تتبع المسائل ودراستها والتحقيق فيها، وبين من سلك مسلك الأحكام المجملة، فكلام شيخ الإسلام بن تيمية في مدح الصوفية ليس معناه إذابة الفوارق بين الصوفية ككل، وبين أهل السنة، وهذا ما يستغله بعض متأخري الصوفية حينما يستدلون بأقوال شيخ الإسلام في الصوفية المتقدمين على أنه مدح للصوفية ككل، بل مدح شيخ الإسلام بن تيمية كان للأوائل منهم الذين كانوا على عقيدة السلف الصالح ، ومن تتبع كلام شيخ الإسلام فى أنواع المتصوفة ، تأكد له ذلك
تعريف الصوفية ونقدها
تابع تعريف الصوفية ونقدها
نشأة الطرق الصوفية ومعناها ونماذج منها
مصادر التلقى وجذور الاعتقاد عند الصوفية
جمع وترتيب الأستاذ بندق صبحى
تعليق