مصادر التلقي وجذور الإعتقاد عند الصوفية"
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
( يأيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (آل عمرآن:102)
( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ( النساء:1)
( يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً) ( الأحزاب: 70ـ71)
أما بعد:
فأن من أهم مسائل الإعتقاد التي يعتنى بالبحث عنها عند كل فكر أو مذهب من المذاهب المعاصرة هو مصادرها في التلقي, إذ فيهما يعرف صحة المذهب من بطلانه, وأصل ذلك الفكر ومستقاه, فبقدر قرب المذاهب من القرآن الكريم والسنة النبوية بقدر مايحكم على صحتها وقربها من الصواب, وبقدر بعدها عنهما بقدر مايحكم على بطلانها وبعدها عن الصواب, ولايخلو فكر أو مذهب من المذاهب من أصل يرجع إليه ومصدر يستند إليه في مسائله, ومن أهم الفرق المعاصرة والتي تحمل فكر مخالف لماعليه الكتاب والسنة في أمور الدين "فرقة الصوفية", فسوف نذكر في هذا البحث أهم الجذور التي تستمد منها عقائدها ومصادرها في تلقي أمور الدين,ومكانة القرآن الكريم والسنة النبوية عندها, فجاءت خطة البحث على النحو التالي:
المبحث الأول- مكانة القرآن الكريم والسنة النبوية عند أهل السنة والجماعة والصوفية.
المبحث الثاني- الجذور التي إستمد منها الفكر الصوفي عقيدته وتأثر بها.
المبحث الثالث- مصادر الصوفية العامة في التلقي.
المبحث الرابع- الكتب التي يستمد منها الصوفية أمور الدين ومسائل الإعتقاد.
الخلاصة.
المصادر والمراجع.
هذا ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الأخلاص والقبول على هذا العمل اليسير,كما وأسأله التوفيق والسداد لما يحبه تعالى ويرضاه في الدنيا والآخرة.
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول- مكانة القرآن الكريم والسنة النبوية عند أهل السنة والجماعة والصوفية:
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة, يعدان المصدران الأساسيان للتلقي عند أهل السنة والجماعة, وإليهما ترد أمور الدين من أحكام في الإعتقاد أو الشريعة..,وقد تلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان كتاب الله وسنة رسوله الكريم بالقبول والعمل, حتى تميز منهج السلف الصالح في الأخذ بنصوص الكتاب والسنة وحضي بميزات وخصائص جعلتهم ينجون من الحيرة والتناقض والإضطراب الذي وقع فيه من زاغ عن الكتاب والسنة وابتغى الهدي في غيرهما.
كما أن منهج السلف الصالح واضح وبين في أن لاعقيدة إلا من القرآن والسنة, ولاشريعة كذلك إلا منهما, وأن كل ماخالفهما فهو باطل.
وقد عمل الصوفية على نقضهما وهدمهما, فالتصوف يقوم أول مايقوم على هدم هذين الأصلين, توحيد المعتقد وتوحيد العمل, فعندهم كل ماأعتقده الناس جميعهم مؤمنين وكفاراً وزنادقة وفلاسفة, وعلى أي مذهب وملة فهو حق, وكل عمل وشريعة فهي حق.
وأما الإسلام فأنه يقوم أول مايقوم على أنه لاهدى إلا هدى الإسلام, ولاعقيدة حق إلا عقيدة الكتاب والسنة, ولاشريعة واجبة الإتباع إلاشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم, وأنه لاصراط يوصل إلى الله إلا صراطه.وأما المتصوفة فكل الطرق نافعة وصالحة وكل الشرائع مهما كانت فعينها واحدة[1].وهذا ماسنبينه من تتبع جذور عقائدهم وأصول إعتقادهم في المباحث القادمة.
*المبحث الثاني- الجذور التي إستمد منها الفكر الصوفي عقيدته وتأثر بها[2]:-
إختلف أهل العلم في منبع ومأخذ ومصدر الفكر الصوفي إلى أربعة أقوال وهي:
القول الأول : إنه إسلامي بحت في أشكاله وصوره , ومبادئه ومناهجه , وأصوله وقواعده , وأغراضه ومقاصده , حتى في ألفاظه وعباراته , وفلسفته وتعاليمه , ومواجيده وأناشيده , ومصطلحاته ومدلولاته , وهذا هو إدعاء الصوفية ومن والاهم , وناصرهم , ودافع عنهم .
الثاني : لا علاقه له بالإسلام إطلاقا , قريبة ولا بعيدة في اليوم الذي نشأ فيه , ولابعد ماتطور , وهو أجنبي عنه كاسمه , فلذلك لا يفتش عن مصادره ومآخذه في القرآن والسنة وإرشاداتهما , بل يبحث عنها في الفكر الأجنبي , وهو رأي أكثر علماء السلف ومن نهج منهجهم وسلك مسلكهم وكذلك الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة من المتقدمين , والأكثرية الساحقه من المستشرقين , والكثير من الباحثين والمفكرين من المتأخرين .
الثالث : إنه اسم للزهد المتطور بعد القرون المشهود لها بالخير كردّ فعل لزخرفة المدينة وزينتها التي انفتحت أبوابها على المسلمين بعد الغزوات والفتوحات وانغماسهم في ترف الدنيا ونعيمها , ثم حصلت فيه التطورات , ودخلت أفكار أجنبية والفلسفات غير الإسلامية وذهب إلى هذا الرأي ابن تيمية والشوكاني من السلف وغيرهم من بعض أعلام أهل السنة , حتى الصوفية أنفسهم وبعض المستشرقين .
الرابع : إن التصوف وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية ومن المانوية والمجوسية والمزدكية , وكذلك الهندوكية والبوذية , وقبل كل ذلك من الفلسفة اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثية.
والمطلع على عقائد الصوفية يجد لها جذور مرتبطة بالأمم السابق لها, ولاأثر للقرآن الكريم والسنة النبوية وسلف الأمة الصالح الذين اتبعوا الكتاب والسنة على النهج الصحيح الخالي من البدع والحوادث, بل نجدها تأثرت بما سبقها من أمم وأنها خليط من الرهبنة النصرانية, والبرهمة الهندوكية, والتنسك اليهودي, وزهد البوذية,والفكر المجوسي, والغنوصية اليونانية, والأفلاطونية الحديثة, ويشهد بذلك تعاليمهم وحالهم في عبادتهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف, والضوابط لمن يدخل في طريقتهم, وفيما يلي بيان لتلك الجذور وأمثلة لبعض من عقائد الصوفية وتعاليمهم المستمدة من تلك الجذور :
1- البوذية:
قصة إبراهيم بن أدهم وهو من أئمة التصوف الأوائل؛ المذكورة في كتب الطبقات عند الصوفية ولايخلوا كتاب من كتبهم من ذكر تلك القصة, وهي مشابهة إذا ماقارنَ بقصة بوذا المنقولة من الكتب البوذية, وخلاصة القصة: إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ , وتحت إمرته عالم , وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من الذهب من أمامه ومن خلفه , وكان نائما ذات ليلة على السرير , فتحرك سقف البيت ليلا , كأنما يمشي أحد على السطح , فنادى : من هذا .. ؟ فقال : صديق فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف , فقال : أيها الجاهل , أتبحث عن البعير فوق السطح ...؟ فقال له : وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب ...؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا الكلام , واندلعت في قلبه نار , فلم يستطع النوم حتى الصباح , وعندما أشرق الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا , ووقف أركان الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما , فدخل رجل مهيب من الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت , ولم ينبسوا ببنت شفه , وتقدم الرجل حتى واجه سرير إبراهيم , فقال له : ماذا تريد ..؟ قال : أنزل في هذا الرباط , قال : ليس هذا برباط , إنما هو قصري , وإنك لمجنون , فقال : لمن كان هذا القصر قبل هذا ؟ قال : كان لأبي , قال وقبل ذلك , قال : كان ملكا لجدي ... وقبل ذلك ؟ قال : ملكا لفلان , قال : أو ليس الرباط هو ما يحل به أحد و يغادره الآخر .. ؟ قال هذا و اختفى , وكان هو الخضر عليه السلام , فازدادت حرقة روح إبراهيم ولوعته , وازداد ألمه حدة نتيجة لهذه الحال , وازدادت هذه الحال من واحد إلى مائة ضعف , إذ أنه رأى أنه قد اجتمع ما شاهده نهارا مع ما وقع ليلا ولم يعرف مما سمع , ولم يعلم ماذا رأى اليوم , فقال : أسرجوا الجواد لأني أريد الذهاب للصيد , فقد حدث لي اليوم شيء لست أدري ما هو , فيا إلهي إلى أين تنتهي هذه الحال ... ؟ فأسرجوا له جوادا , وتوجه للصيد , فكان يتجول في البرية دهشا بحيث لم يعرف ماذا يفعل , فأنفصل عن جيشه وهو في تلك الحال من الدهش , فسمع صوتا في الطريق يقول له : انتبه , فانتبه , ولم يصغ إليه , وذهب وجاءه هذا النداء للمرة ثانية , فلم يعره سمعا للمرة الثالثة نفس ذلك النداء , فأبعد نفسه عنه , وسمع للمرة الرابعة من يقول : ( انتبه قبل أن تنبه ) ففقد صوابه تماما وفجأة ظهرت غزالة فشغل نفسه بها , فأخذت الغزالة تخاطبه قائلة : إنهم بعثوني لصيدك , وإنك لن تستطيع صيدي , ألهذا خلقت ؟ أو بهذا أمرت ؟ إنك خلقت للذي تعمله وليس لك عمل آخر , فقال إبراهيم : ترى ما هذه الحال ....؟ وأشاح بوجهه عن الغزالة , فأرتفع نفس ذلك الصوت الذي قد سمعه من الغزالة من قربوس السرج , فوقر في نفسه الخوف والفزع وأزداد كشفا , وحيث أن الحق تعالى أراد أن يتم الأمر ارتفع ذلك الصوت ثلاث مرات أخر من حلقة جيبه , وبلغ ذلك الكشف هنا حد الكمال , وأنفتح عليه الملكوت ونزل , وحصل له اليقين , فابتلت الملابس والجواد من ماء عينيه , وتاب توبة نصوحا , وانتحى ناحية من الطريق , فرأى راعيا يرتدي لبادا , وقد وضع قلنسوة من اللباد على رأسه , وأمامه الأغنام وأخذ منه اللباد ولبسه ووضع قلنسوة اللباد على رأسه وطفق يسير راجلا في الجبال والبراري هائما على وجهه ينوح من ذنوبه , ثم غادر المكان إلى أن بلغ نيسابور , فأخذ يبحث عن زاوية خالية يتعبد فيها حتى وصل إلى ذلك الغار المعروف واعتكف فيه تسعة أعوام .
ومن ذا الذي يعلم ما كان يفعله هناك في الليل والنهار , إنه ينبغي أن يكون رجلا عظيما ذا مادة واسعة حتى يستطيع الإقامة في مثل ذلك المكان , وصعد إبراهيم يوم خميس إلى ظاهر الغار وجمع حزمة حطب واتجه في الصباح إلى نيسابور حيث باعها , وصلى الجمعة واشترى بثمن الحطب خبزا , وأعطى نصفه لفقير وتناول النصف الآخر , وأتخذ منه إفطاره وداوم صيامه حتى الأسبوع التالي , وبعد أن وقف الناس على شأنه هرب من الغار وتوجه إلى مكة , وقيل أنه بقي أربعة عشر عاما يطوي البادية حيث كان يصلي ويتضرع طوال الطريق حتى أشرف على مكة , وروي أنه كان له طفل رضيع عند مغادرته بلخ , ولما أيفع طلب من أمه أباه , فقصت له الأم الحال قائلة : إن أباك قد تاه , ونقل عنه أنه قال : عندما كنت أسير في البادية متوكلا , ولم أتناول شيئا مدة ثلاثة أيام جاءني إبليس وقال : أنت ملك , وتركت هذه النعمة لتذهب جائعا إلى الحج ...؟ لقد كان بمقدورك الحج بعز وجلال حتى لا يصيبك كل هذا الأذى , قال : عندما سمعت هذا الكلام منه رفعت صوتي وقلت : إلهي !! سلطت العدو على الصديق حتى يحرقني فأغثني حتى أستطيع قطع هذه البادية بعونك , فسمعت صوتا يقول : يا إبراهيم ! ألق ما في جيبك حتى تكشف ما هو في الغيب فمددت يدي إلى جيبي فوجدت أربعة دوانيق فضية كانت قد بقيت منسية , ولما رميتها جفل إبليس مني وظهرت قوة من الغيب).
فهذه هي قصة إبراهيم بن أدهم , وفيها ما فيها من ترك الأهل والزوج والولد بدون جريمة إرتكبوها , وإثم اقترفوه , خلافا لأوامر القرآن وإرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم , المشهورة المعروفة شبها بقصة بوذا.
وممايدلل على عمل الصوفية بتلك البدعة ماورد في كتبهم المعتمدة من الحث على ترك الزواج والأولاد ومن تلك الأقوال:
مانقله المكي عن سيد الطائفة الجنيد البغدادي أنه قال : ( أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بالتزوج ).
ويقول السهروردي : ( التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص , وجوع من الترمح إلى النقص , وتقيدا بالأولاد والأزواج , ودوران حول مظان الاعوجاج , والتفاف إلى الدينا بعد الزهادة , وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة ) .
ثم نقل حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ , قيل : يا رسول الله وما خفيف الحاذ ؟ . قال : الذي لا أهل له ولا ولد . وقال بعض الفقراء - لما قيل له : تزوج - : أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج ).
ويقول سهل بن عبد الله التستري أنه قال :( إياكم والاستمتاع بالنساء , والميل إليهن , فإن النساء مبعّدات من الحكمة , قريبات من الشيطان , وهي مصايده وحظه من بني آدم , فمن عطف إليهن بكليته فقد عطف على حظ الشيطان , ومن حاد عنهن يئس منه , وما مال الشيطان إلى أحد كميله إلى من استرق بالنساء , وإن الشر معهن حيث كنّ , فإذا رأيتم في وقتكم من قدركن إليهن فايأسوا منه .
قيل له : فحديث النبي صلى الله عليه وسلم : حبّب إليّ من دنياكم ثلاث , فذكر النساء ؟ .
فقال : النبي صلى الله عليه وسلم معصوم , وقد بلّغكم ما كان فيه معهن , هي عدوّة الرجل ظاهرا وباطنا , إن ظهرت له لمحبة أهلكته , وإن أضمر تهاله , وإن الله عز وجل جعلهن فتنة , فنعوذ بالله من فتنتهن).
2- النصارى:
بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج , وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساكهم الذين ألزموا أنفسهم التبتل , خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها .
تقليدا لهم واتباعا لسنتهم , واقتداء لمسالكهم ومشاربهم , مخالفبن أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الشرائع والأديان , المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات , فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة , فيقول سبحانه وتعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }[3]وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[4]
ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : ( إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرهم فقال بعضهم : لا آكل اللحم , وقال بعضهم : لا أتزوج النساء , وقال بعضهم : لا أنام على فراش , وقال بعضهم : أصوم ولا أفطر , فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه , ثم قال : ما بال أقوام قالوا كذا وكذا , لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني ) وقال : ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )[5] .وقد علق على ذلك إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل-رحمه الله- فقال :( ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء , النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع , ثم قال : لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله , لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا , وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء , وكان يختار النكاح ويحث عليه , وينهى عن التبتل , فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق . ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال : ( حبب إلى النساء ) [6]
فتلك هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين شرع الله الكتاب والسنة, وتلك هي أقوال الصوفية , التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب , والمنهل الصافي , بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك , ونساك الجينية , ورهبان النصارى, واعتمدتها أئمتهم في كتبهم وجعلتها من تعاليمهم.
ومن نصوص النصارى في ذلك :
يقول بولس في رسائله:( وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة ) [7] .
ويقول :( أقول لغير المتزوجين والأرامل : إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ) [8]
وكذلك من خصائص النصرانية وتعاليمها ترك الدنيا , والتجرد عن المال , والتجوع , وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة المباحة, وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة , ورهبانية ابتدعوها , وتعذيب النفس .
فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال :
(لا تكنزوا كنوزا على الأرض , حيث يفسد السوس والصدأ , وحيث ينقب السارقون ويسرقون . بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ , وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون . لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ) [9] .
وقال أيضا :( وكل من ترك بيوتا أو اخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف , ويرث الحياة الأبدية ) [10]. وورد في إنجيل متى :
( لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر , فتقدم كاتب وقال له : يا معلم , أتبعك أينما تمضي . فقال له يسوع : للثعالب أوجرة , ولطيور السماء أوكار . وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه . وقال له آخر من تلاميذه : يا سيد , ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي . فقال له يسوع : اتبعني , ودع الموتى يدفنون موتاهم ) [11] .
هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية , وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة , أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها, وزادوا عليها تعذيب النفس , وتحمل المشاق والآلام , تعمقا في التجرد , ومغالاة في تجنب الدنيا , واحتقارا لزخارفها.
ومن نصوص الصوفية الموافقة لماعليه النصارى:
قول سيد الطائفة الجنيد البغدادي:(أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بالتكسب , وإلا تغير حاله ) .
ويقول أيضا :(ما أخذنا التصوف عن القيل والقال , لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات ) ويبين ابن عجيبة الحسني حالة أهل التصوف في كتابه-إيقاظ الهمم-:(وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء أصبح حزينا , وإذا لم يصبح عنده سيء أصبح فرحا مسرورا ).
وقال عنهم:( الفقر أساس التصوف , وبه قوامه ).
وينقل عن الرفاعي صاحب الطريقة الرفاعية أنه كان يقول :(أكره للفقراء دخول الحمام , وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة , وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك ).
ولاشك في فساد إعتقادهم وبطلانه, ومخالفته للكتاب والسنة يقول تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [12]وقال : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [13]
3- المذاهب الهندية والفارسية:
إن تعاليم التصوف وأوراده وأذكاره, وطرق الوصول إلى المعرفة والمؤدية إلى الفناء مأخوذة ومستقاة من المذاهب الهندية والمانوية, والزرادشتية أيضاً, وقد ذكر ذلك كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين والمسلمين.
ومن هؤلاء الكتاب المسلمين الأستاذ أبا العلاء العفيفي كتب عن المشتغلين من المستشرقين في الدراسة عن التصوف فقال:( وأما ريتشورد هارتمان , وماركس هورتين فنزعتهما واحدة : وهي أن التصوف يستمد أصوله من الفكر الهندي , وإن كان هورتين قد بذل من المجهود في إثبات هذه النظرية ما لم يبذله أي كاتب آخر, فقد كتب مقالتين حاول أن يثبت في إحداهما , بعد تحليل تصوف الحلاج والبسطامي والجنيد , وأن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعا بالأفكار الهندية , وأن الأثر الهندي أظهر ما يكون في حالة الحلاج . وفي المقالة الثانية يؤيد النظرية نفسها عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا , وينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية.
ويستند هارتمان في إثبات نفس الدعوى إلى النظر في الصوفية أنفسهم وفي مراكز الثقافة القديمة التي كانت منتشرة في بلادهم , لا إلى المصطلحات الصوفية كما فعل هورتن .
وقد نشر في مسألة أصل التصوف مقالا هاماً سنة 1916, وخلاصة بحثه أن التصوف الإسلامي مدين للفلسفة الهندية التي وصلت إليه عن طريق مترا وماني من جهة , وللقبّالة اليهودية والرهبنة المسيحية والغنوصية والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى . وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجا تاما في التصوف هو أبو القاسم الجنيد البغدادي, فإليه يجب أن تتجه عناية الباحثين . أما حججه في تأييد الأصل الهندي فهي :
أولا : أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي .
ثانيا :أن التصوف ظهر أولا وأنتشر في خراسان .
ثالثا : أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية , فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة.
رابعا : أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي .
خامسا : أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه . فالرضا فكرة هندية الأصل , واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم , واستعمالهم للسبح , عادتان هنديتان )
وقد سبق هؤلاء المستشرقين والقائلين بهذا الرأي من الباحثين , سبقهم جميعا البيروني , حيث قارن بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية في كتابه المشهور ( تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ) .
وأوجه الشبه التي ذكرها البيروني بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية هي تتلخص في أمور ثلاثة :
أولا : الأرواح .
ثانيا: في طريق الخلاص .
ثالثا: الغاء التمايز ومحو الأشارة.
وأن القارئ لأقوال الصوفية , والعارف بأحوالهم ورياضاتهم ومجاهداتهم يلاحظ بنفسه تشابها كبيرا بين هؤلاء وأولئك , وخاصة في تعذيب النفس , وتحمل المشاق , والتجوع , وحبس النفس , وإماتة الشهوات , والهروب من الأهل والأولاد , والجلوس في الخلوات , مراقبة صورة الشيخ , طرق الذكر , وكثير من العادات والتقاليد والرسوم , حيث لا يرى فيها إلا مشابهة تامة بتلك المذاهب وأصحابها , كمالا يرى فيها أي أثر للإسلام وتعاليمه.
وممايدلل على تأثر الصوفية بتلك العقائد وموافقتهم للمذاهب الهندية أقوال أئمتهم في الحث على تلك الأفعال ومنها:
قول حاتم الأصم :( من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت : موت أحمر , وموت أسود , وموت أبيض , وموت أخضر .
فالموت الأبيض الجوع , والموت الأسود احتمال أذى الناس, والموت الأحمر مخالفة النفس , والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض )
وقال :( ما من صباح إلا والشيطان يقول لي : ما تأكل ؟ وما تلبس ؟ وأين تسكن ؟ .
فأقول : آكل الموت , وألبس الكفن , وأسكن القبر ) وغيرها من أقوال أئمتهم التي تدعوا إلى عقائد وعبادات لم ينزل الله بها من سلطان.
4- الأفلاطونية الحديثة:
ذكر جمع من الكتّاب والباحثين في التصوف أن الأفلاطونية الحديثة هي أحد المصادر الأساسية للتصوف , بل إنها هي المصدر الأول بالنسبة للقائلين بوحدة الوجود والحلول بدءاً من أبي اليزيد البسطامي , وسهل التستري , والترمذي الملقب بالحكيم , ابن عطاء الله الأسكندري , وابن سبعين , وابن الفارض , والحلاج , ولسان الدين بن الخطيب , وابن عربي , والرومي , والجيلي , والعراقي , والجامي , والسهروردي المقتول , وبايزيد الأنصاري وغيرهم .
وأن هؤلاء أخذوا نظرية الفيض والمحبة والمعرفة والإشراق مع الآراء الأخرى التي تمسكوا بها عن الأفلاطونية المحدثة .
وعبارات الصوفية أنفسهم ناطقة بها وشاهدة عليها ولو أنهم اختلطت عليهم آراء الأفلاطونية الحديثة وآراء أفلاطون وأرسطو وغيرهم من حكماء اليونان الآخرين , حيث نسبوا ذلك إلى هذا , وهذا إلى تلك.
ومما يدلل على ذلك قول أحد الصوفية المعاصرين: (وأما وحدة الوجود الحلولية التي تجعل من الله كائنا يحل في مخلوقاته أو الاتحادية بالمعنى المفهوم خطا تلك التي تجعل من الكائن الفاني شخصية تتحد بالموجود الدائم الباقي المنزه عن سائر النسب والإضافات والأحياز الزمانية والمكانية المحدثة أو يتحد به شيء منها فإنها مذهب هندي أو مسيحي وليس بإسلامي ولا يعرفه الإسلام , استمده أهل الشذوذ في التصوف الإسلامي من الفلسفة البائدة , وغذوا به مذهبهم الشاذ بفكر أفلاطونية وآراء بوذية وفارسية عن طريق الفارابي وابن سينا , حاله أن المتتبع لحياة الحلاج ومؤلفات السهروردي وابن عربي يرى أنهم تأثروا بالمتفلسفة المسلمين الذين أخذوا عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والأرسطو طاليسية).
كماإن هناك فصولا منحولة لأفلاطون وسقراط وغيرهما من الفلاسفة اليونانيين معظمها آداب وأقوال .... وكلها تتشابه في بعض آرائها مع الأقوال المنسوبة إلى كبار الصوفية المسلمين في كتب طبقات الصوفية المختلفة ( القشيري , السلمي , الشعراني , الهروي , العطار , الجامي الخ ).
ولقد أقر الدكتور أبو العلاء العفيفي أيضا بتأثر ابن عربي ومن نهج منهجه في الأمور الكثيرة وفي نظرية الفيض بأفلاطونية المحدثة.
وكتب الدكتور التفتازاني كلاما يشبه هؤلاء حيث قال: (ونحن لا ننكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي, فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة , والأفلاطونية المحدثة خاصة , إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل,أو الاختلاط مع رهبان النصارى في الرها وحران . وقد خضع المسلمون لسلطان أرسطو , وإن كانوا قد عرفوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية , لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي حينما ترجم الكتاب المعروف بـ ( أثولوجيا أرسطو طاليس ) قدمه إلى المسلمين على أن لأرسطو على حين أنه مقتطفات من تاسوعات أفلوطين .
وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركة بالمشاهدة في حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس , كان لها أثرها في التصوف الإسلامي فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة . وكذلك , كان لنظرية أفلوطين السكندري في الفيض وترتيب الموجودات عن الواحد أو الأول . أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة كالسهروردي المقتول, ومحي الدين بن عربي, وابن الفارض , وعبد الخالق بن سبعين, وعبد الكريم الجيلي, ومن نحا نحوهم .
ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل : الكلمة – العقل الأول - العقل الكلي – العلة والمعلول ز الكلي .... إلخ ) [14]
5- التشيع:
فللتشيع تأثير قوي في تكوين التصوف وتشكيله, وتحوير منهجه وتطويره, فقد وضع نواته اليهود, وساهمت في تنشيئته وتنميته الديانات الفارسية, وهناك إرتباط وتشابه بين عقائد الصوفية والشيعة ولعل المكانة التي يحضى بها الولي عند الصوفية مشابهة لمكانة الإمام عند الشيعة, كما أن لعلي-رضي الله عنه- مكانة رفيعة عند أئمة وأولياء الصوفية, ومن ذلك ماقاله المكي في كتابه-الفتوحات المكية- :(أنه من أصحاب العلم وممن يعلمون من الله ما لم يعلمه غيره..وانه ضرب على صدره وقال: إن هاهنا لعلوماً جما لو وجدت لها حملاً.. ) [15] .
فمرجعهم دائماً من الصحابة هو علي بن أبي طالب أو الحسن بن علي " الذي هو أول الأقطاب " كماقالت الصوفية بالقطب والأبدال وهذا من أثر الإسماعيلية والشيعة[16].
ونقل الطوسي عن الوجيهي أنه قال :سمعت أبا علي الروذباري يقول : سمعت جنيدا رحمه الله يقول :( رضوان الله على أمير المؤمنين علي , رضي الله عنه , لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة , ذاك امرؤ أعطى علم اللّدني , والعلم اللّدني هو العلم الذي خصّ به الخضر عليه السلام , قال تعالى : { وعلمناه من لدنّا علما } ) .
وإليه تنتسب سلاسل التصوف كلها كما قال محمد معصوم شيرازي الملقب بمعصوم علي شاه :
( ولابد لكل سلسلة من سلاسل التصوف من الأزل إلى الأبد , ومن آدم إلى انقراض الدنيا أن تكون متصلة بسيد العالمين وأمير المؤمنين ) .
لأنه ( أزهد الصحابة عند المتصوفة ).
فأول وليّ عند المتصوفة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه , ومنه إنتقل الولاية إلى غيره من الأولياء كما أنه أول إمام عند الشيعة , وتسلسلت منه فورثها غيره , وكذلك الفتوة والقطبية , وهو الذي ألبس خرقته الحسن البصري , وهذه الخرقة التي يلبسها المتصوفة خلفاءهم وورثتهم .
وينصّ على تشيع هذا ابن خلدون في مقدمته حيث يقول عند ذكر الصوفية :
( إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخيّلهم رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا , وإلا فعليّ رضي الله عنه لم يختصّ من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في اللباس ولا الحال , بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة , ولم يختصّ أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص , بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة , يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات , وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق ) [17] .
فمماسبق يتضح لنا من خلال بعض الأمثلة أثر تلك الأديان المحرفة والمذاهب الوضعية على التصوف, وأنهم شابهوهم بأهم عقائدهم وأخذوا منهم بدليل أقوالهم في كتبهم المعتمدة, وأفعالهم المشابهة لما عليه تلك المذاهب, وكانت تلك الجذور منبع للمتصوفة في الإعتقاد, والتي لاترجع إلى كتاب الله ولالسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وماكان عليه السلف الصالح من النهج الحق البين التابع للكتاب والسنة.
*المبحث الثالث- مصادر الصوفية العامة في التلقي:-
للصوفية مصادر ثابتة معتمدة في مسائل الإعتقاد وأمور الدين وهي كثيرة ومتنوعة منها:
1- الكشف:
حيث يعتمد الصوفية على الكشف كمصدر وثيق لتلقي الدين والشريعة.
ويدخل تحت الكشف الصوفي أمران: هما:
الأول: الكشف من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقصدون به أخذ الأحكام الشرعية عنه صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً أو منامًا، ومعلوم أنَّ هذا من الضلال البعيد –عياذًا بالله تعالى.
ثانيًا: الكشف من الخضر -عليه السلام- حيث تكثر حكايات الصوفيّة عن لُقياه والأخذ عنه أحكامًا شرعيَّة وعلومًا دينيَّة إضافة إلى أنهم يدَّعونَ أنه يُعلِّمهم الأوراد والأذكار والمناقِب، وكل هذا من تلبيس الشيطان الرجيم على أولئك المبتدعة الضُّلاَّل.
2- الإلهام:
وهو ما يكون من الله تعالى مباشرة وبه جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي حيث يعتقدونَ أنَّ الوَليَّ يأخذ العلم مباشرةً عن الله تعالى، بينما الرسول أو النبيُّ يأخذه من المَلَك الذي يوحي به إليه.
3- الهواتف:
كسماع الخطاب من الله تعالى مباشرةً –عياذًا بالله- ، أو من الملائكة، أو من الجن الصالح، أو من أحد الأولياء، أو حتى الخضر عليه السلام؛ إمَّا منامًا أو يَقَظَةً:
وفي حالة اليَقَظَة: يكون الهتاف –كما يقولون- بواسطة الأذن –كما يعتقدون- وهذا تمامًا يوافق ما تقوله الشيعة الإثنى عشريَّة من الإلهام، ونزول الوحي على قلوب أئمَّتهم الإثنى عشر.
4- الإسراء والمعراج:
وهذا الإسراء لا يُقصَد به إسراء النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يقصدون به: الإسراء والمعراج الخاص بالوليّ الصوفي، ويقصدون به عروج روح الولي إلى العالم العلوي والتنقُّل في ملكوت السماء كيفما أراد ذلك الولي الكذَّاب الدَّجَّال، بل ويعتقدون بأن ذلك الولي يأتي من الملكوت السماوي العلوي بشتَّى العلوم والأسرار، وهذا من الكذب والدَّجَل الذي لا يُصدّقه مَن آمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.
5- الرؤى والمنامات:
وتُعَد هذه الرؤى وهذه المنامات من أكثر المصادر اعتمادًا عليها في الفِكر الصوفي وفي المعتقد الصوفي، حيث يزعمون أنهم يتلقَّوْنَ فيها بعض الأحكام الشرعيَّة عن الله تعالى مباشرة –عياذًا بالله- ، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن شيوخ الطرق الصوفية بعد مماته، وكل هذا طبعًا عن طريق الرؤى والمنامات، وهذا من الضلال الذي لا ضلال بعده –عياذًا بالله تعالى-.[18]
المبحث الرابع- الكُتب التي يستمد منها الصوفية أمور الدين ومسائل الإعتقاد:-
للصوفية كُتب كثيرة تستمد منها عقائدها, وبالأخص عقائد "الطرق الصوفية", ومن أهم وأشهر كُتبهم والتي تعد مرجعاً أساسي لهم, فيهما كلام حسن كثير مشوب بكثير من الباطل, وفيهما يجد بغيته من يبحث عن الزندقة, وهما: "قوت القلوب"لأبي طالب المكي, و"أحياء علوم الدين"لأبي حامد الغزالي, والثاني منقول بحروفه من الأول-ممايبين لنا شدة إعتمادهم وإستنادهم لتلك الكتب المخالفة-, هما في حقيقة الأمر كتاب واحد.
قال الجامي عن -القوت-:(مجمع أسرار الطريقة, قالوا:لم يصنف مثله في دقائق الطريقة)[19]
وقال د.عبدالمنعم الحفني عن القوت:(وهو المرجع الثبت في التصوف تأثر به الغزالي,..وأقتبس من الكثير السهردوردي في كتابه"عوارف المعارف" )
وقيل في وصف هذا الكتاب إنه: لم يؤلف في هذا الباب مثله وكان ومايزال مدرسة للمريدين والسالكين, وكل الطرق الصوفية تستقي منه وتصدر عنه فيما يأخذ به من أذكار وأداع وصلوات وصيام.
وقد نقل الغزالي عنه في الأحياء كثيراً, وأصل كتابه من هذا الكتاب كما بين ذلك بنفسه فقال:(فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب)
وقال محمود عرنوس:( إن الغزالي كاد ينقل قوت القلوب لأبي طالب المكي بنصه, في كتاب الإحياء).
وشيوخ الطرق الصوفية يعتمدون في كتبهم على "الإحياء"و"القوت", فقد كان الشاذلي يقول لتلاميذه:(إذا عرضت لكم إلى الله حاجة فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد).
فيتضح مما سبق عظم وقدر الكتابان عند الصوفية, بل إن تلك الكتابان عند الصوفية كالمصحف, من شدة تتبعهم وإستنادهم لمافيهما من أحاديث موضوعة ومكذوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى زعموا أن الإمام النووي قال في الأحياء:( لوعدمت كتب الإسلام, وبقي الإحياء لأغنى عماذهب) وأنه قال:(يكاد الإحياء أن يكون قرآناً)[20].
*موقف أهل العلم من كتب الصوفية:
1- كتاب"إحياء علوم الدِّين"لأبي حَامد الغزالي :
قال ابن تيمية :(الإحياء فيه فوائد كثيرة , لكن فيه مواد مذمومة فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد , وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا : أمرضه الشفاء , يعـنـــون "كتاب الشفاء" لابن سينا في الفلسفة , وفي الإحياء أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة : كثيرة , وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم , وفيه مع ذلك من كلام المشايخة الصوفية المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة , وأما ما فيه من الكلام في ( المهلكات ) مثل الكلام على الكبـِــر والعجب والحسد فغالبه منقول من كلام الـحــارث المحـاسبـي فــي"الرعاية", ومنه ما هو مقبول وما هو مردود)[21].
وقال ابن الجوزي :(وإني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة , كيف يحل القيام على الرأس طول الليل , وكيف يحل إضاعة المال , وكيف يحل السؤال لمن يقدر على الكسب فما أرخص ما باع أبو حامد الفقه بالتصوف وسبحان من أخرجه من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء)[22].
2- كتاب"قوت القلوب"لأبي طالب المكي :
قال الشاطبي :(لأبي طالب آراء خالف فيها العلماء , حتى أنه ربماخالف الإجماع في بعض المواضع , لكن له كلام حسن في الوعظ والتذكير والتحريض على طلب الآخرة , فلذلك إذا احتاج الطلبة إلى كتاب طالعوه متحرزين , وأما العوام فلا يحل لهم مطالعته) .
قال ابن كثير :( كان رجلاً صالحاً له كتاب"قوت القلوب"ذكر فيــه
أحاديث لا أصل لها , بدّعه الناس وهجروه)[23].
*الخلاصة:
بعد هذا العرض الموجز عن مصادر الصوفية في التلقي يتبين لنا:
1- أن الصوفية فكر نشأ بعد الإسلام, استمد عقيدته وفكره من الأمم السابقة.
2- لم يتخذ المتصوفة الكتاب والسنة مصدر أساسي للتقلي, بل لكل فكر وعقيدة مماسبقهم من الأمم أثر على إعتقادهم.
3- ليس لإفعال الصوفية وأقوالهم إرتباط وصلة لما في السنة النبوية من أفعال للرسول صلى الله عليه وسلم,ولما كان عليه صحابته في القرون المفضلة.
4- للتشيع أثر كبير على المتصوفة, وهناك إرتباط واسع بينهما في الإعتقاد كمابينا سابقاً.
5- للصوفية كتب كثيرة تعتمد عليها وتأخذ منها أمور دينها حتى عدوها كالمصحف لهم, وأهمها وأشهرها كتابي الفتوحات لابن عربي,والإحياء للغزالي.
هذا والله أعلم وأجل واستغفر الله من الزلل والخطأ فيما كتبت لقصرٍ في فهمي أونقلي,فماكان صواب فمن الله وماكان خطأ فمن نفسي والشيطان..
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جمع الأستاذ عبد الله المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
( يأيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (آل عمرآن:102)
( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ( النساء:1)
( يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً) ( الأحزاب: 70ـ71)
أما بعد:
فأن من أهم مسائل الإعتقاد التي يعتنى بالبحث عنها عند كل فكر أو مذهب من المذاهب المعاصرة هو مصادرها في التلقي, إذ فيهما يعرف صحة المذهب من بطلانه, وأصل ذلك الفكر ومستقاه, فبقدر قرب المذاهب من القرآن الكريم والسنة النبوية بقدر مايحكم على صحتها وقربها من الصواب, وبقدر بعدها عنهما بقدر مايحكم على بطلانها وبعدها عن الصواب, ولايخلو فكر أو مذهب من المذاهب من أصل يرجع إليه ومصدر يستند إليه في مسائله, ومن أهم الفرق المعاصرة والتي تحمل فكر مخالف لماعليه الكتاب والسنة في أمور الدين "فرقة الصوفية", فسوف نذكر في هذا البحث أهم الجذور التي تستمد منها عقائدها ومصادرها في تلقي أمور الدين,ومكانة القرآن الكريم والسنة النبوية عندها, فجاءت خطة البحث على النحو التالي:
المبحث الأول- مكانة القرآن الكريم والسنة النبوية عند أهل السنة والجماعة والصوفية.
المبحث الثاني- الجذور التي إستمد منها الفكر الصوفي عقيدته وتأثر بها.
المبحث الثالث- مصادر الصوفية العامة في التلقي.
المبحث الرابع- الكتب التي يستمد منها الصوفية أمور الدين ومسائل الإعتقاد.
الخلاصة.
المصادر والمراجع.
هذا ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الأخلاص والقبول على هذا العمل اليسير,كما وأسأله التوفيق والسداد لما يحبه تعالى ويرضاه في الدنيا والآخرة.
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول- مكانة القرآن الكريم والسنة النبوية عند أهل السنة والجماعة والصوفية:
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة, يعدان المصدران الأساسيان للتلقي عند أهل السنة والجماعة, وإليهما ترد أمور الدين من أحكام في الإعتقاد أو الشريعة..,وقد تلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان كتاب الله وسنة رسوله الكريم بالقبول والعمل, حتى تميز منهج السلف الصالح في الأخذ بنصوص الكتاب والسنة وحضي بميزات وخصائص جعلتهم ينجون من الحيرة والتناقض والإضطراب الذي وقع فيه من زاغ عن الكتاب والسنة وابتغى الهدي في غيرهما.
كما أن منهج السلف الصالح واضح وبين في أن لاعقيدة إلا من القرآن والسنة, ولاشريعة كذلك إلا منهما, وأن كل ماخالفهما فهو باطل.
وقد عمل الصوفية على نقضهما وهدمهما, فالتصوف يقوم أول مايقوم على هدم هذين الأصلين, توحيد المعتقد وتوحيد العمل, فعندهم كل ماأعتقده الناس جميعهم مؤمنين وكفاراً وزنادقة وفلاسفة, وعلى أي مذهب وملة فهو حق, وكل عمل وشريعة فهي حق.
وأما الإسلام فأنه يقوم أول مايقوم على أنه لاهدى إلا هدى الإسلام, ولاعقيدة حق إلا عقيدة الكتاب والسنة, ولاشريعة واجبة الإتباع إلاشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم, وأنه لاصراط يوصل إلى الله إلا صراطه.وأما المتصوفة فكل الطرق نافعة وصالحة وكل الشرائع مهما كانت فعينها واحدة[1].وهذا ماسنبينه من تتبع جذور عقائدهم وأصول إعتقادهم في المباحث القادمة.
*المبحث الثاني- الجذور التي إستمد منها الفكر الصوفي عقيدته وتأثر بها[2]:-
إختلف أهل العلم في منبع ومأخذ ومصدر الفكر الصوفي إلى أربعة أقوال وهي:
القول الأول : إنه إسلامي بحت في أشكاله وصوره , ومبادئه ومناهجه , وأصوله وقواعده , وأغراضه ومقاصده , حتى في ألفاظه وعباراته , وفلسفته وتعاليمه , ومواجيده وأناشيده , ومصطلحاته ومدلولاته , وهذا هو إدعاء الصوفية ومن والاهم , وناصرهم , ودافع عنهم .
الثاني : لا علاقه له بالإسلام إطلاقا , قريبة ولا بعيدة في اليوم الذي نشأ فيه , ولابعد ماتطور , وهو أجنبي عنه كاسمه , فلذلك لا يفتش عن مصادره ومآخذه في القرآن والسنة وإرشاداتهما , بل يبحث عنها في الفكر الأجنبي , وهو رأي أكثر علماء السلف ومن نهج منهجهم وسلك مسلكهم وكذلك الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة من المتقدمين , والأكثرية الساحقه من المستشرقين , والكثير من الباحثين والمفكرين من المتأخرين .
الثالث : إنه اسم للزهد المتطور بعد القرون المشهود لها بالخير كردّ فعل لزخرفة المدينة وزينتها التي انفتحت أبوابها على المسلمين بعد الغزوات والفتوحات وانغماسهم في ترف الدنيا ونعيمها , ثم حصلت فيه التطورات , ودخلت أفكار أجنبية والفلسفات غير الإسلامية وذهب إلى هذا الرأي ابن تيمية والشوكاني من السلف وغيرهم من بعض أعلام أهل السنة , حتى الصوفية أنفسهم وبعض المستشرقين .
الرابع : إن التصوف وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية ومن المانوية والمجوسية والمزدكية , وكذلك الهندوكية والبوذية , وقبل كل ذلك من الفلسفة اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثية.
والمطلع على عقائد الصوفية يجد لها جذور مرتبطة بالأمم السابق لها, ولاأثر للقرآن الكريم والسنة النبوية وسلف الأمة الصالح الذين اتبعوا الكتاب والسنة على النهج الصحيح الخالي من البدع والحوادث, بل نجدها تأثرت بما سبقها من أمم وأنها خليط من الرهبنة النصرانية, والبرهمة الهندوكية, والتنسك اليهودي, وزهد البوذية,والفكر المجوسي, والغنوصية اليونانية, والأفلاطونية الحديثة, ويشهد بذلك تعاليمهم وحالهم في عبادتهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف, والضوابط لمن يدخل في طريقتهم, وفيما يلي بيان لتلك الجذور وأمثلة لبعض من عقائد الصوفية وتعاليمهم المستمدة من تلك الجذور :
1- البوذية:
قصة إبراهيم بن أدهم وهو من أئمة التصوف الأوائل؛ المذكورة في كتب الطبقات عند الصوفية ولايخلوا كتاب من كتبهم من ذكر تلك القصة, وهي مشابهة إذا ماقارنَ بقصة بوذا المنقولة من الكتب البوذية, وخلاصة القصة: إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ , وتحت إمرته عالم , وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من الذهب من أمامه ومن خلفه , وكان نائما ذات ليلة على السرير , فتحرك سقف البيت ليلا , كأنما يمشي أحد على السطح , فنادى : من هذا .. ؟ فقال : صديق فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف , فقال : أيها الجاهل , أتبحث عن البعير فوق السطح ...؟ فقال له : وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب ...؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا الكلام , واندلعت في قلبه نار , فلم يستطع النوم حتى الصباح , وعندما أشرق الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا , ووقف أركان الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما , فدخل رجل مهيب من الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت , ولم ينبسوا ببنت شفه , وتقدم الرجل حتى واجه سرير إبراهيم , فقال له : ماذا تريد ..؟ قال : أنزل في هذا الرباط , قال : ليس هذا برباط , إنما هو قصري , وإنك لمجنون , فقال : لمن كان هذا القصر قبل هذا ؟ قال : كان لأبي , قال وقبل ذلك , قال : كان ملكا لجدي ... وقبل ذلك ؟ قال : ملكا لفلان , قال : أو ليس الرباط هو ما يحل به أحد و يغادره الآخر .. ؟ قال هذا و اختفى , وكان هو الخضر عليه السلام , فازدادت حرقة روح إبراهيم ولوعته , وازداد ألمه حدة نتيجة لهذه الحال , وازدادت هذه الحال من واحد إلى مائة ضعف , إذ أنه رأى أنه قد اجتمع ما شاهده نهارا مع ما وقع ليلا ولم يعرف مما سمع , ولم يعلم ماذا رأى اليوم , فقال : أسرجوا الجواد لأني أريد الذهاب للصيد , فقد حدث لي اليوم شيء لست أدري ما هو , فيا إلهي إلى أين تنتهي هذه الحال ... ؟ فأسرجوا له جوادا , وتوجه للصيد , فكان يتجول في البرية دهشا بحيث لم يعرف ماذا يفعل , فأنفصل عن جيشه وهو في تلك الحال من الدهش , فسمع صوتا في الطريق يقول له : انتبه , فانتبه , ولم يصغ إليه , وذهب وجاءه هذا النداء للمرة ثانية , فلم يعره سمعا للمرة الثالثة نفس ذلك النداء , فأبعد نفسه عنه , وسمع للمرة الرابعة من يقول : ( انتبه قبل أن تنبه ) ففقد صوابه تماما وفجأة ظهرت غزالة فشغل نفسه بها , فأخذت الغزالة تخاطبه قائلة : إنهم بعثوني لصيدك , وإنك لن تستطيع صيدي , ألهذا خلقت ؟ أو بهذا أمرت ؟ إنك خلقت للذي تعمله وليس لك عمل آخر , فقال إبراهيم : ترى ما هذه الحال ....؟ وأشاح بوجهه عن الغزالة , فأرتفع نفس ذلك الصوت الذي قد سمعه من الغزالة من قربوس السرج , فوقر في نفسه الخوف والفزع وأزداد كشفا , وحيث أن الحق تعالى أراد أن يتم الأمر ارتفع ذلك الصوت ثلاث مرات أخر من حلقة جيبه , وبلغ ذلك الكشف هنا حد الكمال , وأنفتح عليه الملكوت ونزل , وحصل له اليقين , فابتلت الملابس والجواد من ماء عينيه , وتاب توبة نصوحا , وانتحى ناحية من الطريق , فرأى راعيا يرتدي لبادا , وقد وضع قلنسوة من اللباد على رأسه , وأمامه الأغنام وأخذ منه اللباد ولبسه ووضع قلنسوة اللباد على رأسه وطفق يسير راجلا في الجبال والبراري هائما على وجهه ينوح من ذنوبه , ثم غادر المكان إلى أن بلغ نيسابور , فأخذ يبحث عن زاوية خالية يتعبد فيها حتى وصل إلى ذلك الغار المعروف واعتكف فيه تسعة أعوام .
ومن ذا الذي يعلم ما كان يفعله هناك في الليل والنهار , إنه ينبغي أن يكون رجلا عظيما ذا مادة واسعة حتى يستطيع الإقامة في مثل ذلك المكان , وصعد إبراهيم يوم خميس إلى ظاهر الغار وجمع حزمة حطب واتجه في الصباح إلى نيسابور حيث باعها , وصلى الجمعة واشترى بثمن الحطب خبزا , وأعطى نصفه لفقير وتناول النصف الآخر , وأتخذ منه إفطاره وداوم صيامه حتى الأسبوع التالي , وبعد أن وقف الناس على شأنه هرب من الغار وتوجه إلى مكة , وقيل أنه بقي أربعة عشر عاما يطوي البادية حيث كان يصلي ويتضرع طوال الطريق حتى أشرف على مكة , وروي أنه كان له طفل رضيع عند مغادرته بلخ , ولما أيفع طلب من أمه أباه , فقصت له الأم الحال قائلة : إن أباك قد تاه , ونقل عنه أنه قال : عندما كنت أسير في البادية متوكلا , ولم أتناول شيئا مدة ثلاثة أيام جاءني إبليس وقال : أنت ملك , وتركت هذه النعمة لتذهب جائعا إلى الحج ...؟ لقد كان بمقدورك الحج بعز وجلال حتى لا يصيبك كل هذا الأذى , قال : عندما سمعت هذا الكلام منه رفعت صوتي وقلت : إلهي !! سلطت العدو على الصديق حتى يحرقني فأغثني حتى أستطيع قطع هذه البادية بعونك , فسمعت صوتا يقول : يا إبراهيم ! ألق ما في جيبك حتى تكشف ما هو في الغيب فمددت يدي إلى جيبي فوجدت أربعة دوانيق فضية كانت قد بقيت منسية , ولما رميتها جفل إبليس مني وظهرت قوة من الغيب).
فهذه هي قصة إبراهيم بن أدهم , وفيها ما فيها من ترك الأهل والزوج والولد بدون جريمة إرتكبوها , وإثم اقترفوه , خلافا لأوامر القرآن وإرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم , المشهورة المعروفة شبها بقصة بوذا.
وممايدلل على عمل الصوفية بتلك البدعة ماورد في كتبهم المعتمدة من الحث على ترك الزواج والأولاد ومن تلك الأقوال:
مانقله المكي عن سيد الطائفة الجنيد البغدادي أنه قال : ( أحب للمريد المبتدي أن لا يشغل قلبه بالتزوج ).
ويقول السهروردي : ( التزوج انحطاط من العزيمة إلى الرخص , وجوع من الترمح إلى النقص , وتقيدا بالأولاد والأزواج , ودوران حول مظان الاعوجاج , والتفاف إلى الدينا بعد الزهادة , وانعطاف على الهوى بمقتضى الطبيعة والعادة ) .
ثم نقل حديثا مكذوبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( خيركم بعد المائتين رجل خفيف الحاذ , قيل : يا رسول الله وما خفيف الحاذ ؟ . قال : الذي لا أهل له ولا ولد . وقال بعض الفقراء - لما قيل له : تزوج - : أنا إلى أن أطلق نفسي أحوج مني إلى التزوج ).
ويقول سهل بن عبد الله التستري أنه قال :( إياكم والاستمتاع بالنساء , والميل إليهن , فإن النساء مبعّدات من الحكمة , قريبات من الشيطان , وهي مصايده وحظه من بني آدم , فمن عطف إليهن بكليته فقد عطف على حظ الشيطان , ومن حاد عنهن يئس منه , وما مال الشيطان إلى أحد كميله إلى من استرق بالنساء , وإن الشر معهن حيث كنّ , فإذا رأيتم في وقتكم من قدركن إليهن فايأسوا منه .
قيل له : فحديث النبي صلى الله عليه وسلم : حبّب إليّ من دنياكم ثلاث , فذكر النساء ؟ .
فقال : النبي صلى الله عليه وسلم معصوم , وقد بلّغكم ما كان فيه معهن , هي عدوّة الرجل ظاهرا وباطنا , إن ظهرت له لمحبة أهلكته , وإن أضمر تهاله , وإن الله عز وجل جعلهن فتنة , فنعوذ بالله من فتنتهن).
2- النصارى:
بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج , وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساكهم الذين ألزموا أنفسهم التبتل , خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها .
تقليدا لهم واتباعا لسنتهم , واقتداء لمسالكهم ومشاربهم , مخالفبن أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الشرائع والأديان , المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات , فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة , فيقول سبحانه وتعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ }[3]وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[4]
ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : ( إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرهم فقال بعضهم : لا آكل اللحم , وقال بعضهم : لا أتزوج النساء , وقال بعضهم : لا أنام على فراش , وقال بعضهم : أصوم ولا أفطر , فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه , ثم قال : ما بال أقوام قالوا كذا وكذا , لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني ) وقال : ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )[5] .وقد علق على ذلك إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل-رحمه الله- فقال :( ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء , النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع , ثم قال : لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله , لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا , وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء , وكان يختار النكاح ويحث عليه , وينهى عن التبتل , فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق . ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال : ( حبب إلى النساء ) [6]
فتلك هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين شرع الله الكتاب والسنة, وتلك هي أقوال الصوفية , التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب , والمنهل الصافي , بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك , ونساك الجينية , ورهبان النصارى, واعتمدتها أئمتهم في كتبهم وجعلتها من تعاليمهم.
ومن نصوص النصارى في ذلك :
يقول بولس في رسائله:( وأما من جهة الأمور التي كتبتم عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة ) [7] .
ويقول :( أقول لغير المتزوجين والأرامل : إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا ) [8]
وكذلك من خصائص النصرانية وتعاليمها ترك الدنيا , والتجرد عن المال , والتجوع , وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة المباحة, وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة , ورهبانية ابتدعوها , وتعذيب النفس .
فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال :
(لا تكنزوا كنوزا على الأرض , حيث يفسد السوس والصدأ , وحيث ينقب السارقون ويسرقون . بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ , وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون . لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ) [9] .
وقال أيضا :( وكل من ترك بيوتا أو اخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف , ويرث الحياة الأبدية ) [10]. وورد في إنجيل متى :
( لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر , فتقدم كاتب وقال له : يا معلم , أتبعك أينما تمضي . فقال له يسوع : للثعالب أوجرة , ولطيور السماء أوكار . وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه . وقال له آخر من تلاميذه : يا سيد , ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي . فقال له يسوع : اتبعني , ودع الموتى يدفنون موتاهم ) [11] .
هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية , وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة , أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها, وزادوا عليها تعذيب النفس , وتحمل المشاق والآلام , تعمقا في التجرد , ومغالاة في تجنب الدنيا , واحتقارا لزخارفها.
ومن نصوص الصوفية الموافقة لماعليه النصارى:
قول سيد الطائفة الجنيد البغدادي:(أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بالتكسب , وإلا تغير حاله ) .
ويقول أيضا :(ما أخذنا التصوف عن القيل والقال , لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات ) ويبين ابن عجيبة الحسني حالة أهل التصوف في كتابه-إيقاظ الهمم-:(وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء أصبح حزينا , وإذا لم يصبح عنده سيء أصبح فرحا مسرورا ).
وقال عنهم:( الفقر أساس التصوف , وبه قوامه ).
وينقل عن الرفاعي صاحب الطريقة الرفاعية أنه كان يقول :(أكره للفقراء دخول الحمام , وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة , وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك ).
ولاشك في فساد إعتقادهم وبطلانه, ومخالفته للكتاب والسنة يقول تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [12]وقال : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [13]
3- المذاهب الهندية والفارسية:
إن تعاليم التصوف وأوراده وأذكاره, وطرق الوصول إلى المعرفة والمؤدية إلى الفناء مأخوذة ومستقاة من المذاهب الهندية والمانوية, والزرادشتية أيضاً, وقد ذكر ذلك كبار الكتاب عن التصوف والباحثين فيه من المستشرقين والمسلمين.
ومن هؤلاء الكتاب المسلمين الأستاذ أبا العلاء العفيفي كتب عن المشتغلين من المستشرقين في الدراسة عن التصوف فقال:( وأما ريتشورد هارتمان , وماركس هورتين فنزعتهما واحدة : وهي أن التصوف يستمد أصوله من الفكر الهندي , وإن كان هورتين قد بذل من المجهود في إثبات هذه النظرية ما لم يبذله أي كاتب آخر, فقد كتب مقالتين حاول أن يثبت في إحداهما , بعد تحليل تصوف الحلاج والبسطامي والجنيد , وأن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعا بالأفكار الهندية , وأن الأثر الهندي أظهر ما يكون في حالة الحلاج . وفي المقالة الثانية يؤيد النظرية نفسها عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا , وينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب الفيدانتا الهندية.
ويستند هارتمان في إثبات نفس الدعوى إلى النظر في الصوفية أنفسهم وفي مراكز الثقافة القديمة التي كانت منتشرة في بلادهم , لا إلى المصطلحات الصوفية كما فعل هورتن .
وقد نشر في مسألة أصل التصوف مقالا هاماً سنة 1916, وخلاصة بحثه أن التصوف الإسلامي مدين للفلسفة الهندية التي وصلت إليه عن طريق مترا وماني من جهة , وللقبّالة اليهودية والرهبنة المسيحية والغنوصية والأفلاطونية الحديثة من جهة أخرى . وهو يرى أن الذي جمع هذه العناصر كلها ومزجها مزجا تاما في التصوف هو أبو القاسم الجنيد البغدادي, فإليه يجب أن تتجه عناية الباحثين . أما حججه في تأييد الأصل الهندي فهي :
أولا : أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وأبي يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي .
ثانيا :أن التصوف ظهر أولا وأنتشر في خراسان .
ثالثا : أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية , فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة.
رابعا : أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود الأثر الهندي .
خامسا : أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه . فالرضا فكرة هندية الأصل , واستعمال الزهاد للمخلاة في سياحتهم , واستعمالهم للسبح , عادتان هنديتان )
وقد سبق هؤلاء المستشرقين والقائلين بهذا الرأي من الباحثين , سبقهم جميعا البيروني , حيث قارن بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية في كتابه المشهور ( تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ) .
وأوجه الشبه التي ذكرها البيروني بين العقائد الهندية والعقائد الصوفية هي تتلخص في أمور ثلاثة :
أولا : الأرواح .
ثانيا: في طريق الخلاص .
ثالثا: الغاء التمايز ومحو الأشارة.
وأن القارئ لأقوال الصوفية , والعارف بأحوالهم ورياضاتهم ومجاهداتهم يلاحظ بنفسه تشابها كبيرا بين هؤلاء وأولئك , وخاصة في تعذيب النفس , وتحمل المشاق , والتجوع , وحبس النفس , وإماتة الشهوات , والهروب من الأهل والأولاد , والجلوس في الخلوات , مراقبة صورة الشيخ , طرق الذكر , وكثير من العادات والتقاليد والرسوم , حيث لا يرى فيها إلا مشابهة تامة بتلك المذاهب وأصحابها , كمالا يرى فيها أي أثر للإسلام وتعاليمه.
وممايدلل على تأثر الصوفية بتلك العقائد وموافقتهم للمذاهب الهندية أقوال أئمتهم في الحث على تلك الأفعال ومنها:
قول حاتم الأصم :( من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت : موت أحمر , وموت أسود , وموت أبيض , وموت أخضر .
فالموت الأبيض الجوع , والموت الأسود احتمال أذى الناس, والموت الأحمر مخالفة النفس , والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض )
وقال :( ما من صباح إلا والشيطان يقول لي : ما تأكل ؟ وما تلبس ؟ وأين تسكن ؟ .
فأقول : آكل الموت , وألبس الكفن , وأسكن القبر ) وغيرها من أقوال أئمتهم التي تدعوا إلى عقائد وعبادات لم ينزل الله بها من سلطان.
4- الأفلاطونية الحديثة:
ذكر جمع من الكتّاب والباحثين في التصوف أن الأفلاطونية الحديثة هي أحد المصادر الأساسية للتصوف , بل إنها هي المصدر الأول بالنسبة للقائلين بوحدة الوجود والحلول بدءاً من أبي اليزيد البسطامي , وسهل التستري , والترمذي الملقب بالحكيم , ابن عطاء الله الأسكندري , وابن سبعين , وابن الفارض , والحلاج , ولسان الدين بن الخطيب , وابن عربي , والرومي , والجيلي , والعراقي , والجامي , والسهروردي المقتول , وبايزيد الأنصاري وغيرهم .
وأن هؤلاء أخذوا نظرية الفيض والمحبة والمعرفة والإشراق مع الآراء الأخرى التي تمسكوا بها عن الأفلاطونية المحدثة .
وعبارات الصوفية أنفسهم ناطقة بها وشاهدة عليها ولو أنهم اختلطت عليهم آراء الأفلاطونية الحديثة وآراء أفلاطون وأرسطو وغيرهم من حكماء اليونان الآخرين , حيث نسبوا ذلك إلى هذا , وهذا إلى تلك.
ومما يدلل على ذلك قول أحد الصوفية المعاصرين: (وأما وحدة الوجود الحلولية التي تجعل من الله كائنا يحل في مخلوقاته أو الاتحادية بالمعنى المفهوم خطا تلك التي تجعل من الكائن الفاني شخصية تتحد بالموجود الدائم الباقي المنزه عن سائر النسب والإضافات والأحياز الزمانية والمكانية المحدثة أو يتحد به شيء منها فإنها مذهب هندي أو مسيحي وليس بإسلامي ولا يعرفه الإسلام , استمده أهل الشذوذ في التصوف الإسلامي من الفلسفة البائدة , وغذوا به مذهبهم الشاذ بفكر أفلاطونية وآراء بوذية وفارسية عن طريق الفارابي وابن سينا , حاله أن المتتبع لحياة الحلاج ومؤلفات السهروردي وابن عربي يرى أنهم تأثروا بالمتفلسفة المسلمين الذين أخذوا عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والأرسطو طاليسية).
كماإن هناك فصولا منحولة لأفلاطون وسقراط وغيرهما من الفلاسفة اليونانيين معظمها آداب وأقوال .... وكلها تتشابه في بعض آرائها مع الأقوال المنسوبة إلى كبار الصوفية المسلمين في كتب طبقات الصوفية المختلفة ( القشيري , السلمي , الشعراني , الهروي , العطار , الجامي الخ ).
ولقد أقر الدكتور أبو العلاء العفيفي أيضا بتأثر ابن عربي ومن نهج منهجه في الأمور الكثيرة وفي نظرية الفيض بأفلاطونية المحدثة.
وكتب الدكتور التفتازاني كلاما يشبه هؤلاء حيث قال: (ونحن لا ننكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي, فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة , والأفلاطونية المحدثة خاصة , إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل,أو الاختلاط مع رهبان النصارى في الرها وحران . وقد خضع المسلمون لسلطان أرسطو , وإن كانوا قد عرفوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية , لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي حينما ترجم الكتاب المعروف بـ ( أثولوجيا أرسطو طاليس ) قدمه إلى المسلمين على أن لأرسطو على حين أنه مقتطفات من تاسوعات أفلوطين .
وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تعتبر أن المعرفة مدركة بالمشاهدة في حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس , كان لها أثرها في التصوف الإسلامي فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة . وكذلك , كان لنظرية أفلوطين السكندري في الفيض وترتيب الموجودات عن الواحد أو الأول . أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة كالسهروردي المقتول, ومحي الدين بن عربي, وابن الفارض , وعبد الخالق بن سبعين, وعبد الكريم الجيلي, ومن نحا نحوهم .
ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل : الكلمة – العقل الأول - العقل الكلي – العلة والمعلول ز الكلي .... إلخ ) [14]
5- التشيع:
فللتشيع تأثير قوي في تكوين التصوف وتشكيله, وتحوير منهجه وتطويره, فقد وضع نواته اليهود, وساهمت في تنشيئته وتنميته الديانات الفارسية, وهناك إرتباط وتشابه بين عقائد الصوفية والشيعة ولعل المكانة التي يحضى بها الولي عند الصوفية مشابهة لمكانة الإمام عند الشيعة, كما أن لعلي-رضي الله عنه- مكانة رفيعة عند أئمة وأولياء الصوفية, ومن ذلك ماقاله المكي في كتابه-الفتوحات المكية- :(أنه من أصحاب العلم وممن يعلمون من الله ما لم يعلمه غيره..وانه ضرب على صدره وقال: إن هاهنا لعلوماً جما لو وجدت لها حملاً.. ) [15] .
فمرجعهم دائماً من الصحابة هو علي بن أبي طالب أو الحسن بن علي " الذي هو أول الأقطاب " كماقالت الصوفية بالقطب والأبدال وهذا من أثر الإسماعيلية والشيعة[16].
ونقل الطوسي عن الوجيهي أنه قال :سمعت أبا علي الروذباري يقول : سمعت جنيدا رحمه الله يقول :( رضوان الله على أمير المؤمنين علي , رضي الله عنه , لولا أنه اشتغل بالحروب لأفادنا من علمنا هذا معاني كثيرة , ذاك امرؤ أعطى علم اللّدني , والعلم اللّدني هو العلم الذي خصّ به الخضر عليه السلام , قال تعالى : { وعلمناه من لدنّا علما } ) .
وإليه تنتسب سلاسل التصوف كلها كما قال محمد معصوم شيرازي الملقب بمعصوم علي شاه :
( ولابد لكل سلسلة من سلاسل التصوف من الأزل إلى الأبد , ومن آدم إلى انقراض الدنيا أن تكون متصلة بسيد العالمين وأمير المؤمنين ) .
لأنه ( أزهد الصحابة عند المتصوفة ).
فأول وليّ عند المتصوفة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه , ومنه إنتقل الولاية إلى غيره من الأولياء كما أنه أول إمام عند الشيعة , وتسلسلت منه فورثها غيره , وكذلك الفتوة والقطبية , وهو الذي ألبس خرقته الحسن البصري , وهذه الخرقة التي يلبسها المتصوفة خلفاءهم وورثتهم .
وينصّ على تشيع هذا ابن خلدون في مقدمته حيث يقول عند ذكر الصوفية :
( إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخيّلهم رفعوه إلى عليّ رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضا , وإلا فعليّ رضي الله عنه لم يختصّ من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في اللباس ولا الحال , بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة , ولم يختصّ أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص , بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة , يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات , وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق ) [17] .
فمماسبق يتضح لنا من خلال بعض الأمثلة أثر تلك الأديان المحرفة والمذاهب الوضعية على التصوف, وأنهم شابهوهم بأهم عقائدهم وأخذوا منهم بدليل أقوالهم في كتبهم المعتمدة, وأفعالهم المشابهة لما عليه تلك المذاهب, وكانت تلك الجذور منبع للمتصوفة في الإعتقاد, والتي لاترجع إلى كتاب الله ولالسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وماكان عليه السلف الصالح من النهج الحق البين التابع للكتاب والسنة.
*المبحث الثالث- مصادر الصوفية العامة في التلقي:-
للصوفية مصادر ثابتة معتمدة في مسائل الإعتقاد وأمور الدين وهي كثيرة ومتنوعة منها:
1- الكشف:
حيث يعتمد الصوفية على الكشف كمصدر وثيق لتلقي الدين والشريعة.
ويدخل تحت الكشف الصوفي أمران: هما:
الأول: الكشف من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقصدون به أخذ الأحكام الشرعية عنه صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً أو منامًا، ومعلوم أنَّ هذا من الضلال البعيد –عياذًا بالله تعالى.
ثانيًا: الكشف من الخضر -عليه السلام- حيث تكثر حكايات الصوفيّة عن لُقياه والأخذ عنه أحكامًا شرعيَّة وعلومًا دينيَّة إضافة إلى أنهم يدَّعونَ أنه يُعلِّمهم الأوراد والأذكار والمناقِب، وكل هذا من تلبيس الشيطان الرجيم على أولئك المبتدعة الضُّلاَّل.
2- الإلهام:
وهو ما يكون من الله تعالى مباشرة وبه جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي حيث يعتقدونَ أنَّ الوَليَّ يأخذ العلم مباشرةً عن الله تعالى، بينما الرسول أو النبيُّ يأخذه من المَلَك الذي يوحي به إليه.
3- الهواتف:
كسماع الخطاب من الله تعالى مباشرةً –عياذًا بالله- ، أو من الملائكة، أو من الجن الصالح، أو من أحد الأولياء، أو حتى الخضر عليه السلام؛ إمَّا منامًا أو يَقَظَةً:
وفي حالة اليَقَظَة: يكون الهتاف –كما يقولون- بواسطة الأذن –كما يعتقدون- وهذا تمامًا يوافق ما تقوله الشيعة الإثنى عشريَّة من الإلهام، ونزول الوحي على قلوب أئمَّتهم الإثنى عشر.
4- الإسراء والمعراج:
وهذا الإسراء لا يُقصَد به إسراء النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يقصدون به: الإسراء والمعراج الخاص بالوليّ الصوفي، ويقصدون به عروج روح الولي إلى العالم العلوي والتنقُّل في ملكوت السماء كيفما أراد ذلك الولي الكذَّاب الدَّجَّال، بل ويعتقدون بأن ذلك الولي يأتي من الملكوت السماوي العلوي بشتَّى العلوم والأسرار، وهذا من الكذب والدَّجَل الذي لا يُصدّقه مَن آمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.
5- الرؤى والمنامات:
وتُعَد هذه الرؤى وهذه المنامات من أكثر المصادر اعتمادًا عليها في الفِكر الصوفي وفي المعتقد الصوفي، حيث يزعمون أنهم يتلقَّوْنَ فيها بعض الأحكام الشرعيَّة عن الله تعالى مباشرة –عياذًا بالله- ، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن شيوخ الطرق الصوفية بعد مماته، وكل هذا طبعًا عن طريق الرؤى والمنامات، وهذا من الضلال الذي لا ضلال بعده –عياذًا بالله تعالى-.[18]
المبحث الرابع- الكُتب التي يستمد منها الصوفية أمور الدين ومسائل الإعتقاد:-
للصوفية كُتب كثيرة تستمد منها عقائدها, وبالأخص عقائد "الطرق الصوفية", ومن أهم وأشهر كُتبهم والتي تعد مرجعاً أساسي لهم, فيهما كلام حسن كثير مشوب بكثير من الباطل, وفيهما يجد بغيته من يبحث عن الزندقة, وهما: "قوت القلوب"لأبي طالب المكي, و"أحياء علوم الدين"لأبي حامد الغزالي, والثاني منقول بحروفه من الأول-ممايبين لنا شدة إعتمادهم وإستنادهم لتلك الكتب المخالفة-, هما في حقيقة الأمر كتاب واحد.
قال الجامي عن -القوت-:(مجمع أسرار الطريقة, قالوا:لم يصنف مثله في دقائق الطريقة)[19]
وقال د.عبدالمنعم الحفني عن القوت:(وهو المرجع الثبت في التصوف تأثر به الغزالي,..وأقتبس من الكثير السهردوردي في كتابه"عوارف المعارف" )
وقيل في وصف هذا الكتاب إنه: لم يؤلف في هذا الباب مثله وكان ومايزال مدرسة للمريدين والسالكين, وكل الطرق الصوفية تستقي منه وتصدر عنه فيما يأخذ به من أذكار وأداع وصلوات وصيام.
وقد نقل الغزالي عنه في الأحياء كثيراً, وأصل كتابه من هذا الكتاب كما بين ذلك بنفسه فقال:(فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب)
وقال محمود عرنوس:( إن الغزالي كاد ينقل قوت القلوب لأبي طالب المكي بنصه, في كتاب الإحياء).
وشيوخ الطرق الصوفية يعتمدون في كتبهم على "الإحياء"و"القوت", فقد كان الشاذلي يقول لتلاميذه:(إذا عرضت لكم إلى الله حاجة فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد).
فيتضح مما سبق عظم وقدر الكتابان عند الصوفية, بل إن تلك الكتابان عند الصوفية كالمصحف, من شدة تتبعهم وإستنادهم لمافيهما من أحاديث موضوعة ومكذوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى زعموا أن الإمام النووي قال في الأحياء:( لوعدمت كتب الإسلام, وبقي الإحياء لأغنى عماذهب) وأنه قال:(يكاد الإحياء أن يكون قرآناً)[20].
*موقف أهل العلم من كتب الصوفية:
1- كتاب"إحياء علوم الدِّين"لأبي حَامد الغزالي :
قال ابن تيمية :(الإحياء فيه فوائد كثيرة , لكن فيه مواد مذمومة فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد , وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا : أمرضه الشفاء , يعـنـــون "كتاب الشفاء" لابن سينا في الفلسفة , وفي الإحياء أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة : كثيرة , وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم , وفيه مع ذلك من كلام المشايخة الصوفية المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة , وأما ما فيه من الكلام في ( المهلكات ) مثل الكلام على الكبـِــر والعجب والحسد فغالبه منقول من كلام الـحــارث المحـاسبـي فــي"الرعاية", ومنه ما هو مقبول وما هو مردود)[21].
وقال ابن الجوزي :(وإني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة , كيف يحل القيام على الرأس طول الليل , وكيف يحل إضاعة المال , وكيف يحل السؤال لمن يقدر على الكسب فما أرخص ما باع أبو حامد الفقه بالتصوف وسبحان من أخرجه من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء)[22].
2- كتاب"قوت القلوب"لأبي طالب المكي :
قال الشاطبي :(لأبي طالب آراء خالف فيها العلماء , حتى أنه ربماخالف الإجماع في بعض المواضع , لكن له كلام حسن في الوعظ والتذكير والتحريض على طلب الآخرة , فلذلك إذا احتاج الطلبة إلى كتاب طالعوه متحرزين , وأما العوام فلا يحل لهم مطالعته) .
قال ابن كثير :( كان رجلاً صالحاً له كتاب"قوت القلوب"ذكر فيــه
أحاديث لا أصل لها , بدّعه الناس وهجروه)[23].
*الخلاصة:
بعد هذا العرض الموجز عن مصادر الصوفية في التلقي يتبين لنا:
1- أن الصوفية فكر نشأ بعد الإسلام, استمد عقيدته وفكره من الأمم السابقة.
2- لم يتخذ المتصوفة الكتاب والسنة مصدر أساسي للتقلي, بل لكل فكر وعقيدة مماسبقهم من الأمم أثر على إعتقادهم.
3- ليس لإفعال الصوفية وأقوالهم إرتباط وصلة لما في السنة النبوية من أفعال للرسول صلى الله عليه وسلم,ولما كان عليه صحابته في القرون المفضلة.
4- للتشيع أثر كبير على المتصوفة, وهناك إرتباط واسع بينهما في الإعتقاد كمابينا سابقاً.
5- للصوفية كتب كثيرة تعتمد عليها وتأخذ منها أمور دينها حتى عدوها كالمصحف لهم, وأهمها وأشهرها كتابي الفتوحات لابن عربي,والإحياء للغزالي.
هذا والله أعلم وأجل واستغفر الله من الزلل والخطأ فيما كتبت لقصرٍ في فهمي أونقلي,فماكان صواب فمن الله وماكان خطأ فمن نفسي والشيطان..
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جمع الأستاذ عبد الله المسلم
تعليق